دراسة المسألة الفلسطينيَّة عند حنا أرندت ودريدا وسارتر

حنا أرندت
image_pdf

كانت حنا أرندت (1906-1975) تلميذةً وعشيقةً للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، “امرأة يهوديَّة،لكن غير ألمانيَّة”.ومع انضمامها في أول حياتها إلى بعض المنظمات الصهيونيَّة إلا أنها سرعان ما انفصلت عنها عندما رأتها تغرق في مستنقع السياسة الواقعيَّة والاندراج في لعبة القوى العظمى التي تعني: ” الجماعيَّة، الأنانيَّة، الفوضى، القوة ” حسب تعبيرها وعندما أرسلتها مجلة النيويوركر لتغطية محاكمة أيْخْمَنْ في القدس (1961) جاءت تحليلاتها على غير  هوى الصهيونيَّة العالميَّة وصادمة لهم وذلك عندما قالت: إنَّ اليهود قادوا أنفسهم بأنفسهم إلى التهلكة.

في كل ما كتبت أرندت كانت تثير سخط أصدقائها الصهاينة الذين كانوا يصفون مقالاتها مثل إعادة فحص الصهيونيَّة عام 1946 بأنه “كره يهودي للذات” و”رغبة جارفة في الاندماج”. مع كل ذلك لم تتردد في معارضتها لإقامة دولة يهوديَّة في فلسطين، مع اختلافها سياسيًّا في نفس الوقت مع الحركة الصهيونيَّة في طريقة التعامل مع “المسألة العربيَّة” في فلسطين.

إنَّ الصهيونيَّة التي تحدَّدت في عبارة ” أن يكون يهوديًّا أو لا يكون” اتَّخذت من هذه المقولة سبيلًا إلى العنف والاستعباد والاستعمار وسلب شعوب أخرى حقَّها في الوجود لتمارس عليها سياسات إقصائيَّة حادَّة، وحسب رأي أرندت، أنَّ الوعد المعطى لإبراهيم لا يعطي شرعيَّة للوجود اليهودي في فلسطين، إنه لا يعني أكثر من الطرد للعرب أو وضعهم أسفل السلم، وأن  الماضي وحده لا يُمكِّن  شعبًا من حقٍّ بعد آلاف من السنين ،أو يتيح شراء بلد بحفنة من النقود، أو يعطي لوردًا نافذًا الحقّ في أن يتكرَّم فيبيع وطنًا لآخر .

إنَّ العمل المثمر وحده هو المبرِّر للوجود، لا القوة المفرطة عندما تفتح الأبواب أمام الجميع دون تحيُّزات أو اضطهادات، ويكون الجهد المبذول هو وحده المقرَّر عندما تكون الفرصة متاحة للجميع بدون استثناء.

إنَّ اعتماد شَعْبٍ صغيرٍ على قوَّة إمبرياليَّة غاشمةٍ اعتماد هش لا يوفِّر أمانًا بل لن يستمر طويلًا وسيضرّ أول ما يضرّ اليهود أنفسهم، وببساطة ترى أرندت أن العبارة التي يمكن أن تفسَّر الحالة اليهوديَّة بشكل صحيح  ليست كما قيل: أن نكون “مثل الآخرين”  فتكون لنا دولة مغتصبة، ولكن أن نكون “بين الآخرين” لنا حقوق مثل حقوق بقيَّة الشعوب نعيش بينهم ونمارس حقوقنا التي نستحقّها حيث وجدنا.

والخطر كل الخطر عندها هو في سياسة “الكلّ أو لا شيء” التي لا تقود سوى إلى الحرب. وتصرُّ حنا أرندت على أنَّ “العنف في حد ذاته غير قادر على التعبير” وبالتالي فهو غير محبَّب ولا ودود في السياسيِّات.

إنَّ العنف يُسكت كل سبل التغيير، ولكنه مع ذلك يحدث كثيرًا على مرّ الحياة وطولها، لأنَّ الإنسانيَّة تتَّسم بغير الانضباط، فإذا كانت الأمة المرحومة في أفضل عهودها اختلفت واقتتلت عندما حدث الخلاف في قضيَّة داخليَّة لم تمتد لها يد خارجيَّة مع كل الاتهامات لأيد عابثة من غير أهل الملة، ولكن الحقيقة أنها فئة إسلاميَّة خرجت بمفهوم مخالف تؤجِّجه الرغبة الكبيرة في السلطة وهذا ما نجده في النفسيَّة اليهوديَّة التي تقوم على الثلاثي الرهيب  الملك / المال / الجنس.

فاليهود أهل كتاب  وقد كان القرآن يدعو  النبي وصحابته إلى سؤالهم والاستخبار عن الحق الذي جاءه إن كان في شك منه ومن وعود ربه، وإذا تأملت مقدمهم إلى المدينة فلا تظن أنهم كانوا ينتظرون نبيًّا يهوديًّا فهم يعلمون علم اليقين أنه نبيٌّ غيرُ يهوديٍّ، وإلا لما استوطنوا في يثرب فإذا كانوا يعلمون  بمكان مخرجه فكيف لا يعلمون بمنبته وأرومته، وإن كان قيصر قد قال لصديقه في حمص ” لم أكن أظن أنه منهم ” فالنصارى مشوشون كتابيًّا أما اليهود فعلم اليقين لديهم والمقصود أن اليهود كانوا ينتظرون نبيًّا يصنعونه لا يصنعهم، فلما أتى النبي بطريق مختلف وشرعة أخرى أظهروا عداوته ولذلك كان النبي حريصًَا على خلاف اليهود وهذا ليؤكد الاستقلاليَّة والشخصيَّة المنفردة لما يعلمه من رغبة اليهود في السيطرة والتملك، وهذا من عمله صل الله عليه وآله لتحرير الشخصيَّة الإسلاميَّة من كل مؤثر ٍخارجيٍ وهذا ما لا يفهمه كثير من المسلمين، وأن المسألة عندهم عقديَّة خالصة، وإنما الأمر في قيام فرادة إسلاميَّة من خلال ربطها بالتوحيد حتى يكون ضمانة خالصة لبقاء هذه الفرادة.

وعلى الرغم من أن أرندت لم تنخرط في السياسة العربيَّة طوال حياتها، إلا أنها كانت واحدة من هؤلاء القلة من الفلاسفة المناهضين للشموليَّة الذين تضمنت رؤيتهم النقديَّة التعاطف مع فلسطين وتسليط الضوء على الآثار الضارة للإمبرياليَّة على العرب وغيرهم  وعلى العالم الغربي على حد سواء.

ومهما قيل في أرندت فإنها بحق آيقونة تحريريَّة مختلفة بعكس الآخرين والكثيرين من اللبراليين  في عصرها – وأبرزهم عدوها الكاره للنساء، أشعيا برلين، الذي وهو وغيره لم يكونوا يؤمنون بشيء خارج الثقافة الأوروبيَّة مع تعالي فج وعداء واضح للعالم غير الأوروبي تحت ما يسمى بليبراليَّة الخوف” البنجلوسيَّة”([1])

لقد كتبت أرندت عن الثورة بشكل مثير للجدل بسبب مقارنتها اللافتة للثورات الأمريكيَّة والفرنسيَّة والروسيَّة والمجريَّة واحتضانها لديمقراطيَّة المجالس فادعت أن الثورة الفرنسيَّة فشلت في إنتاج الحريَّة بسبب العنف السياسي الأمر الذي أدى  بمثل البلشفيَّة إلى عهد من الرعب المخيف .

مع كل ذلك فإنها لا تخفي قلقها من الإملاءات الرأسماليَّة، التي سارت جنبًا إلى جنب مع الليبراليَّة والثورات الفاسدة، وعلى حد تعبيرها فإن “الشغف القاتل لتحقيق الثروات السريعة” في الحلم الأمريكي وما يرتبط به من شغفٍ لاستهلاك كل شيء أدى في النهاية إلى قتل الروح الثوريَّة لمؤسسي الجمهوريَّة الأوائل، ولذلك فإنك فلا عجب أن تسمع في  أمريكا أصواتًا بين الفينة والأخرى إلى العودة إلى مقررات الآباء المؤسسين ولكن يبدو أن هذا أصبح في عداد المستحيلات فأمريكا انجرفت في تيارٍ جارفٍ لكل شيء، ولا يخفي المراقبون الاجتماعيون أن العجلة الرأسماليَّة دائرة بعنف وبقوة وبسرعة هائلة وقد أخذت معها كل شيء وأن النهاية غير سعيدة حتمًا.

لقد شد أرندت كثيرًا وأسرها الاثنا عشر يومًا من  ديمقراطيَّة المجالس واللجان البلديَّة في المجر السوفييتيَّة على أنها التجربة المفقودة في كثير من الثورات، وذلك على وجه التحديد لغياب الاستمراريَّة والتقاليد والتأثير المنظم، وهو ما يجعلنا نتساءل في التجارب الفاشلة عن استمرار الفشل المتكرر في كل الثورات وعن الرعب الذي يصاحبها دومًا. لا شك أن كثيرًا من الأنظمة الأوروبيَّة الحاليَّة كالنقابات المؤثرة في الوضع السياسي الغربي، مرت بمراحل صعبة ودمويَّة حتى استقرت على ما هي عليه الآن، ولكن السؤال لماذا العنف هو السائد في كل ذلك حتى أصبح كأنه طبيعة كونيَّة، فالقرآن يصرح في انتقال الملك من جيل إلى جيل بوضوح فيقول:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران:26]

فعبر بالنزع كما عبر في مواضع أخرى {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}[النازعات:1] وفسر الحديث النبوي عمليَّة نزع روح الكافر وبيَّن شدتها فاللفظة تحمل معاني القسوة والشدة، ومع ذلك قالوا إن العنف لا يولد إلا عُنْفًا ولكنه لا بد منه، فالحياة قامت على أجزاء وتراكيب كثيرة أحدها القوة التي من وجوهها العنف، ولذلك تسمع بالعنف المبرر فالذي يعتدي على أرضك أو عرضك فلن تقابله بالورود ولذلك جاء الحديث ” من قتل دون ماله وعرضه فهو شهيد ” والأرض لا تخرج عن المال ولا العرض لمن يتأمل فالحرمات والمساكن كلها أعراض.

اتضح أن أفكار أرندت حول ديمقراطيَّة المجالس كانت ترجمات لرؤيتها لمستقبل ثنائي القوميَّة لفلسطين، التي عبرت عنها لأول مرة في عمودها المعتاد “This Means You! ” في صحيفة  Aufbau، التي تصدر في نيويورك لليهود الناطقين بالألمانيَّة وبسبب استيائها من احتمالات إنشاء دولة يهوديَّة على حساب السكان العرب الأصليين، استحضرت التقاليد المحليَّة والبلديَّة المفقودة للحكومة، حيث المجالس “ستصبح مواقع للتعاون اليهودي العربي”.

سارعت أرندت إلى التأكيد على أن هذا الشكل من الديمقراطيَّة المتحضرة  ليس فكرة جديدة في فلسطين فقد شهدت المجالس البلديَّة حالة متطورة  في المدن والبلدات في أواخر العصر العثماني ولكن بعد ذلك “استهدفت أعمال الإرهاب الصهيونيَّة على وجه التحديد نقاط علاقات حسن الجوار بين العرب واليهود في أماكن مثل  حيفا وطبريا”.

إنَّ التاريخ والقانون الدولي لم يتعاطفا مع الفلسطينيين ودفنا رؤية أرندت البديلة لفلسطين تحت أنقاض الاحتلال الإسرائيلي الذي دام سبعة عقود.وهذا ما يجرنا بالطبع لإثارة  مسألة مدى فعاليَّة المقاومة الفلسطينيَّة العنيفة أو غير العنيفة ومسألة أخرى تتعلق بالحياة الأخرى للأفكار وانتقالها في عمليَّة تطوريَّة أطلق عليها إدوارد سعيد اسم “نظريَّة السفر” ” Traveling theory” .([2])

فالتطور أو الانتخاب لا يشمل فقط الحياة الطبيعيَّة كما هي عند داروين فالأفكار تمر بمثل هذه المراحل تجدها أيضًا عند ماركس الهيجيلي عندما قال كل فكرة توجد وفي داخلها موتها لتتولد أفكار أخرى ربما القوة هي التي تضع شرط القبول أو الرفض أو التطور وربما الملاءمة مع الزمن فكثير من الأفكار استهلكت وأصبحت بالية، ولذلك تسمع كثيرًا مقولة “تجديد الخطاب”.

قبل عشرين سنة ألقى الفيلسوف المعروف باسم مخترع التفكيكيَّة، جاك دريدا، آخر خطاب علني له في الولايات المتحدة قبل أن يموت بالسرطان بعد أقل من عام. في جامعة كاليفورنيا كان هناك مؤتمرٌ حول العديد من مقالات دريدا التي تركزت حول محاولة فهم الصراعات المستمرة  التي أهمها الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني التي هي بالنسبة للبعض تقبع ببيت التفكيك والسياسة.

في القدس في مؤتمر للمثقفين اليهود الناطقين بالفرنسيَّة اجتمعوا  لمناقشة مسألة “كيف نعيش معًا؟” في عام 1998، يعرض كتاب “الاعتراف – المستحيل” ما أصبحنا نعرفه باسم “أسلوب دريدا المتأخر”، على سبيل استعارة عبارة الناقد الأدبي إدوارد سعيد: تأمل شَخْصِي المتجذر بقوة في ذكريات المتحدث (طفولته الجزائريَّة).

لكن مكان الخطاب  (القدس)، ومحاوريه (اليهود الناطقين بالفرنسيَّة،بالإضافة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين وغيرهم). مع أن دريدا ولد في الجزائر التي كانت تحت الحكم الفرنسي عام 1930، ونشر عدة نصوص عن تجربته في نشأته باعتباره “يهوديًا أصليًّا” مستعمرًا.

ورغم أن دريدا يستشهد في كتابه “الاعتراف – المستحيل” بمجموعة واسعة من الأمثلة لتوضيح هذه الظاهرة – بدءًا من الولايات المتحدة بعد الإبادة الجماعيَّة والعبوديَّة إلى تشيلي والأرجنتين وجنوب أفريقيا ما بعد المصالحة – فإن همه الرئيسي هو إسرائيل وفلسطين وإمكانيَّة العيش معًا في تلك المساحة المتنازع عليها ومن أجل التعامل مع هذا الموضوع المشحون، فإنه يعتمد – ربما بشكل مفاجئ – على موقع آخر للصراع: المستعمرة الجزائريَّة بمقارنة  تجربة  “المجتمعات الجزائريَّة – العرب والأمازيغ والفرنسيين في الجزائر” بتجربة العيش معًا في القدس.

يشرح دريدا بالتفصيل مضامين الاستبعاد الاستعماري في أحاديَّة لغة الآخر، وهو النص الذي يشرح بوضوح أوجه التشابه بين التفكيك وإنهاء الاستعمار، فيضع نظريَّة لما يسميه “المنع المزدوج” كنموذج للغة بشكل عام، فعند نشأته في الجزائر الفرنسيَّة  كان مجبرًا  على التحدث باللغة الفرنسيَّة في المدرسة بدلاً من أي لغة جزائريَّة أخرى – العربيَّة أو العبريَّة أو البربريَّة – التي كانت محظورة بدرجات مختلفة عندما صنفت اللغة العربيَّة على أنها لغة أجنبيَّة، وباعتباره يهوديًا مندمجًا بطريقة أو أخرى، لم يكن دريدا قادرًا على التحدث بهذه اللغات الأخرى.

فالاستعمار يحمل في طياته السلب للآخر إنه يهمشه بقسوة ويزويه عن الحياة الطبيعيَّة وما اللغة إلا أحد وجوه الاستعباد الاستعماري. إن إقصاء ذات السكان الأصليين تولد آلامًا عنيفة جدًا تفوق المعاناة الاقتصاديَّة، لأن الكرامة تأتي قبل المال وهذا معروف في كل الثقافات التي تؤكد على احترام الذات بتقاليد وأمثلة شعبيَّة منتشرة في العالم، وهذا ما يجعل الحنق والعنف متوقعًا من الشعوب الأصليَّة تجاه المستعمر أو المحتل.

يعود دريدا إلى خصوصيات معاداة الساميَّة الاستعماريَّة في أحاديَّة لغة الآخر، حيث يوضح أيضًا أنه في مدرسة فرنسيَّة أُجبر على تعلم الفرق بين اليهود والعرب. هذا الفرق الذي يتجلى في السياسات اليهوديَّة الاستيطانيَّة أو التدميريَّة لقطاع غزة بدون رحمة حتى غدا دريدا نفسه هدفًا للعنصريَّة في الجزائر الاستعماريَّة، عندما حُرِمَ  كنسيًا من الجنسيَّة الفرنسيَّة وبموجب مرسوم كريميو لعام 1870 فقد منحت العديد من المزايا الحضاريَّة لليهود ولم تمنح للمسلمين.

لم يكن دريدا يشعر بالارتياح في المدارس اليهوديَّة المؤقتة التي أنشئت مؤخرًا باعتباره موضوعًا استعماريًّا مندمجًا تحت ظرف استعبادي. “الاعتراف – المستحيل” يستهدف، على وجه التحديد، “جماعة أو قوميَّة أو صهيونيَّة معينة ” بهذا النص  يضيف دريدا صوته إلى مجموعة متزايدة من المفكرين اليهود الذين شككوا في علاقتهم بالصهيونيَّة والدولة التي تدعي أنها تتحدث باسم جميع اليهود منهم: مارتن بوبر، ووالتر بنيامين، وحنا  أرندت، وجوديث بتلر  لكن على عكس هذه الأصوات المنشقة، فإن صوت دريدا عند البعض لا يتجذر في اليهوديَّة فحسب، بل أيضًا في تجربته مع الاستعمار الأوروبي.  

إنه يدفع بالطفل [دريدا] ليس فقط إلى المعارضة العلنيَّة لسياسة الحكومة الإسرائيليَّة بل يدفعه أيضًا إلى الاستمرار في استجواب نفسه بطريقة مؤرقة عن الظرف الإسرائيلي الذي أسس دولة إسرائيل الحديثة نفسها.

يستنبط دريدا العنف التأسيسي لإنشاء إسرائيل ليقدم ادعاء أكبر بكثير: «إن أي تأسيس قانوني سياسي لـ«العيش المشترك» هو في جوهره، عنيف، لأنه ينشأ قبل أن يكون هناك قانون  فلم تتأسس دولة بدون أي عنف مهما كان شكله أو الوقت الذي يستغرقه، لكن هذا التقرير حسب دريدا لا يهدف إلى السماح لإسرائيل بالإفلات من العقاب ولذلك يتساءل  هل عليها المثول أمام قانون آخر أو الاستئناف أمام عدالة أخرى وهل عليها أن  تكون دولة غير عنيفة أو إقصائيَّة؟ ومع كل هذا فبعض النقاد أساءوا تفسير هذه التصريحات باعتبارها دليلاً على أن دريدا كان يقوم بمحاولة تطبيع للوضع الإسرائيلي، والأسوأ من ذلك تبرير  عنف الدولة الإسرائيليَّة وذلك للوصول إلى لحظة العيش معًا، لكن هناك من يرى أن دريدا ينأى بنفسه عن الصهيونيَّة بالقدر الذي ينأى بنفسه عن أي قوميَّة عنصريَّة، والذي أستشفه أن دريدا يتساءل تساؤل الذي يريد أن يجد مخرجًا لإسرائيل، ولكنه لا يجد فإنه يبحث عن منتهى ما يمكن من تبرير، ولكنه يجد نفسه غير مقتنع، ولذلك يدع التساؤل مفتوحًا وغير مغلق لذلك ففي نص كتبه بعد لقاء الفلسطينيين في رام الله  عام 1998:

” أتساءل كيف تمكنت من السماح لكل هذه الأشياء أن تتعايش داخل جسدي من خلال شبح يمشي أثناء النوم: آلاف السنين من الحب الفاقد للذاكرة لكل حجر، وكل شخص ميت في القدس، و”الصعوبات” التي أواجهها على أساس ذنبي البريء – وهذا ربما يعني الحلقة الأخيرة التي لا تزال غير قابلة للتدمير في داخلي – ومع كل مجتمع يهودي في العالم  إلى الحد الذي إننا لا نزال مذنبين إلى ما لا نهاية، بما يتجاوز إسرائيل نفسها، بالعنف الذي يتعرض له الفلسطينيون، وتحالفي مع القضيَّة الفلسطينيَّة، ومحبتي وتعاطفي اللامحدود مع العديد من الفلسطينيين والجزائريين”.

إنه هنا ينتهي من دوامة الأسئلة المفتوحة ليضع الحقيقة في مكانها الصحيح ويجعل الواقع المؤلم حكمًا على ضمير العالم النائم الذي لا يريد أن يستفيق.

قد تكون كلمة “الذنب البريء” أو ” الذنب البسيط ” عند دريدا تعني الازدواجيَّة المتناقضة أو القطيعة غير التامة لإحساسه بانتمائه لليهود في جميع أنحاء العالم علامة على عدم قدرته على المقاومة الكاملة للدوافع “القطيعيَّة” نسبة إلى القطيع أو الجماعيَّة التي يفككها في أماكن أخرى، ولكنه مع ذلك يعلن أيضًا عن ذنب المجتمع اليهودي تجاه الفلسطينيين، والعنف الذي يجعله بسبب ارتباطه بهذه الطائفة شريكًا في كل جرائمه، مع أنه غير راغب فيه أو مؤيد له، إنه لا ينسى أنه كان مستعمرًا في يومٍ من الأيام وواعيًا تمام الوعي ما يعنيه العنف المستخدم في بناء الدول الاستعماريَّة، مع أنه لا يخلو من قرب من الدولة التي تحمل القوميَّة اليهوديَّة التي تستضيفه وأنه قد يكون مواطنًا إسرائيليًّا بنحوٍ ما  أكثر من المواطنين الذين لا يحملون الجنسيَّة الإسرائيليَّة (ناهيك عن الفلسطينيين من الأراضي المحتلة، واللاجئين الفلسطينيين، أو أولئك الذين يعيشون في المنفى). ومع ذلك كما في “الاعتراف – المستحيل”، يصر على جزائريته، إذ يقول: “مودتي وتعاطفي اللامحدود مع العديد من الفلسطينيين – والجزائريين”. ويصفهم بأنهم يعيشون داخل جسده وفي ربطه بين الشعبين يتضح أن دريدا يعيش معاناة كبيرة وتردد مؤلم لم يستطع أن يتخلص منه كما تخلصت منها حنا أرندت، والفريق الذي انضم إليها وأعلنوا صراحةً مناهضتهم للصهيونيَّة العالميَّة عندما رأوا الأمر مجرّدًا وإنسانيًّا بحتًا لا مجال فيه للغير الحقيقة، وإن كانت مرة  فدريدا  يدرك الوضع الفلسطيني المؤلم ويشعر بالذنب تجاه ولكنه مع ذلك يصف هذا الذنب بالبراءة لا أنه بريء تماما من المؤاخذة، ولكنه بريء من حيثيَّة الانتماء، لأن هذا الانتماء يدفعه إلى أن يصطف بعض الاصطفاف مع طائفته وهذا ما تجده مع الأب الذي يؤلمه ذنب ابنه القاتل ولكنه لا يستطيع أن يتخلص من  أبوته، وهنا نعذر دريدا من وجه ونلومه من أوجه أخرى، فالعاطفة أو العلاقة الطائفيَّة لا يستطيع أحد سلبها، ولكن يبقى العنف والاستعمار والاستعباد ذنبًا لا يغتفر إلا بزواله ومؤاخذة أو محاكمة من ارتكبوه ومثولهم أمام العدالة، وهذا ما حاوله دريدا وساعدنا عليه أو ألمح إليه، ومن حقه علينا أن نشكره.

أما سارتر فعندما كان المثقفون في فلك الحزب الشيوعي الفرنسي مترددين بشأن حرب الاستقلال الجزائريَّة، فقد قدم دعمه غير المشروط للمقاومة الجزائريَّة، وهو الموقف الذي كاد أن يؤدي إلى مقتله بقنبلة منظمة الدول الأمريكيَّة التي زرعت خارج شقته.

إن الأوضاع المتأزمة والمتوترة التي شهدها العالم في تلك الفترة وخاصة حركات التحرر العربيَّة ضد الاستعمار دفعت سارتر إلى استبدال “الذات” و”الآخر” المجردين في الوجود والعدم (1943) بفهم جديد لعلاقات القوة في نقد العقل الجدلي (1960). وإذا كان إدورد سعيد يرى أن سارتر فضَّل  الصهيونيَّة على العرب في أعقاب زيارته لمصر وإسرائيل في عام 1967، عندما انضم إلى إسرائيل عشيَّة حرب الأيام الستة لأنه كان يحمل عقدة ذنب محرقة الهولوكوست فإن يوآف دي كابوا يشير أن موقف سارتر الفعلي بشأن إسرائيل وفلسطين كان أكثر اضطرابًا وأقل عدائيَّة تجاه العرب ممَّا توحي به عبارة سعيد “المؤيد الأساسي للصهيونيَّة”.

لقد حظي سارتر في تلك الفترة بانتشار هائل، لأنه الداعي إلى أفكار جوهريَّة ناسبت ذلك العصر، وهي التحرر من الاستعمار وأغلال التقوى والسلطة الأبويَّة حسب تعبير أصحابها. والذي صدم العرب حقًا كيف يكون لمثل ساتر الذي كان نصيرًا للأفارقة، حتى أنه قدم  لكتاب شعراء الزنوج الذي كتبه  ليوبولد سيدار سنغور كما كان نصيرًا  للجزائريين ألَّا يكون نصيرًا للفلسطينيين في قضيتهم العادلة.

والحق أن سارتر كان يراعي العلاقات الشخصيَّة مع أنه كان يبدي بعض المواقف الإيجابيَّة فإنه رفض مقابلة إسحاق رابين عندما كان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أثناء زيارة إسرائيل، وقال لم آت لمقابلة الجيش، وجلس مع رئيس وزراء إسرائيل نصف الوقت الذي جلسه مع عبدالناصر، لأنه يريد أن يوهم الجميع بأنه صاحب فكرة وقريب من طبقات المجتمع بمختلف أطيافها، لا من الأدوات العسكريَّة القاتلة التي هي بعيدة كل البعد عن قضايا الفكر أو التغيير الاجتماعي، لكنه مع ذلك في  القضايا التي تناولها ومنها القضيَّة الفلسطينيَّة كان يراعي العلاقات الشخصيَّة ومتردِّدًا ولم يكن مفكِّرًا مستقلًّا واضحًا، ربما لأن الفلسفة الوجوديَّة فلسفة تأمليَّة وبعبارة أخرى فلسفة عن الذات لا فلسفة عن الموضوع، لذلك لم ينجح سارتر في صناعة موقف حتى مع كونه وقع على العريضة التي وقعها العديد من المثقفين الفرنسيين واصطفوا فيها مع إسرائيل ضد العرب فإنه لم يكن في كل ذلك عن قناعة حقيقيَّة، وإنما انجراف مع التيار الذي لم يكن أحد قادته، فإنه لم يكن أكثر من مفكر لا صاحب توجه يقود معه غيره وفي تصريحاته العامة القليلة حول إسرائيل وفلسطين قبل وفاته عام 1980، حاول سارتر الموازنة بين إيمانه بأن لإسرائيل الحق في الوجود وإيمانه بأن للفلسطينيين الحق في حمل السلاح ضد محتليهم. لكنه بذل قصارى جهده لتجنب الموضوع، وعندما اهتم بمعالجته بدا غير متماسك لذلك بعد الموقف العربي منه وحجب كتبه أو حرقها برر موقفه بأنه لم يفهم وقام باجتماعات مع طبقة بعض المثقفين   لطفي الخولي  وزوجه ليليان الخولي وحاول أن يتملص من هذا التوقيع ويصر أنه سيظل صديقًا للعرب ويدل على ذلك أنه كان يؤيد حق الفلسطينيين في العودة لوطنهم ويبرر ذلك بأنه إذا قلنا بحق عودة اليهود إلى أرض الميعاد بعد ألفي سنة ألا نقول بحق الفلسطينيين في العودة بعد عشرين وهذا موقف إيجابي ولكن سارتر وكثير من المثقفين الفرنسيين كانوا مشوشين بآثار المحرقة التي هزت العالم الغربي واتخذت وسيلة تبريريَّة لكل جرائم الاحتلال تجاه الفلسطينيين.


([1])الدكتور بانجلوس هو المعلم القديم المتحذلق في روايَّة فولتير الساخرة كانديد. كان بانجلوس متفائلًا بشكل مرضي ومضلِّلًا عندما ادعى  ” أن الأفضل في هذا العالم للأفضل على الإطلاق ” . لقد كان مثابرًا في تفاؤله لدرجة أنه احتفظ به حتى بعد أن شهد  قسوة ومعاناة كبيرة. اسم “Pangloss” يأتي من اليونانيَّة  ، وتعني “الكل”، وGlossa، وتعني “اللسان”، مما يشير إلى اللباقة والثرثرة وهذا ما يعني ثرثرة هذه الفئة اللبراليَّة في صالوناتها بشكل هيستيري مرضي متخوف من كل أحد يختلف معها أو يكون خارج جغرافيتها.

([2])   وفقا لسعيد، هناك نمط واضح ومتكرر للحركة نفسها، ثلاثة أو أربعة  مراحل مشتركة في الطريقة التي تنتقل بها أي نظريَّة أو فكرة:

أولًا: هناك نقطة الأصل الواحديَّة  وهي مجموعة من الظروف الأوليَّة التي جاءت إليها الفكرة  وتعني ولادتها داخل الخطاب.

ثانيًا: هناك مسافة يتم اجتيازها، وهي عبارة عن ممر ضاغط للسياقات المختلفة أثناء تحرك الفكرة  من نقطة سابقة إلى وقت ومكان آخر لتحتل مكانة بارزة جديدة.

ثالثاً: هناك مجموعة من الشروط – سمها شروط القبول، أو كجزء لا مفر منه من القبول أو المقاومة – التي تواجه بعد ذلك النظريَّة أو الفكرة المزروعة، مما يجعل من الممكن تقديمها أو التسامح معها برغم ما تبدو عليه من غرابة.

رابعا: أخيرًا  الفكرة الكاملة (أو الجزئيَّة) المتوافقة (أو المدمجة) تتحول مع الاستخدامات الجديدة بحسب موقعها الجديد إلى زمان ومكان جديدين.  

جديدنا