صناعة النشر والكتاب في مصر؛ المستقبل وتحدّياته

image_pdf

منذ أن عرف العرب الطباعة كانت مصر هي الدولة التي تتصدر مشهد النشر في الوطن العربي، فقد كانت مطبعة بولاق هي البداية بطبوعات من ندرتها صارت تباع في المزادات بأثمان تفوق المخطوطات، الآن ولأول مرة منذ القرن 19 مصر تفقد عرش الصدارة، تفقده لصالح المملكة العربية السعودية التي صارت تمتلك برامج قوية للنشر والترجمة بل صارت دول مثل العراق والمغرب والجزائر والأردن صاعدة في مجال النشر، فبرنامج وزارة الثقافة الأردنية الأخير لتنمية صناعة النشر يبنبئ بمستقبل واعد، كما أن العراق نشطت به حركة النشر والترجمة خاصة من دار المأمون التي ستصبح قريبا أهم ناشر عربي للكتب المترجمة من وإلى العربية، والمغرب الآن يجني ثمار مشروع لتنمية صناعة النشر حتى صار للكتاب المغربي سوقا أوروبية متنامية معتمدة على المهاجرين المغاربة بينما نحن نتجاهل السوق المتاح لنا في بلاد المهجر حيث ينتشر المصريين، بل إن المغرب باتت تزاحم السعودية ومصر في سوق الكتاب الإسلامي في غرب أفريقيا، أما الجزائر التي أسست مركزا للكتاب فقد ناقشت مؤخرا أزمة النشر والقراءة في جلسة مفتوحة بالبرلمان، أدارها رئيس البرلمان الجزائري وأصر على حضور كل أطراف الصناعة بالرغم من النمو الملحوظ في عدد الكتب المنشورة في الجزائر.

نشرت مصر في عام 2019 ما يزيد عن 23 ألف كتاب، تراجع هذا الرقم حتى صار من المتوقع ألا يتجاوز عدد الكتب المنشورة 10 آلاف كتاب في عام 2022، هذا يقودنا إلى البحث في أسباب هذا التراجع، والتي جاءت على النحو التالي:

فرض الدولة جمارك على مدخلات صناعة الكتاب خاصة الورق في الوقت الذي يعتبر الكتاب واحدا من السلع التي يجري تصديرها وكانت تلقى رواجا كبيرا، في حين أنه في باقي السلع حين يدخل مكون مستورد في صناعة سلعة يعاد تصديرها، يجري رد الجمارك عليها للمصدر حتى يجري تحفيزه على المزيد من التصدير.

عدم اعتراف الدولة بالكتاب كصناعة تقوم على المعرفة، في الوقت الذي تأخذ فيه الصناعات المعرفية مكانة متزايدة لسهولة دورها في الاقتصاد وعدم حاجيتها لاستثمارات ضخمة، هذا ما تدركه دور ناجحة مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان، الآن السعودية والمغرب والأردن يعون هذا، أن عدم الاعتراف بالكتاب كصناعة حرمها من حزم الدعم والمساعدات التي تقدمها الدولة للصناعات التصديرية، وإن كانت هناك جهود في هذا الإطار إلا أنها تبقى دون المستوى.

معرض الكتاب 2022

يمثل تجار الورق في مصر أكبر مهدد حاليا لصناعة النشر فسعر الورق في مصر بالدولار أكبر من سعره في أي دولة عربية أخرى، فهو يزيد ما يقرب من 700 إلى ألف دولار عن سعره في كل الدول العربية مع العلم بأن السعر يرتبط بحجم ما يجري استيراده، أدى هذا لارتفاع سعر الكتاب المصري عن كل أسعار الكتب في المنطقة العربية، في حين أنه حتى وقت قريب كان سعر الكتاب المصري تنافسيا وممتازا ورخيصا مقارنة بغيرة ،هذا ما كان يساعد على الإقبال عليه بصورة كبيرة ففقدنا بسببهم هذه الميزة طمعا في المزيد من الأرباح، ما سيؤدي لانهيار سوقهم وسيفقدون الأرباح على المدى البعيد .

هجرة عدد من الناشرين المصريين إلى دول عربية تقدم حوافز كبيرة للناشر غير مسبوقة في الوقت الذي تتصاعد فيه مشاكل الناشرين في مصر حتى بات الانطباع أن هناك قيود ما على النشر، وهو ذات ما حدث في مصر في نهايات الخمسينيات وبدايات الستينيات من القرن العشرين حين أممت دور نشر أو أغلقت، فكانت النتيجة صعود بيروت مكان القاهرة كمركز للنشر والطباعة في الوطن العربي، وصار النشر يشكل 5% من الدخل الوطني للبنان.

جمود صناعة النشر في مصر وعدم تعاطيها مع الفضاء الرقمي وإمكانياته بصورة جيدة، حتى أن منصات النشر الرقمي المصرية ضعيفة من حيث القدرات والإمكانيات، في الوقت الذي باتت فيه العديد من المنصات العربية قوية ومتفاعلة.

إغلاق العديد من دور النشر المصرية التي لديها حقوق ملكية لكتب مهمة إما نتيجة لعدم قدرة الروثة على إدارتها أو لأسباب أخرى، هذا ما يجعلنا نتساءل عن التراكم الزمني للإنتاج المعرفي المصري، هذه قيمة اقتصادية غير مدركة جيدا، فحقوق النشر والملكية فقدانها ثم اختفاء الكتب المصرية أو اختطافها أمر جلل يستحق التحرك، هذا ما يقودنا إلى فقدان مصر لببلوغرافيا لكل ما نشر منذ عرفت مصر الطباعة.

تراجع دور الجامعات المصرية في حرك النشر فيما عدا الجامعة الأمريكية، فحتى جامعة القاهرة التي تمتلك مركزا للنشر، إلا أن إدارته سيئة وإنتاجه محدود ومعظم الجامعات المصرية لا تمتلك برامج نشر، ولكي نقارن على القاريء أن يرى دار نشر جامعة كمبردج ودار نشر جامعة أكسفورد، كما أن الجامعات المصرية حين تقوم بسياسات تزويد للكتب رقميا تفضل دور النشر الدولية وليس دور النشر المصرية، هذا لا يساعد على نهوض النشر الرقمي في مصر في ظل غياب استراتيجية وطنية للنشر الرقمي.

افتقاد مصر شبكة مكتبات عامة في المدن والأحياء فبالرغم من وجود مكتبات هيئة قصور الثقافة، إلا أنها ليس لديها سياسات تزويد من الكتاب المصري بصورة مستمرة وبالتالي ليس لدينا نشر يقوم على المكتبات العامة التي توفر كل جديد للقراء، فضلا قدرات معظم العاملين في هذه المكتبات، فمن لا يقرأ لن يستطيع جذب القراء لمكتبته لأنه لا يدرك أهمية القراءة.

تراجع إنتاج المحتوى في مصر وتضاءل دور النخبة المصرية عربيا، هذا ما نستطيع أن نقرأه عبر الجوائز العربية وتراجع المصريين في الاستحواذ عليها، في الوقت الذي لا توجد فيه برامج مصرية لدعم نخب جديدة تقدمها وتجعلها جزء من قوتها الناعمة، أضف إلى هذا أن العديد من الكتاب والمبدعين المصريين صاروا يفضلون النشر خارج مصر لأسباب عديدة.

هذا كله يتطلب مراجعة شاملة لصناعة النشر والكتاب في مصر قبل أن تفقد مصر دورها الفكري والثقافي وتأثيرها، ونصبح فعلا في الماضي الذي نتغنى به، ولا نصبح فعلا في الحاضر فنغيب عن المستقبل.

جديدنا