دعوة للتأمُّل في زمن الـــ”نحن”؛ الزمن العربي الإسلامي

image_pdf

توطئة:  

 هكذا سُنَّة الحياة مع كل لحظات أزمنتنا، نحن أبناء آدم وحواء، دوما يحدونا الأمل كل أيام وسنوات العمر، لدرجة أننا نخال ونأمل أن يكون العمر كلّه مليئًا بالمعجزات فوق العادة، هي أحلامنا تلك، هي آمالنا تلك، هي تطلّعاتنا نحو صور وجوديَّة تملأ بياضات الفراغات الممكنة، تزيح عنها كل ما يشوب الحياة من سلبيّات وفتن، قلاقل واضطرابات، انتكاسات وارتدادات، ونكوصات وتراجعات وفشل أو عدم تمكُّن، على أمل تحقيق الذات وتسجيل نقاط إيجابيَّة في مسيرتنا الحياتيَّة، تشارف على قيمة الكمال الإنساني المأمولة، وخاصَّة لمن يريد أن يضيء كل ما حوله بأشياء قيميَّة فضلى ومثاليَّة عبر الفضائل الإنسانيَّة الخيِّرة وإنتاج كل ما ينفع البشريَّة عموما، في زمنه المعاش حاضرًا، وأملا في الامتداد الممكن لها عبر كل الأزمنة المستقبليَّة في حياة الأفراد والمجتمعات، وقد تتداخل الأزمنة فيما بينها، فيما بين طيَّات ما نعيشه ونعايشه، من خلال صور ونماذج الواقع المعاش، فهناك أشياء وأفكار وإنتاجات معاصرة لنا ومعها في نفس الوقت ما يمكنه أن يحيلنا إلى ما عاشه أجدادنا قديما من تقاليد وعادات وأعراف وأفكار ومشاعر وإيمانات ومعتقدات، أي كل ما يدلُّ على أزمنة غابرة ممَّا نعيش عليه ونعايشه في حيواتنا سواء الخاصَّة أو العامَّة، وهنا نتساءل عن مفهوم الزمن بداخل ذواتنا الحضاريَّة نحن العرب/ المسلمون، كيف نعي أزمنتنا سواء ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلا؟ لماذا نعيش أزمة وعي زماني حضاري بداخل أوساطنا على اختلافها؟

وعاء الزمن الحضاري وأزمة تدبير الزمن الحضاري العربي / الإسلامي.

” الحركة مدَّة زمنيَّة “، لا وجود للزمن خارج حركة ما، ولا حركة بدون زمن ما، الزمن وحده لا يعرف الارتداد نحو الوراء، بمفهومه الكرونولوجي، الزمن الكرونولوجي ليس هو الأزمنة الأخرى، كالزمن التاريخي، الحضاري، الفكري، العلمي، … في حياة الأفراد والمجتمعات والثقافات والحضارات، ارتباط مفهوم الزمن بالحركة يطرح علينا سؤالًا وجيهًا وحثيث في علاقاتنا نحن العرب والمسلمين بالعديد من الوقائع والأحداث والأفكار، أيضا بالكثير من العمليات والطرائق والكيفيات التي نشتغل عليها وبها، لذا هل من نمذجة زمنيَّة تحسب لنا في خضم ما نعيه ونعايشه سواء بداخل كياناتنا أم في علاقاتنا بما هو خارج عنَّا؟ أعتقد أنَّ ما نتصوّره من تصوّرات اتِّجاه أزمنتنا يحيلنا على طبيعة الأشياء والأفكار والسيرورات الماديَّة والرمزيَّة التي تشكِّل واقعنا.

فإذا كان الزمن قوَّة هائلة تحايثنا في كل ثنايا وجودنا، في الحركات والسكنات، ماذا عن وعينا به، حتى يمكننا خلق أزمنة تكون في صالحنا، لقد خضع كل شيء إلى حركيَّة الزمن المنسابة والمسترسلة والجارفة، ما أن كان بالإمكان ننتهي من إنجاز ما في فترة زمنيَّة محدَّدة، إلا وأمكنت المباغتة من جديد، إلى درجة أن كائنيَّة الزمن أصبحت تقدر وتحسب بموازين ومقاييس جد دقيقة، لذا أصبح مفهوم التدبير الزمني مفهومًا متأصِّلا ومتّصلًا بكل عمليَّة أو حركة أو مشروع أو فكرة، من البسيط إلى المركَّب إلى المعقَّد، في تداخل عميق ودقيق مع طرائق وكيفيات ومتطلبات كل عمليَّة على بساط الإنجاز، محدّدًا كل إحداثيات الوجود الإنساني والاجتماعي والمؤسَّساتي، حيث أنَّ خارج مفهوم الزمن بدلالاته لا يمكننا وضع أي شيء في الحسبان ولا يمكن إطلاقًا تحديد وترسيم الحدود المطلوبة وأشكال وتجليات الظواهر بخلفياتها التاريخيَّة، الاجتماعيَّة السياسيَّة، العلميَّة، الفكريَّة، الثقافيَّة، والحضاريَّة،  إذ يشكِّل الوعاء لكل فعل إنساني بكل مقتضياته التفاعليَّة سلبا أو إيجابا، في أزمنة الأمن والأمان والاستقرار والرخاء أو في أزمنة الحروب والقلاقل، في الماضي، في الحاضر، نحو المستقبل.

الزمن

 كل الحضارات عملت على تمثُّل مفهوم الزمن، فسعت جاهدة أن تخلِّد وجودها، عبر سلوكيات ما أو أفكار أو مشاريع ومنتجات وإنجازات ما، على الصعيد المادّي والرمزي معا، في تحدّيها ومناهضتها لعوامل الاندثار والفناء، حضارات قديمة لا زال التاريخ يشهد لها بالحضور في غابر الزمان، بإنجازات عظيمة كحضارات بلاد الرافدين، والحضارة الفرعونيَّة، وأخرى  من كل بقاع العالم، هاربة من بياضاته الفارغة نحو إمكانات امتلاءات بشكل واعي أو إرادي ذاتي حضاري سجل على كراسات الوجود بقدر تلك الإمكانيات المتاحة حينئذ، متسلِّلة نحو خانات الخلود بما يمكن قوله لأجيال قادمة وللآخرين الغيريين من أجناس بني الإنسانيَّة المستقبليَّة .

فإن كان الإنسان العربي/ المسلم قد جعل من نفسه سيِّدًا في زمن من أزمنته الماضيَّة، فلماذا أصبحت فسحته الزمنيَّة ضيِّقة جدا ونسخة رديئة في وقتنا المعاصر؟ أيَّة أسباب جعلته يتوارى خلف أزمنة الآخر المتقدِّم؟ هذا ما يجب على الإنسان العربي/ المسلم التفكير فيه، والعمل على سبر حيثيات ارتداداته الزمنيَّة الحاصلة، بل إلى درجة انحلال زمنه الخاص، فهل من تناقض إذا ما قيل إنَّ الزمن هو  الشيء الوحيد الذي يسير نحو الأمام في حين أنَّ زمن الإنسان العربي/ المسلم ينعت بالارتداد إلى حدِّ الانحلال؟

الزمن الحاضر للإنسان العربي / المسلم والمأساويَّة الواقعيَّة.

لقد تلاشى الزمن العربي/ الإسلامي في الحاضر، قريبا من العدميَّة الحضاريَّة، بفعل فاعليَّة الأخر وضمور الذات، وانشغالات هذه الأخيرة على الأفكار السلبيَّة والتصوّرات التدميريَّة، كأننا أمام وجود اللاوجود، باستسلام الذات العربيَّة/ الإسلاميَّة إلى السلبيَّة وانزياحها عن مقومات الوجود الفعالة، لا وجود للزمن خارج الفكر والعلم والحركة، فلا وجود للإنسان الذي لا يعقل وجوده في ظلّ زمنٍ محدَّد، ولاغيًا زمنه الخاص في هرم أزمنة الآخرين، وذلك بانعدام الإمكان والإنجاز وحضور نهجه في العديد من مستويات الحياة، حيث ويشهد الواقع المعاصر على عدم فاعليته، إن الإنسان العربي/ المسلم يفتقد في هاته اللحظة بالذات إمكانيَّة وعيه الزمني الفلسفي/ التاريخي/ الحضاري في غياب الإرادة والفعل القائمين على تأمُّل وتبصُّر واقعه بمختلف معطياته، ولا محينا أزمنته الغابرة بإعادة قراءتها من جديد بلغة العصر، نحو مستقبلٍ أفضل، كزمن سيحتضن النحن/ الذات بين لوحات شعوب وأمم العالم المتقدِّم، خاصَّة أنَّ استفحال الظواهر السلبيَّة قد تعاظم واشتدَّ مع انتكاسات الوعي الذاتي التاريخي/ الحضاري، إذ أنَّ ما يعرفه العالم العربي/ الإسلامي من أزمات آنيَّة التي يتخبَّط فيها، لدليل على أنَّ فسحة الوعي بالزمن قد أعدمت في دائرته الخاصَّة، ولبرهان على عدم وعيه بما يجب عليه القيام به للخروج من عنق الزجاجة، في استمرار زمن التخلُّف والرجعيَّة، وعدم تدبير الزمن في عمليات تفكيره وتصوراته، وبالتالي فناء الفاعليَّة الزمنيَّة، حيث لا وجود لعنوان زمن إلا زمن الاغتيالات والصراعات الدمويَّة والاقتتال الطائفي والاجتماعي، والحروب السياسيَّة والأيديولوجيَّة والعسكريَّة، وإن كانت بعض من ساحاته الجغرافيَّة لا يظهر فيها بعض ممَّا هو حاصل بشكل عنيف، فهذا ليس بدليل كاف على صفاء أجوائه الزمنيَّة الواقعيَّة، بقدر ما هي إلا حالات تسمها في العمق الحروب والصراعات الاجتماعيَّة / السياسيَّة / الأيديولوجيَّة القائمة بوسائل مرنة وناعمة، وما يروَّج له من ثقافة سلم اجتماعي أو أمن واستقرار ببعض من بلدانه، لا يخفي الصراعات الدائرة بين طبقاته وفئاته بكل خلفياتها ومواقعها، لها وقعها وتداعياتها الخاصَّة على فضاءاته سواء بداخل البلدان العربيَّة / الإسلاميَّة أو في علاقاتها البينيَّة، ما دام أنَّ أنظمتها السياسيَّة والاجتماعيَّة تمحي كل إمكانيَّة للمبادرات الفعَّالة في مجالاته العموميَّة على اختلافها، وتعمل على الإقصاء واغتيال الذوات الفرديَّة والجماعيَّة بأساليب وأدوات أكثر عنفا بدلالاتهما الرمزيَّة والماديَّة، حيث لا يمكن مع هذا كله على طول خط جغرافيَّة العالم العربي/ الإسلامي الحديث عن فسحة زمنيَّة تاريخيَّة / حضاريَّة رحبة لوجود إنساني في زمننا الآن، يتوق إلى التحرُّر من قيود الماضي وفرامل الحاضر المأساويَّة، ونشدان الحريَّة في كل تصوراته المعلنة لإنهاء عهود الاستبداد والقهر والظلم والعنف بكل الدلالات والمعاني، كما وأنه تنعدم فيه الرؤية لإنهاء عهود التبعيَّة والتخلُّف والرجعيَّة أمام تغوُّل الآخر المتقدِّم علينا في كل مجالات الحياة.

ختامًا: لقد خذل العرب/ المسلمون وعيهم بمفهوم الزمن وأبعاده ودلالاته، فكان من نتيجة هذا الخذلان أن يعيشوا أزمنتهم الرديئة في حاضرهم الآن، وقبلها بقرون خلت، بعد أن ألغوا فاعليَّة الحركة التي يحتضنها الزمن في كل محطاته، ارتباطًا بمجالات الحياة على اختلافها، علميًّا، فكريًّا، ثقافيًّا، سياسيًّا، تاريخيًّا، وفلسفيًّا، وبالتالي ضمور أو غياب الفاعليَّة التاريخيَّة والحضاريَّة والجيوسياسيَّة على جميع  المستويات في علاقاتهم بعناصر الهرم الحضاري المعاصر، وعلى خشبة المسارح الإقليميَّة والعالميَّة.

وبالمحصِّلة، لا استشراف لمستقبل والآتي من الزمن المأمول رقيًا وتقدّمًا ووجودًا فعليًّا على مسرح الحضارات الإنسانيَّة بهكذا عدم الوعي بالزمن سواء في بعده الماضي أو في بعده الحاضر، وكذا بعدم سبر أغوار متطلّبات وشروط التقدُّم والتطوُّر في كل ما يشكِّل مقوّمات الوجود العربي/ الإسلامي.

____________________

*عبد المجيد بن شاوية.

جديدنا