الصهيونيَّة العالميَّة؛  تحالف اللاهوت والسياسة والاستعمار

image_pdf

تمهيد:

“إنَّ الكيان الإسرائيلي أضحى إيذاؤه لا وصف له كأنَّه الشرّ المطلق.” (طه عبدالرحمن، ثغور المرابطة).

“إنَّ الدرس الذي نستخلصه من الدراسة عن سوء نيَّة الإنسانيَّة يتجلَّى في أن تفاهة الشر المرعبة وغير الموصوفة وغير المتصورة..  “إذ يتعلق الأمر بجريمة جماعيَّة من حيث عدد الضحايا وكذلك عدد المساهمين في الجريمة.. إنها جريمة سياسيَّة منظَّمة بامتياز”. (حنة أرندت، إخمان في القدس تقرير حول تفاهة الشر)

“إنَّ الأحداث التي وقعت هي بمثابة النذر للحوادث الخطيرة التي ستحدث. والمؤرِّخ لا يحسب حسابا للمتناقضات. أن مهمته تنحصر في تسجيل الحدث كما حدث فعلا، وأنَّه مسَّ حياة شعب بأسره في الصميم. (البير كامو، روايَّة الطاعون).

-1-

 فلندخل في صلب الرواية لأن ما حدث يحتاج إلى تفصيل وتعليق..

يرى المؤرخ ارنولد توينبي (1975/1889) بأن اليهوديَّة والهيلينيَّة كانتا المصدرين الرئيسيين للحضارة الغربيَّة، ونتيجة الصدام تمَّ التمازج بين الهيلينيَّة واليهوديَّة.

في سنة 1897، بدا من اليسير أن نتابع التقدُّم الذي أصاب العالم قبل الحضارة الغربيَّة، من أيام اليهوديَّة والهلينيَّة. فاليهود والاغريق اندمجوا في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. وهذه تعتبر الرحم السياسي للمسيحيَّة.

سنة 1897 ظهر وكأن السيطرة العالميَّة التي بلغها الغرب دائمة وممتدة…، كأنها لم يسبق لها مثيل في انتشارها العالمي الواسع.. وفي سنة 1973  بدت هذه السيطرة عابرة، على نحو ما عرفه المغول والعرب والرومان والإغريق، ومن ثم فإن السيطرة الغربيَّة لا يمكن اعتبارها غاية التاريخ أو نهايته.

اليهود أقصوا من التاريخ سنة 70 م وهي السنة التي هدم فيها الهيكل من طرف الرومان، كما أقصي الإغريق من التاريخ ابتداء من سنة 451 م، وأعيد اليونان إلى عضويَّة المنظومة الغربيَّة سنة 1821 م، لأنهم قاموا بالثورة ضد الإمبراطوريَّة العثمانيَّة…[1]

نخلص مما سبق أنَّ المسيحيَّة تحوَّلت على يد القديس بولس، وانسلخت من التقاليد اليهوديَّة لتصبح ديانة للأمميين وتحولت الكنيسة إلى الهيلينيَّة باعتبارها فلسفة وحضارة وعندما اعتنقت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المسيحيَّة أصبحت الدين الرسمي للدولة.

وقد اعتبرت الكنيسة الكاثوليكيَّة سقوط اورشليم (بيت المقدس)  وشتات اليهود عقابا من الله لليهود لصلبهم المسيح.. ونبذت الحضارة المسيحيَّة اليهود حتى القرن الخامس عشر، حيث تعرضوا إما للطرد أو تم إجبارهم على التحول عن الديانة اليهوديَّة.

كيف واجهت الجماعات اليهوديَّة التطورات التاريخيَّة التي عصفت بهم بعد هدم الهيكل الثاني من طرف الرومان..؟ وكيف تكيفوا واستطاعوا أن يحافظوا على ما يتصورونه جوهريًّا في الشخصيَّة اليهوديَّة عبر التاريخ..؟

وكيف تحوَّل العداء المسيحي المتأصل إلى انحياز لاهوتي وثقافي..؟ وتحويل أسطورة المسيح المخلص..، في العهد القديم (سفر دانيال) وفي العهد الجديد (رؤيا يوحنا) إلى ممارسة سياسيَّة.

إنَّ دراسة التطور التاريخي للشخصيَّة اليهوديَّة هو الذي يساعدنا على فهم أطوارها المختلفة وهوياتها العرقيَّة والدينيَّة والتي تسعى إلى المحافظة على وحدة (إسرائيل) القوميَّة بهدف استعادة (ملك) إسرائيل وبالتالي الظهور كقوَّة مؤثِّرة على مسرح التاريخ.

-2-

مفهوم اليهوديَّة عبر التاريخ.

يجب في البداية أن نفرِّق بين مفهوم العبريين وبني إسرائيل واليهود واليهوديَّة؛ وهي جميعا تحيلنا إلى ظواهر ومعانٍ تتمايز وتختلف بعضها عن بعض. هذه الكلمات تحيل إلى خصوصيات متمايزة. من هنا يتوجب أن نفصل معانيها بعناية فائقة. لأن الاستخدام الصحيح لمعانيها ليس مجرد ألفاظ ومترادفات. بل مفاهيم ومصطلحات تشكِّل مفاتيح النسق الفكري من منظور تاريخي..

-1- العبرانيون

إنَّ كلمة عبري أقدم التسميات التي أطلقت على أعضاء الجماعات اليهوديَّة. وتختلف المصادر في تحديد أصلها فيرى البعض أنها مشتقة من كلمة (عبيرو) التي ترد في المدونات المصريَّة القديمة وفي المدونات الأكاديَّة..

ويرى آخرون أنها مشتقة من العبور بالتحديد عبور يعقوب (إسرائيل) نهر الفورات هاربا من أصهاره.  ويرى آخرون أنَّ التسمية ترجع إلى (عابر) حفيد سام الذي تنسب إليه مجموعة كبيرة من الأنساب.

وكانت الكلمة تعني الغريب الذي لا حقوق له. بالإشارة إلى أنَّ العبرانيين كانوا في مصر غرباء بلا حقوق فترة طويلة وارتبطت بهم هذه التسمية، وتحولت مع الوقت إلى تسمية إثنيَّة واجتماعيَّة، ووردت الكلمة في سفري الخروج والتكوين كمرادف لكلمة (يهودي) و (إسرائيلي). باعتبار أنَّ الكلمة تشير إلى أنَّ العبريين كجماعة إثنيَّة (عرقيَّة) قبل اعتناقهم اليهوديَّة[2].

بغض النظر عن التخمينات الكثيرة في هذا الباب، يعترف المؤلفون فيما سبكوه من بقايا الأسانيد المختلفة منذ عرف اسم العبرانيون في التاريخ، أن هؤلاء القوم من سلالة ساميَّة نشأت في مهد الشعوب الساميَّة.. هاجروا إلى العراق، ثم هاجروا من جنوب العراق إلى شماله في عصر يقارب عصر إبراهيم الخليل…، ثم هاجروا من العراق إلى كنعان التي كان يسكن فيها الأدوميون والمؤابيون والعمالقة وعشائر مختلفة من الأراميين والكنعانبين.. وقد نشب النزاع بينهم وبين جيرانهم.

وسجَّل التاريخ باحتدام النزاع بين أتباع إبراهيم عليه السلام فانقسموا إلى شطرين، ثم دخلوا مصر فنفر منهم المصريون. وعادوا إلى أرض كنعان. وقامت لهم دولة في عهد النبي داود وابنه وفي عهد سليمان بني الهيكل ثم انقسموا بعده قسمين، دولة في الشمال ودولة في الجنوب. ثم سباهم البابليون وسرحهم (كورش) عاهل الفرس وجملة تاريخهم بعد العودة من السبي الأول تكرار لهذا التاريخ..بعد هدم الهيكل الثاني تفرقوا في أرجاء الأرض حدث لهم نفور وقتال وكراهية في كل بلد..[3]

-2- إسرائيل

كلمة إسرائيل ومعناها قوة الله أو القوة بالله والقوة الإلهيَّة المتجليَّة في جنوده أو عباده الصالحين،فهي في كل التفسيرات تحمل معنيين محددين هما الصراع والقداسة..

السرديَّة اليهوديَّة تروي أن الكلمة أصبحت اسما ليعقوب عليه السلام بعد أن صارع الإله وأجبره على أن يباركه مما يحيل على الأساطير اليونانيَّة التي يتصارع فيها الأبطال مع الإله فيكتسب صفة القداسة التي تجعله فوق البشر، ثم أطلقت الكلمة على نسل يعقوب، وأصبحت تشير إلى مملكة الشمال ثم إلى مملكة الجنوب (مملكة يهودا) بعد سقوط مملكة (إسرائيل) إلى أن حلَّت كلمة يهود محلها.

وللكلمة في دلالتها الاصطلاحيَّة معنيان أساسيان فهي تعني اليهود بوصفهم شعباً مقدَّساً وتعني فلسطين بوصفها أرضا مقدسة. والإسرائيلي تعبير قانوني يشير إلى مواطن دولة إسرائيل ويختلف عن معنى الإسرائيلي الذي يشير إلى العبرانيين كجماعة دينيَّة، كما أنَّ الإسرائيلي يختلف عن الصهيوني الذي يؤمن بالإيديولوجيَّة الاستيطانيَّة والهويَّة العرقيَّة اليهوديَّة.

هناك الصهيوني المسيحي والصهيوني اللاديني.. وليس كل يهودي صهيوني بالضرورة.[4] يرى كمال الصليبي[5]، بأنَّ بني إسرائيل بعد أن زال ملكهم وتفرَّقوا في أقطار الأرض امتزجوا بشعوب أخرى كما حدث للشعوب البدائيَّة.

أما اليهوديَّة فهي ديانة توحيديَّة وضعت أسسها على أيدي أنبياء بني إسرائيل بناء على شريعة أو (توراة) موسى عليه السلام. وقد انتشرت الديانة اليهوديَّة على أيديهم. وما زالت منتشرة في العالم بين شعوب لا تمت إلى بني  إسرائيل بصلة، لغة أو عرفا، مع العلم بأنَّ عناصر من بني إسرائيل القدامى انصهروا في المجتمعات اليهوديَّة التي انتظمت في مختلف الأقطار بعد زوال ملك إسرائيل.

كما أن عناصر من بني إسرائيل انصهرت في المجتمعات الغربيَّة، وتحولت مع مرور الزمن إلى المسيحيَّة.

ومن البديهي أن التشكلات الاجتماعيَّة تعرف التبدل والتحول والاندماج من واقع تاريخي إلى واقع آخر،  والادعاء السائد بين يهود العالم أنهم ورثة بني إسرائيل القدمى، وهذا ادعاء باطل يعود إلى الاختلاط والتضليل الذي تحمله المصطلحات السابقة.

فالعبرانيَّة تشير إلى الجماعات البدويَّة التي تتميز بخصائص البداوة. ولفظ عبري يشير إلى الناحيتين اللغويَّة والأدبيَّة ولفظ بني إسرائيل يشير إلى العبرانيين  القدامى من حيث هم تجمع ديني. وإسرائيلي تشير إلى مواطني الدولة الصهيونيَّة. أما كلمة يهودي فهي مصطلح يشير إلى معتنقي الديانة اليهوديَّة بغض النظر عن انتمائهم العرقي (الإثني) أو الحضاري[6].

-3-

اليهود واليهوديَّة

تشير كلمة (يهود) على إطلاقها إشكاليات كثيرة، لأنها تخلط بين جماعات بشريَّة شديدة  التباين من حيث الأصل والميراث الحضاري، والمذاهب الدينيَّة، باعتبارهم كلا متماسكا  ومتجانسا أو بوصفهم الشعب اليهودي.. تربط بينهم علاقة  اثنيَّة (عرقيَّة )  أو رابطة دينيَّة.

الحركة الصهيونيَّة استخدمت مصطلح  اليهود باعتبارهم  شعبًا واحدًا متجانسًا، إلا أنَّ مصطلح  (الجماعات اليهوديَّة) هو الأكثر دلالة على التمايزات الموجودة  بينهم فكل جماعة مرتبطة  بظروفها الحضاريَّة والثقافيَّة والبيئيَّة التي عاشت فيها. فكانوا أقنان البلاط وتجار  ومحاربين داخل  النظام الإقطاعي.

وانتقل يهود بلاد فارس إلى الصين، واكتسبوا سمات الحضارة الكونفوسيوسيَّة. ويهود الفلاشا اندمجوا في التشكيل الحضاري الافريقي. وهكذا لم يعد من الممكن النظر إلى كل هذه الظواهر في إطار واحد يقع خارج التطور التاريخي، استنادا إلى مفهوم الشعب اليهودي.

إن التفسير الصحيح لكل جماعة بشريَّة يجب أن يراعي الدائرة الحضاريَّة التي نشأت فيها، والقوانين الحاكمة لحركة التاريخ والعصر الذي عاشت فيه.

ومما لا شك فيه أن التمايزات الحضاريَّة كانت لها أثرًا عميقًا في الجماعات اليهوديَّة من النواحي العقديَّة والثقافيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة،  فاندمجوا في بيئاتهم ولم يبق لكثير منهم من اليهوديَّة إلا الاسم.

والذين ثبتوا على هويتهم اليهوديَّة (العرقيَّة أو الدينيَّة) بفضل الظروف المواتية في بيئاتهم الحضاريَّة فقد انقسموا إلى مذاهب شتى.. واختلفوا فيما بينهم أحزابا وشيعا.

ومصطلح جماعة لا يعني أن اليهود جماعة واحدة بل توجد في الغالب جماعة رئيسيَّة وجماعات فرعيَّة لها هويات متمايزة..

ويهودي نسبة إلى (يهودا) باعتبارهم ينحدرون من قبائل العبرانيَّة الاثني عشر، واستخدمت الكلمة للدلالة على الدور الوظيفي الذي يقوم به أبناء الجماعات اليهوديَّة في أوروبا.

في القرن الحادي عشر كانت كلمة  تاجر مرادفة  لكلمة (مرابي)  وكانت كلمة  يهودي  في الحضارة الغربيَّة تحمل مضامين قدحيَّة وسلبيَّة فكانوا يستبدلونها بكلمة عبراني وإسرائيلي وموسوي. ورغم أن الكثير من اليهود تركوا عقيدتهم بتأثير من حركة التنوير اليهوديَّة، إلا أنهم استمروا في تسمية أنفسهم يهودا. وهكذا لم يعد مصطلح يهودي يشير إلى الإيمان والعقيدة الدينيَّة ومن هنا طرحت مسألة تعريف اليهودي حيث وجد تعريفان متباينان إحداهما يعتمد الهويَّة الدينيَّة والثاني الهويَّة الإثنيَّة أي الثقافيَّة..[7]

كان أعضاء الجماعات اليهوديَّة يدورون في إطار فكرة الهويَّة الإثنيَّة الدينيَّة الواحدة.. التي تكرسها المؤسسة الحاخاميَّة كما توجد عشرات من الجماعات التي تؤمن بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة، عن اليهوديَّة الحاخاميَّة.. وكل هذه الجماعات بهويات إثنيَّة مختلفة، أي موروث ثقافي مشترك وأسلوب حياة مشتركة.. وعلى الرغم من تنوع هويات أعضاء الجماعات اليهوديَّة، فيدعي الصهاينة أن ثمة وحدة جامعة وهويَّة إثنيَّة عالميَّة، وهو تصور ينطلق من أن الإنسان خاضع للحتميات الطبيعيَّة الماديَّة والاجتماعيَّة ولا يمكن تجاوزها. فيذعن لهذه الحتميات الماديَّة التي توجهه وتشكل هويته الإثنيَّة (العرقيَّة).

فالفكر الصهيوني يدور في إطار الرؤية الحلوليَّة التي تجعل الخالق يحل في مخلوقاته فيتوحد بها ويصبح العالم جوهراً واحداً.

من هذا المنطلق تسقط الصهيونيَّة على الشعب اليهودي والأرض اليهوديَّة صفة القداسة لكونهما موضع الحلول الالهي ممَّا جعل من الشعب اليهودي مختارا ومقدسا. ويتسم بفرادته وعزلته عن بقيَّة الشعوب. كما أن الحلول يجعل الرابطة بين الشعب المقدس والأرض المقدسة رابطة عضويَّة لا يمكن فك أواصرها، كما لا يمكن لغير اليهودي فهمها وسبر أغوارها بسبب تفردها.

وقد تفرع عن مفهوم الوحدة اليهوديَّة مجموعة من المفاهيم الاختزاليَّة، مثل الهويَّة الإثنيَّة اليهوديَّة، والشخصيَّة اليهوديَّة، والتاريخ اليهودي، والثقافة، اليهوديَّة العالميَّة…الخ.

هذه المفاهيم تختزل الجماعات اليهوديَّة في صور إدراكيَّة ايديولوجيا تهدف إلى تأكيد وحدة الجماعة على حساب التنوع الحضاري، فأعضاء الجماعات اليهوديَّة تفند هذه المقولات فهم يتسمون بالتنوع وعدم التجانس..[8].

إن الهدف من الترويج لمقولة الهويَّة الجامعة للجماعات اليهوديَّة عبر التاريخ هو تحديد الأسس الإثنيَّة والدينيَّة، التي تعتمد لتحقيق الهويَّة اليهوديَّة..

وبهذا الصدد فإنَّ المؤسسة الحاخاميَّة تعرف اليهودي بأنه من ولد لأم يهوديَّة، أو من يعتنق الديانة اليهوديَّة. هذا التعريف هو الذي ساد في العصور الوسطى في أوروبا حتى بداية القرن التاسع عشر وهو التعريف الذي يعد الإطار المرجعي للكتابات حول الهويَّة اليهوديَّة. وهو تعريف ديني وإثني فمن يولد من أم يهوديَّة يظل يهوديا ولو لم يؤمن بالعقيدة اليهوديَّة، وهو يهودي بالمعنى الإثني (العرقي)، أما اليهودي المتهود فهو يهودي بالمعنى الديني.

ورغم انتشار الجماعات اليهوديَّة في العالم وما اتسمت به من تجانس ثقافي وديني فقد ظل تعريف الحاخامات لليهودي هو المعتمد.

إلا أن الحركات اليهوديَّة التنويريَّة والإصلاحيَّة والتجديديَّة والمحافظة، وهي فرق كان لها تعريفها لليهوديَّة يختلف عن تعريف اليهوديَّة الارثودوكسيَّة، أما الإصلاحيون فيؤمنون بروح العصر، وأمَّا المحافظون فبروح الشعب أو الأمة.

وهذه الصيغ تلغي الحلوليَّة التقليديَّة التي كرستها الحاخاميَّة والتي عزلت اليهود عن مجتمعاتهم، فنزعت القدسيَّة عن الهويَّة اليهوديَّة بوضعها في إطارها التاريخي حتى يتسنَّى التمييز بين المطلق والنسبي، مما يتيح للجماعات اليهوديَّة الاندماج في المجتمعات الماديَّة الحديثة، بحيث تصبح هويتهم هي هويَّة الدولة القوميَّة التي يعيشون فيها.

فالشريعة فقدت سلطتها الالزاميَّة وأصبحت روح العصر هي المرجعيَّة.. لا يعترف الإصلاحيون بالشريعة الشفويَّة.

(الحلول الإلهي في الشعب وقيادته الحاخاميَّة).

من ثم استبعاد العناصر القوميَّة الموجودة في الدين اليهودي. والتي تؤكد فكرة اليهوديَّة العالميَّة..[9]

رغم إسقاط صفة القداسة، فقد احتفظ الإصلاحيون بفكرة الشعب اليهودي، مع إعطائها دلالة عالميَّة جديدة واستبدلوا عقيدة المشحيانيَّة بروح العصر الذي يحل فيه السلام والكمال ويأتي الخلاص إلى كل البشر من خلال التقدم العلمي والحضاري..

اندمجت الجماعات اليهوديَّة في النسيج الحضاري الغربي، وأصبحت جزءًا من المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة، ونشأ المشروع الصهيوني من رحم النظام الإمبريالي الرأسمالي الغربي الأمر الذي جعل الإصلاحيَّة تعدِّل من رؤيتها لتتواءم مع الحركة الصهيونيَّة لخدمة المصالح الامبرياليَّة الاستعماريَّة..

اليهوديَّة تطوَّرت عبر التاريخ، وتكيَّفت مع روح العصر فأساس بنية الفكر الصهيوني تداخل المقدس والديني واللاهوت والسياسة.

الخلاصة أنَّ تاريخ الهويَّات اليهوديَّة الإثنيَّة والدينيَّة مركَّب ويغطِّي عدَّة أزمنة وأمكنة لا يربطها رابط. وأول هذه الهويَّات العبرانيَّة لا تستند إلى تعريف ديني، بل تنسب إلى أقوام (كالعانيين والأراميين)، وهي مجموعات بشريَّة متماسكة تتَّصف ببعض سمات القوميَّة، اللغة المشتركة، الثقافة والدين. ولكنها ليست شعوبا ولا قوميات بالمعنى الحديث..[10].

ولم يعد مصطلح (يهودي) حسب التعريف الحاخامي ينطبق على الغالبيَّة العظمى من اليهود في العالم ولكن الغالبيَّة تصرُّ على أن تحتفظ بلقب يهودي.

– 4 –

تجليات الشخصيَّة الإثنيَّة في التاريخ

1- الظاهرة الإثنيَّة

إن الملامح الأساسيَّة للشخصيَّة الإثنيَّة هو أنها جماعة ذات تراث وتاريخ مشترك (لغة ودين وثقافة) يتوارثها أعضاء الجماعة جيلا بعد جيل، وتميزهم عن الآخرين من خلال إبراز خصوصيتهم الإثنيَّة والقوميَّة، وعلاقة الجماعة الإثنيَّة بالأرض علاقة عضويَّة لا انفكاك منها.

النظريَّة الإثنيَّة هي المقابل للنظريَّة العرقيَّة التي تعتبر الانتماء إلى جنس معين محدد لهويَّة الشخص وانتمائه وتميزه واختلافه.

وقد استخدمت النظريَّة العرقيَّة لتبرير الغزو الاستعماري الغربي للشعوب الأخرى. في آسيا وإفريقيا والأمريكيتين، لأن هذا الآخر لا ينتمي إلى الهويَّة الإثنيَّة والحضاريَّة الغربيَّة. فهو مستباح..

ومفهوم (الشعب العضوي) يعني أن أعضاء الشعب يترابطون ترابط الأعضاء بالجسم، والشعب هو الكمال العضوي المتماسك..[11].

النازيَّة والصهيونيَّة تبنت مفهوم الشعب العضوي والتفوق العرقي، بهدف تحقيق أهداف سياسيَّة.

بهذا الخصوص يرى كلود ليفي ستروس (2009/1908): أن لا شيء في الوضع الحاضر للعلم يسمح بتأكيد التفوق او الدونيَّة الثقافيَّة بعرق من الأعراق، بالنسبة إلى عرق آخر. فكل التجمعات الإثنيَّة الكبرى التي تتألف منها الإنسانيَّة اسهمت في تشكل تراث الإنسانيَّة..

إن مساهمة الأعراق في الحضارة تعود لظروف جغرافيَّة وتاريخيَّة واجتماعيَّة وليس نتيجة لقابليات متميزة أو متصلة بالتكوين التشريحي أو الفيزيولوجي..

إن الحياة الإنسانيَّة لا تتطور في ظل نظام متماثل الرتابة، ولكن عبر نماذج منوعة من المجتمعات والحضارات، وهذا التنوع الثقافي والجمالي والاجتماعي ليس متصلا بأيَّة علاقة سببيَّة، بالتنوع الموجود على الصعيد البيولوجي. فثمة ثقافات إنسانيَّة اكثر بكثير من الأعراق البشريَّة..[12].

2 الشخصيَّة الإثنيَّة اليهوديَّة

الشخصيَّة اليهوديَّة كما ظهرت على مسرح التاريخ شخصيَّة معقدة تعتمد جذورها وتتحدد خصائصها في إطار الظروف والعوامل المتداخلة والمتناقضة التي تتصل اتصالا مباشرا بواقع الظروف التي تعرضت لها الجماعات اليهوديَّة عبر التاريخ.

إن البحث عن ملامح الشخصيَّة بين الأقليات اليهوديَّة المبعثرة عبر تضاريس الكون البشري. التي تخضع لتأثيرات ثقافيَّة ولغويَّة متباينة، فالبحث عن تاريخ مشترك لهذه الأقليات أو الجماعات اليهوديَّة هو من قبيل الإبحار في أغوار محيط لا ساحل له..

وما يلفت النظر أن الشخصيَّة اليهوديَّة لم ترتبط بإطار جغرافي محدد، ومن ثم فإن الجغرافيا لم تكن جزءًا من هويتها ولم تكن سمة من سمات تراثها الذي تميز بتعدد مراكزه الجغرافيَّة..[13]

لهذا يصعب القول إن ثمة شخصيَّة يهوديَّة واحدة جامعة تتسم بعناصر مشتركة، فبين الشخصيَّة اليهوديَّة الاثيوبيَّة والشخصيَّة اليهوديَّة الامريكيَّة فروق وتمايزات جمة ترجع إلى المحيط الحضاري لكل منهما، وذلك بمعزل عن الشخصيات والهويات اليهوديَّة الأخرى..[14].

ولعل دراسة الشخصيَّة اليهوديَّة تكشف لنا الفرق بين الهويات اليهوديَّة والصهيونيَّة كايديولوجيَّة عملت على تشكيل الشخصيَّة اليهوديَّة في العصر الحديث.

فمنذ القرن الخامس عشر ظهرت تيارات اليهوديَّة المسيحيَّة في الجزيرة الايبيريَّة (إسبانيا والبرتغال)، وبرز نشاط تيارات المسيحيَّة اليهوديَّة في مرحلة الإصلاح والنهضة وراج الاعتقاد بعودة المسيح على رأس الفيَّة السعيدة، وربطوا هذه العودة بعودة اليهود إلى أرض صهيون (اورشليم) واعادة بناء الهيكل، بيد أن الانطلاقة الكبرى للمسيحيَّة اليهوديَّة ترجع إلى حركة الإصلاح الديني (البروتستانتيَّة) في القرن السادس عشر، حيث أعيد الاعتبار لليهود وللعهد القديم. المرجع الأعلى للاعتقاد المسيحي..

وانتعشت مع البروتستانتيَّة المسيحيَّة اليهوديَّة والمتهودة، واعتبرت بريطانيا بعد  انفصالها عن الكاثولوكيَّة في مهمة مقدسة لعودة اليهود إلى اورشليم (بيت المقدس) وهكذا كانت البروتستانتيَّة وراء انطلاق الحركة الصهيونيَّة المسيحيَّة. وذلك قبل ظهور الصهيونيَّة اليهوديَّة التي يعود تاريخ تأسيسها إلى المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897.

وقد جرى توظيف (اللاهوت) لأغراض سياسيَّة، وتم استخدام الجماعات اليهوديَّة لتحقيق أهداف السياسة الاستعماريَّة.

وكانت الصهيونيَّة المسيحيَّة الأمريكيَّة السباقة إلى الاستيطان في فلسطين منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومع حلول القرن العشرين يسري الانتماء الصهيوني في الثقافة الأمريكيَّة.

نتيجة الارتباط العضوي باللاهوت اليهودي (توراة)..[15]

فالمعتقدات الأمريكيَّة مزيج من التقاليد والأخلاق الدينيَّة اليهوديَّة والمسيحيَّة الذي تمت ترجمته إلى معنى سياسي يتجلى في توافق القيم الأمريكيَّة والإسرائيليَّة مما يفسر الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل.

– 5 –

اليهوديَّة والصهيونيَّة

ظهر مصطلح اليهوديَّة في العهد الهليني للإشارة إلى ممارسات اليهود الدينيَّة أي العقيدة التي يتبعها سكان (يهودا)..، ثم استوعبت اليهوديَّة الكثير من العناصر الدينيَّة والحضاريَّة، من الحضارات التي وجدت فيها وتتميز اليهوديَّة بأن التقاليد الشفويَّة أصبحت شريعة شفويَّة تعادل الشريعة المكتوبة، استولت الصهيونيَّة على العقيدة اليهوديَّة، وذلك باستقطاب الارثوذكس في صفها..[16].

أما مصطلح الصهيوني فقد تمت صياغته في القرن التاسع عشر ويستخدم للإشارة إلى بعض النزعات داخل النسق الديني اليهودي.

فالصهيونيَّة بالمعنى الديني: تشير إلى كلمة صهيون في التراث الديني اليهودي (إلى جبل صهيون والقدس) بل إلى الأرض المقدسة كلها ويشير إلى اليهود باعتبارهم ابناء صهيون..

كما يستخدم للإشارة إلى اليهود كجماعة دينيَّة.. وفكرة العودة إلى صهيون فكرة محوريَّة في الدين اليهودي. إذ أن أتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن المسيح المخلص سيأتي في آخر الزمان ليقود شعبه إلى صهيون ليحكم العالم ويسود العدل والرخاء..[17].

وقد بدأ مفهوم الصهيونيَّة يتبلور مع توسع النظام الإمبريالي وظهور الدولة القوميَّة العلمانيَّة التي همشت الجماعات اليهوديَّة الوظيفيَّة.

بدأ مفهوم الصهيونيَّة في التبلور والتخلص من أبعاده الدينيَّة وانتقل إلى عالم السياسة والمنفعة الماديَّة ومصالح الدول..، وتم تسويغ الصهيونيَّة انطلاقا من الرؤيَّة المعرفيَّة الامبرياليَّة واطروحاتها الماديَّة وغالبا ما يخلط بين العلمانيَّة والهويَّة الدينيَّة لتبرير توطين اليهود في فلسطين لتحقيق الخلاص ولحمايَّة، الطريق إلى الهند بهدف التوسع الإمبريالي..

حتى نهاية القرن التاسع عشر تمت صهينت الوجدان والعقل الغربي من خلال بلورة فكرة (الشعب العضوي ) في كتابات المفكرين والأدباء سواء من حركة الاستنارة أو الرومانسيَّة.

وبدأ الاهتمام باللغة العبريَّة والموضوعات اليهوديَّة بكثير من الألفة لم تكن معروفة من قبل، ونشر ما بين (1880/1840) ما يزيد على 1600 كتاب من كتب الرحلات في تدعيم صورة فلسطين كأرض مهملة وصورة العرب والمسلمين بكونهم مسؤولين عن هذا الخراب..

وأسس صندوق استكشاف فلسطين عام 1865 وكان مركزا لمؤيدي الاستيطان الصهيوني.

كانت النزعة الصهيونيَّة حتى أوائل القرن التاسع عشر تأخذ طابعا فكريا تأمليا وعاطفيا، لأن أوروبا في حالات الانتقال..

ويلاحظ أن البعد (الجيوسياسي) الكامن وراء النزعة الصهيونيَّة ازداد مع التوسع الإمبريالي والاستعماري الغربي.. وربط الحل الصهيوني للمسألة اليهوديَّة بتمزيق الإمبراطوريَّة العثمانيَّة.. واقتسام تركتها.. وازدادت فكرة الصهيونيَّة المركزيَّة في المخططات السياسيَّة الغربيَّة الاستعماريَّة. فكانت معظم الدول الأوروبيَّة مشاركة في وعد الوزير البريطاني(آرتور بلفور) (2 نونبر 1917) الرسالة موجهة إلى ادموند روتشيلد (1937/1868) أحد زعماء الحركة الصهيونيَّة تم التنصيص في الرسالة على إقامة وطن للشعب اليهودي (â national home for jewish people)  في فلسطين..

والجدير بالذكر أن فكرة الوعد ترجمة حرفيَّة للمقولات اللاهوتيَّة اليهوديَّة والمسيحيَّة، ومن هذه المقولات تبلور مفهوم الصهيونيَّة الغربيَّة وهو مصطلح يشير إلى أنها حركة غربيَّة تضرب بجذورها في التشكل الحضاري والسياسي الغربي، وتصدر من الصيغتين الأساسيَّة والشاملة.. (صهيونيَّة اليهود في غرب أوروبا، وصهيونيَّة يهود شرق أوروبا). فالشعب اليهودي مجرد وسيلة مهمة توظف في إطار كوني وتاريخي ضخم بسبب الرؤية الحلوليَّة اليهوديَّة التي تمتزج بالرؤية الماديَّة النفعيَّة في إطار الحضارة الغربيَّة الحديثة، بحيث يتم التعبير عن الروحيَّة بطريقة ماديَّة. فيحل النظر إلى أرض الميعاد باعتبار أهميتها الاقتصاديَّة والاستراتيجيَّة وإلى الشعب باعتباره مادة استيطانيَّة تخدم الحضارة الغربيَّة..[1].



[1]– أرنولد توينبي، تاريخ البشريَّة،  ترجمة نقولا زيادة- الدار الأهليَّة للنشر 1981 الجزء الأول- ص 11/10.

[2]– د. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهوديَّة والصهيونيَّة (الموجزة)، دار الشروق 2003/ط/1/  ص – 103

[3]– عباس محمود العقاد، الصهيونيَّة العالميَّة، منشورات، المكتبة العصريَّة ص- 32/31

[4]– عبد الوهاب المسيري، المصدر السابق، ص 103.

[5]– كمال الصليبي، التوراة جاءت من الجزيرة العربيَّة، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربيَّة ط/6/ص12/ 13.

[6]– عبد الوهاب المسيري، مصدر سبق ذكره، ص – 104

[7]– عبد الوهاب المسيري، المصدر السابق ص- 103/101

[8]– عبد الوهاب المسيري، دفاع عن  الإنسان دراسة نظريَّة وتطبيقيَّة في النماذج المركبة، دار الشروق ط4 / 2020- ص 23/21.

[9]– المصدر السابق، ص 107

[10] – المصدر السابق، ص 123

[11]– عبد الوهاب المسيري، الموسوعة اليهوديَّة (ج2/ 2003) ص 26.

[12]– كلود ليفي استراوس، العرق والتاريخ، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعيَّة للدراسات والنشر- ط2 / 1997/ص5/ 7.

[13]– الشخصيَّة اليهوديَّة الإسرائيليَّة والروح العدوانيَّة، د. رشاد عبد الله الشامي، عالم المعرفة(102) يونيو 1986/ص 29.

[14]– عبد الوهاب المسيري، الموسوعة اليهوديَّة- ج2 / ص 30.

[15]– رضا هلال، المسيح اليهودي ونهايَّة العالم المسيحيَّة السياسيَّة والأصوليَّةفي أمريكا، دار الشروق، ط1 /2001/ص16/ 18

[16]– الموسوعة اليهوديَّة، ج2/ص19

[17]– المصدر السابق، ص197.
[18]- المصدر السابق، ص 246.
_______
*أحمد بابانا العلوي.

وسوم:

اترك رد

جديدنا