غياب النقد في التعليم وفي الحياة قتل للإنسان والإبداع

image_pdf

تقول الحكمة:على لسان المهدي المنجرة: “إذا وضعنا مشاريع سنويَّة فلنزرع القمح، وإذا كانت مشاريعنا لعقد من الزمن فلنغرس الأشجار، أمَّا إذا كانت مشاريعنا للحياة بكاملها، فما علينا إلا أن نثقِّف ونعلِّم الإنسان.”  

يعتبر أيّ غياب للنقد في أيِّ مجال من مجالات الحياة العمليَّة والعلميَّة، وخصوصًا في مجال التربية، مكمن البؤس ومنبع الأزمة؛ فغياب النقد يجعل التربية بدون روح وبدون أهداف، فبالنقد البنَّاء يتمّ التقويم وإصلاح الأخطاء، ويتمّ وضع الرؤية والاستراتيجيَّة الواضحة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة سواء على المدى المتوسِّط أو البعيد.

فأيّ رفض للنقد يعمِّق الأزمة، ويجعلنا نعتقد أنَّنا على الطريق الصحيح، كما يجعل فكرنا دوغمائيًّا وغير منتج.

هنا يتجلَّى دور الفكر الفلسفيّ، وبالخصوص في الجانب الاكسيولوجي والاستطيقي في كونه يحدِّد بعض معايير القيم والجمال والخير والقبح والشرّ مع التساؤل المستمرّ حول نجاعتها وصلاحيتها، كما قال المفكِّر الإغريقي “سقراط” إنَّ الانسان الفاضل وحده الدي يسترشد في سلوكه بالقيم الثابتة، وليس الذي يسترشد برأيه الخاصّ، من خلال قوله المشهور “أيُّها الانسان اعرف نفسك بنفسك”، يعتبر المعرفة تبدأ بمعرفة النفس، أيّ أنَّ المعرفة تبدأ بمدى قدرة الفرد على فهم أغوار نفسه.

كما يرى أنَّ الفلسفة وحدها، قادرة على جعل الإنسان يرقى من جهة أخلاقه وتقاليده وأحواله الاجتماعيَّة، حيث يتم ابتغاء خيره وسعادته بمعرفة طبيعته الحقَّة، وليس باتِّباع العرف السائد والعقائد البالية.

لمَّا نتحدَّث عن التعليم ومشاكله التي هي بالفعل متعدِّدة ومتنوّعة ومختلفة من قارَّة لأخرى، ومن دولة لأخرى، ومن قُطر لآخر، ومن حيٍّ لآخر، ومن طبقةٍ إلى أخرى، ومن فئة اجتماعيَّة إلى أخرى؛ ممَّا يجعلها إشكاليَّة حقيقيَّة ومتشعِّبة ويصعب إيجاد حلّ لها بسهولة وبكلِّ بساطة. هنا نقفُ موقف ملاحظٍ محايد ومسؤول من أجل إعطاء نوع من الموضوعيَّة والمصداقيَّة لهذه الأزمة الحقيقيَّة التي هي أصل ومنبع كل الأزمات الاجتماعيَّة الأخرى التي تعاني منها كل الأقطار الإسلاميَّة والدول النامية في شرق الدنيا ومغربها.

  وكلما بحثنا في أسباب ومسبِّبات هذه الآفة نجد أنفسنا في وضعيَّة المتشكِّك في كلِّ شيء؛ المسؤولين عن هذا القطاع الحيويّ والحسَّاس وحتَّى الفاعلين الأساسيِّين، وكلّ المعنيِّين من معلِّمين ومدرِّسين وإداريِّين وبيروقراطيّين، وفي أحيان أخرى حتَّى الآباء يتحمَّلون جزءًا من المسؤوليَّة، ومن جهةِ أخرى نشكُّ وبكلِّ يقين في الدولة ذاتها، وفي كلِّ هياكلها وأساليبها وإمكاناتها.

يقول الدكتور المهدي المنجرة: “فبناء الإنسان .. يأتي قبل بناء كلّ شيء، وهذا ما يحتاجه طلّابنا اليوم وأساتذتنا ومسؤولونا وكلّ القائمين على الشأن العلميّ والتربويّ، ابتداءً بالدولة وانتهاءً بالأسرة”.

يقول أحد المستشرقين على لسان الاستاذ المهدي المنجرة: إذا أردت أن تهدم حضارة أمَّة، فهناك وسائل ثلاث هي:

1- اهدم الأسرة : لكي تهدم اﻷسرة،عليك بتغييب دور الأُمّ .اجعلها تخجل من وصفها بـ”ربَّة بيت” .

2- اهدم التعليم: ولكي تهدم التعليم، عليك بالمعلِّم، لا تجعل له أهمِّيَّة في المجتمع، وقلِّل من مكانته حتَّى يحتقره طلّابه.

3- أسقِط القدوات والمرجعيَّات: ولكي تسقط القدوات، عليك بالعلماء، اطعن فيهم وقلِّل من شأنهم، شكِّك فيهم حتى لا يُسمَع لهم، ولا يقتدي بهم أحد.

فإذا اختفت الأُمّ الواعية، واختفى المعلِّم المخلص، وسقطت القدوة والمرجعيَّة، فمن يربِّي النشء على القيم؟

  إنَّ كلّ أزمة كيفما كانت قوّتها وأسبابها يمكن حلّها، لكن بعد تشخيصها بشكل دقيق وواضح، ومعرفة أسبابها ومسبِّباتها، وبالتالي الشروع في القضاء عليها.

إنَّ غياب الاستراتيجيَّة الواضحة هي أكبر مشكل تعاني منه أغلب الدول التي تعيش أزمة في تعليمها، وغياب فلسفة الدولة الواضحة في التعليم. هنا نقف أمام مفصل طارقين: هل نتَّجه بشكل مباشر إلى الحداثة ومناهجها أم نعود إلى التراث وتطوير المناهج التقليديَّة، ونحاول أن نموضعها مع مستجدَّات العصر؟ وكلّ هذا يقف عند حدود إرادة الدولة ومشروعها المجتمعيّ، إن كان هناك مشروع واضح المعالم وله أهداف ورؤية مستقبليَّة.

فهل نتَّجِه اتِّجاه الرشديَّة المحدثة ونبني كلّ مقرّراتنا على منطق العقل الذي لا يخالف الشرع في شيء وإنما الذي يكمله ويسانده. ونوافق بين التراث بكلِّ مكوّناته ونحاول عقلنته، أم نتَّجه اتِّجاه الكانطيَّة ونخلق نوعًا من الانفصال الجزئيّ بين العقل والإيمان، ونجعل كلّ أمور الدنيويَّة والحياة الاجتماعيَّة خاضعة وتابعة لمنطق العقل دون التركيز على الايمانيَّات، ونجعل كلّ الماورائيَّات تابعة للإيمان، ونخلِّص المراجع والمناهج الدراسيَّة من كل التناقضات، ونترك الأفراد وحرِّيّتهم الاعتقاديَّة، ودرجة وقوَّة إيمانهم للتعامل مع أمور السعادة والشقاء الأخرويّات.

فمع  “إمانويل كانط” الذي كان  دومًا يعتبر بأنَّ التربية هي أهمّ وأصعب مشكلة تُطرَح على الإنسان، وهذا التأكيد الكانطي ليس من قبيل التأكيدات السطحيَّة، بقدر ما يعبِّر عن الاهتمام البالغ لدى كانط بمسألة التربية، ذلك أن فكرة التنوير لدى كانط تتضمَّن بعدًا تربويًّا، فلم يعد الهدف من وراء مؤسَّسة التربية هو اكتساب مهارات وامتلاك معرفة من أجل الاندماج في بؤرة المجتمع السائد فحسب، وإنَّما أيضًا في الانفتاح على حركة التفكير المعاصرة (الأنوار) والمساهمة في ترسيخ الدولة العصريَّة من أجل تغيير الذهنيَّات والممارسات ومجاوزة النظم التقليديَّة التي طالما جثمت بثقلها على الذات والآخر والعالم.

من هنا يمكن أن نتساءَل: هل يمكن معالجة كلّ الاختلالات التي يعاني منها التعليم في كلّ الدول المتخلِّفة والنامية والدول المسلمة وغير المسلمة، من خلال طرح بعض الأسئلة وبعض المجالس بين الوزارة الوصيَّة وبقيَّة الفعاليَّات المدنيَّة من نقابات جمعيَّات وممثِّلي آباء وأولياء التلاميذ، أم أنَّ الإشكاليَّة تكبر بكثير على كلِّ هذه الأمور ويجب أن تُطرَح كل الآراء والوجهات الممكنة من أجل معالجة شاملة لهذا المشكل.

فأيّ محاولة لاستبعاد العلوم الاجتماعيَّة والفلسفة من مجال التعليم لا يمكن إلَّا أن يجعل هذا التعليم منفصم الشخصيَّة، ولن يصلح حتَّى للوقوف على أعضائه ومعالجة مشاكله، فالعلوم الإنسانيَّة وبالخصوص تلك المنفتحة على كل الإمكانيَّات العقليَّة الحديثة وكلّ المناهج النقديَّة هي التي تصلح لتكوين إنسان قويّ وله القدرة على الإبداع والتأمُّل والابتكار، وبالتالي خلق جيل من المفكِّرين والأفراد الواعين بكل مستلزمات العصر بصفة عامَّة والحياة الفرديَّة بصفة خاصَّة.

جديدنا