الأسس المفاهيمية والتقنية للذكاء الاصطناعي وتطوره

image_pdf

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الأسس المفاهيمية والتقنية للذكاء الاصطناعي وتطوره – من نماذج الحوسبية إلى التعلم الآلي، من تأليف الباحث غزة عبد الرزاق. وهو كتاب فريد في موضوعه، كثيف في مادته، دقيق في سبره التاريخي، متألق في مقارباته، مفصِّل في شرحه، وسط بين القارئ الأكاديمي والمثقف. تتركز أقسامه الستة التي حوت اثنين وعشرين فصلًا على بحث ظاهرةٍ شغلت الغرب منذ بدايات ثلاثينيات القرن العشرين ولا تزال تثير جدلًا واسعًا، رغم بلوغها، عند أعتاب القرن الحادي والعشرين، شأوًا عظيمًا، يطمح المركز العربي للأبحاث، بنقلها إلى القارئ العربي، إلى أن يستفيد منها عالمنا العربي لا بعجرها وبجرها، بل بما يناسب تاريخنا العلمي الحافل الذي وإن خبت ترجمته على أرض الواقع منذ أن تراجعت هذه الأمة عن مصافّ القيادة في العالم، فإنه لا يزال كنزًا مخبوءًا يحتاج إلى من يستخرجه ليمضي في تطوير علم ذكاءٍ اصطناعي ذي هوية عربية. يقع الكتاب في 448 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

الذكاء الاصطناعي والعلوم

إن العلاقة وثيقة بين كل من الرياضيات والفلسفة والمنطق والذكاء الاصطناعي، وقد واجهت الرياضيات بدايةَ القرن العشرين “أزمةَ أسس” هددت مبناها، بسبب تمديد “نظرية المجموعات” العدَّ المنتهي إلى ما لا نهاية، فصاغ عالم الرياضيات ديفيد هيلبرت برنامجًا يميِّز بين نحو اللغة الشكلية للرياضيات ودلالاتها (سيمنطيقاها)، فتراجعت “الأكسمة” (الدراسة النقدية لمبادئ البرهنة الرياضية) لمصلحة إظهار خصائص الرياضيات المنطقية مجردة من كل محتوى تمثيلي، مفترضًا (هيلبرت) إمكان إثبات الحقائق الرياضية بخطوات محدودة.

تكون مجموعة قابلة للتقرير إذا كان ثمة خوارزميةٌ تحدد انتماء كيانٍ ما ميكانيكيًّا إليها من عدمه بالإجابة بـ “صواب” أو “خطأ”، وكان هيلبرت مهووسًا بمسائل الرياضيات التي لم تستطع إيجاد حل، فطرح إشكاليةَ “هل توجد مشكلة رياضية لا يمكن إثباتها بتقديم خوارزميةٍ ما إجابةً بـ ’نعم‘ أو ’لا‘”؟

البداية مع تورينغ

إن تحديد المشكلات القابلة للحساب سؤال صعب، وقد اقترح عالم الرياضيات الإنكليزي آلن تورينغ لحلّه في الثلاثينيات آلة لهيكلة التفكير تستخدم شريطًا لانهائيًّا (ذاكرة غير محدودة) لإدخال المعطيات وحلّ المشكلات، وتمكنها محاكاة أشكال الفكر البشري والتعبير عنه بلغة. وقد تميزت آلة تورينغ بفكرة ثورية، وهي تخزين المعطيات والقدرة على استرجاعها وتعديلها. وبناءً على عمل تورينغ طوّر فون نيومان في عام 1945 أول حاسوب تُخزَّن برامجه في ذاكرة. كان تورينغ أيضًا واضعَ فكرة “التفكير الرقمي” للحاسوب، موضحًا، في مقالة فلسفية له بعنوان “آلات الحوسبة والذكاء” (عام 1950)، أُسسَ المفاهيم المركزية للذكاء الاصطناعي بعده، بالاشتراك مع علوم الاتصال والتحكم الآلي والسيبرانية (التي عرفت فورة غير مسبوقة بسبب مزاوجتها بين تحليل الأنظمة البشرية، كالمخ والخلايا وغيرها، والمعلومة).

في عام 1956، نُظّمت أول ندوة للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة الأميركية برعاية عالم الرياضيات كلود شانون بهدف استكشاف إمكانية محاكاة آليات التعلم والذكاء البشري بطريقة معلوماتية، واتضحت بعده ملامح أنموذجين رئيسين للذكاء الاصطناعي:

  • الحوسبية الرمزية: أنموذج ينظر إلى الذكاء بصفته حسابًا بالرموز على قواعد شكلية صريحة.
  • الترابطية العصبية: أنموذج يعود إلى وارن ماكولوتش ووالتر بيتس، ويرتكز على فكرة أن الإدراك والسلوك الذكي ينتجان من التفاعل بين وحدات حسابية مختلفة (هي الخلايا العصبية إنسانيًّا).

عقل بشري وموجات ذكاء ثلاث

بناءً عليه، انطلق رواد الموجة الأولى من الذكاء الاصطناعي بفرضية أنه “تمكن محاكاة أي نشاط إنساني بدقة بوساطة آلة”. وهي موجة استمرت حتى السبعينيات، عندما بدأ الاسترشاد بالأنشطة البشرية في مجالات المعلوماتية، ومنه انطلقت الموجة الثانية من الذكاء الاصطناعي على أنظمة قائمة على أنشطة بشرية “ذكية” يومية لأجل تطوير ذكاء اصطناعي يتمتع بقوة العقل البشري.

في السنوات الأخيرة، انتعشت خوارزميات الحوسبية الرمزية مع ظهور “ويب الجيل الثالث”، والشبكة العملاقة التي تجعل التفاعل بين الأشخاص والحواسيب قابلة للتحقيق داخل مجال معرفي معيّن، مع تحدٍّ رئيس يكمن في التأكد من فهم الآلات محتوى الرسائل المتبادَلة كما يفهمها البشر، فقد تمكنت نماذج الحوسبية-الرمزية من التشخيص والحساب الرياضي والمنطقي، لكنها واجهت صعوبات، مثلًا، في التعرف إلى الوجوه، أو قيادة سيارة بدلًا من الإنسان، أو حلّ معضلات النحو اللغوي، وغيرها من الأنشطة الاعتيادية. ولمعالجة هذا التقصير، أدخل الذكاء الاصطناعي علم “الاحتمالات الرياضية” لاستكشافٍ أفضلَ للعالم الخارجي، فلاقت “الآلات المدعمة بمتّجِهات Vectors رواجًا، لتفوّقها في معالجة المعطيات “غير القابلة للفصل خطيًّا”، مثل التعرف إلى الوجوه والحروف والأرقام المكتوبة يدويًّا.

وعرفت الترابطية العصبية تطورًا مهمًّا مع اكتشاف روميلهارت وهينتون ووليامز “الشبكات المتعددة الطبقات” ذات الانتشار العكسي للتدرج، التي تمنح إمكانية تنفيذ عمليات إدخال/ إخراج “غير خطية” على شبكة عصبية متعددة الطبقات، وهي اليوم الأنموذج الأكثر تطبيقًا.

أنتجت خوارزميات التعلم الإحصائي والآلات المدعمة بمتّجِهات الأداء الأكبر في الشبكات العصبية العميقة، وظلّ إنشاء شبكات بأكثر من ثلاث طبقات متعثرًا إلى أن تمكنت مجموعة يان لوكان عام 2011 من تدريب شبكات بطبقات أكثر عن طريق تغيير عمليات “كل خلية” لجعلها أشبه بالخلايا العصبية البيولوجية في طريقة معالجة المعلومات، ما أسفر عن زيادة القوة الحوسبية لأجهزة الحاسوب وألعاب الفيديو، وتوافر قواعد معطيات “ضخمة” ومعماريات “عميقة” في الشبكات أتاحت اختراقات لم يعرفها الإنسان من قبل.

قلبت هذه الشبكات العصبية العميقة، من ناحية أخرى، صرح الأسس الراسخة التي بُني عليها مفهوم العقل، ما حوّل مسألة الذكاء الاصطناعي في موجته الثالثة موضوعًا إشكاليًّا يستدعي نقاشات علمية وإبستيمولوجية وفلسفية وتاريخية، فبرزت مدارس عدةللإجابة عن أسئلة محرجة تسببت فيها نظرية المجموعات، بدأها برتراند راسل في رسالة إلى غوتلوب فريغه يوضح له فيها تناقض فرضياته في تأسيس نظرية الأعداد على المنطق. وشكّلت أسئلة راسل ما أُطلق عليه بعده “مفارقة راسل”، التي تقوم على أسئلة، من قبيل: هل مجموعة المجموعات التي لا تنتمي إلى نفسها تنتمي إلى نفسها؟ إذا أجبنا بنعم، فإنه بحكم التعريف، بما أن أعضاء هذه المجموعة لا ينتمون إلى أنفسهم، فإن هذه المجموعة لا تنتمي إلى نفسها وهذا تناقض. وإذا كان الجواب لا، فإن لهذه المجموعة الخاصية المطلوبة للانتماء إلى نفسها وهذا تناقض مرة أخرى. وأثارت مفارقة راسل مخاوف من أن تكون نظرية المجموعات متناقضة، فظهرت مفارقة كانتور، التي تقول بوجود تقابل بين مجموعتَي الأعداد المفردة والزوجية، ووجود تقادر بين مجموعة نُقط مستوٍ (مسطّح)، لكنّ هذا يتعارض مع المفهوم الهندسي لـ “النقطة” وعلاقتها بـ “الخط المستقيم” و”المربّع”. وقد اصطدمت في مفارقة كانتور مفاهيم حول العدد واللانهائي مع اكتشاف أنواع غير معتادة من المجموعات اللانهائية، ما دفعه إلى توسيع مفهوم العدد الرئيس لتطبيقه على المجموعات اللانهائية، وتحدّث في هذا السياق عن أعداد لانهائية.

ثم وردت مفارقة كورت غودل في إطار تساؤله عن اكتمال مسلّمات الحساب المنطقي وكفايتها لاستنتاج أيّ قضية ذات أهمية للمنطق. ولم تُحلّ هذه المشكلة حتى الآن إلا بالنسبة إلى أبسط القضايا المنطقية. وأكّد غودل في مفارقته أنّ أيّ صيغة صحيحة منطقيًّا يمكن تحصيلها بطريقة الإِثبات الشكلية والمسلّمات الكلاسيكية. وكان استقبال علماء الرياضيات والمنطق لهذه المفارقة جعلها خطوة في حلحلة مفارقة هيلبرت.

هل تستطيع الآلات التفكير مثل البشر؟

تعامل تورينغ في تقاريره ومحاضراته بإصرار مع فكرة إمكان امتلاك الآلات ذكاء بشريًّا. وكان يستكشف هذه المشكلة من خلال اختبارات شعبية للمحاكاة مع معارضي فكرته، يحاول فيها رجل وامرأة مختبئان في غرفتين إقناع الضيوف، بالرد كتابةً على أسئلتهم، بأنّ الواحد منهما هو الآخر. وكان تورينغ يجعل أحيانًا آلة مع بشري تحاول عبر الكتابة إقناع محقق ثالث بأنها هذا البشري، وكانت تنجح في أحيان كثيرة.

لكنّ آلة تورينغ تنتمي إلى المنطق الرياضي، وأريدَ لها في بداية” الحوسبة والذكاء” أن تكون كونية ومتطورة؛ لذلك أوضح أنّ آلاته موضع المناقشة هي حصرًا حواسيب إلكترونية تستبعد التفكير بالمعنى المعتاد، وأنّ حسابها هو من دون ابتكار رياضي، برابط أنّ “الآلة الكونية” تحاكي الشروط الحدسية للحساب عند البشر، وهو أساس انطلاق مسألة “تفكير” الآلة.

كرّس غودل، بعد تورينغ، فكرة العلاقة بين الإجراء الفعلي والدوالّ الارتدادية. وأظهر كليني التكافؤ بين صياغة تشيرش مفهوم القابلية للتعريف في حساب لامدا والارتدادية. وتؤكد “أطروحة تشيرش-تورينغ” أن الدوالّ القابلة للحساب هي التي تحسبها آلة تورينغ، التي تحسب أيّ عدد يمكن أن يحسبه فردٌ بشري.

فهل يمكن القيام بهذا الحساب بالنسبة إلى المجموعة اللانهائية للأعداد القابلة للحساب من طرف بشري؟ يقول هيلبرت إن تطبيق التفكير المنطقي يكون بمعطى مسبَق يمنح التفكير المنطقي الصلابة، ويتعرف بالحدس إلى الموضوعات باعتبارها معطيات لا تقبل الاختزال إلى شيء آخر.

ويلاحظ تورينغ أنّ الحساب البشري ذو سلوك يحدَّد بالرموز التي يلاحظها وبحالته الذهنية الفيزيولوجية والعصبية، ومن ثم، فهو تسلسل منظّم لمجموعة عمليات بسيطة تتغير مع تغير الرمز المقروء والحالة الذهنية. بناءً عليه، يمكن إنشاء تناظر بين عناصر الآلة (الشريط، رأس القراءة الكتابة، الرموز، التشكيلات … إلخ) وعناصر الحساب البشري بوساطة الآلة الكونية، يأخذ شكل محاكاة نفسية تدرك العلامة بوصفها شكلًا.

حظيت آلة تورينغ باهتمام كبير لدى المشتغلين بمسائل “العقل” الاصطناعي. ولم يمنع ذلك تورينغ من مواصلة البحث عن آلة تحاكي فعل الفكر البشري نفسه، وتستطيع حتى خداع الفرد البشري المواجِه لها بأنها من جنسه بسبب انسياقه أولًا إلى التصرف كما لو أنها مثله فعلًا، وثانيًا ببرمجتها لمواجهة فرد بشري بما يفكر فيه معظم البشر، في ردٍّ على اعتراض من يقولون إنّ الآلة تفعل ما هو مطلوب منها، أو حتى ببرمجتها لمحاكاة عقل طفل للوصول إلى عقل بالغ.

لقد جرى تصميم لعبة المحاكاة بطريقة تجعل نجاح الآلة يعني أنها لا تحاكي لحظة معيّنة من السلوك البشري القابل للشَّكْلنة بل السلوك البشري العامّ غير القابل للقولبة. ومن ثم، تصبح الآلة، وفق فرضية ثانية، قادرة على “التعلم” من “التجارب”التي دوّنتها. وحين ظهر الذكاء الاصطناعي في الخمسينيات، كان وفق أطروحة تورينغية لا تزال قائمة إلى اليوم، “أيّ سلوك بشري يمكن وصفه بدقة تمكن محاكاته ببرمجة مناسبة”.

سدَّ كتاب الأسس المفاهيمية والتقنية للذكاء الاصطناعي وتطوره فجوةً مهمّةً في المكتبة العربية. وهو كتاب جليل القيمة، والأملُ معقودٌ في أن يُحدث فورة في تأليفات تالية تكمل ما بدأه، وتوضح ما أبهمه، وتفصّل ما أوجزه لإنجاز نهضة علمية في الوطن العربي تحجز له مكانة الندّ وليس التابع بين الأمم.
_____
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

جديدنا