منظورات الخطابة؛ توتّرات بين السوفسطائيِّين وأفلاطون وأرسطو

image_pdf

شهدت الخطابة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، إحْيَاء وانبعاثاً جديدين للخطابة، إن لم نَقُلْ إن هذه الفترة تشكِّل عصرها الذهبي، حيث ستعرف مهنة “خطيب” ازدهاراً شديدا، ذلك أن أغلب السوفسطائيين إن لم نَقُلْ جُلَّهُمْ جعل من الخطابة مصدر عيش، وهذا ما جعلهم يدخلون في صراع/صدام حَادِّ مع الفلاسفة أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو، هذا الصراع-الخطابي هو ما عبَّرنا عنه بالمَنْظُورَاتِ الْمُتَوَتِّرَةِ للخطابة بين السوفسطائيين والفلاسفة، وبيان حدَّة هذا التوتُّر والتناقض والصراع والصدام هو موضوع هذا المقال، وذلك بالتعرُّف على مجموع الإشكالات المتوتِّرة والمتداخلة فيما بينها حول الخطابة والخطباء.  

نشير أولاً إلى أنَّ نظرية الخطابة la rhétorique  أو هناك من يترجمها بالبلاغة تعود في الأصل إلى المصطلح اليوناني ρητορική وليس لها أصل صقلي -من الناحية الاصطلاحية- كما هو ذائع الصيت في العديد من الكتب التي تؤرخ للخطابة وتردها إلى صقلية، فهي تشير إلى فَنِّ القَوْلِ والكلام بغرض التأثير وحدوث الإقناع عبر الثَّنَاءِ، كما تشير كلمة الرِّيطُورِيقَا أو البلاغة والخطابة إلى فن الخطيب الذي يتحدث ليس من أجل الحديث، بل يتحدث وهو محكوم بالسياقات les contextes أو محكوم بالوضعيات الخطابية، فلا يمكن للخطيب أن يتحدث من تلقاء نفسه دون أن تحدِّد له الموضوع أو السياق أو الوضعية أو المقام وهو ما نشير إليه بمقام الخطيب ومقاله أي ما سينتجه من خطاب نابع عن تلك المقام، وعادة ما نعبر عنها بقولنا “لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٍ”، كل هذا يجعل من الخطابة والخطيب محكومين بركيزتين أساسين:

أولاً : تقنيات حديث وكلام الخطيب.

ثانياً : وضعية وحالة ومكان وموضوع الخطاب.

لكن رغم أننا نجد أن تقعيد مصطلح الخطابة قد ظهر مع اليونان في أثينا، إلا أنَّ لها جذورا وأصولا أولى ومنشأ أولًا في جزيرة صقلية اليونانية -من الناحية التاريخية- حيث إن كوراكاس Corax وتلميذه تيزياس Tisias هما أول من وضع رسالة أولى في الحجاج، وتشير هذه الرسالة إلى “طريقة معقلنة في الكلام” أمام المحاكم، التي عرفت خلال القرن الخامس قبل الميلاد مرافعات كثيرة للمطالبة باسترجاع أراضٍ بعد الإطاحة بالطاغيتين اللذين اغتصباها، وإقامة حكم ديمقراطي يشرع للكلام وحرية التعبير، وهذا ما يشير له كريستيان بلانتان في كتابه الشهير “الحجاج”.

وحتى عند عودتنا إلى أمبادوقليس، نجد أن أرسطو يعبر عنه في متنه المعنون بـ “السوفسطائي” Le Sophiste  يقول معبرا عن أمبادوقليس “إنه مخترع الخطابة، أما زينون فهو مخترع الجدل”، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن أمبادوقليس يمتلك ناصية القول والكلام والحديث، حيث له قدرة على تنظيم وتنسيق الألفاظ، كما أن “أمبادوقليس كان متميزا جدا في فني الطب والخطابة”، وهذه البراعة في فني الطب والخطابة خاصة موضوع حديثنا دليل على أنه ماهر جدا في التعبير الشفوي، وممتلكا لناصية القول المجازي وقادرا على استعمال كل أشكال فن الشعر، ذلك أنه كان يحفظ الشعر جيدا وضابطا له، ويمكن القول هنا أن من يمتلك فن الشعر قديما كان يمتلك كذلك فن الخطابة، لهذا السبب يتم تعليم الأطفال الشعر منذ نعومة أظافرهم لعلهم في كِبَرِهِم يُصْبِحْونَ خطباء جيدين، لهذا يخبرنا أرسطو في كتابه Poétique  أو فن الشعر أنه “ليس ثمة تشابه بين هوميروس وأمبادوقليس باستثناء نظم الشعر فالأول هو بحق شاعر، بينما الثاني فيلسوف أكثر منه شاعرا”، وهناك بالفعل تشابه من غريب الصدف بين هوميروس وأمبادوقليس اللهم في نظم الشعر الذي يختلفان فيه كثيرا حيث الأول له توجه أسطوري، وبينما الثاني له توجه وجودي [أنطولوجي بتحفظ]، لهذا يصعب كثيرا وضع تصنيف لأمبادوقليس، حيث يقول Lactance Firmianus  “لا ندري أين نصنف أمبادوقليس هل مع الشعراء أم مع الفلاسفة؟” هذا السؤال تصعب كثيرا الإجابة عنه، فإذا وضعناه مع الشعراء سنلغي عنه صفة الفيلسوف، وهذا جواب متناقض، ذلك أنه لدى أمبادوقليس كتابان أو قصيدتان هما “في الطبيعة” وهي قصيدة في الوجود والطبيعة، وأخرى عنوانها “التطهيرات”، وفي حقيقة الأمر لدى أمبادوقليس نظرية العناصر الأربعة في الطبيعة (النار والماء والتراب والهواء)، ولن نخوض فيها لأنها ليست موضوع مقالنا، حيث ركزنا على الجانب الخطابي والشعري أكثر من الجانب الطبيعي والوجودي والأنطولوجي، ونشير هنا إلى علاقة ناظمة بين الشعر والخطابة والبلاغة لدى أمبادوقليس لا يمكن الفصل بينهما.

أما عن جورجياس (485 ق.م-380 ق.م) خاصة من الناحية الخطابية والحجاجية، يُظْهَرُ لنا مما تبقى لنا من متن جورجياس، أقصد هنا “مديح هيلين” و “دفاع عن بالاميد”، هذا الفيلسوف الأبولوجي، الذي يحسب له دفاعه المستميت وبشدة عن الإلهة هيلين.

حيث أن جورجياس يشير إلى قوة الكلمة ونفوذها، وهو يلتقي مع موقفه في الشذرة B11.8  التي ينعت فيها اللوغوس بـ “الإله القوي”، حيث إنه من يملك هذا اللوغوس/الكلام والخطاب والحديث يملك القوة مصدرها هو هذا الإله القوي، وفي موقع آخر من نفس الشذرة B11.14 التي يتحدث فيها عن مفعول الكلمة في النفس مشبها إياه بمفعول “المخدر”، هذا التشبيه ليس من غريب الصدف، فجورجياس لا يلعب النِّرْد بل كان ذكيا جدا في استعماله للمفهوم، حيث أثبت أن الكلمة لها تأثير عميق في النفس البشرية، يشبه تأثيرها تأثير المخدر أو الأفيون بلغة كارل ماركس، وبهذا يجعل جورجياس من الدرس السوفسطائي درسا لامتلاك مهارة اللوغوس، أي امتلاك مهارة الكلمة والخطاب والحديث، ليجعل من الكلمة سلطة واللغة قوة Pouvoir  أي أن اللغة ليست مجرد أصوات وكلمات متناثرة في الهواء، بل إن اللغة تتحكم في توجهات الفرد والجماعة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أرسطو استغل كل تلك المعاني والدلالات التي قدمها جورجياس ليشير إلى قوة ملكة الخطاب، بل ولنقد الخطابة والخطباء السوفسطائيين، كما لا ننسى أن فريدريك نيتشه في كتابه “نشأة الفلسفة في فترة المأساة الإغريقية” سيركز على تناول البعد الخطابي للحركة السوفسطائية، وسيثني عليهم كثيراً ويرفع من قيمتهم، وحتى منطقهم في التعليم كان في نظر نيتشه تقديرا لأصالة المتعلم واستقلالية في تأمل المعارف ونقدها في سياق صراع فكري، وقد عمق نيتشه في هذا الصراع في مقالته عن هوميروس Homer’s Contest 1873  وكذلك في دروسه الجامعية كان إهتمام نيتشه دائما ينصب على مقاربة البعد الخطابي دائما.

كما نجد الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريك هيغل في كتابه “تاريخ الفلسفة”، يعتبر أن السوفسطائيين هم فلاسفة أنوار أثينا.

أما عن كوراكاس Corax  الذي هو أستاذ تيزياس، هذا الأخير الذي هو أستاذ جورجياس، يمكن اعتباره [كوراكاس] مؤسس علم البلاغة والخطابة بامتياز، حيث وضع كتيبا عن القواعد الأساسية الكبرى للبلاغة، كما أن كل من كوراكاس وتيزياس اهتما ببلاغة الاحتمال كوسيلة للإقناع، كما لا ننسى أن جورجياس هو أحد معاصري بروتاغوراس وأحد تلاميذ تيزياس، ومجال اهتمامه في حقيقة الأمر سيظل منصبا حول الخطابة والخطباء والبلاغة بوصفها فن الإقناع، لكنه ركز على الجانب الفني الجمالي للبلاغة، وكان أسلوبه الخطابي فياضا جدا.

ومن هنا سيجعل تيزياس ومن معه من الخطابة فنا للتغليب والترجيح ليس غايتها بلوغ الحقيقة، والترجيح هنا بمعنى عدم التساوي والتمام بين كفَّتَيْ الميزان، أي أن الخطابة لا تميل نحو كفة الحقيقة، لهذا يعود لتيزياس الفضل في كونه أول من أشار إلى أن الخطابة والبلاغة مجالها هو المحتمل Probable نفس الأمر سنلاحظه مع بيرلمان، بل أيضاً مع إيزوقراط الذي يضع الخطابة في دائرة “الراجح والمحتمل” واستبعاده “اليقين المطلق في المناظرات الخطابية والحجاجية”، كما لا ننسى أن جورجياس يعتبر من أعمدة الخطابة الصقلية الذين أسند لهم مهمة تدريس فن الخطاب والحجاج بأثينا، وبهذا يمكننا الحديث هنا عن نظريات للخطابة سابقة سبقا تاريخيا ومعرفيا عن نظرية أرسطو للخطابة التي عرضها في كتابه الشهير “فن الخطابة” ويمكن اعتبار هذه النظرية الحجاجية الصقلية مؤسسة على مجموعة من الثوابت والدعامات والأسس التالية : اللغة، الخطاب، الكلام، فن القول، فن التأثير وحدوث الإقناع والإمتاع، الرجحان والاحتمال، سلطة اللغة والكلمات، لدرجة أنهم [أي السوفسطائيين] جعلوا من اللغة سلاح من لا سلاح له.

ولهذا فالتواصل الجيد والحسن مشروط بفن التخاطب الجيد والحسن. كما أن الخطابة فن عمومي بين عامة الناس، وليست مخصوصة بخاصة معينة، إضافة إلى أن مجال الخطابة والبلاغة هو مجال اللغة الطبيعية غير أن الرهان والمدى والأفق الفكري هو ما ينضوي تحت منطق الرجحان والمحتمل، كما أن الصقليين اشتهروا باستعمال مجال الخطابة والبلاغة في ميدان القضاء والتحاجج في المحاكم.

من هنا نعلن أن اللحظة السوفسطائية هي لحظة أساسية في تطور الفكر الخطابي والحجاجي وفي بلورة هذه النظريات ومأسستها، بالرغم من أن التلقي الفلسفي السقراطي/الأفلاطوني للفكر السوفسطائي تلقي سلبي للأسف، ورافض جملة وتفصيلا لخطابة السوفسطائيين، إلا أننا هنا حاولنا إعادة النظر في هذا الموقف، خاصة وأن الحركة السوفسطائية حركة إقناعية بإمتياز، وامتلاك خاصية الإقناع والتأثير جعل منهم أحيانا يتلاعبون بالكلمات بغرض التغليط والتزييف وهذا ما نلحظه في اللحظة المتوترة مع سقراط/أفلاطون.

يخبرنا كوراكاس أن “الخطابة صناعة مُقَانِعَةٌ”، ومعنى “مقانعة” هنا هي أن الحقيقة ليست معطاة أبدا، أي أنها غير موجودة هنا معنا، ولا يمكن بلوغها بتاتا، إلا بما هي احتمال أيقوس eikos لذلك فالخطابة هنا تحاول تصنع الإقناع والمقانعة ليس بغرض بلوغ الحقيقة بل بغرض بلوغ الاحتمال، هذا الأخير وارد جدا ويحترم النظام الديمقراطي الأثيني، ذلك أن الخطابة وليدة النظام الديمقراطي، ومن هنا سننتقل مع سقراط/ أفلاطون الذي حاول نقد الخطابة في إطار نقده للنظام الديمقراطي، حيث جعل من “الخطابة صناعة غير جديرة بالاهتمام”، إضافة إلى كونها “[الخطابة] مجرد عادة”، لكن إيزوقراط كان له موقف مخالف جدا عن أفلاطون حيث أسند للفلسفة دورا تربويا متمثلا في تكوين الخطيب الكامل، عكس سقراط الذي تعمد تقويض الوحدة القديمة بين الخطابة والفلسفة، هذه الوحدة سيعيد شيشرون الاعتبار لها، حيث أن غرض سقراط منذ البداية هو جعل الفلسفة خطاب خاصة الخاصة أي الفلاسفة بلغة الفلاسفة العرب المسلمين، لهذا شكلت الخطابة الموضوع الرئيسي لمحاورة جورجياس، ونجد في هذه المحاورة نقدا لاذغا للخطابة والسياسة معا، أما عن شخوص المحاورة فهما كل من جورجياس من كبار السوفسطائيين وبولوس وكالكليس الذين يلعبون دور الأبولوجيين  Apologistes أي المدافعين عن الخطابة، حيث يصرح جورجياس صائحا في وجه سقراط بقوله : “أنا خطابي يا سقراط! أنا معلم خطابة !”

ويضيف جورجياس أن موضوع الخطابة هو أهم الشؤون الإنسانية وأفضلها، ويرد عليه سقراط قائلا : لكن الصحة والجمال أو الثورة المكتسبة بغير الغش كلها أهم الشؤون الإنسانية وأفضلها أيضًا.  ويرد جورجياس عليه قائلا: إنني أتحدث عن سلطة الإقناع المعتمدة على الخطابات ، وإقناع القضاة في المحكمة وأعضاء مجلس الحاضرة ومجموع المواطنين في التجمع الشعبي. وبالتالي تصبح الخطابة مع جورجياس سلطة إقناعية بإمتياز. فصاحب المال -حسبه- يجمع المال للخطيب الذي يجيد الكلام وإقناع الحشود.

لذلك فالخطابة والبلاغة هي الفن المولد للإقناع، كما أن للخطابات مقامات مهمة مثل التجمع الشعبي ومجلس الحاضرة والمحكمة.

ويضيف أيضًا جورجياس أن موضوع الخطابة هو العدل والظلم.

سيرد عليه سقراط: هناك نوعان من الإقناع، أحدهما يحدث الإعتقاد لا المعرفة، والآخر يولد المعرفة.

فكأن سؤال سقراط هنا : أين تندرج الخطابة والبلاغة؟  هل في الإقناع المولد للإعتقاد ؟ أم في الإقناع والتأثير المولد للمعرفة ؟

ويتفضل بالجواب قائلا: “الخطابة تبعث الإعتقاد بأن العدل والظلم هما هذا وذاك، إنها لا تولد معرفة بهما”، ويضيف أيضًا “عندما نبادر إلى انتقاء الأخصائيين لا نلتمس لهذا الغرض رأي الخطيب فالمطلوب هنا هو طلب رأي الأخصائيين وليس رأي الخطباء”.

يرد جورجياس بالمثل “الخطابة تتمتع بامتلاك كل الكفاءات الإنسانية وبالتحكم فيها”، حيث أن الخطيب له قدرة قوية إن لم نقل جبارة على الإقناع!، ذلك أن الخطيب له القدرة على التحدث في أي موضوع شئت أن يتحدث لك عنه، فهو لا يتعرض للإحراج في هذه المسألة.

وهذا ما يرده عوام الناس وغوغائهم ودهمائهم، حيث يريدون ويحبون من يتحدث معهم بشكل خطابي، ذلك أن العوام ينتابهم التَّبَرُّمُ والتَّضَايُقُ بمجرد الحديث معهم بلغة أهل الإختصاص، وهذا ما نلحظه في عصرنا هذا، فمن يذهب للمحاضرات والندوات العلمية التي تتطرق لمشكلة علمية وتحاول مقاربتها مقاربة علمية ؟ أكيد لا أحد!

لهذا يرد عليه سقراط بقوله : “إنك يا جورجياس تستطيع أن تجعل من المرء خطيبا بارعا قادرا على كسب الحشد، بصدد أي موضوع يتحدث عنه، لكن ليس بتعليمه ولكن بإقناعه” .

ينتقد سقراط وبشدة الحشود ويعتبرهم عديمي المعرفة أي جاهلين بموضوع الخطاب الموجه لهم. ذلك أن الخطيب له قدرة جبارة للإقناع أمام الحشود.

لهذا السبب سيجعل سقراط من مسألة العدل مسألة خاصة بالفلسفة وليس بالخطابة كما يدعي جورجياس، ذلك أن العدل والعدالة مشكلة فلسفية سيفرد لها أربعة أبواب في كتاب “الجمهورية” لأفلاطون.

هناك توتر آخر سيحدث داخل محاورة جورجياس لأفلاطون عندما سَيَنْفَعِلُ أبولوس على سقراط.

وسيظل سقراط وفيا لموقفه رغم انفعال أبولوس عليه بقوله “الخطابة ليست صنعة ولا وجود لصنعة خطابية” ويضيف “إن الخطابة مجرد عادة نقصد منها التسلية والمتعة”.

بل أكثر من ذلك، سيظل سقراط ينزل من قيمة الخطابة عندما قارنها بفن الطبخ “فهذا أيضا ليس صنعة وهو يسعى إلى التزيين والمتعة”، و”الخطابة نشاط عديم الجمال، إنها نوع من الخدعة، إنها مثل التجميل”، حيث تشوه الحقيقة والخطاب الصادق، وتجذر الإشارة هنا إلى أن سقراط يجعل من الخطابة والسياسة كليهما معا يلعبان دورا “تزييفيا وتكذيبيا وقلبا للحقائق”، وبالتالي فالخطابة قبيحة بالنسبة له لأنها مؤذية، فهي مجرد خديعة أو خدعة وإطراء ومجاملة وتزيين، تحتل منزلة وَضِيعَةً تقصد تحقيق المتعة فهي ليست صنعة ولا صناعة، إنها مجرد عادة.

ومن هنا سيقف على أن الخطابة ممارسة هاوية سارية بدون عقل، فهي لا تستند على العقل، بل هي تستند على المشاعر والأحاسيس والدواخل والميول والعواطف، حيث ليس بمكنة الخطيب تقديم أي تفسير عقلي أو علمي أو فلسفي لطبيعة الكلام والخطاب الذي يقوم بعرضه على الحشود، ومن هنا يمكن التصريح بأن من غايات الخطابة الأساسية المتعة، وذلك لكونها عمياء حقيقية لا تميز أي شيء تمييزا واضحاً. وذلك لدرجة أن سقراط سيعلنها بشكل صريح : “الخطابة هي الشر المستطيل من الاستطالة والخطر الداهم للحاضرة الأثينية”، وعندما نجعل من الخطابة مصدر رئيسي للشر، فهي في جوهرها مجرد خدعة وخديعة ومكر وبهتان ووهم وخيال، فهي صنعة وهمية خادعة وزائفة.

فحتى من الناحية السياسية والفلسفية، تشكل الخطابة خطرا على الدولة وعلى العدالة والخير، كما تشكل السفسطة حسب سقراط دائما خطرا مستديما على التشريع والقانون اللذين يشكلان أساس التجمعات البشرية، حيث نجد أن السوفسطائي جعل من أداة خطيرة جدا تلك المتمثلة في الخطابة في يد عوام الناس. ومن هنا نجد توترا آخر بين الخطابة والعدالة.

سينتقل بنا سقراط هذه المرة إلى الشعر، حيث جعل من “الشعر التراجيدي شكل من أشكال الديماغوجية، أي شكل من الخطاب الموجه إلى الشعب”، مما جعل من سقراط يجاهر برفضه لكل من الخطابة والشعر والتراجيديا لأنهما في نظره “خدعة” لأنهما يُثِيرَانِ المتعة في نفوس الحشود، ومن هنا نلحظ أن سقراط يرفض رفضا قاطعا الحشود ويكرههم كرها عظيما، لأن الحشد لا يفكر، وبالتالي سيعبر عنها أفلاطون عندما يقول “أن الفكر الحق لا يلتقي مع الحشد”، ذلك أن ما يميز الحشود هو هيمنة تمظهرات وتجليات الحياة وشكلها على الاستدلال العقلي والمنطقي وحتى الرياضي.

لكن رغم كل هذا سيدعو أفلاطون/سقراط إلى أن الخطيب الجيد في حقيقة الأمر هو الرجل الفاضل، الذي يطمح إلى الفضيلة ويتخذ من القانون والنظام هدفه الوحيد، هذا يعني على أنه يجب استخدام الخطابة لأجل استرجاع الحق، ولهذا يجب على الخطابة أن تكون رديفة ولصيقة للعدالة.

وهنا سنجد توترا آخر خاصة عندما ننتقل لمحاورة فايدر التي تتناول هي بدورها موضوعي الحب والخطابة، خاصة الموضوع الأخير الذي سيصبح موضوعا رئيسيا في القسم الثاني من المحاورة، وبهذا تصبح الخطابة غير منتجة للمعرفة بل محدثة للإقناع، حيث تحدث نوعا من الاستيهام في ذهن المتلقي بأن العدالة هي بهذه الصفات …، لكن في الحقيقة تلك الصفات لا تعبر بالفعل عن حقيقة العدالة!

كما أن إحداث الإقناع والتأثير في نفس المتلقي لا يتطلب لا فلسفة ولا علما ولا معرفة بأي شيء، ومن أجل إحداث الإقتناع لا يتطلب الأمر سوى الوقوف على معرفة الظن والرأي والاستعانة باعتقاد المتلقي ونوازعه وأهوائه وميوله وعواطفه، هذا ما يجعل المرء يقتنع بسرعة إذا سايرت ميوله وأهوائه، وهذه هي خاصية الحشد فهو يعطل مهام العقل والاستدلال.

كما لا ننسى هنا أن سقراط حاول جاهدا السخرية من الخطابة والخطباء عندما جعل منها صناعة مضحكة وبدون قيمة علمية وفلسفية، عكس ذلك عند أرسطو الذي أعطى قيمة مثلى للخطابة ورتب الخطابة إلى ثلاثة أجناس :

-غاية الخطابة التشاورية هي تحديد النافع والضار للحاضرة.

-غاية الخطابة والخطيب في المنازعات القضائية هو تحديد حكم/قيمة العدل والظلم.

-غاية الخطابة والخطباء من المدح والذم هو تحديد/ إصدار حكم/قيمة جميل أو قبيح.

لكن ما يعيبه سقراط وأفلاطون على الخطابة والخطباء هو جهلهم المنهج الجدلي/الدياليكتيكي الذي يقوم على :

التحديدات الماهوية Déterminations essentielles أو التعريفات.

التقسيمات Les divisiones أو التفريعات.

التركيبات Les synthéses

وبالتالي يصبح -حسب سقراط- غاية الخطابة هداية النفوس وتهذيبها، ولهذا ليكون المرء خطيبا ماهرا، أن يكون على علم بعدد أنواع النفوس، وليكون على علم بها يحتاج إلى المنهج الجدلي، فمن يريد أن يعلم بجد فن الخطابة عليه البدء بوصف النفس بكل دقة ممكنة.

مع سقراط وأفلاطون تحولت الخطابة إلى صناعة قائمة على قواعد مضبوطة وصارمة، أي أصبحت صنعة حقيقية، وهنا نجد توترا آخر، حيث إنتقال الخطابة من الخطابة القائمة على الإقناع والتأثير والإيثار إلى الخطابة الجدلية في لحظة سقراط/أفلاطون، ما يعني أنه أراد من الخطابة أن تكون علما صارما وليس أن تكون صنعة عمومية بين جميع الناس.

أما عن منهج سقراط/أفلاطون بخصوص الخطابة الجدلية فيشير إلى مجموعة من الخطوات كالآتي :

أولاً: يجب تحديد الموضوع الذي نرغب في تناوله.

ثانياً: تقسيم الموضوع إلى مجموعة من العناصر والأشكال والأنواع تبعا لتمفصلاتها الطبيعية.

ثالثاً: النفوذ إلى عمق الإشكال بواسطة منهج التحليل.

رابعاً: التعرف على كل أشكال وأنواع الخطابات الجديرة بإقناع مختلف النفوس.

خامساً: ترتيب وتصنيف الموضوعات.

سادساً: التركيب والتناغم وهو المنهج الملائم لتعلم التفكير والكلام.

وهذا ما يتخالف تمام الخلاف مع نظريات تيزياس وجورجياس حول الخطابة والخطباء اللذان كان يطمحا إلى جعل “المحتمل أسمى من الحقيقة”، إضافة إلى تركيزهما على الجانب النفسي للخطابة نظرا لأهميته القصوى، فالناس هم أنفاس يجب على الخطيب الاهتمام بها والانتباه لها، حيث على الخطيب مراعاة البعد النفسي من أجل حصول الإقناع.

يجب أيضًا مراعاة الجانب الأخلاقي الإتيقي لشخصية الخطيب أو إيتوس الخطيب، كما مراعاة شخصية المتلقي أو باتوس المتلقي.

وعن محاورة جورجياس يمكن الخلوص مع سقراط/أفلاطون أن الخطابة شقيقة السوفسطائية المتعارضة مع الفلسفة، وعبر سقراط عن ازدرائه الشديد لها بسبب علاقتها الحميمية مع الحشود التي لا تستسيغ إلا المعرفة العامية غير القابلة للفحص والتمحيص والمساءلة والمراجعة والنقد، إضافة إلى نفور الخطابة من الفلسفة والتفكير والتأمل والنظر والنقد الهادئ كما أنها تتعارض مع العدل وتلتحم بشكل فظيع مع النزوات العاطفية، وهذا ما يجعلها مفضلة لدى رجال السياسة اللذين يستعملونها إستعمالا ديماغوجيا خطيرا على الحاضرة.

أما في محاورة فايدر وضع سقراط وأفلاطون الخطابة موضع الجدل بوصفها فن المتآلفات والمتناقضات وهو المنهج الصالح للفلسفة، حيث عن طريق الجدل يتم الانتقال بالخطابة من المعرفة المشتركة بين عوام الناس إلى المعرفة الفلسفية بالخطابة، ذلك أن الحشود حسب سقراط لا تستطيع الاشتغال بالمنهج الجدلي.

رغم كل هذا يبقى موقف سقراط/أفلاطون متذبذب حيال الخطابة والخطباء بين محاورتي جورجياس حيث رفضها رفضا تاما وفايدر حيث دافع عن جزء من الخطابة التي تقوم على المنهج الدياليكتيكي Les synthéses.

حيث إن سقراط/أفلاطون جعل من الخطابة تغليطا وإيهاماً حيناً، وتعبيرا عن الحقيقة والصدق إذا تأسست على المنهج الجدلي حيناً أخرى، أما حينما ننتقل إلى الخطابة في اللحظة الأرسطية نلمح توترا آخر هذه المرة مع أرسطو عندما قال “أنا أحب أستاذي أفلاطون كثيراً، كما أحب الحقيقة أيضاً، لكنني أفضل الحقيقة على أستاذي أفلاطون”، كما تجذر الإشارة هنا إلى أن أرسطو كتب كل من كتاب فن الشعر وكتاب فن الخطابة وكان يريد لهما أن يكون سريان، أي لم يرد الجهر بهما، كما كان ضد موقف أستاذه أفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته في الكتاب العاشر منها، لكن رغم كل هذا يمكن القول أن رأي أرسطو في الشعراء والخطباء هو في العمق نفس تصور أستاذه أفلاطون، إلا أن أرسطو كتب بطريقة موضوعية وحيادية وصارمة جداً، رغم أننا نجد أن السوفسطائيين في حقيقة الأمر كانوا يدافعون عن العقل والحرية والدولة والخطابة، كما أننا نلمح أن إيزوقراط هو أيضا تلميذ سقراط وكتب كتابا ضد السوفسطائيين، بل يمكن إعتباره أيضاً مدافع شرش عن الخطابة، ولا نعلم لماذا لم ينتقده أفلاطون رغم كونه خطيبا ماهرا وكان يدافع عن الخطاب حيث كتب كتابا عنونه ب “خطاب حول أثينا”، ونضيف هنا أن الخطيب الروماني شيشرون كان شديد الإعجاب والثناء لإيزوقراط، ومن هنا يمكن إعتبار أن مجال الخطابة مجال إشكالي بإمتياز لأنها إرتبطت بخطاب الدولة والسياسة والحاضرة، حيث كان الإقناع غرضه حدوث التيقين عن طريق الترجيح وليس التحقيق، كما أن أفلاطون في نظرته للخطابة كان ينظر إلى المتلقي الذي يتجلى في الحشود وليس إلى المتكلم الخطيب الذي كان يعتبره مزيفا للحقيقة سوفسطائيا، وللأسف كان حكما جائرا جدا على السوفسطائيين وإختزالها في تزييف الحقائق!

لكن لماذا لا نفترض أن الخطيب ينبغي عليه أن تكون له إرادة خيرة بتعبير كانط غرضها الإقناع الإيثوسي أي الأخلاقي والقيمي والفاضل والحسن والنزيه والمستقيم.

عندما نجعل من مجال الخطابة مجالا أخلاقيا وقيميا وإتيقيا أنذاك نكون أمام مجال نسبي فيه رجحان وترجيح وتنسيب وليس تطليق، فلا وجود للمطلق لدى السوفسطائي، لهذا يركز السوفسطائي على سيكولوجية المتلقي، كما وضع خطرا بين عامة الناس المتمثل في الخطابة، وما يعاب على سقراط وأفلاطون هما نزعتهما نحو الحقيقة، عكس السوفسطائيين اللذين نزعا نحو النسبي والمحتمل، نشير هنا إلى بروتاغوراس الذي جعل الإنسان مقياس كل شيء، بمعنى أن الحقيقة نسبية ومعيارها هو الإنسان، لهذا سنجد العديد من الفلاسفة كانت لهم مواقف خاصة يدعون فيها إلى إعادة النظر والإعتبار في الحركة السوفسطائية بدءا من نيتشه وهيغل وهايدغر وإيميل برييه…، كما أن السوفسطائية هي عبارة عن حركة تنويرية، لاحظوا معي ما قاله هيغل عن السوفسطائيين عندما وصفهم بفلاسفة أنوار أثينا، حيث دفاعهم المستميت عن الديمقراطية والمواطنة وحب المدينة-الدولة والنسبية وإعادة إحياء الخطابة والبلاغة وفن القول بل شكلت هذه الحركة إمتدادا وإحياءا شموليا للأثر الخطابي الصقلي، ويمكن رفض الرواية الأفلاطونية المختزلة لهذه الحركة، كما رفض الرواية الإيزوقراطية التي فيها الكثير من الدحض والنقد السلبي والهادم الذي يحط من قيمة هذه الحركة، إلا أن لا أحد ينكر دورها الفعال في سيرورة وصيرورة التاريخ، خاصة إسهامها في التمهيد والتأسيس لتاريخ نظريات الخطابة والبلاغة.

كما يحسب لهم جعل الخطابة شأنا عموميا يخص جميع الناس بدون إستثناء، ونقل الخطابة من المحاكم والقضاء إلى المجال العمومي من خلال إضفاء طابع الفن القولي عليها، وجعل غايتها هي الإيثار والإمتاع ثم فيما يلي الإقناع، كما جعلوا من الخطابة قولا حجاجيا من خلالها يمكن للمرء أن يدافع دفاعا حجاجيا عن رأيه الشخصي الذي يقتنع به، شريطة أن يكون هذا الرأي مندرجا في دائرة الشأن الإنساني من منطلق النزعة الإنسانية التي تميز الحركة السوفسطائية، كما نجد لديهم ربط الصلة بين الخطابة واللغة والكلام والتعبير الشفوي، وإضفاء طابع السلطة السياسية والقانونية عليها من خلال تناولها لمفاهيم مثل الإجتماع، والديمقراطية والعدالة والدولة والفضيلة…

عودة لأفلاطون هنا، وكما قلنا سلفا أنه لم يستطع أن يحسم رأيه حول الخطابة ونظرية الحجاج، إلا أنه إنتصر للمنهج الجدلي وجعله أعلى مرتبة ومنزلة من الخطابة بذاتها، ذلك أن الخطابة تركز على اللغة والكلام والتعبير ثم التأثير في المتلقي وهذا ما عابه أفلاطون على السوفسطائيين الذين يتلاعبون في نظره بالكلمات والأشياء واللغة، وما يمكن إضافته هنا – وهو سبب تكرارنا لموقف أفلاطون- هو أن موقفه من الخطابة في حقيقة الأمر يتوافق مع موقفه حول عالم المثل من خلال مجاز الكهف، حيث جعل من الحقيقة متعالية أي متواجدة في عالم المثل، فحتى الخطابة التي يدعوا لها متواجدة في عالم المثل، لا العالم المادي المحسوس، وعلى قياس ذلك فاللغة بما أنها متواجدة في عالمنا الحسي فهي ناقصة ولا تعبر عن الحقيقة، لأن الهنا فيه المحسوس والملموس، ومن هنا تصبح الخطابة ليست مجال الحقيقة، ولكن يقبل رغم كل ذلك بالخطابة إن كانت لغرض تربوي وتعليمي، ومن غرائب سقراط أن في محاورة الدفاع رفض الدفاع عن نفسه كي لا يسمى سوفسطائياً أو خطيبا لهذا سيذكره التاريخ بوسمة “شهيد الحقيقة والفلسفة”، كما بقي وفياً لنظريته في المثل، وظل يؤكد على أن السوفسطائي يعمل فقط على إيثار وتهييج الجمهور أو الحماسة الجمهورية.

وهنا سننتقل للإشارة إلى نظرية الخطابة لدى أرسطو الذي قسم الخطابة إلى ثلاث :

1-الخطابة السياسية.

2.الخطابة المدنية.

3-الخطابة القضائية.

فالخطاب عنده يشير إلى فعل اللوغوس، أما المتلقي للخطاب فهو ما يشير إلى الباثوس، وعن الخطيب الذي يبث الخطاب فيجب أن يحترم الإيثوس، كما أن أرسطو تأثر كثيراً بأفلاطون محاورة فايدر الذي تقبل الخطابة في حالة ثم إطعامها بالجدل وكان غرضها تعليميا وتربويا وبيداغوجيا، كما جعل أرسطو من مجال الخطابة مجال الشؤون العمومية والمجتمع المدني حيث يتم إستعمالها في المجال السياسي والقانوني والقضائي أي في الهيئة القضائية أو في المجلس النيابي أو مجلس إقتراح البت في الشأن العام، وبالتالي فمجالها مجال عمومي شفوي غرضها مخاطبة العوام، أما عن مجال القضاء والسياسة هو مجال الترجيح والاحتمال، وهو ما عبر عنه بقوله : “الخطابة هي الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في أي موضوع كان”، وكما أسلفنا سابقا، فالبنسبة لأرسطو، “إن أشرف العلوم تابع للسياسة، أقصد بهذه العلوم، الاستراتيجية العسكرية والعلم الإداري والخطابة”، هذه الرفعة من مجال الخطابة ووضعها في موضع مساو للعلوم السياسية والقانونية والإدارية لم تكن متاحة إلا مع أرسطو، أما عن اهتمامات الخطابة يقول :

“تهتم الخطابة بالأمور التي نتحاور بشأنها ولا نتوفر على صناعات خاصة بها، وتتوجه إلى مستمعين عاجزين عن الفهم التركيبي في حضرة عناصر كثيرة، وعن الاستدلال المتصل خلال لحظات مسترسلة”، وهذا توكيد على أن الفهم الإنساني المشترك يعجز عن الفهم التركيبي، هذا الأخير الذي يختص به الفيلسوف وفقط. أما عن العوامل التي تدعو إلى بعث الثقة في الخطيب ثلاثة يقول:

” إذ هناك ثلاثة أسباب من غير البراهين تدفعنا إلى الثقة، هي السداد والفضيلة والبر [أي إسداء النصح] لأن الخطباء إذا كانوا يتعرضون للإحباط في محاولتهم للدفاع عن موقف ما أو لبذل نصائح فإن ذلك ناشئ عن هذه الصفات الثلاثة، أو عن واحدة منها، فهم إما أنهم، بسبب عدم سدادهم، يعجزون عن تكوين رأي سليم، لا يقولون بسبب شرهم، ما يفكرون فيه، أو إنهم سديدون وفضلاء يفتقدون البر، ولهذا فإنهم لا يدلون بأفضل النصائح رغم أنهم يعرفونها ليست هناك حالات غير هذه. وإن ذلك الذي يبدو أنه متصف بكل هذه الصفات ينال ثقة سامعيه”، والمهم هنا هو تلك الصفات أو العوامل المؤثرة على بعث الثقة في نفس المتلقي وهي السداد ويقصد بها هنا الحكمة، أي أن يكون الخطيب حكيماً، والفضيلة هنا لها دلالة أخلاقية وقيمية وإيثوسية، أما البر فهو عبارة عن إسداء نصائح وتوجيهات حصيفة تفيد المتلقي لا تحبطه.

وفي مقدمة ترجمة كتاب “الريطوريقا” لأرسطو، يشير مشيل مايير إلى أن “الباتوس هو ما ينزع إليه هذا الإنسان أو ذاك نزوعا طبيعيا، أي على سبيل الإستعداد الطبيعي، إنه ذلك الشيء الذي يميل إليه ويتوخاه”، حيث أن الباتوس هنا له دلالة يفيد به الميل أو النزوع الفطري الطبيعي إلى الشيء ويرجوه ويتوخاه.

” ومع ذلك، وعلى سبيل الإختصار، فإن الأجزاء الضرورية هي فقط السرد والإقناع، هذان هما الجزأن المميزان للخطاب ولو أن الخطابات تتكون في غالبيتها من الإستهلال والسرد والحجاج والخاتمة، […]، إن السرد Diegesis يظهر أنه خاص بالخطب القضائية وحدها”، وهنا تأكيد أرسطو على السرد والإقناع في مجال الخطابة، ورفضه أو نقده الإستهلال الذي هو طريقة منسجمة مع عادات العبيد، وكخلاصة للقول هنا هو أن الإيتوس يشكل المظهر الأخلاقي للخطيب أما الباتوس فيشكل المظهر الإنفعالي للخطيب.

على سبيل الختم، انطلاقا من عنوان مقالنا “نظريات الخطاب توترات بين السوفسطائيين وأفلاطون وأرسطو”، نلحظ أن هذا المقال مليئ بالفعل بالتوترات والتداخلات المتشابكة، نظرا لتشابك وتعاقد وتداخل وتضاد الموضوع، حيث عندما نعود إلى الخطابة في اللحظة السوفسطائية خاصة لحظة جورجياس وكوراكس وتيزياس وأمبادوقليس نجد أنها تشكل لحظة أولية مُؤِسّسَةٌ جعلت من الخطابة طريقة معقلنة للكلام، أما عن التحول الثاني فهو ذلك الذي حدث في اللحظة السقراطية الأفلاطونية التي هي لحظة النقد اللاذع الموجه للخطابة عند السوفسطائيين خاصة في محاورة جورجياس أما محاورة فايدروس فهي إعادة للنظر في الخطابة إن كانت قائمة على الجدل وكان لها غرض تربوي تعليمي، أما النقلة الثالثة أو التحول الثالث هو ذاك الذي سيحدث مع المؤسس الفعلي أو المُقَعِّدُ للخطابة، وذلك من خلال بيان أجناس الخطبة في ثلاثة: المشورية، والقضائية، والإثباتية الحكمية، لذلك كان غرض مقالنا هو توضيح هذه التحولات التوترية للخطابة وتنقلاتها بين السوفسطائيين وأفلاطون وأرسطو، فركزنا على الإثارة الإشكالية المشكلة وتجنبنا الكم المعرفي، ذلك أننا سنفرد المراجع والمصادر التي يمكن العودة إليها من أجل تقعيد المعرفة الخطابية والتعرف على الإشكالات كما أثيرت مع أصحابها وهي كالآتي:

[1]- Platon,Gorgias ,[ou Sur la Rhétorique, réfutatif] ,Traduction, notices et notes

par ,Émile Chambry.

[2]- Platon, Phèdre ,Traduction de Mario Meunier, 1922.

[3]- P. Chiron, Aristote, Rhétorique, Paris, GF Flammarion, 2007; G. A. Kennedy, Aristotle On Rhetoric. A Theory of Civil Discourses, Oxford, UP, 1991.

-[4]M. Meyer, Aristote, ou la Rhétorique des passions, Paris, 1989.

[5]-أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970.

[6]- د. الطيب بوعزة، تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، قراءة نقدية (٧)، دفاعاً عن السوفسطائيين، مركز نماء للبحوث والدراسات. الطبعة الأولى، بيروت ، ٢٠١٧.

[7]- محمد الولي، الخطابة والحجاج بين أفلاطون وأرسطو وبيرلمان، تقديم محمد العمري، الطبعة الأولى 1441ه/2020م، الناشر فائية للطباعة والنشر والتوزيع، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء.

وسوم:

اترك رد

جديدنا