التشيّؤ الإنسانيّ المعاصر: الإنسان كائناً “زومبيّاً” !؟

image_pdf

“بعد أن كافح الإنسان في الماضي كي لا يتحوّل إلى عبد، عليه أن يناضل كي لا يتحوّل إلى آلة…”/ إيريك فروم

1- مقدّمة:

إذ كان التشيّؤ صنو الاغتراب، فإنّ البحث في التشيّؤ لا يكون إلّا منهجاً في استكشاف الاغتراب الإنسانيّ في أقصى حالاته واستجواب معانيه في أعلى مستوياته. وإذا كان الاغتراب يشكّل البعد الفلسفيّ للتشيّؤ، فإنّ التشيّؤ يشكّل البعد المادّيّ المشخّص للاغتراب. وقد يكون التشيّؤ المؤشّر الأوّل للاغتراب، ولكنّه في النهاية يشي بعمقه، ويشكّل تمامه وكماله، ونعني بذلك أنّ التشيّؤ الكامل هو الظاهرة الكلّيّة للاغتراب في أكثر مظاهرة شموليّة وانبثاقاً. فلا يكون اغتراباً من غير تشيّؤ، ومن الاستحالة بمكان أن يكون التشيّؤ من غير الدلالة على الاغتراب؛ لأنّه يشكّل شرط الاغتراب وتجسيداً له. ومن الأمور الّتي يجب ألّا تغيب عن البال بأنّ الاغتراب والتشيّؤ مفهومان متداخلان في المعنى متشابكان في الدلالة، ومع ذلك فإنّ من يتأمّل بعمق قد يأنس طيفاً من الاختلاف. ومع أنّ ماركس سيّد المفهومين قد جمع بينهما وصهرهما في بوتقة واحدة، إلّا أنّ نفراً من المفكّرين قد عكفوا على استخدام مفهم التشيّؤ بوصفه أكثر قدرة على تجسيد مفهوم الاغتراب وتوظيفه في فهم أعمق لوضعيّة الهزائم الحضاريّة في وضعيّة الإنسانيّة المعاصرة، وربّما قد وجدوا في مفهوم التشيّؤ قدرة على الاستبصار الواقعيّ تجنّباً للوقوع في المطبّات الغامضة والمسالك الصعبة للاغتراب. فالاغتراب يحمل طابعاً فلسفيّاً محضاً، ويأتي التشيّؤ ليعبّر عنه بطريقة أكثر حسّيّة وتجسيداً. ومهما يكن الأمر، فإنّنا في هذا المساق ننحو إلى الإضاءة على مفهوم التشيّؤ مقارنة بالاغتراب واستكمالاً لمعناه ودلالته. وهو مهما يكن، فإنّ التشيّؤ يشكّل صيغة لازمة من الاغتراب نراها في توجّهات بعض المفكّرين الّذين أبدعوا في تناوله وتحليله والكشف عن أبعاده بطريقة سوسيولوجيّة بارعة في القدرة على البحث والاستكشاف. ويشار في هذا الصدد إلى نخبة من المفكّرين الّذي وظّفوه واستخدموه أمثال ماركس وماركوز وفروم ولوكاش وهونيث وهم الّذين بحثوا في متاهاته، واستكشفوا في أبعاده، ووظّفوه توظيفاً سوسيولوجيّاً خلّاقاً في الكشف عن مآزق العصر الصناعيّ الرأسماليّ ومستويات تشيؤه واغترابه.

وإذا كان التشاكل في مفهوم التشيؤ يأخذ مداه ثقيلا فإننا سنعمل في هذه المقالة على رصد المفهوم واستجلاء معالمه  وتحديد سماته وإبراز معانيه واستكشاف دلالته كشفاً عن  حضوره تجلّياته في  فضاءات الزمن الرأسماليّ  الليبرالي الحديد الّذي ينحو إلى أن يكون زمناً مادّيّاً زومبيا تغيب فيه الروح، وتفيض فيه قيم والربح والشهوة والتسلّط. إنّه زمن اللامتناهيات في السقوط الأخلاقيّ والانحدار القيميّ؛ إذ تحوّلت فيه كلّ الكائنات الحيّة والمادّيّة إلى سلع، بل إلى تجارة، ومن ثمّ إلى مادّة للتصنيع والاستهلاك. إنّه الزمن الّذي تحاك فيه الأشياء في دورة التصنيع والإنتاج، وكلّ شيء يدور فيه حول قيم الريح والاستهلاك، وكلّ شيء فيه يخضع لدورة السوق وقوانين العرض والطبّ: جسد الإنسان وروحه، ولا يبقى هناك شيء بعد ذلك لا يخضع لدورة السلع والأشياء: كلّ شيء يباع، تجارة البشر، تجارة الأعضاء، تجارة الجنس، الحبّ تجارة، والصداقة صناعة، وفيه تجارة الأدب والفنّ والأخلاق، حتّى الدين أصبح تجارة ونخّاسة. وهذا هو الزمن الّذي تبشّر فيه الرأسماليّة بزوال الإنسان وتشكيل الإنسان الآليّ “الروبوت”، الإنسان الزومبيّ (Zombie) (الموتى الأحياء) ([1])، الإنسان الجسد الّذي يتحرّك من غير روح، الإنسان البيونيّ الّذي تحوّل إلى كيان من الأسلاك والأجهزة والسيليكون ومثال ذلك المرأة السليكون. وفوق ذلك كلّه أصبحنا نتحدّث اليوم عن الإنسان السبورغ الإنسان الّذي تحوّل بجسده إلى كائن خارق، أو لنتحدّث عن الإنسان الآليّ. والمذهل في حركة الحضارة الصناعيّة والذكاء الاصطناعيّ أنّ الحضارة المادّيّة تسعى إلى إضفاء الطابع الإنسانيّ على الروبوتات بينما تجرّد الإنسان الحيّ من الروح والمعنى والدلالة، وتحوّل إلى كائن زومبي هشّ تستطيع أن تدمّره بعصاك لأنّه كائن بلا روح ولا معنى أو دلالة.

2- مفهوم التشيّؤ:

يعدّ مصطلح “التشيؤ” ترجمة عربيّة للكلمة الإنكليزيّة (Reification) يقابلها في الألمانيّة كلمة (Verdinglichung) وفي الفرنسيّة كلمة (Réification)، وتشير هذه الكلمة إلى تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء، وحـينما يتشيّأ الإنسـان، فإنّه سـينظر إلى مجتـمعه وتاريـخه باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة الفيزيائيّة الّتي تفرض عليه كقوّة خارجيّة تسيّره وتحدّد له أقداره ومصيره، وعلى هذه الصورة يأخذ الإنسان المتشيّيء صورة الإنسان المنفعل بقدر خارجيّ كقشّة في مهبّ الريح لا حول له ولا قوّة. ويتمثّل التشيّؤ في عمليّة تحوّل الإنسان إلى شيء جامد صلب يتحرّك بتأثير الجاذبيّة في الأشياء المحيطة به كالوزن والضغط والجاذبيّة والسقوط والانحدار، وهو في كلّ الأحوال يفقد معناه ودلالته الإنسانيّة، وتتسطّح أحلامه الّتي تدور في عالم الأشياء. والإنسان المتشيّئ حسب ماركوز هو الإنسان ذو البعد الواحد الّذي يستطيع التفاعل مع الأشياء بكفاءة عالية وفق خلال نماذج اختزاليّة بسيطة، ولكنّه بالمقابل يخفق في التعامل مع الناس والآخرين على نحو إنسانيّ.

والتشيّؤ عموماً في أبسط معانيه العمليّة الّتي يتحوّل فيها ما ليس بشيء ليصبح شيئاً، وهذا يعني أنّ الكائن الإنسانيّ الّذي يحمل في ذاته صفات إنسانيّة روحيّة حيّة قد يتحوّل في معادلة التشيّؤ إلى كائن متحجّر متصلّب يتّسم بذات السمات والصفات الّتي تنطبق على الأشياء والموجودات الفيزيائيّة الصلبة، وهذا التشيّؤ يؤدّي إلى إحداث تغيير عميق في جوهر الإنسان وفي طبيعته الإنسانيّة، وعلى هذه الصورة يفقد الإنسان المتشيّيء صورته الإنسانيّة، ويغدوا جماداً ينتمي إلى عالم الأشياء.

يمكن تعريف التشيّؤ (Reification) في أبسط مستويات التعريف بأنّ تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء ومعاملة الناس باعتبارهم أشياء صلبة، وهذا يعني أنّ الإنسان يفقد جوهره الإنسانيّ، ويتحوّل إلى حالة من الجمود والتصلّب الفيزيائيّ جسد بلا روح أو قلب أو عواطف أو مشاعر. وعلى هذا المنوال يعني التشيّؤ تحوّل الناس إلى كائنات شبيهة بالأشياء، لا تتصرّف بطريقة إنسانيّة، بل وفقاً للقوانين الّتي تسود في عالم الفيزياء والأشياء. ويمكن وصف التشيّؤ بأنّه الحالة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى شيء ” ليس له أيّ دور في تأكيد ذاته الإنسانيّة بعد أن استلبت منه قدراته العقليّة وإرادته، وأصبح في حالة صنميّة أو سلعيّة، أو تحوّل إلى ذرة اجتماعيّة ليس لها لون أو طعم أو رائحة” ([2]). والتشيّؤ مصطلح صكّه الناقد المجريّ الماركسيّ جورج لوكاتش مستلهماً المفهوم الماركسيّ عن صنميّة السلعة، وهو يرمز إلى الحالة الّتي يجمّد فيها الناس أشياء، ويتصلّبون في وجودهم على أوهام العلاقات الصلبة الجامدة الّتي تقوم بين الأشياء.

ومن أبلغ ما يمكن أن يوصف به التشيّؤ الإنسانيّ هو الوصف الّذي يقدّمه ستيفن إريك برونر الّذي يعرف التشيّؤ الإنسانيّ بأنّه الوضعيّة الّتي ” ترى فيها حرفيّين، لكنّك لا ترى أناساً حقيقيّين؛ ترى مفكّرين لكنّك لا ترى بشراً؛ قساوسة لكن ليسوا ببشر؛ أسياداً وعبيداً شباباً وأصحاب أملاك، لكن ليسوا ببشر. إنّه عالم أشبه بأرض المعركة الّتي تجد فيها أيادياً وأذرعاً وأطرافاً على صورة تكتّل تتناثر أجزاؤه بعضها إلى جانب بعض، بينما تسري الدماء المراقة منها في الرمال؟!”. ([3]).

ومن أجل تحديد مفهوم التشيّؤ الإنسانيّ تحدّد الكاتبة الأمريكيّة مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum) سبعة مؤشّرات يستدلّ فيها على أنّ الإنسان أصبح مشيّأ: ([4])

1 -الأداتيّة: معاملة الشخص كأداة، وليس إنساناً له هويّته.

2-العبوديّة: الشخص هنا لا يتمتّع بسمة الاستقلال أو تقرير المصير.

3-الاستضعاف: معاملة الشخص على أنّه عاجز وضعيف وغير قادر على إنجاز مهمّاته.

4- القابليّة للاستبدال – معاملة الشخص على أنّه قابل للتبديل مع أشياء (أخرى).

5-الملكيّة: معاملة الشخص كما لو أنّه يمكن امتلاكه أو شراؤه أو بيعه أو تبديله.

6-القابليّة للانتهاك: معاملة الشخص على أنّه كائن مستباح قابل للانتهاك كشيء يجوز تفكيكه أو تحطيمه أو اقتحامه.

7-إنكار الذاتيّة: معاملة الشخص بوصفه شيئاً مجرّداً من العواطف والمشاعر والتجارب وإهمال ما يمتلك عليه من مشاعر وعواطف وحسّ إنسانيّ. وترى الكاتبة أنّ الإنسان قد يتعرّض للتشيّؤ إذ انطبقت عليه إحدى هذه المؤشّرات أو بعضها.

وأضافت أستاذة الفلسفة في جامعة كامبريدج راي هيلين لانجتون (Rae Helen Langton) في كتابها في كتابها “الأنانيّة الجنسيّة” (Sexual Solipsism) ثلاث ميزات أخرى لقائمة مارثا نوسباوم: ([5])

1-الاختزال الجسديّ: ويعني معاملة الشخص كأنّه مجرّد جسد أو أجزاء من جسد، وهذا يمثّل أقصى درجة من درجات الاستلاب، إذ لا ينظر إلى الشخص على أنّه كيان متكامل، بل بوصفه كياناً متشظّياً إلى أجزاء وكيانات بيولوجيّة يمكن استبدالها.

2- الاختزال في المظهر: معاملة الشخص أساسيّاً وفق المظهر الخارجيّ، أي معاملة الشخص في المقام الأوّل من حيث مظهره وفقاً للصورة الحسّيّة الّتي يبدو عليها.

3-صنميّة الكلام: ويعني أنّه ينظر إلى الشخص وكأنّه عاجز عن الكلام وملزماً بالصمت، ولا يملك القدرة على الكلام والتعبير أو حقّ التعبير على التحدّث والكلام.

هذا ويرمز التشيّؤ إلى الوضعيّة الّتي تضع الإنسان في مواجهة عاتية مع القوّة الضاربة للمجتمع الصناعيّ الأداتيّ، وهو في دائرة هذه المواجهة الصعبة تتحطّم أحلامه الإنسانيّة ويفقد ذاته وقيمته الأخلاقيّة. فالمجتمع الرأسماليّ المعاصر يضع الإنسان في دائرة التشيّؤ والاستلاب، ويقوم بتدمير منظّم للجوانب الذاتيّة والروحيّة في الإنسان، وفي هذه الدورة الاستلابيّة يُقْضَى على مختلف تجلّيات الخيال والفكر والحلم والإبداع والإحساس الجماليّ والأخلاقيّ عند الإنسان وهو الأمر الّذي يحوّله إلى أداة مشيئة مستلبة مغتربة.

ويحدث هذا التشيّؤ في المستوى الاجتماعيّ الأعمّ بتشويه الفنون الإبداعيّة للإنسان الّتي تتمثّل في التاريخ والأدب والفنّ والفلسفة الّتي تمثّل مختلف مظاهر الحياة الفنّيّة والجماليّة في حياة الإنسان المعاصر. ويتمّ هذا التشويه بتحويل هذه الفنون والآداب عن غاياتها الّتي تتمثّل مبدئيّاً إيقاظ الروح الخلّاقة للإنسان؛ ومن ثمّ توظّف ضدّ الإنسان تحت عنوان والآداب المشيئة الّتي تتحوّل ضدّ الإنسان؛ إذ تحوّل إلى أداة استلاب واغتراب. وهو الأمر الّذي يؤكّده كلّ من أدورنو وهوركهايمر في كتابهما جدل التنوير إذ تحوّل الثقافة إلى أداة أيديولوجيّة تصبّ في خدمة النظام الرأسماليّ بدلاً من أن تكون أداة لإيقاظ الروح الإنسانيّة والارتقاء بالجوانب الذاتيّة والأخلاقيّة للإنسان. وعلى هذه الصورة وضمن هذه الوضعيّات الاجتماعيّة والثقافيّة يتحوّل الإنسان إلى عبد للآلة وأداة للربح ومادّة تطرح للاستهلاك في أسواق النخاسة الصناعيّة ضمن قانونيّات الربح والنشوة والإثارة والاستهلاك المرضيّ لمعطيات الإنتاج الصناعيّ السلعيّ.

وقد شكّلت هذه الوضعيّة الأساس الاغترابيّ الّذي جرّد الإنسان المعاصر من قيمته الإنسانيّة، ومعها تحوّلت الحياة إلى جحيم استلابي مفرغة من المعنى والجدوى، فاندفع إلى مهاوي الإدمان والهوس السوقيّ بالمخدّرات والجنس والجريمة، وهي المظاهر الّتي نشاهدها في أغلب المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة الّتي تنطوي على كتلة متراصّة من الفعاليّات والظواهر والممارسات الّتي تدفع الإنسان إلى وضعيّة التقوقع والعزلة والانطواء، فتدمّر فيه مكامن الإبداع والانطلاق والشعور بالهويّة الإنسانيّة، إذ يجد الإنسان نفسه، وقد أصبح غريباً عن ذاته وعن الوسط الّذي يعيش فيه، وقد يصاب بالشلل الروحيّ كنتيجة طبيعيّة للتدمير المنظّم الّذي ينال من قدراته الإبداعيّة وتشويه مصادر اليقظة الإبداعيّة في المجتمع الرأسماليّ تحت مطارق الهيمنة الإعلاميّة الرأسماليّة والنموّ الهائل للبيروقراطيّة الّتي تقنن سلوك الإنسان، وتفكّك قدراته الإبداعيّة تحت تأثير العقل الأداتيّ المتوحّش بامتداده الفسيح وسلطانه المدمّر على العقل والروح والمشاعر، وهذا كلّه ينتهي بالإنسان الفرد إلى وضعيّات الشعور بالاستلاب والتشيّؤ والاغتراب، وهي الوضعيّة الّتي تجعله عاجزاً أمام المصير والظروف الّتي تقهر وجوده، وتفكّك كيانه الإنسانيّ. وهذا يعني في النهاية إنّ التشيّؤ ظاهرة اجتماعيّة يتحوّل فيها البشر إلى كائنات مشيئة تحرّكهم نمطيّة اغترابيّة تحمل في طيّاتها تأثير جبّار للقوى التكنولوجيّة والاقتصاديّة والأيديولوجيّة الّتي تتفاعل معاً في عمليّة إخضاع الإنسان وترويضه على أن يكون موضوعاً يخضع لقوانين التشيّؤ في المجتمع الرأسماليّ الجديد.

فالإنسان يتحوّل تحت ضغط المجتمع الصناعيّ الضخم إلى ترس في آلة الإنتاج الصناعيّ الضخم. وتتمثّل هذه الحالة في نمط الإنتاج الصناعيّ القائم على ما يسمّى بخطّ الإنتاج، إذ يقوم كلّ عامل بحركة جزئيّة روتينيّة واحدة ضمن آلاف الحركات الأخرى الّتي يقوم بها عمّال آخرون. وكلّ منهم يقوم بعمل منفصل عن الآخرين، ولا يعرف مآلات هذا العمل أو صورته الكلّيّة. وهذا يعني أنّ العامل يصبح جزءاً متناهياً الصغر في جهاز الإنتاج الهائل “المكوّن من عدّة عناصر، وهو جهاز يصعب فهمه أو الإحاطة بشبكته المعقّدة أو القوى الّتي تمسك بخيوطه وتحرّكه ([6]).

ويشكّل الإيقاع الآليّ المنظّم للحياة في المجتمعات الرأسماليّة الحديثة أحد أهمّ العوامل الّتي تعكس روح التشيّؤ عند الإنسان المعاصر. إنّ إيقاع الحياة الحديثة يتّخذ صورة نمطيّة آليّة تفرض نفسها على سلوك الأفراد، وتنمط حياتهم ووجودهم على صورة هذا النمط الآليّ الّذي يجتاح تفكير الفرد وأنماط حضوره الذهنيّ في الحياة. فعلى سبيل المثال: إيقاعات الحياة اليوميّة الّتي تتمثّل الاستيقاظ مبكّراً الذهاب إلى العمل الخضوع للمرؤوسين العودة في أوقات محدّدة تناول الطعام في ساعات معيّنة، تناوب ورديّات العمل، أيّام العطلة، مشاهدة التلفزيون، استخدام مصادر الذكاء الاصطناعيّ، كلّ هذه الأمور وعدد هائل منها يحكم حياة الإنسان اليوميّة، وهذا الأمر يجعل من عقل الفرد عقلاً آليّاً نمطيّاً مشيّأ إلى حدّ اغترابيّ كبير.

ويرتسم أحد أهمّ العوامل الفاعلة في عمليّة التشيّؤ في الرأسماليّ في ظاهرة التسليع الّتي تأخذ طابعاً شموليّاً عامّاً كلّيّاً. فالمجتمع الصناعيّ الرأسماليّ يتدفّق بالسلع والبضائع بالمنتجات، وفيه كلّ ما لذّ وطاب، وتتميّز هذه المنتجات بالطابع الإغرائيّ الّذي لا يقاوم المعزّز بالإمبراطوريّات، والفرد الّذي يعيش في هذا الجحيم الإنتاجيّ المسلّع يقع ضحيّة الإغراء وعشق الاستهلاك، وعلى هذه الصورة تتزايد شهوة الإنسان إلى التملّك والحيازة والاستهلاك، ويكدّ للحصول على كلّ ما يمكن أن يحصل عليه من هذه السلع ليشبع حاجاته الصنعيّة المرتدّة دون توقّف، وهذا الاستغراق الاستهلاكيّ يؤدّي إلى تدمير التكوين الأخلاقيّ والروحيّ للإنسان، إذ يتحوّل إلى وحش استهلاكيّ لا يشبع، وتلك هي أخطر حالات التشيّؤ الّتي يفقد فيها الإنسان روحه وعقله وكيانه الإنسانيّ.

وتشكّل النظم البيروقراطيّة أحد مصادر وعوامل التشيّؤ؛ لأنّ الأنظمة البيروقراطيّة تعلّب الإنسان في نماذج طاغية، إذ تضع الفرد تحت تأثير القوى المدمّرة الخفيّة والسافرة في المجتمع الصناعيّ المتقدّم، ويعمل هذا النظام البيروقراطيّ على انتزاع فرديّة الفرد وإحساسه بالمسؤوليّة، ويعمل على استلابه وتحويله إلى كيان مستلب ومغترب ([7]). وممّا لا شكّ فيه أنّ البيروقراطيّات الحديثة تمتلك في ذاتها قوى جبّارة في مجال القمع والإغواء وترويض الإنسان علّة وضعيّة التشيّؤ.

ويعدّ الإعلام الجبّار الضخّ أحد أهمّ سمات ومميّزات المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة، وتمتلك هذه الإمبراطوريّات الإعلاميّة القدرة الفائقة على طحن العقول وتشكيل الأذهان وترويض الإنسان على القبول الصاغر لكلّ معطيات المجتمع الصناعيّ. وهذه القوى الإعلاميّة استطاعت أن تكون أقوى أدوات صناعة اللذّة وتسويق الأحلام وتدمير المنطق والتلاعب بالعقول وتشكيل الإنسان على صورة السلعة وتحويله إلى وضعيّة التشيّؤ.

ويبنى على ما تقدّم بأنّ التشيّؤ هو الحالة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى شيء إلى سلعة إلى بضاعة إلى مادّة في عالم الأشياء والإنسان المشيّأ كائن تتمركز أحلامه ورغباته وتطلّعاته وتدور في عالم حول الأشياء وهو في وضعيّة التشيّؤ هذه لا يستطيع أن يتخطّى عالم الأشياء والسلع. وعلى هذه الصورة يختزل عقله وروحه في القدرة على التعامل مع عالم الأشياء، وهذا ما يعبّر عنه ماركوز بقوله إنّ الإنسان المتشيّيء هو إنسان ذو بعد واحد وقد فقد أبعاده الروحيّة وتطلّعاته الروحيّة.

رأسماليّة التشيّؤ:

خاض مفكّرو النظريّة النقديّة في مسألة تشيّؤ الإنسان، وبحثوا في صلب العوامل والمتغيّرات الّتي أدّت إلى تشكّله كظاهرة اجتماعيّة تسود في العصور الحديثة. ويقرّ معظمهم ولاسيّما روّاد مدرسة فرانكفورت في التأكيد على عدّة عوامل أهمّها النزعة الأداتيّة للعقل الرأسماليّ وعلى عوامل تطوّر المجتمع الرأسماليّ القائم على الإنجازات الصناعيّة والتكنولوجيّة الكبرى في مجال الإنتاج الضخم المفتون بقيم الربح والهيمنة والسيطرة الّتي يفقد فيها الإنسان قيمته الإنسانيّة ودلالته الأخلاقيّة. فالعقل الأداتيّ الجامح اندفع بقوّة فاخترق القيم وانتهك المعاني وحطّم المشاعر الإنسانيّة، ودمّر العواطف وطحن الإنسان محوّلاً إيّاه إلى نخالة مادّيّة متناهية في الصغر يمكن تذويبها وتصنيعها بوصفها مادّة إنتاجيّة استهلاكيّة تباع وَتُشْتَرَى في الأسواق. بل قل بأنّ الرأسماليّة بأدواتها الجبّارة وهيمنتها المطلقة حوّلت الإنسان إلى وقود بشريّ يحترق في مواقد الجشع الرأسماليّ المأخوذ بقيم السيطرة والهيمنة وتكديس الأرباح كغاية تبرّر وسائلها المضادّة للإنسان وقيمه الإنسانيّة. وفي دورة هذا الجشع الرأسماليّ الرهيب تحوّل الإنسان إلى ترس في آلة جهنّميّة، بل إلى مادّة خام قابلة للتصنيع والاستهلاك والتدوير، وقد تمّ تشييؤه بوصفه مطلباً مادّيّاً من متطلّبات التصنيع والإنتاج والربح في الدورة الرهيبة للاقتصاد الرأسماليّ، وباختصار، أصبح الإنسان شيئاً من الأشياء، كياناً متشيّأً ممسوخاً يفتقر إلى جوهره الإنسانيّ وحسّه الأخلاقيّ وكيانه الروحيّ. وهو في هذه الوضعيّة يصحّ معها قول اللاهوتيّ الإنجيليّ ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer: “لقد صار سيّد الآلة عبداً لها، وأمست الآلة عدوّ الإنسان، وحرّيّة الجماهير انتهت إلى رعب المفصّلة، والتحرير المطلق للإنسان سيختم مساره بالدمار الذاتيّ ” ([8]).

يرى منظرو فرانكفورت أنّ عمليّات التشيّؤ تحدث بقوّة في ظلّ النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ بما ينطوي عليه من علاقات الإنتاج والتسويق والتسليع. ويرون بأنّ الجشع الرأسماليّ أدّى إلى ما يسمّى بصنميّة السلعة الّتي وضعت الناس في محراب العبادة الرخيصة للسلعة، والميل الجارف إلى الاستهلاك وتلبية الاحتياجات المادّيّة المتزايدة، وهو الأمر الّذي حول العلاقة بين الناس إلى علاقات أشبه بالعلاقة الجامدة بين الأشياء، فجعلت من السلعة وثناً للعبادة، ومن الاستهلاك قاموساً للحياة، ومن التملّك منهجاً للوجود. وعلى هذا النحو تمحورت العلاقات بين الناس حول المنافع والمصالح على حساب العلاقات الإنسانيّة والقيم الأخلاقيّة والروحيّة، فأصبح الإنسان جسداً بلا روح ومادّة بلا معنى وكياناً جامداً من غير إحساس أو مشاعر إنسانيّة.

فالعقل الأداتيّ الصرف، والجشع الرأسماليّ المطلق، والصناعة المتوحّشة القائمة على تقسيم العمل، والاستغراق في مظاهر التشظّي والانشطار في التخصّصات المهنيّة، وهيمنة ما يسمّى بخطوط الإنتاج في المصانع، وتنامي الروح البيروقراطيّة المدمّرة، والهيمنة الفارطة لأمواج الدعاية الإعلام القائم على الذكاء الاصطناعيّ، وتعليب التعليم، والهيمنة الأيديولوجيّة، والموجات المتدفّقة الّتي تقوم على غسل الأدمغة، عوامل تشكّل في مجموعها القوّة الحضاريّة الّتي أدّت إلى اغتراب الإنسان المعاصر وتشيئه.

فالرأسماليّة تجرّد البشر من إنسانيّتهم، بل تمسخهم إلى ركام من الأشياء، وتحوّلهم إلى مادّة أوّليّة مفرغة من المعاني الروحيّة والإنسانيّة، مادّة قابلة للتصنيع والتدوير والتسليع والتسويق. ومن المفارقة بمكان أنّ الرأسماليّة الّتي تفقد الإنسان روحه وكيانه الإنسانيّ، وفي الوقت الّذي تحوّله إلى أداة تضفي بالمقابل فيه على الأشياء على السلع والمنتجات والموادّ الأوّليّة طابعاً غائيّاً ذاتيّاً. وهنا تتجلّى بصورة جليّة المعادلة الرأسماليّة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى موضوع وأداة، ويقابل ذلك تحويل الموضوع (الشيء) إلى قيمة وذات. وهذا يرمز إلى صيغة من الانقلاب الجذريّ في الحضارة الإنسانيّة الّتي تنقلب على ذاتها، وتفقد روحها ومعانيها وغاياتها الأخلاقيّة السامية. إنّه عالم مقلوب ولا يمكن ” أن يصبح قلب هذا «العالم المقلوب» ممكناً إلّا بإنهاء ما أطلق عليه ماركس مصطلح «صنميّة السلعة»، وهذا يعني أنّ نهاية الاغتراب لا يمكن أن تكون إلّا بالقضاء على ظاهرة التشيّؤ الإنسانيّ الّتي تفقد الإنسان معناه، وتجرّده من قيمته، وتستلبّ منه دلالته الروحيّة وقيمتها الغائيّة ([9]). فالرأسماليّة الليبراليّة الجديدة تجعل من تطوير الصناعة وسيلة للربح للسيطرة للقوّة للهيمنة، وهي تعمل حسب تعبير ماركس، “تأليل” الإنسان، (تحويله إلى آلة) بل إلى كيان متشيّء، بل إلى صنميّة إنسانيّة شديدة التوحّش والانحدار([10]).

وعلى هذه الصورة استطاعت الرأسماليّة أنت تحوّل الإنسان إلى شيء من الأشياء المادّيّة، وإلى كيان مفرغ من الروح الّتي تنبض بالمشاعر الإنسانيّة الخلّاقة، فالرأسماليّة بأدواتها الجبّارة استلبت الإنسان وجرّدته من مشاعره وأحاسيسه وإنسانيّته ليصبح ترساً في آلتها الإنتاجيّة الجبّارة. وفي هذا المجتمع الرأسماليّ تقوم الطبقة الرأسماليّة بتجريد الفرد من محتواه الإنسانيّ، وتدمّر في أعماقه معظم القيم والمبادئ الأخلاقيّة، كما تدمّر صلاته الإنسانيّة بالعائلة والصداقة والدين والأخلاق والقيم الأخلاقيّة، فيزداد عمق ارتباطه بالوسط الصنعيّ للمجتمع الرأسماليّة، ويشتدّ عمق هذا الارتباط بتحوّله إلى ماكينة إنتاجيّة في خضمّ الإنتاج الضخم للرأسماليّة الليبراليّة المعاصرة الّذي تتحدّد فيه قيمة الإنسان بما يستهلك وبما ينتج وبمقدار ما يتحوّل إلى آلة تنتج وتستهلك في المجتمع الرأسماليّ المعاصر. وهذا التشيّؤ الصناعيّ جرّد الإنسان من قدرته على التحكّم بمصيره وحياته ووجوده الإنسانيّ. فالطبقة الرأسماليّة الّتي تسيطر وتهيمن على مصيره تحوّله إلى أداة للإنتاج، وإلى سلعة للربح، وإلى طاقة للاستهلاك تستثمر في تأكيد فائض القيمة وتحقيق أعلى درجة من الربح والعائدات الماليّة الاقتصاديّة الّتي تصبّ في مصالح الطبقة الرأسماليّة على صورة أرباح واستثمارات ومضاربات اقتصاديّة.

في المجتمع الرأسماليّ يحوّل الناس إلى مجرّد أشياء أرقام ومعادلات وبيانات حسابيّة وإحصائيّات، وفي هذا المجتمع يتحوّل الإنسان إلى كيان تغذّيه فكرة واحدة، ويستولي عليه هاجس واحد يتمثّل في الاستهلاك والتسوّق والتملّك والحصول على كلّ ما هو جديد في عالم السلع والأشياء، وهو في دائرة شبقه الاستهلاكيّ يقتني كلّ شيء، ويشتري كلّ شيء بقدر ما يستطيع، وهو في ذلك يتصرّف بقوّة هائلة لإشباع رغبات زائفة لا طائل منها، ففي عالم الأشياء تتحوّل الأشياء إلى قيمة تعطي لمن يمتلكها قيمة أكبر والإنسان في هذا العالم المتشيّيء لا يكون إنساناً إلّا بقدر ما يمتلك من أشياء إلّا بقدر ما يستهلك، وعلى هذا الأساس تكمن قيميّته في بعد واحد هو الاستهلاك كما يقول هربرت ماركوز الّذي يصف الإنسان المتشيّيء بالإنسان ذي البعد الواحد.

فالنظام الرأسماليّ يحوّل العلاقات القائمة بين الناس في مختلف ميادين الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة إلى أشياء جامدة تخضع لقوانين الفيزياء، وتقوم على أساس معادلة التسويق والتبادل التجاريّ وذلك بطريقة فظّة يتحوّل فيها البشر إلى سلع وبضائع وماكينات وأدوات وهم بذلك يخضعون لقوى خارجيّة غريبة عنهم تحدّد مصيرهم في سوق النخاسة البشريّ.

وفي النظام الرأسماليّ تشتدّ وتائر التشيّؤ والتسليع، ويرتفع منسوب الافتتان بالسلع عند الأفراد في المجتمع، وفي حمأة هذا التشيّؤ يرتبط سلوك الأفراد بالسلع في عالم تعرض فيه كلّ الموجودات بوصفها سلعاً الأدب والفنّ والمرأة والقيم والتعليم والإعلام والصحافة، وكلّ شيء معنويّ أو مادّيّ يخضع لقانونيّة السوق قانونيّة البيع والشراء. وهذا يعني أنّ علاقات السوق تتغلغل في سلوك الأفراد، وترسم حدود علاقاتهم الإنسانيّة وتفاعلاتهم الاجتماعيّة، وهذا الأمر يتخطّى الجوانب الاقتصاديّة والمادّيّة إلى الجوانب الإنسانيّة والروحيّة([11]). وعلى هذه الصورة تتغلغل القيم السوقيّة إلى المجال الإنسانيّ، وتتحوّل الظواهر الإنسانيّة إلى قيم مشيئة، وتغرق الحياة الإنسانيّة في مستنقع التشيّؤ الّذي يشمل مختلف جوانب الحياة مثل: الفكر والطبّ والتعليم والفنون والسياسة وغيرها “ويصبح مقبولاً، على سبيل المثال فقط، دفع مقابل ماليّ لتجريب أدوية جديدة على من يدفع لهم، أو شراء أعضاء بشريّة، أو بيع المواطنة لمهاجرين يستطيعون دفع الثمن المطلوب فيها بأشكال مختلفة، أو شراء أصوات الناخبين في الانتخابات، أو كتابة أعمال «أدبيّة» لمصلحة شركات كبرى تستخدمها في الترويج لنفسها” ([12]).

3- عولمة التشيّؤ:

يتمثّل جوهر العولمة ثقافيّاً في عمليّة اغتصاب ثقافيّ ينال من كرامة الإنسان ويستهدف إنسانيّته، وتتمثّل هذه الثقافة في أنساق متنوّعة من الفعاليّات المنظّمة الساعية إلى تشكيل الإنسان على منوال القيم والمعايير الّتي تحكم اتّجاهات الحياة ومطالب السوق الرأسماليّة الجديدة. إنّها تهدف إلى بناء الروح الاستهلاكيّة عند الإنسان وتنميطه في طرازات ذوقيّة قيميّة تحدّدها مطالب السوق الرأسماليّة الجديدة. ووفقاً لهذه المنهجيّة يمكن القول بأنّ ثقافة العولمة بأنّها “فعل اغتصاب ثقافيّ وعدوان رمزيّ على سائر الثقافات، تعبير عن انسحاق الإنسان أمام سطوة الآلة والتقدّم العلميّ وتمركز رأس المال وانعدام القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة وسيادة منطق الربح والفرديّة والبقاء للأقوى من خلال تجارة السوق والمعلوماتيّة والاستلاب الثقافيّ للشعوب والدول والقوميّات”([13]).

ويميّز حنّا أرنت (Arendt Hannah)(1906-1975) في كتابه شرط الإنسان الحداثيّ (La condition de l’homme moderne) ([14]) بين عالمين حيث يعرض ما بين الأعمال الفنّيّة الّتي تنتسب إلى عالم غير زمنيّ للثقافة وبين الاستهلاك في عالم ما بعد الحداثة. فعالم ما بعد الحداثة يمثّل نهاية الثقافة السامية وهيمنة الاستهلاك بوصفه ثقافة حيث تقاس الثقافة بمعيار الاستهلاك.

وفي عصرنا هذا أصبحت القيمة العليا هي القيمة الاقتصاديّة بامتياز، فقيمة الأشياء، وقيمة الأشخاص تحسب اليوم بمعايير الاستهلاك وبالقدرة على الاستهلاك. ومن ثمّ فإنّ لذّة الاستهلاك هي معيار سعادتنا المعاصرة. ونحن اليوم لا نزهو، كهؤلاء الرجال ما بعد الحرب، بعملنا وثقافتنا، ولسنا من هؤلاء الّذين تبهرهم الأيديولوجيّات السياسيّة، وتسحرهم العقائد الفكريّة، كما هو حال الأجيال المثقّفة في الستينيات، ولم نعد هؤلاء الّذين تسحرهم شعارات الثورة والتقدّم. نحن لا نريد تغيير العالم، بل نريد أن نحقّق الفوائد ونستفيد. لقد تحوّلنا إلى أطفال المتعة الصناعيّة، إنّنا نعيش في عصر الدعاية والإعلان، والإعلان هو اليوم آخر معاقلنا حيث نشكّل منذ نعومة أظفارنا تحت مطارقه وتأثيراته. وما تعلّمنا إيّاه الإعلانات هو أنّ الحياة تعني الاستفادة والربح وتأكيد الذات. فالحياة أصبحت كالحركة في داخل صالات التلفزيون وقاعاته الفاخرة، وفي الكليب فيديو حيث كلّ شيء يكون على ما يرام، أو حيث كلّ شيء يمضي سريعاً وخاطفاً، حيث تكون الصورة سريعة جميلة برّاقة خاطفة، وفي المكان الّذي يلهو فيه الناس ويستمتعون. لقد عمدنا في مياه النزعة إلى اللذّة وغمسنا في ماء الحياة القائمة على الربح والاستهلاك والإثارة. إنّ هاجس الحياة اليوم هو اللهو واللذّة والمتعة، وقد أصبحت هذه معايير نموذجيّة لنمط الحياة الثقافيّة المعاصرة. وعنّا يتساءل عبد الخالق عبد اللّه حول الهويّة الّتي تعدّ بها العولمة معلناً بأنّه إنّها هويّة استهلاكيّة مسطّحة لا عمق فيها ولا معنى. إنّها ثقافة السلعة والتسويق والربح، إنّها توحّد شباب العالم على قيم الاستهلاك واللذّة، إنّها ثقافة الأزياء، والمأكولات، و”البيتزا”، والمياه الغازيّة، والأفلام الإباحيّة، وأغاني “مادونا”، و”مايكل جاكسون”، وملابس الجينز، وماركات “كلفن كلاين”، و”بينيتون”، و”التيتانك”، وحرب النجوم” ([15]).

لقد “أصبح المشروع الثقافيّ الغربيّ رهين الإمبراطوريّات السمعيّة والبصريّة وسجين إرادتها؛ واستطاعت هذه الإمبراطوريّات بما تمتلك عليه من نفوذ وقوّة وسلطة، أن تأسر البشر وتسحرهم عبر ” تكنولوجيا الإثارة والتشويق ” وأن تعمل بصورة مستمرّة متواترة على وأد حاسّة النقد لدى المتلقّي الّذي يجد نفسه في نهاية المطاف مروّضاً على قبول جميع القيم الاستهلاكيّة لثقافة العولمة دون اعتراض عقليّ أو ممانعة نفسيّة “([16]). هذا التأثير الترويضيّ على خطورته يتضاءل أمام المخاطر الّتي تتمثّل في قدرة هذه التكنولوجيا على محاصرة البشر في واقع افتراضيّ لا صلة له بالحياة أو مع الحياة. وبالتّالي فإنّ هذا الواقع الافتراضيّ يضعنا أمام كابوس إنسانيّ” يتحوّل فيه الإنسان إلى رأس تنمو منه مجموعة من الأطراف الضامرة، ويتغذّى ويتحرّك بواسطة الآلة، هذا إذا ما كان لا يزال بحاجة إلى الحركة، إذ من الممكن أن يكون الواقع كلّه قد آل إلى افتراضي، كما يتصوّر فيلم الخيال العلميّ ماتريكس (المصفوفة ([17]).

في العشرينات من القرن العشرين كانت ثقافة المتعة والاستهلاك ثقافة خاصّة بفئة من أبناء الطبقة الاجتماعيّة الثريّة في أمريكا، ولكنّها اليوم تحوّلت إلى طابع ثقافيّ عامّ في مختلف مستويات الحياة الثقافيّة الجارية في مختلف المجتمعات المعاصرة. فما بعد الحداثة يمثّل اليوم إمبراطوريّة القيم الأداتيّة، حيث تأخذ الأشياء قيمتها وفقاً لمعيار الاستهلاك وتحقيق اللذّة والمتعة. وهنا وفي دائرة هذه الثقافة الجديدة نجد معياراً واحداً قوامه أن تتمثّل قيمة كلّ الأشياء في قابليّتها للاستهلاك السريع وتوفير المتعة السريعة، وهذا المعيار ينسحب في جدواه على مختلف المظاهر بدءاً من الكتب والأفلام والموسيقى، مروراً بالعمل والإنتاج، وانتهاء بكلّ مظاهر الحياة الثقافيّة ومستلزماتها. فالأشياء ومن أجل أن تكتسب قيمتها يجب أن تكون وفقاً لمعايير الاستهلاك القائمة مثيرة ممتعة سريعة وافية وقتيّة وعابرة.

وعندما نركّز اهتمامنا حول ما يجري حولنا سنجد حضوراً صارخاً لنزعة لذويّة شبقيّة متقدّمة تلهبها دورة إعلاميّة مسعورة دافعة إلى قيم الاستهلاك والمتعة والسطوة. وفي دائرة هذا الجنون الاستهلاكيّ والنزعة الرغبويّة الشبقة يفقد كلّ نشاط أو فعل يعتمد على التأمّل والتعقّل والنظر والصبر والانتظار قيمته ودلالته ومعناه. وهذا يعني أنّ كلّ النشاطات الإنسانيّة الّتي لا ترتبط بالاستهلاك واللذّة والسرعة تصبح مدعاة للسخرية والازدراء والاحتقار. وهذا الانحسار القيميّ يشمل اليوم كلّ صيغ التربية التقليديّة وكلّ معاني الثقافة التقليديّة القائمة على معايير إنسانيّة سامية ومختلفة.

وفي هذا السياق يمكن القول بأنّ ثقافة العولمة بوصفها مرحلة ما بعد حداثيّة” تُفيلق الفرد وتنظّمه في طرازات ذوقيّة استهلاكيّة ترتفع فيها قيمة السلعة من قيمة استعماليّة إلى قيمة مادّيّة بحدّ ذاتها فتُقتنى لأجلها. وبكلام آخر فإنّها تكيّف الفرد وفق نمط واحد، وبعد واحد، وتتغلغل صنميّة السلعة إلى تلك المناطق من الخيال ولنفس الّتي اعتبرت دائماً منذ الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة معقلاً أخيراً يستحيل اختراقه على المنطق الأداتيّ لرأس المال” ([18]). وهذا وتعتمد ثقافة العولمة “إغراءات لا تقاوم تجعل البعض يتقبّل بسهولة ضغط العولمة، أو يطالب من تلقاء نفسه بإحدى منافعها الظاهرة” ([19]). ومثال ذلك إغراءات الحاسوب الّتي تتمثّل في برامج وألعاب ومعلومات مذهلة للعقل الإنسانيّ. وهناك تأثيرات الصوت والصورة والإنترنيت والأغاني والأفلام المدمجة الّتي تسحر العقل، وتستلبّ لبّ الإنسان بما تمتلك عليه من قدرة وسحر وشاعريّة وإبداع. وهناك التكنولوجيا المذهلة الّتي تخلب العقل، وتستلبّ الوعي بما فيها من غرائب وعجائب وهلوسة، وهذا عداك عن سحر الصورة التلفزيونيّة وقدرتها المدمّرة للعقل في استهواء النفوس والقلوب وتشكيل الأذواق.

4- مظاهر التشيّؤ:

يقول ماركس “إنّ الرأسماليّة ستجعل كلّ الأشياء سلعاً: الدين والفنّ والأدب وستسلبها قداستها. – كارل ماركس” وقد صدق تنبّؤ ماركس فالتشيّؤ يحيط بكلّ مظاهر الحياة والوجود في المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة، إذ يتمّ تسليع كلّ شيء وتحويله إلى منتج، ويشمل ذلك مختلف مظاهر الوجود: الطبيعيّة والإنسان الزواج والحبّ والأدب والشعر والعلاقات العائليّة، وقد اقتحم هذا التشيّؤ كلّ أشكال الإيمان مخترقاً أصعب مستوياته الّتي تتمثّل في العقائد الدنيّة الصلبة.

ومن الواضح أنّ الأمر الأوّل الّذي حوّل إلى أداة أو شيء هو العلم الّذي تحوّل إلى قوّة أداتيّة جبّارة وظّفت في استلاب الطبيعيّة والإنسان. وممّا لا ريب فيه أنّ العلم والمعرفة العلميّة والعلوم قد تحوّلت إلى طاقة جبّارة مفرغة من المعاني تهدف إلى السيطرة والضبط والقوّة.

واقتحم التشيّؤ عالم الرياضة، وقد تحوّل هذا العالم إلى سوق ضخمة جبّارة يباع فيها كلّ شيء يتعلّق بالجسد والقوّة واللعب. وفي هذه النخاسة الرياضيّة يتمّ بيع اللاعبين وتحديد أسعارهم بصورة مستمرّة ودائمة. ومن الواضح أنّ هذا القطاع قد أصبح جزءاً أصيلاً في عمليّة التشيّؤ الإنسانيّ؛ إذ يخضع اليوم بصورة كلّيّة لقوانين العرض والطلب والتسويق والتسليع، وقد فقد البعد الإنسان الكامن في تحقيق التفاعل الإنسانيّ والتكامل الأخلاق.

وقد أشرنا كثيراً إلى ظاهرة تشيؤ الفنّ والأدب وتحويلهما إلى قوّة استلابيّة تمارس دورها في الماكينات الاغترابيّة في المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة، ومن الكارثيّ اليوم أن يفقد الأدب والفنّ والشعر قيمته الإنسانيّة، وأن يتحوّل من قوّة تحرير للروح والقلب والعقل والضمير إلى قوّة استعباديّة تمارس فعاليّة القهر والإكراه في خدمة الأنظمة الاجتماعيّة الرأسماليّة السائدة.

ومن أخطر مظاهر التشيّؤ في المجتمعات المعاصرة يتمثّل فيما تتعرّض له المرأة اليوم من فعاليّات اغترابيّة استلابيّة مستمرّة تدفعها إلى مستنقع التشيّؤ والعدميّة. لقد وظّفت الرأسماليّة تشيؤ المرأة كأداة جبّارة في استلاب الوعي الجمعيّ في المجتمع. وقد أصبح جسد المرأة يعامل على أنّه شيء، وينظر إلى المرأة بوصفها طاقة جنسيّة محرّضة على الاستهلاك. ولا ريب أنّ معظم الدعايات الإعلانيّة ترتبط بجسد المرأة الّذي أصبح أخطر عنوان لاغتراب الإنسانيّة والإنسان. والأدهى من كلّه الأمر الّذي يتعلّق بتجارة الجنس وتجارة القاصرات الّتي انتشرت كالنار في الهشيم في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة في المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة. ويلاحظ في هذا السياق ظاهرة انتشار صالونات التجميل وعمليّاته بطريقة فائقة في هذه المجتمعات، ويتّضح أنّ المجتمع بدأ يتعامل مع جسد المرأة بطريقة يمكن تعديله وتطويره وتصنيعه كما يجري في عالم الأشياء. ويتّضح ذلك بوضوح في أحد الإعلانات الّتي تصوّر امرأتين ورجلاً يقرّر: “هل يدفع زوجته الحاليّة للذهاب إلى طبيب التجميل أم يستبدل بها امرأة ثانية؟”. وعلى هذه الصورة تأخذ المرّة صورتها في المجتمعات الرأسماليّة على أنّها طاقة جنسيّة وجسد يلبّي احتياجات الرجل؛ وعلى هذا النحو فقدت المرأة قيمتها الإنسانيّة الأخلاقيّة بوصفها أمّاً وزوجة وإنسانة، وفقدت الدلالة العاطفيّة الّتي تتمثّل في أنّ المرأة هي مصدر أجمل العواطف وأبل المشاعر وأقدس الأمنيّات. ويمكن القول في هذا السياق: إن تشيؤ المرأة يعود إلى ممارسة الضغط الإعلاميّ الّذي يقدّمها سواء عن طريق التلفزيون أو الصحف أو الكتب أو وسائل التواصل الاجتماعيّ على أنّها قوّة مشيئة وسلعة قابلة للتطوير والاستهلاك. ومن المناسب هنا أنّ جسد المرأة شكل، وما زال يشكّل أهمّ عوامل التسليع والترويج للسلع في العالم المعاصر. فالمعلن عندما يضع إعلاناً لبيع أيّ شيء تقريباً يربطه بجسدها، وربّما بأكثر مناطق الجسد إثارة وتحريضاً وخصوصيّة.

ومن المدهش أنّ التشيّؤ قد توغّل وأحكم قبضته على أنظمة التعليم والتفكير، وقد تحوّلت المدارس والجامعات إلى أسواق رأسماليّة كبرى تباع فيها المعرفة وَتُشْرَى بوصفها سلعاً رأسماليّة. وما يجري في عالم التربية يتجانس إلى حدّ كبير مع فعاليّات السوق والماركة والعرض والطلب. والأموال تشتري الشهادات العلميّة، وتباع الشهادات والبحوث والدراسات في الأسواق الرأسماليّة التربويّة الرائجة. ومن اليقين أنّ معظم ما يجري في عالم المدرسة يجري وفق قوانين التسليع الرأسماليّ. ومن يتأمّل سيجد بأنّ التعليم في معظم البلدان بدأ يرتبط ببرامج البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ وهي أخطر المؤسّسات الماليّة الرأسماليّة الّتي تعمل على توظيف التعليم رأسماليّاً في خدمة الإنتاج الرأسماليّ. ومن المؤكّد أنّ هذه المنظّمات الماليّة تعمل على توجيه التعليم رأسماليّاً وتحويل برامج ومناهج المدارس بما يخدم المجتمع الرأسماليّ ومتطلّباته الصناعيّة الإنتاجيّة والاستهلاكيّة.

ومن المهمّ في هذا المجال الإشارة إلى عمليّة التشيّؤ طغت لتشمل مختلف القيم الإنسانيّة، وقد تحوّلت القيم في معترك المجتمع الصناعيّ إلى قيم مشيئة ‘إذ فرغت من ومض دلالاتها الإنسانيّة الروحيّة والأخلاقيّة. وعلى هذه الصورة الاغترابيّة أصبحت القيم الإنسانيّة ترتبط بالمنافع، فكلّ ما ينفع هو حقيقيّ ذو قيمة، وكلّ ما لا ينفع ليس له قيمة في سوق النخاسة الرأسماليّ. وأصبح الإنسان بكلّيّته يقيم بما يملكه من سلع وبما ينتجه في عالم السلع. ونجد تأكيداً لهذا التصوّر فيما قاله ماركس يوماً: «إنّ سائر القيم تحوّلت إلى مجرّد قيمة تبادليّة نفعيّة» وها هو هابرماس بدوره يقرّ ” بأنّ القيم الإنسانيّة في ظلّ الحداثة الغربيّة تحوّلت إلى سلعة تباع، وَتُشْرَى، وأصبحت السيادة لوسائل الإنتاج وعلاقاته؛ لذا أضحت القيم خالية من كلّ معنى” ([20]).

5- فنّ التشيؤ:

يصاغ مفهوم التسليع في صورته في اللغة الإنكليزيّة بكلمة (Commodification) ويعني تحويل الأشياء إلى بضاعة (merchandise) تباع وَتُشْرَى في السواق، والتسليع يقابل التشيّؤ مفهوم (Reification) وهذا يعني أنّ التسليع هو تحويل الأشياء إلى سلع أيّ إلى أشياء خاضعة لقوانين التسوّق الرأسماليّ ولاسيّما قانونيّ العرض والطلب والقيمة التبادليّة والقيمة الرمزيّة. والتسليع يؤدّي إلى تحييد العالم والنظر إليه بوصفه كياناً مادّيّاً استعماليّاً لا يرتبط بأيّ مشاعر أو غايات إنسانيّة. وعندما يتحوّل الإنسان إلى سلعة، فإنّه يتشيّأ أو لنقل أنّه عندما يتشيّأ يتحوّل إلى مجرّد سلعة تخضع لقانوينة النخاسة الرأسماليّ.

عملت الرأسماليّة الجديدة على تحويل العالم إلى أشياء، وقد شمل هذا التحويل الفكر والثقافة والإنسان والدين والأدب والأخلاق فجعلت منه عالماً مجرّداً من القيم والأخلاق والروح الإنسانيّة، ولم تبق في عالمنا إلّا قيم الربح والنفوذ والهيمنة والسيطرة. ولا ريب أنّ الرأسماليّة تشكّل بطبيعتها عالماً متشيّئاً، وهي تعمل بذاتها وبصورة عفويّة إلى تحويل كلّ مظاهر الوجود إلى أشياء. فالعالم وفق المنظور الرأسماليّ يجب تحويله إلى أشياء إلى سلع تباع وَتُشْرَى من أجل غاية واحدة هي تعظيم الأرباح المادّيّة وتمجيد قيمة التملّك والتسلّط والاستهلاك والإنتاج.

وفي دورة التشيّؤ هذه عملت الرأسماليّة على تشييء الوعي والفكر والثقافة وتحويل هذه الظواهر المعنويّة إلى سلع، أو إلى قوّة سلعيّة توظّف في خدمة التسليع الرأسماليّ الّذي لا يقف عند حدود. ويرى ليوتارد في كتابه المعروف “حالة ما بعد الحداثة” (1979) أنّ المعرفة لم تعد حاجة روحيّة كما كانت في العصور السابقة، بل أصبحت سلعة كباقي السلع تخضع لقوانين التسليع الرأسماليّ، أي أنّها تُشْتَرَى، وتباع في السواق شأنها شأن السلع المادّيّة الأخرى. ومن الواضح أنّ التكنولوجيّات الجديدة جعلت المعرفة في أرقى أشكالها مجرّد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب في الأسواق الرأسماليّة. ويشير ليوتارد في هذا السياق إلى أنّ السلعة اكتسبت بعداً جديداً يتمثّل بالقيمة الدلاليّة مثل “الماركة” وغيرها. وهذه القيمة الجديدة هي الأهمّ، وعلى أساسها يعمل مجتمع الاستهلاك ما بعد الحداثيّ، وتتمحور حولها العلاقات الإنسانيّة والحياة العصريّة؛ وعلى هذا الأساس يتّضح لدينا أن لم يبق من سحر الحياة وجمالها إلّا صوت البارود والنار.

ولم تقف حركة التسليع عند حدود الثقافة والمعرفة، بل اتّجهت إلى اغتصاب الفنّ والأدب والشعر والموسيقى والآداب الّتي تحوّلت إلى مجرّد وسائل وأدوات وسلع تباع أيضاً في السوق الرأسماليّة، والأخطر من ذلك كلّه أنّ النظام الرأسماليّ المتوحّش حول الطاقة الروحيّة للأدب والفنّ من قوّة تحرير للإنسان إلى قوّة فتّاكة في تعظيم الروح السلعيّة للمجتمع الرأسماليّ. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جهود كلّ من أدورنو وهوركهايمر في كتابهما “جدل التنوير” الذيّ يتضمّن تناولاً قيماً لوضعيّة تشيؤ الفنّ والإبداع والثقافيّة، وفيه يصفّان الكيفيّات الّتي انحطّ فيها العمل الفنّيّ في ظلّ المجتمع الصناعيّ، وتحوّل إلى سلعة، وفي الوقت نفسه إلى أداة لترسيخ نظام التشيّؤ في المجتمع الرأسماليّ، وفي ظلّ هذا النظام المدمّر فقد كلّ من الأدب والفنّ قيمته الإنسانيّة وقدرته على التأثير الخلّاق قلوب البشر، وفي عواطفهم وميولهم. لقد تحوّل الفنّ في دورة التوحّش الرأسماليّ إلى سلعة رخيصة شأنها شأن السلع المادّيّة الاستهلاكيّة تستهلك للتسلية وتسطيح الوعي وتدمير الأعماق الإنسانيّة، وعلى هذا النحو فقد الأدب وظيفته الأخلاقيّة، ودُمِّر الدور الروحيّ للفنّ الّذي يفترض به أن يوقظ الروح الإنسانيّة لا أن يشوّه معالمها ([21]). وعلى هذه الصورة أدّى تسليع الإنسان العمليّة الّتي أزاحت الإنسان عن مركزه في الكون، فانتقلت به من صورته الغائيّة إلى صورته الأداتيّة، وهذا يعني أنّ الإنسان أصبح شيئاً أو أداة أو وسيلة بعد أن كان غاية وروح وفكراً وعقلاً، وهذا التحوّل يمثّل جوهر التشيّؤ الإنسانيّ.

ولم يقف التسليع عند حدود التشيّؤ المادّيّ الخارجيّ للإنسان بوصفه قوّة عمل فحسب، بل تغوّل هذا التسليع ليستولي على العالم الداخليّ للإنسان، فنفذ إلى أعمق تكويناته الروحيّة والأخلاقيّة ليستولي على عقله وروحه ومشاعره الإنسانيّة الدفينة، فجعل من هذه السمات الروحيّة قوّة استهلاكيّة تسعى إلى تحقيق الإشباع اللذويّ الخالص الّذي يتعلّق بالجنس والمخدّرات والجريمة والمال والربح والسيطرة. وعلى هذا النحو تبدّدت أحلام الإنسان الأخلاقيّة، وتعطّلت معه نوازعه الروحيّة، وخبّت فيه المثل الإنسانيّة فتحوّل إلى وحش استهلاكيّ داجن مدجّن بالعنف مهووس بالرغبة مخبول بالجشع والاستهلاك مجبول على قيم الحيازة والسيطرة.

ومن مظاهر ذلك ودلالاته الّتي نعيشها اليوم: “ظاهرة التسليع الّتي شملت حتّى البشر – بيع وشراء لاعبي الكرة المحترفين مثالاً – ووقوع الناس تحت سيطرة الميول الاستهلاكيّة والشركات الكبرى، وانحيازهم لجانب الثورة المعلوماتيّة وقنوات التواصل الاجتماعيّ. وتأتي قمّة التشيّؤ؛ في تحوّل الإنسان في حدّ ذاته إلى رقم مجرّد. إنّ الدلالة الممكنة لمعرفة الشخص نفسه أو التعرّف عليه من غيره من اليوم فصاعداً؛ هي في الأرقام الّتي تمثّله، وليس في شكله، أو اسمه، أو عرقه وفصيلته” ([22]).

وفي ظلّ هذا التشيّؤ أصبحنا اليوم نعيش في عالم “أصبح فيه المؤقّت مركزيّاً، نعيش حياة مؤقّتة، وأعمالاً مؤقّتة، وعلاقات مؤقّتة، وزواجاً مؤقّتاً، وسكناً مؤقّتاً، كلّ ما نستخدمه أيضاً في حياتنا اليوميّة أصبح مؤقّتاً كالمناديل الورقيّة والأكياس والأكواب والملاعق البلاستيكيّة، لا شيء يحمل علامة، لا شيء يحمل معنى؛ لأنّ كلّ شيء زائل، فقد تحوّل الانتباه الثقافيّ المعاصر من الكينونة أو الوجود في العالم إلى السيرورة أو العبور في العالم، إنّه عالم العابر والمؤقّت”([23]). وهذا العبور المؤقّت يمثّل سمة تجاريّة تدول على زواليّة السلعة في العالم الرأسماليّة؛ لأنّ الزوال قانون تجاريّ سلعيّ مركزيّ في النظام الرأسماليّ، ومثال ذلك أنّه لا توجد سلعة منتجة ما يحدّد لها تاريخ التصنيع وتاريخ الصلاحيّة، لأنّ الديمومة في الأشياء أمر مضادّ لطبيعة الاستهلاك واستمراريّة الاستثمار في الإنتاج والتصنيع والاستهلاك.

6- خاتمة:

في زمن التشيّؤ تحوّل العلم إلى صناعة، واتّخذت المعرفة هيئتها في التجارة، وتحوّلت الثقافة إلى اقتصاد والتربية إلى ربح وفساد، وأصبحت المعرفة والثقافة احتكاراً للشركات الرأسماليّة الكبرى، وأصبح العلم رهين من يمتلك القدرة على شراء الشهادات، وأصبحت المعرفة أداة للسيطرة الاقتصاديّة، وها هي الشركات الاحتكاريّة الكبرى تتنافس في مجال المعلوماتيّة فيما بينها على تصنيع المعلومات، “وتصبح أسماء IBM، Macintosh لا تقلّ أهمّيّة عن الشركات العابرة للقارّات المتعدّدة الجنسيّات في الإنتاج الصناعيّ Mitsubishi, Panasonic, Sanyo, Sony، نيسان، هوندا، تويوتا، وتختلط أسماء العربات مع أسماء شركات أجهزة المعلومات، كلاهما إنتاج وتصنيع، لا فرق بين صناعة الذهن وصناعة السيّارة، بين صناعة العلم والصناعات الاستهلاكيّة، الكلّ يسعى إلى الربح والسيطرة على الأسواق لا فرق بين الأذهان والأبدان، بين الاستهلاك المعرفة واستهلاك السلع” ([24]) .

في هذا الزمن الموحش،  لم يعد هناك شيء محظور إذ هو عالم البيع والشراء ، فكل الأشياء تباع وَتُشْرَى :  الجسد الروح المعنى الفنّ الأدب الموسيقا. وفي هذا العالم المختنق بقيم الربح والاستهلاك يفقد الناس خصوصيّتهم وكرامتهم، وتتحوّل حياتهم الخاصّة إلى سلع رغماً عنهم، فالناس يراقبون بوسائل التنصّت ويحاصرون بالتصوير، ولم تعد هناك حصانة أو أسرار. إذ لم تبق هناك حرمة أمام أجهزة الإعلام ووسائل الاتّصال الحديثة، كلّ شيء عرضة للاتّجار للإعلام. والشركات الكبرى تنفق اليوم بلايين الدولارات للسيطرة على الفكر وصناعة الثقافة وتصنيع الرأي العامّ وتشكيل المعتقدات وتدمير الفكر الإنسانيّ المضادّ لوضعيّة الاغتراب، وأصبحت القيم مخلوعة من جذورها مقلوبة في تشكيلها مغلوبة على أمرها: “فالرأسماليّة حرّيّة، والاستغلال منافسة، والاحتكار تجارة، والربح عرض وطلب، ورأس المال الأجنبيّ عمّالة، والاستهلاك تسويق، والإنتاج وفرة، وحماية الصناعات الوطنيّة انغلاق. والخصخصة انفتاح، والدولة تطغى على المجتمع المدنيّ، والمجتمع المدنيّ بديل عن الدولة، كما تركّز رأس المال في الشركات العابرة للقارّات كذلك تركّز الإعلام في المراكز الاقتصاديّة والقوى السياسيّة نفسها لا فرق بين رأس المال والقوّة الكبرى والقمر الصناعيّ” ([25]).

وعلى هذه الصورة يقال إنّ الإنسان قد تشيّأ “زومبياً” : جسد بلا روح !!! وهو الزمن الرأسماليّ  الذي لم ولن يقف عد حدود  تشيؤ الجسد والعمل والقيم، بل استطال هذا التشيّؤ وامتدّ ليسكن الروح الّتي فارقت عالم المعاني، واشتطّت هبوطاً في عالم الأشياء، وقد أصبحنا أرواحاً هائمة في عالم الأشياء، أرواح تباع وَتُشْرَى كما هي الدمى وألعاب الأطفال. وقد لا نبالغ بأنّ الكائن البشريّ في هذا الزمن الصعب قد تحوّل كائن “زومبي” أجساد بلا أرواح تهيم في عالم لا روح فيه، وتلك هي الحقيقة الّتي عبّر عنها طاغور في قوله الشهير: ” إنّ الحضارة المادّيّة ستخسر كلّ شيء إذا فقدت روحها، وأنّ البشريّة ستصبح مهدّدة بالفناء في ظلّ جسد بلا روح، وعندما تصبح الحضارة بلا قلب، فإنّها ستفقد أهمّ مقوّمات الحياة ([26]). ونستطيع أن نردّد مع طاغور بأنّ الحياة في الزمن الرأسماليّ فقدت المعنى والقلب والروح، بل نزيد على طاغور بالقول إن الحضارة المعاصرة أصبحت حضارة زومبية يعيش فيها الناس أجساداً بلا أرواح أو أرواحاً هائمة في عالم الأشياء ، ولم يبق للإنسان إلّا الأمل إذ كان الأمل ما زال باقياً في صندوق باندورا المكسور.

هوامش المقالة ومراجعها :


[1] – الزومبي أو الموتى الأحياء (Zombie)‏ هو الجثة المتحركة التي أثارتها وسائل سحرية من الساحرات أو حدث خطأ بالعقل وغالبا ما يطبق هذا المصطلح غير الحقيقي لوصف شخص منوم مجرد من الوعي الذاتي. يأتي المصطلح من الفولكلور الهايتيّ حيث الزومبي هو جسد ميت يتم إحياؤه بطرق مختلفة معظمها تنطوي على السحر.

([2])  – عدنان عويّد، التشيؤ، الأربعاء، تلاسكف، 1 أكتوبر 2018. https://www.tellskuf.com/index.php/authors/1111-add/77944-cb178.html

([3]) – ستيفن إريك برونر، النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة سارة عادل،   مراجعة مصطفى محمد فؤاد ،  القاهرة ، مؤسسة هنداوي  للنشر والتوزيع ، 2016 . ص 43 . 

([4]) – Martha C. Nussbaum, Objectification ,  Philosophy & Public Affairs,  Vol. 24, No. 4 (Autumn, 1995), pp. 249-291. https://www.mit.edu/~shaslang/mprg/nussbaumO.pdf

([5])Rae Langton, Sexual Solipsism: Philosophical Essays on Pornography and Objectification, Oxford, GB: Oxford University Press (2009). https://web.mit.edu/langton/www/pubs/SexualSolipsism.pdf  

([6]) –  عبدالوهاب المسيري، “التشيؤ” وما بعد الحداثة، مجلة العربي الكويتية، العدد 464. 19-3-2024. https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/3453

([7])  – عبد الغفار مكاوي ، تجارب فلسفية ، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، 2020 .  ص   95 .

([8])  – محمود حيدر، وثن التّقنيّة وعبادة الشّيء، فصليّة «الاستغراب »، العدد الخامس عشر، السّنة الرّابعة، ربيع 2019 . 

([9]) – ستيفن إريك برونر، النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة سارة عادل،   مراجعة مصطفى محمد فؤاد ،  القاهرة ، مؤسسة هنداوي  للنشر والتوزيع ، 2016 . ص 45 . 

([10])  – أنجيل الشاعر ، الاستلاب في ظل العولمة: كيف أفقر الإنسان نفسه؟ حفريات ، 29-10-2023 . https://bitly.ws/3frRI

([11]) – وحيد عبد المجيد، الرأسمالية.. وظاهرة التشيؤ في المجتمعات الحديثة، آفاق اجتماعية – العدد الثاني – أغسطس 2020، صص 1-5. ص 4.

([12]) – وحيد عبد المجيد، الرأسماليةـ  المرجع السابق ، ص 4.

([13])- عبد الله أبو راشد، العولمة: إشكالية المصطلح ودلالته في الأدبيات المعاصرة، معلومات دولية، العدد 58، خريف 1998، صص 19-25، ص 23.

([14]) – Hannah Arendt, La Condition de l’homme moderne, Broché – 15 octobre 2002.

([15])- عبد الخالق عبد الله، عبد الخالق عبد الله، العولمة جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها، عالم الفكر، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر 1999. صص 79-80.

([16])- عبد الإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1998، ص121.

([17])- – كفاح الفني، طفل الفضاء الافتراضي وهمهمات في أذن المستقبل ،التكنولوجيا أداة لصياغة الهوية في بعد معرفي تحرري، مركز القطان، موقع إليكتروني. http://www.qattanfoundation.org/pdf/1564_24.doc.

([18])- محمد جمال باروت، الدولة والنهضة والحداثة، مراجعات نقدية، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2000، ص 129.

([19])- عبد الله الخياري، التعليم وتحديات العولمة، فكر ونقد، عدد 12، السنة الثانية، أكتوبر، 1998، صص 45-82،ص 45.

([20]) – عماد الدين عبد الرزاق، الحداثة الغربية وتشيؤ القيم، المجلد 16، العدد 62 (30 سبتمبر/أيلول 2018)، ص ص. 291-300، ص 292.

([21])  – عبد الغفار مكاوي ،  النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، 2017. ص  20. 

([22])  – حمّاد السالمي  ، تشييء «الناس»؟! الجزيرة ، الأحد 14 اغسطس 2016 . https://www.al-jazirah.com/2016/20160814/ar2.htm 

([23]) – وائل فاروق ، ديمقراطية العدم .. ما بعد الحداثة تلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصائر الأمم ، مجلة الفيصل ، العددان 499-500 ، مايو /يونيو ، 2018 ، (صص 68-78) ، ص 72.

([24])  – حسن حنفي ،  ثورة المعلومات بين الواقع والأسطورة ، ضمن أعمال : المجلس الأعلى للغة العربية  (2007) ندوة الطريق إلى مجتمع المعرفة وأهمية نشرها باللغة العربية المنعقدة بالجزائر يومي:13 و 14 نوفمبر 2007 . 

([25]) – حسن حنفي ،  ثورة المعلومات بين الواقع والأسطورة  ، المرجع السابق .

( )[26]  مجدي عزيز إبراهيم، المنهج التربوي العالمي، أسس تصميم منهج تربوي في ضوء التنوع الثقافي، مكتبة الأنجلو مصرية القاهرة 2001، ص 232.

______________
*عليّ أسعد وطفة/ كلّيّة التربية – جامعة الكويت.

وسوم:

اترك رد

جديدنا