الشيخ الرئيس ابن سينا

image_pdf

هو عالمنا العظيم أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا. ولد في شهر أغسطس عام 980م (الموافق لعام 370 هـ) أي بعد وفاة الفارابي (المعلم الثاني)، المتوفي في 950م (الموافق لعام 339 هـ) أي تقريبا بين ميلاد ابن سينا ووفاة الفارابي حوالي 31 عامًا.

يحكي لنا[1] أنَّه “كان يقرأ ذات يوم في كتاب “ما بعد الطبيعة” لأرسطو. وعلى حدة ذكائه ودقَّة فهمه، عجز عن فهم ما فيه، بل وعجز عن فهم غرض أرسطو منه. ويئس من فهم هذا الكتاب، بل ويئس من نفسه، واهتزَّت ثقته بذكائه وإرادته.

 وذات يوم كان بحيِّ الوراقين في “بُخَارَى”، ومر بدلَّال كتب، ينادي على مُجلَّد في يده، يعرضه للبيع. واعترض الدلَّال طريق “ابن سينا” قائلًا: – هذا كتاب أيُّها الشاب في الفلسفة، وثمنه رخيص. فردَّ عليه “أبو عليّ” قائلاً: -لا فائدة في هذا العلم، فابتعد عني بكتابك هذا. فعاد الدلَّال يُلحُّ قائلا: -اشترِ مني هذا المجلَّد، ولن تندم. ثمنه ثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه، ولولا ذلك ما عرضه للبيع. وأشفق “أبو علي” على صاحب الكتاب، ونقد الدلَّال الدراهم الثلاثة، وأخذ الكتاب منه، ولم ينظر فيه وعاد إلى قصر أبيه، وجلس في حديقة البيت، تحت خميلة مزهرة في يوم صيف.

ونظر “أبو علي” في الكتاب، وفتح فمه شاهقًا بدهشة وفرح، وهبَّ واقفًا ثم جلس، فالكتاب لفيلسوف زمانه “أبو نصر الفارابي” والكتاب في أغراض كتاب “ما بعد الطبيعة” لأرسطو. ولم ينم “أبو علي” إلى الصباح فعكف ليلته على الكتاب يقرأه بشغف، ووجد نفسه يفهم كتاب “أرسطو” الذي كان يحفظ نصفه حرفا بحرف، وكان سعيدًا بشرح الفارابي له، وحُسن كشفه لأغراضه ومراميه. وإذ أشرقت الشمس، غادر “أبو علي” صحن مسجد بخاري، إثر صلاة الفجر، وتصدَّق بمالٍ كثير من ماله الخاص على فقراء بخارى، شاكرًا الله على نعمته عليه، إذ يسَّر له فهم ما لم يفهم. وهمس لنفسه: صدق الله العظيم، ففوق كل ذي علمٍ عليم”.

ولئن كان للفارابي فضل السبق فلتلميذه فضل البيان والإيضاح. ويقول الأستاذ محمد لطفي جمعة في كتابه “تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب” عن ابن سينا أنَّه لم يكن بحاجة إلى جهد ووقت للتعليم حيث “إنَّه في العاشرة من عمره كان قد استظهر القرآن الكريم وألم بجزء صالح من العلوم الدينيَّة، ومبادئ الشريعة الغراء، وعلم النحو”[2].

ثمَّ خاض غمار الرياضيات والطبيعيات والفلسفة وبعد ذلك انكبَّ على دراسة الطب، ولم يبلغ السابعة عشر من العمر حتى طبقت شهرته الخافقين وبدأ يتعهد بتطبيب المرضى ومعالجتهم. ومن أقواله “احذروا البطنة، فإنَّ أكثر العلل إنما تتولَّد من فضول الطعام”، و”المستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه”.

ألَّف ابن سينا العديد من الكتب، وذكر الأب جورج قنواتي في ثبت مؤلفات ابن سينا، 276 عنوانا، وكثير منهم ما يزال مخطوطًا. وذكر جورج طرابيشي في “معجم الفلاسفة” باب ابن سينا، أنَّ القديس توما الإكويني قد استشهد في “الخلاصة اللاهوتية” بالشيخ الرئيس أكثر من 261 مرَّة. وظلَّ كتابه “القانون في الطب” يدرَّس في الجامعات الأوروبيَّة إلى القرن السابع عشر، وكان في الصدارة كأرسطو سواء بسواء.

أمَّا في الفلسفة “يعتبر ابن سينا بحقّ الممثل الأول للفلسفة الإسلامية، وإذا كان الكندي والفارابي قد سبقاه إلى وضع دعائمها وتكوين عناصرها، فإنَّه هو الذي صوّرها تصويرًا اكتملت به شخصيتها واتَّضحت معالمها”[3]. وفي كتاباته عن المنطق، سواء في “الشفاء” أو النجاة” أو غيرها؛ فإنَّ ابن سينا لا يشرح أرسطو كما شرحه ابن رشد أو توماس الأكويني، وإنما ضمنه ما ارتضاه في استيعاب وشمول. وفي تعريفه البسيط للمنطق يقول: هو الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ. ورغم تأثّره بمنطق أرسطو بشكل عام ولا فكاك منه[4]، وخوضه المعارك ضد الكلاميِّين والفقهاء لتمسّكه الصارم بالفكرة الأرسطية حول العلَّة والمعلول، لكنه في كتاباته المنطقية، رغم أرسطيته، ينقد المنطق الأرسطي، بل ويضيف إليه دون أي مبالغة. ويقول في كتابه “منطق المشرقيين” عن قراءته واستيعابه لمنطق أرسطو: “أكملنا ما أرادوه وقصرَّوا فيه ولم يَبلغوا إربهم منه، وأغضَينا عما تخبَّطوا فيه وجعلنا له وجهًا ومخرجًا”. وهو يسبق الفارابي وابن رشد بخطوة، يشرح ويضيف وهو بالفعل الشيخ الرئيس في هذا الباب.

ويجدر التنويه بأن الدكتور طه حسين قام بتأليف لجنة علمية لنشر آثار أبي العلاء المعري نشراً علمياً محققاً، تكونت من الأساتذة: مصطفى السقا، عبد الرحيم محمود، عبد السلام هارون، إبراهيم الإبياري، حامد عبد المجيد، وإشراف الدكتور طه حسين.

وأصدرت تلك اللجنة باكورة أعمالها العلمية بكتاب “تعريف القدماء بسيرة أبي العلاء”. قام أيضا الدكتور طه، وبصفته وزيرًا للمعارف ألَّف لجنة علمية لدراسة ونشر آثار ابن سينا نشراً علميا محققاً، وصدر قراره في منتصف سنة 1949، وتكوَّنت تلك اللجنة من الأساتذة:الدكتور إبراهيم مدكور، الأب جورج شحاتة قنواتي، الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، محمود الخضيري، الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، على أن يشرف على توجيه العمل صاحب العزة الدكتور طه حسين بك.

وضُمَّ إلى اللجنة في قرار لاحق:الدكتور محمد يوسف موسى، والدكتور عبد الرحمن بدوي، وسعيد زايد – عضوًا مساعدًا، وأصدرت اللجنة باكورة أعمالها العلمية بكتاب “الشفاء”.

وأملى ابن سينا جانبًا من سيرته على تلميذه أبي عبيد الجوزجاني وهي موجودة كاملة في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” لابن أصيبعة، و”تاريخ حكماء الإسلام” للبيهقي، و” إخبار العلماء بأخبار الحكماء” للقفطي. وموجودة مختصرة في “وفيات الأعيان” لابن خلكان و”خزانة الأدب” للبغدادي. وسيرته[5]: تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول ما أملاه على تلميذه مسجِّلا حياته وتبدأ بقوله “كان أبي رجلا من أهل بلخ”. والثاني ما أكمله تلميذه الجوزجاني منذ أن صحبه إلى وفاته. والقسم الثالث فيه ثبت بأسماء مؤلفات الشيخ الرئيس، وهي تبلغ مئة رسالة واثنتين مذكورة. والرابع بعض قصائد نظمها في الحكمة والزهد والنفس وغير ذلك.

عاش ابن سينا 57 عاماً وانتقل إلى جوار ربه في مثل هذا هذه الأيام من شهر يونيو 1037م (الموافق لعام 428 هـ). رحم الله شيخنا الرئيس ابن سينا الذي أخلص للعلم فكَشف له العلم قوانينه، وفُتح له المنغلق، وتيسر له المتعسر، ونفعنا بفضله وعقله وإخلاصه وعلوّ همّته.


[1] سليمان فياض: ابن سينا أبو الطب البشري، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1987. ص 22

[2] محمد لطفي جمعة: تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، د.ت. ص 119

[3] إبراهيم مدكور: مقدمته لتحقيق كتاب “الشفاء” لابن سينا، وزارة المعارف العمومية، 1952. ص 23

[4] في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت يشير ماركس إلى أن الرجال يصنعون تاريخهم بأنفسهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم.. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء، وبذات المنطق لم يكن ثمة فكاك تام من منطق أرسطو!

[5] إبراهيم مدكور: مقدمة تحقيقه كتاب “نكت في أحوال الشيخ الرئيس ابن سينا” ليحيى بن أحمد الكاشي، منشورات المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، 1952. ص 4

جديدنا