تجريف المكان؛ اقتلاع المعنى من جوهر السياسة

image_pdf

غربة الروح:

ثبت أن قوى السياسة “المؤدلجة” في السودان، وفي غيره، لا تقرأ التاريخ جيدًا، ولا تجتهد في استجلاء قيمة “المكان”، أو الأرض المكافئة للعرض في حِساباتها، خاصة عندما تدلهم الخطوب وتتعرض الأرض والعرض للعدوان والاغتصاب. وكثيرًا ما يلجؤون إلى الإنكار التعويضي، ويراوغون في المعالجات، ويرفضون كل مقترح يحاول إصلاح الانتماء المستوعِبَة لرؤى الآخرين.

لذلك، فإن عادة التخلص من الأفكار المختلفة، التي قد تكون مدروسة جيدًا، لمجرد أنها مختلفة أمر يُمارسُ في السياسة بِخِفَّة عقلٍ وقِلَّة اتزانٍ، رغم أنه سلوك محفوفٌ بالمخاطر. ويظهر ذلك في “غربة الروح الوطنية”، وفي أي مسعى لا يساوي فيه “المكان” شرف الإنسان، ولا يُنظَرُ فيه للأرض بأنها مْعادِلَة للعرض، وتستوجب الضرورة وكل القيم الدفاع عنهما. فالأرض هي العرض، ولا مغالاة في هذا المثال، لأننا لا نفترض أمرًا جزافًا ولا وهمًا، ولا نُشير هنا إلى قياس أحلامنا بسرعة الضوء في الفراغ، ولا نحاول المستحيل لإثبات إنجاز تنموي واحد مُشَرِّفٍ لأيٍ من الحكومات، التي انتخبنا في السودان، أو انتفضنا من أجلها ضد حكم العسكر، وإنما خُضُوعًا لمنطق العقل والمنطق والعرف والدين، الذي يحتم ذلك.

غير أنه اتضح أن القوى السياسية “المؤدلجة”، التي لم تنل شرف الانجاز التنموي قط، ولا تستصحب أشراط منطق العقل، ولا ثوابت قيم الدين، ولا العقل، ولا تستمسك بمعاني العرف في خلافاتها، لأنها تتناحر عندما يقع الخلاف بين قياداتها على “المصالح”، ويحتدم الاقتتال بينهم حول “المطامع”، وغالبًا لا يستمعون لمواعظ التاريخ، ولا يستذكرون عبره.

يقول الأديب الأمريكي المعروف مارك توين “قد لا يعيد التاريخ نفسه، لكنه يغفو”، ونحن نريد له أن يصحو من غفوته هذه من دون إثقال كاهله بالرواية البديلة المقترحة لدولة 56، التي تُشير باستسهال الفاعلين السياسيين لتاريخ انعتاق المجتمع في السودان من ربقة الاستعمار البريطاني. إذن، ما هي الآثار المترتبة على ما يمكن تسميته، مع ذلك؛ بوجهة نظر الحالمين، لتخيل “المكان” و”الإنسان” وصناعة المجتمع البديل؟ إذا كان “التخيل” لا يُشير في عُرف “الناشطين” إلى نوع معين من الفعل السياسي التكيفي للإقصاء والاقتلاع، بل القتل والتدمير، الذي يختلف بشكل قاطع عن أشكال التفكير الإيجابي؛ مثل الإيمان بالقيمة الأولى في الوجود، التي هي “الحياة”، والتي يزهقها المتمردون على الدولة والمجتمع الآن بلا رحمة. لذلك، فإن الحديث ” الشاطح” عن “إصلاح” تجلبه همجية، و”ديمقراطية” يجلبها قاتل ونَهَّاب ومغتصب، أمر لا يمكن أن يتصوره عاقل. والركون إلى الخارجين عن القانون باعتبارهم القوة المسؤولة عن حمل دعاة “التغيير” إلى دست الحكم، هو مُكرٌ مُضَلِّلٌ، أو هو بالتأكيد خِداعٌ لا يحتاج إثبات الكذب فيه إلى دليل.

ولأننا نعيش الآن خارج دائرة “المكان”، الذي هو السودان في هذه الحالة، إلى جانب غياب العديد من العلامات “الزمنية” المعتادة لدينا على مدار العام، الذي مضى؛ الإجازات، ومواسم الحصاد، وأعياد الميلاد، واحتفالات المولد النبوي الشريف، وغيرها من الفواصل، فإن الغياب يبدو وكأنه لا ينتهي أبدًا. غير أنه يُظْهِرُ أيضًا أن الأشهر القليلة الماضية قد مرت في ضبابية التحولات الخطرة في حياة البلاد والعباد، حيث جرى تجريف “المكان” بلا هودة، وتخريب “الوجدان” بلا رحمة. فصام الناس عن التعبير عن وجعهم، وكان 15 أبريل هو نفسه رمضان، الذي حال عليه الحول، وكان هو نفسه شهر الثورة الثانية والثالثة؛ بعد أكتوبر الأولى. وكان حصاد الثلاث ثورات هشيمًا ذرته رياح العجز وضغائن الخلاف السياسي، ليكمل التمرد على الدولة والمجتمع حصاد “الفجيعة” باعتداء على كل الحرمات.

ومثلما أوضحت روث أوغدن، أستاذة علم النفس في جامعة ليفربول البريطانية، بقولها: “لقد دخلنا في روتين من الرتابة ولم نفعل أيًا من الأشياء، التي نفعلها عادة لمساعدتنا في تحديد الفترة الزمنية لدينا”؛ أهي عسكرية تسقط، أو انتقالية تفشل، أم ديمقراطية طائفية تتأبط كل عناصر الضعف والتخلف؟ وليس هناك إجابة أبلغ من وقع الحال الراهن، الذي يقتتل لإعادة إنتاج نفسه. لذلك، فإن محاولة الحصول على أكبر عدد ممكن من التجارب الجديدة؛ حتى الصغيرة منها، هي إحدى الطرق، التي يمكننا من خلالها استعادة بعض السيطرة على واقعنا الإنساني الخاص، وإيقاف الشعور بالوقت وكأنه يمر بسرعة كبيرة، ولكن بلا جدوى. لذلك، علينا الاحتفاظ بـ”مذكرات” خاصة كوسيلة لتعزيز “الذكريات” في أذهاننا، علها تساعد على منع هذا الشعور بعدمية الوقت، وكأنه فترة ضائعة من عمرنا لا محالة.

أمنيات مُجْهَضَة:

لقد رغبنا في أن ينتهي عام 2023 وأحداثه الكارثية في أقرب وقت ممكن، ولكن سيكون من الجيد أيضًا أن ننظر إلى الوراء؛ إلى ما وقع فيه من مآسٍ، ونتذكرها لشيء آخر غير دورة الأخبار القاتمة، التي ظلت ترهق أعصابنا بلا رأفة. ويعد تبني مبدأ التجديد، الذي يحمله كل انتصار على إرادة الشر، أحد الطرق لتحقيق ذلك؛ وإذا لم يكن هناك شيء آخر نُفاخر به، فسيكون لدينا أمر مختلف للحديث عنه في مكالمة الإخبار عن الانتصارات التالية. ولكن، قبل ذلك وبعده، سيظل يطاردنا السؤال الحارق: لماذا حدثت الحرب في السودان؟

وقد يبدو ذلك سؤالًا صعبًا بقدر ما هو مُحرج، لأنه مما لا شك فيه، أن العديد من العوامل متورطة في صناعتها، بما فيها حماقات القوى السياسية العاجزة عن ضبط تصرفاتها. فحصاد ألسنة السياسيين، الذين هددوا بها كرافعة لهم إلى مقاعد سلطة لا تؤهلهم إليها غيرها، مبذولة بأكثف من زعيق الشعارات، التي تقف هي الأخرى شاهد عدلٍ عليهم.

ومن المؤكد أن أحد الحجج المهمة، التي تبارز بها المتصارعون، هي أن القوى السياسية المتنافرة كانت ضد الاستقرار، لأنها ركنت إلى “مشروعية الثورة” بدلًا من “مشروعية الانتخاب”، ولشعارات الإقصاء بدلًا من أن تضع أسسًا للإجماع الوطني، وألَّبَت الشارع على الدولة بمؤسساتها وأنظمتها وقواتها النظامية، وأغفلت تمامًا “مشروعية الإنجاز”، وهي في الواقع قد استنت بذلك سنة سيئة، أعادت إلى الأذهان كل إكراهات الانتقال وتجاربه المُضطربة.

وقد يقول قائل إن هناك تفسيرًا آخر يطرح فكرة أن نظرية المؤامرة ربما كانت منهجًا للجميع في تقدير العلاقة مع بعضهم البعض، وكانت للأوصاف، كما هو مطبق على الأسماء دلالات على التردد في توقيت البداية، وكامل الجهل بمقادير النهاية. وبذلك، تكون الحرب الآن هي نفسها الوثيقة، التي تصنع التاريخ، الذي إذا لم تحسم خروقاته بالمحاسبة الصارمة؛ بمقاربة ما قاد إليها، فلن يكون للسودان مستقبل مستقر وآمن بعد جولة الخراب هذه. وذلك لأن الذين لا يعرفون أنساق التاريخ محكوم عليهم بتكرار هذا المسار حتى يمروا بقسوة تجاربه، أو شيئًا من هذا القبيل. وعندها يكون التلاوم لديهم، وعض الأصابع، مجرد وسم على أعراض النهايات، التي لم يضعوا لها استراتيجية واصفة لبوابات الخروج. ويبدو هذا وكأنه حالة أخرى افترضنا فيها النزول عند غطرسة “الوقت”، عندما نعجز عن التحكم فيه، ونفشل في أن نبتدع طريقة معينة لعرض مشكلة ما “قديمة”، أو لا علاقة لها بمظالمنا “الحديثة” موضع التجريب، فنرتكب الخطأ مرتين، أو ببساطة نقع في خطأ عدم أخذ العبرة من التاريخ؟

ولكن هناك، في اعتقادي، ما هو أكثر من ذلك في هذه المسألة المُؤرِّقَة لكل صاحب عقل يتدبر، تتعلق بأصل هذا التفكير، وكيف تهيأت لجمهرة النشطاء، الموصوفون بالسياسيين، أن يقفزوا على الحقيقة، ويمتطوا صهوة جواد هو أقرب للجن من إنسٍ هَذَّبَهُ انضباط منطق الوعي وأرشدته البصيرة والنظام. لكن يبدو أن ما نواجهه من عمى القلوب، التي هي في الصدور، أكثر خطرًا على الحاضر والمستقبل من حديث يعقله القلب، لأن ما يحدث الآن يتعمد تجريف “المكان” و”الوجدان”، كما ذكرنا، ويسترخص قيمة الإنسان، والأدلة الموثقة أكثر من حصى الأرض المغدورة. فلعمري كيف يتبارى القتلة والنهابون والمغتصبون على تصوير أفعالهم والاحتفاء بها وكأنها انتصارات على ما تبقى لهم من إنسانية. إنها بلا أدنى شك، جاذبية “الفتنة” في حرب بلا أخلاق، التي تدفع الحشود السائمة بـ”عقلية القطيع” إلى ارتكاب الشائن من الأفعال باعتبارها “غاية”، ويلعب ذلك الهزر المسموم دورًا في عدم الانضباط، الذي يؤذي صورة وجودنا المشترك؛ في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، أكثر مما نود أن نراه، أو نملك الجرأة في أن نعترف به.

الأحوال والأهوال:

إننا نُدْرِكُ أنه في كثير من الأحيان، لا يتم دحض وجهات النظر السياسية القديمة بمنطق جديد، لأن الناس ببساطة يشعرون بالملل مع تكرارها، ويريدون الخروج باتجاهات جديدة من المعرفة بأحوالهم، لا أهوالهم، أو ما تضطرب به ضمانات عقدهم الاجتماعي.

لكن ما نشهده الآن يحتاج تفسيره إلى استعادة أسئلة البدايات؛ من نحن حقًا؟ وما قيمة الحياة، إذا كان القضاء عليها استراحة للاحتفال؟ وعلى العكس من ذلك، يمكن أن تعود وجهة النظر المهملة في مسرح العبث هذا للانبثاق من جديد، لأنها عندئذٍ قد تقرر هي ذاتها وجهتنا، إذا بقي للناس طاقة عقل وقلب للتعاهد على أهداف جديدة. وشرط التأسيس، في هذه الأهداف الجديدة، أن تكون أكثر انسجامًا مع وجهة النظر المستجدة لدى غالب عقلاء السودانيين، المتواثقين على العيش معًا في “الزمان” و”المكان”، ولا يمكن إنكار أن التطورات، التي يفرزها منطق الواقع الماثل قد ساعدت في إحياء أحوال وأهوال سبقت، وتَرَسَّخَت “سوداوية” معالمها، في وعينا الجمعي. مِنْهَا ما ارتبط بـ”الجهادية” و”المراحيل” والجنجويد” وإرث تفلتات حركات التمرد المسلحة في الجنوب والغرب والشرق، وغير ذلك من “مطبات” التحليق في أفق البناء الوطني.

ولسوء الحظ، لم نكن نعرف ما يكفي لنكون واعين على أن نكون “على حق” بانتظام كافٍ، لنكون قادرين على الحكم على قصصنا الخاصة المُعَبِّرَة عن أفكارنا وأنفسنا، وكوننا أمَّة كُتِبَ عليها أن تعيش معًا. وكان على القوى السياسية والاجتماعية أن تتعامل مع هذه الحقيقة كنقطة البدء في تحديد الأهداف، والتأكيد عليها من خلال وصف وسائل تحقيقها كمحركات لتفعيل كيفية عمل “الأشياء” كممسكات للوحدة الوطنية، لا كمسلمات لاستمرار الحال المضطرب كما هو عليه. ولكن، ونظرًا لما ران على اجتماعنا من إحن الماضي والحاضر، علينا ألا ننسى ذلك كثيرًا ونحن نتجه إلى المستقبل، بل أن نُصِرُّ على حَفْرِه في وعينا، لأنه بينما يختطف الآخرون ما يظنونه الكلمة الفصل ليقولوا “أنتم تقومون فقط بالتخمينات والتطمينات”، كما لو أن الممارسة السياسية، التي لم تصمد أمام الفحص الوطني الدقيق، هي نفسها، والتي علينا التذكير مُجددًا بضرورة تجاوز نقائصها. ولذلك، فإن الأسئلة، التي طرحناها لأول مرة في فجر الاستقلال، ما تزال تنتظر الإجابة لتفسير لماذا تبدأ الحرب في السودان دائمًا قبل أن تستنفد الأطراف سبل الحل الأخرى.

في الختام:

قد يبدو هذا الحديث مُقلقًا لأصحاب “ربطات العنق” من الناشطين، الذين يجوبون العواصم مُبشرين ومنذرين؛ حتى بعد أن ثبت أنهم لم يحفظوا للبشرى عهدًا، ولم يخيبوا ظن من أنذروهم بعظائم الأمور، غير أنه في كمالاته متجاوز لشخصنة الحدث إلى موضوعية التأشير على معالجاته. إذ إنهم كما كانوا بعضًا من المشكلة، سيظلون جزءًا من مادة الحل، لكنهم، مع كل ذلك، ما يزالون يلهجون بالشعارات والتصريحات بما يشئ بأنها مجرد مقدمات لتفسير الوضع الإشكالي، الذي يكتم أنفاس السياسة السودانية الآن.

ذلكم الوضع، الذي ظلت بعض متلازماته مصاحبة لأداء الطائفية السياسية، و”الجوالة” من الناشطين، وكل القوى السياسية “المؤدلجة”، طوال تاريخ الحقب الوطنية. فمنذ العام 1956، وصاعدًا، قليلًا ما تم استدعاء الفكر، أو “الخيال” السياسي، لوصف وشرح أنواع معيبة من التجارب الديمقراطية، أو الظواهر غير العادية للانقلابات العسكرية، أو تلك السلوكيات المحيرة للثورات الشعبية، التي تنتفض ضد حكم العسكر، ثم تستدعيهم لمساعدتها ومشاركتها.

وقد حدث ذلك في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وفي أبريل 2020، فكانت ثورات نصفها جماهيري ونصفها الآخر انقلاب. فقد ثبت أنه من الصعب للغاية تحديد ماهية “الخيال” السياسي للناشطين في هذه المعادلات المختلة، التي تحتفي بتكرار الأخطاء وكأنها انتصارات. وإذا كانت “ممارسة السياسة” و”الشعارات الثورية”، على طريقة الغوغاء، لا يشيران إلى نوع معين من النشاط العقلي، فليس من المستغرب أن نجد أنه كان من الصعب تحديد ما هو بالضبط المُراد في كل تجاربنا الانتقالية، وحتى أنظمتنا الديمقراطية، التي استُخْدِمَت في اختيار أعضائها آليات الانتخاب. وإذا كان خضوعنا لآليات “الانتخابات” يعبر جزئيًا عن تقييم من جانبنا للنشاط السياسي، فليس من المستغرب أن يتم التذرع به في محاولة تفسير هذه التجارب، أو الظواهر، حين نكون غير متأكدين من مسائل الحقيقة السياسية، أو الوجود المشترك في “الزمان” و”المكان”، فنقتلع المعنى من جوهر السياسة.

________

* الدكتور الصادق الفقيه: أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية بجامعة صقاريا بتركيا، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.

السبت، 6 أبريل 2024

صقاريا، تركيا

وسوم:

اترك رد

جديدنا