ديداكتيك الفلسفة لدى ميشيل طوزي

image_pdf

مهاد إشكالي:

يشكل ميشيل طوزي ومن معه المؤسِّسين الفعليين لديداكتيك الفلسفة، في الفترة المعاصرة، حيث حاولوا مجاوزة الإشكاليَّة التقليديَّة بين تعلُّم التفلسف لدى كانط، وتعليم الفلسفة لدى هيغل، بالرغم من أنَّهم يميلون للأطروحة الكانطيَّة في تعلُّم التفلسف، من خلال عنوان الكتاب الشهير لميشيل طوزي Apprendre à philosopher au cours de morale، ما يدلُّ على أنَّ هذا الأخير، من المدافعين على أطروحة تعلُّم التفلسف، إن لم نقل إنه سيعمل على تعميم ذلك، بأن يؤسِّس للقدرات الأساس للدرس الفلسفي (المفهمة، والأشكلة، والمحاجة)، إضافة إلى تحديد الكفايات النوعيَّة الأساسيَّة كذلك للفلسفة والمتمثِّلة في (القراءة الفلسفيَّة، والكتابة الفلسفيَّة، ثم المناقشة الفلسفيَّة)، لذلك سيعمل على هذا التأسيس الفعلي لهذا الديداكتيك الخصوصي بمادة الفلسفة، على غرار الديداكتيك الخاصّ بالمواد الأخرى، وذلك انطلاقًا من ملاحظة وتحليل الممارسات الفصليَّة لأساتذة المادَّة، وكذلك إنتاجات المتعلِّمين، من هنا يمكن خلق حوار ونقاش هادئ جداً بين دعاة ديداكتيك الفلسفة من الداخل الرافضين لكل بيداغوجيا، والمؤيِّدين للطرق والمقاربات البيداغوجيَّة الخارجة عن الفلسفة، من هنا يمكن تحديد مجموعة من الأسئلة المنظّمة الموجَّهة للتحليل والمناقشة والتي تعبر عن إشكالات فلسفيَّة كبرى في ديداكتيك مادة الفلسفة، وهي كالآتي:

ما هي أسس ومرتكزات ديداكتيك التفلسف لدى ميشيل طوزي؟

وما هي القدرات الأساسيَّة أو الكفايات الأساس لتعلم التفلسف لدى ميشيل طوزي (المفهمة، والأشكلة، والمحاجة)؟

ثم ما هي الكفايات النوعيَّة الأساس في ديداكتيك تعلُّم التفلسف لدى ميشيل طوزي (القراءة الفلسفيَّة، والكتابة الفلسفيَّة، والمناقشة الفلسفيَّة)؟

قبل الشروع في الإجابة عن الأسئلة الثلاث أعلاه، أشير أولاً، إلى أن ميشيل طوزي ومن معه، يمكن اعتبارهم من المدافعين عن تعلُّم التفلسف كما عند كانط، أي أنهم يعتبرون أن الغاية من تدريس الفلسفة للمتعلِّمين، ليس هو تعليم الفلسفة، كما النموذج الهيغلي، أي تعليم تاريخ الفلسفة والتعرف على المذاهب والتيارات الفلسفيَّة الكبرى، وحشو ذهن المتعلِّم بمنظومة من المعارف الفلسفيَّة أو جعله متلقيا سلبيًّا للمعارف الفلسفيَّة الكلاسيكيَّة، هكذا بشكل سلبي، بل بالعكس تماماً، فهو يدافع عن المقاربة بالكفايات، هذه المقاربة التي تجعل من المتعلِّم هو محور العمليَّة التعليميَّة التعلميَّة، بل هو المركز والمحور والهدف الرئيس من كل وضعيَّة تربويَّة وتعليميَّة كيفما كانت، ويجب إشراك هذا المتعلم في بناء التعلمات الأساس التي يتلقاها (مع تحفظ على كلمة تلقي)، فبيداغوجيا الكفايات ضد مصطلح التلقِّي، فهي تهتمّ بالبناء وليس التلقِّي، كما تهتمّ بالمتعلِّم على غرار المدرس، كما تهتمّ كثيراً بطرق بناء المعارف، وليس على المعارف، هذه الأخيرة التي تمتلك خاصيَّة النسبيَّة وقابلة للنقد والفحص والتمحيص والمساءلة والمراجعة، وليست بمعارف مطلقة ومثبتة ونهائيَّة وقطعيَّة وكونيَّة ومجرَّدة، هذا مع يصدق على المعرفة الفلسفيَّة، فالفلسفة بذاتها لا تقدِّم نفسها كمعرفة يسهل تحصيلها، بل تقدِّم نفسها كسؤال ومساءلة ونقد ومراجعة وفحص وتمحيص لكل الأفكار والمعارف والمباحث، من هنا يصبح تعلُّم التفلسف متمثِّلا في تنمية المهارات الأساسيَّة لدى المتعلِّم يمكن تخليصها في الأشكلة والمفهمة والمحاجة، هذه السيرورات الثلاث هي التي سيركِّز عليها ميشيل طوزي، بل جعل منها أسس ومرتكزات ديداكتيك التفلسف عنده، وهي كالآتي:

  1. سيرورة المفهمة La conceptualisation  وهي أول مرحلة أو قدرة من القدرات الأساسيَّة للتفكير الفلسفي، يتم من خلالها بناء المفهوم باعتباره الموضوع الأول أو الحجر الأساس في درس الفلسفة، وذلك من خلال العمل على تحديد معنى خاص به، يميِّزه عن باقي المفاهيم الأخرى القريبة منه والمتداخلة معه، أي الانتقال به من الإطار أو حقل التفكير اليومي المتداول العامي بين جميع الناس (لنأخذ مفهوم الحريَّة مثلاً)، وذلك من أجل البحث عن معانيه في حياتنا اليوميَّة، بل حتى الدلالات اللغويَّة له، أو الدلالة المعجميَّة، من خلال البحث عن دلالاته في معاجم اللغة، ثم الانتقال به إلى المعاجم الفلسفيَّة المشهورة، بل وامتدادات ذلك المفهوم إلى الحقول المعرفيَّة الأخرى (سواء اللغويَّة أو العلميَّة أو الاجتماعيَّة أو الثقافيَّة أو الدينيَّة أو الفكريَّة أو السياسيَّة …)، خاصَّة أنَّ المفهوم الفلسفي ليس بذلك المفهوم المنعزل والمنغلق على ذاته بذاته، بل بالعكس تماماً له منفتح على كل الحقول المعرفيَّة الأخرى، فهو يمتد إلى كل الخطابات والنظم الفكريَّة الأخرى، نضيف كذلك إلى أن المفهوم كائن زئبقي، بمعنى أنَّه متحوِّل ومتغير وسائر وصائر ينتقل من حقل لآخر، من التاريخ إلى الجغرافيا، إلى القانون، إلى الدين، إلى الثقافة والفن، …، ممَّا يجعله يتكوَّن وينمو داخل حقل فلسفي معيَّن، كأنَّه يتحوَّل بين عدَّة حقول، ليأتي في الأخير ويركن في الحقل الفلسفي، لكن ما يهمّنا هنا هو لحظة بناء المفهوم في الدرس الفلسفي وهي لحظة أساسيَّة تجعل المتعلِّم يتمكَّن من «التحرُّر الذهني والوجداني من عوائق البداهات المباشرة والأحكام المسبقة والآراء الوثوقيَّة » [1]، وفي الحقيقة هذا هو المهمّ، هو ذلك التحرُّر من كل تلك البداهات الأولى من الأفكار التي دائماً ما تستبق وتلج الذهن، وتصبح لجاما للعقل، وتقيِّد حريَّة التفكير، إن لم نقل إنَّها تقييد وتقويض لكل تفكير، تعرقل المتعلِّم وتجعله يبقى حبيس اليومي والمتداول، وتقتل فيه الرغبة في الإبداع والإنتاج، إذن هذا الانتقال من المعنى البسيط المتداول والشائع إلى المعنى المفكَّر فيه والعالم (بكسر اللام) المتسائل، يشكِّل نوعاً من حركيَّة وصيرورة الفكر، هذا ما يهتدي بنا إلى تكوين نمط العلاقات بين سيرورة الفكر وموضوع الأساس الذي يطرحه، هذه العمليَّة المفهميَّة للموضوعة، من خلال تعريفها وتحديد مفاهيمها الأساس وتقديم تعريف فلسفي لها، ومنح معنى عبر التساؤل المفهومي، أي طرح مجموعة من الأسئلة منظمة بدقَّة ومتنوّعة توجه تلك المفهوم وتفضح تناقضاته وحدوده، أي تنطلق من الخلفيات والتبعات والتمايزات والإختلافات التي يطرحها المفهوم، هذه المساءلة المتكررة للمفهوم، تجعله يكشف عن ما بداخله من تعريفات تكون مضمرة فيه، والكشف في نهاية المطاف عن العلاقة الكاملة بين المفاهيم، أي هل علاقة تكامل وترابط أم تعارض وتضاد؟ مع التعليل عن ذلك، إذن يعتبر ميشيل طوزي أنه لا وجود لتفكير فلسفي بدون بنيَّة مفهوميَّة ولا يمكن أن يوجد، حيث جعل من المفاهيم خصيصة التفكير الفلسفي، وهنا يذهب مذهب جيل دولوز وفيلكس غواتاري اللذان يعرفان الفلسفة لكونها إبداعا وخلقا للمفاهيم وليس تقديم نسق فكري كلي وشامل، هذه السيرورة المفهوميَّة ترتكز على: تحديد علاقة المفهوم باللغة التي يعتبر هو نتاجا لها، فالمفهوم منتوج لغوي في نهاية المطاف، وتحديد علاقة المفهوم بالفكر الذي هو نتاج له، فالمفهوم منتوج فكري في جوهره، المفهوم يعبر عن نفسه في قالب فكري، إن لم نقل أنه يشكل منظومة فكريَّة متراصة جداً ومنظمة، إضافة إلى علاقة المفهوم بالواقع الذي ينتجه، فالمفهوم هو منتوج للواقع، بل لا يمكن جرد المفهوم عن الواقع المنتج فيه، هناك سياق تاريخي وجغرافي واجتماعي وأرضيَّة خصبة تؤطِّر المفهوم، وهو نتاج لها، لا يمكن التجرُّد عنها، إذن من هنا يمكن الانطلاق في عمليَّة المفهمة من اللغة أولاً، الاشتغال على اللغة التي أنتجت لنا ذلك المفهوم، فهناك لغة هي من أبدعت المفهوم، يجب العودة دائماً إليها من أجل رؤية مدى مدلوليَّة هذا المفهوم في اللغة التي طرح فيها أول مرة، وهو ما يطلق عليه بالتأصيل اللغوي أو الإشتقاق اللغوي، أو إيثيمولوجيا المفهوم، هذا الإشتقاق اللغوي الدلالي الذي يعود بنا لتاريخ المفهوم وسياقاته والمترادفات التي قد يحيل عليها، مع التمييز بين إستعماله المألوف واستعماله الفلسفي، إضافة إلى أشكلة المفهوم وطرح الأسئلة الموجهة له، انطلاقا دائماً من التمثلات التي تكون قبليَّة دائماً عنه، ثم اشتقاقه اللغوي فالإصطلاحي .« وإما ببناء مفهوم كأداة لتعقل الواقع إنطلاقا من مجالات تطبيقيَّة » [2]  .
  2. سيرورة الأشكلة La problématisation سنحاول في نموذج الأشكلة، أن نعتمد على نموذج جاكلين روسو، التي تعتبر على «أن نستشكل لا يعني فقط أن نتساءل بل أن نرتقي إنطلاقا من مجموعة من الأسئلة المنظمة لنبلغ عمق المشكلة» [3]، حيث يمكن إعتبار أن عمليَّة الأشكلة هنا هي ليست تلك المتمثلة في طرح مجموعة من الأسئلة أو تلك التساؤل من أجل التساؤل وفقط، بل الأشكلة تتطلب منا دائماً بلوغ عمق المشكل والإشكاليَّة التي ليست لها حل، بمعنى لا نجد لها حلا يمكن الركون له، فهناك فرق بين المشكلة الفلسفيَّة التي ليس لها حل، وبين المشكلة أو المسألة الرياضيَّة التي يطرح أستاذ مادة الرياضيات ويصل في نهاية المطاف إلى جوار عنها في الغالب، الإشكاليَّة الفلسفيَّة هي إشكاليَّة مفتوحة ليس لها حل أبدا ولا يمكن الإجابة عنها بنعم أم لا، ما يميزها هي أن لها القدرة للإجابة عنها بنعم أم لا، أي يتقبل جوابين معا، خاصة أنها تعرض كل جواب ممكن أو محتمل للمساءلة والنقد والدحض والتفنيد والتكذيب والفحص والتمحيص، إن الأشكلة الفلسفيَّة هي مساءلة نقديَّة دائمة، تضع كل شيء موضع تساؤل، ولا تطمئن إلى جواب محدَّد سلفا، إنها تتيح لنا البحث في كل الإمكانيات الممكنة وعرضها للنقد والنقاش، كما أنَّ ما يميِّز الأشكلة هو أن المشكلة تطرح بالصيغة التعارضيَّة، أي تتيح لنا إمكانيَّة رؤية تعارض قائم بين الأجوبة وتبرز الخاصيَّة الحوار كأفق للفكر، هذا الحوار الذي ليس غرضه بلوغ جواب نهائي وقطعي يدَّعي أنَّه يملك الحقيقة بل غرضه هو طرح السؤال من أجل طرح سؤال، للبلوغ في نهاية المطاف إلى كل الأجوبة الممكنة والمحتملة، إذن الأشكلة من وجهة نظر تعلم التفلسف لدى ميشيل طوزي تقتضي القدرات التالية: أولاً المساءلة، ثم اكتشاف وتحديد المشكلة الفلسفيَّة بدقَّة عالية من خلال المدلولات النابغة عنها، ثالثاً: صياغة تلك الأشكلة بشكل تناوبي من حيث سؤال يحيل إلى سؤال آخر بشكل مرتبط ومنتظم، لذلك سيقترح علينا ميشيل طوزي دائماً، عدة متماسكة لتعلم صياغة الأشكلة في أي وضعيَّة كيفما كانت، أولاً التمرُّس على القدرة على المساءلة ولو بشكل شبه بديهي، ثم العمل على إكساب المتعلِّمين والمتعلِّمات هذه القدرة أي قدرة المساءلة الفلسفيَّة من خلال التساؤل الفلسفي دائماً، ثم تدريب المتعلّمين على اكتساب القدرة على المساءلة بشكل تناوبي ومنظَّم من خلال طرح الأسئلة المنظّمة الموجهة لتحليل ومناقشة أي موضوع، هذا الانطلاق من مساءلة البداهات وكل ما هو عادي وبسيط وساذج إلى السؤال المتفلسف (الإشكال) القلق والمحرج الذي يخلق المفارقات والمقابلات والإحراجات الباحث عن الحقيقة، وحقيقة الحقيقة، والذي لا ينتهي إلى يقين، هذه الأشكلة تنطلق من كل الخلفيَّات والمضمرات التي تحيط بكل موضوع، والانطلاق من وضع كل موضوع موضع شك ونقد ودحض وتفنيد ومراجعة ومساءلة فاحصة وتمحيصيَّة من خلال استفهامه واستشكاله، نلحظ هنا أنَّ ميشيل طوزي جعل من الأشكلة خصيصة التفكير الفلسفي، أو نقول إنه جعل من الفلسفة إبداعا للإشكال.
  3. الحجاج L’argumentation هذه هي المرحلة الثالثة والأخيرة التي تشكل بدورها قدرة أساسيَّة من القدرات الثلاث للتفكير الفلسفي، وتتجلى من خلال ذلك العرض، أي عرض الأفكار والمواقف والطروحات الفلسفيَّة التي تحاول مقاربة ذلك الإشكال الذي يكون سبق وأن طرحناه في المقدمة، نشير هنا إلى أن الإشكال أو عمليَّة الأشكلة يتم صياغتها في المقدمة الإشكاليَّة بشكل صريح جداً، لأنها هي التي تعمل على توجيهنا إلى عمليَّة أو مطلب التحليل /النقد والمناقشة، كل هذا يقتضي القيام بعمليَّة محاجة مهمَّة جداً، ولها مركزيتها في عمليَّة التفكير الفلسفي، فهي ما تتيح لنا تنظيم الخطاب الفكري عبر الاستدلال، والتدليل والحجة والبرهنة بل والإقناع، إن لم نقل أنَّ الغرض من كل محاجة هو الإقناع في نهاية المطاف، بل التأثير على ذلك المخاطب أو المتلقِّي، عبر إقناعه بصواب أو بطلان رأي معين، إن كان هذا الرأي يوافق صاحب الخطاب يدافع عنه، وإن كان يتعارض معه، فيحاول أنذاك إقناعك بحدود ذلك التصور، وذلك من خلال اعتماده على العديد من المسوغات والمبررات واستدلالات متراصة وحجاج عقليَّة ومنطقيَّة، أو حتى من خلال الخطابة والبلاغة والجدال، لذلك وجب التنبيه على أنَّ هناك خيطًا ناظمًا جداً وصارمًا أيضاً بين هذه السيرورات الثلاث، أقصد المفهمة والأشكلة والمحاجة، بحيث إنَّ الأولى المفهمة تشكل تلك البنية التحتيَّة للمحاجَّة، كما أنَّ المحاجَّة بذاتها تطرح إشكالات عبارة عن مفارقات وتقابلات وإحراجات يطرحها المتن الفلسفي لصاحب الحجاج، وبالتالي لا تكون إمكانيَّة بناء محاجَّة إلا من خلال أشكلة الممكنات، وتحليل كل المواضيع التي تطرحها، هذا التحليل بذاته قد يحيل إلى حجاج نستعمله من أجل بيان حدود الحجاج أو قيمته في أغلب الأحيان، هذه المحطَّات الثلاث المهمة جداً والتي تبيِّن مدى تناسق وانسجام التفكير الفلسفي، فهي تنظِّمه وتؤطِّره جيداً وتجعله متناسقا ومنسجما ومتكاملا يصعب هدمه، هذا النسق المتكامل، يأتي من خلال مساءلة نقديَّة دائمة وحل المشكلات بتقديم أطروحات أو دحضها اعتمادا آليات حجاجيَّة متنوعة ومتعددة، هذا التنوع الحجاجي والتعدد في إستعمال البراهين والاستدلال هو ما يجعل من الحجاج يأخذ طابعا غنيا وحافلا ومتراصا  وقلعة حصينة من كل نقد، لذلك سيحاول ميشيل طوزي تأكيده على ضرورة إستبعاد تلك الآراء الجاهزة والأحكام المسبقة والتمثلاث القبليَّة، وكل ما هو سائد، وعادي وعامي وساذج، وعفوي أو تلقائي، وترك مسافة أي التعامل بموضوعيَّة مع كل مشكل فلسفي مطروح وذلك من خلال مجموعة من الطرق المنظمة والمتماسكة التي تبدأ من تحديد المشكل أولا ثم إعداد السؤال المناسب للإشكال الماثل أمامي والمناسب لتلك الموضوع، ثم التوقف على البنى المفاهيميَّة التي تنسجه وتشكله، ثم تحديد العلاقات المنطقيَّة والعقليَّة بينها، وهذا شكل من أشكال الحجاج، كما لا ننسى تحديد الحقل الفلسفي المثارة فيه الإشكال، فالإشكال غالباً ما يثار في حقل فلسفي معيَّن، هناك فرق بين إشكاليَّة الحريَّة في الحقل الوجودي مع الفلسفة الوجوديَّة، والحريَّة في الحقل القانوني والسياسي، مع الفلسفة السياسيَّة وفلسفة القانون بشكل خاص جداً، أي إنَّ إشكاليَّة الحريَّة في الحقل الوجودي ليس كمثيلتها في الحقل الفلسفي السياسي /القانوني خاصَّة، إذن يجب دائماً الحذر من هذا الخلط الذي قد يشوب المفهوم الذي جعلنا منه إشكالا، كما أن الإشكال يجب أن يطرح بشكل مفتوح يتيح لمعالجة المشكلة، ألا يقف عند جواب نعم أم لا، إن الإشكال الفلسفي المفتوح لا يتيح إمكانيَّة الجواب بنعم أم لا، بل لا يتيح إمكانيَّة الجواب، لكي لا يصبح سؤالا مغلوقا ومنغلقا بذاته، لكن هذا لا يعني أنه لا جواب له بتاتا، بل يتيح إمكانيات مختلفة الجواب، بل العديد من الأجوبة الممكنة، وليس الجواب الواحد، فالإشكال الفلسفي هو ضدّ الجواب الواحد الدوغمائي الوثوقي الذي يعتقد أنَّ له معرفة نهائيَّة مطلقة ومثبتة وقطعيَّة، كما أنَّ الإشكال الفلسفي يتيح لنا إمكانيَّة التفتُّح على الحقول المعرفيَّة الأخرى (علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الاقتصاد والعلوم القانونيَّة والسياسيَّة، …)، أي أنه يتميَّز بخاصيتي المفتوح والانفتاح أو الامتداد إلى حقول معرفيَّة أخرى.

هكذا نكون قد أجبنا عن السؤال الثاني المتعلق بالقدرات الأساسيَّة في الدرس الفلسفي أي (قدرة المفهمة، وقدرة الأشكلة، وقدرة المحاجة)، ذلك أن ميشيل طوزي يجعل منها مرتكزا ومبدئا أساسيا في ديداكتيك تعلم التفلسف لديه، حيث لا يفصل بينها وبين القدرات، كأن نقول أن مرتكزات ومبادئ وأهداف وغايات والكفايات العامة لدرس الفلسفة هي تلك القدرات الأساسيَّة الثلاث، أما فيما يتعلق بالسؤال الثالث الذي يهدف أيضاً إلى بيان المهارات الثلاث الأساسيَّة في درس الفلسفة وهي (القراءة الفلسفيَّة، والكتابة الفلسفيَّة، ثم المناقشة الفلسفيَّة)، وهي بالمناسبة عبارة عن كفايات نوعيَّة تتميز بها الفلسفة:

  1. كفاية القراءة الفلسفيَّة: وذلك من خلال تمرين المتعلم على القراءة وآلياتها، خاصة خصائص قراءة النص الفلسفي، والتي هي قراءة بطيئة تحتاج الكثير من الفحص والتمحيص والتدبُّر والتأمُّل والنظر، كل هذا بغرض الاستئناس بالنصوص الفلسفيَّة من أجل التمهيد لقراءة الكتب والمراجع والمصادر والمقالات الفلسفيَّة في أصلها كما هي.
  2. كفاية الكتابة الفلسفيَّة: وذلك من خلال التمرس على كتابة وإناطة الأفكار الفلسفيَّة التي تحترم منهجيَّة كتابة الإنشاء الفلسفي، أو التمهيد لكتابة مقالات فلسفيَّة رصينة تحترم العديد من الخطوات والمنهجيَّات وطرائق الكتابة الفلسفيَّة، وذلك انطلاقا من اعتبار أنَّ من يقرأ لا بد له من أن يكتب، غير أن الكتابة الفلسفيَّة هي كتابة منظَّمة ومضبوطة ولها قوالب خاصَّة بها وليست عشوائيَّة وتلقائيَّة.
  3. كفاية المناقشة الفلسفيَّة: أو يمكن اعتبارها مجادلة فلسفيَّة ونقاشًا فلسفيًّا مبنيًّا على الحجاج الفلسفي، فهو نقاش وجدال وسجال وخطاب يحضر فيه الفيلسوف أو مقولات الفيلسوف، كل ذلك من أجل إغناء نقاشاتنا ومحادثتنا وتحويلها من طابعها اليومي المتداول والعادي والساذج إلى طابع فلسفي محكم جداً ورصين.

من هنا يمكن استنتاج أن هذه الكفايات النوعيَّة الفلسفيَّة الثلاث مهمَّة جداً في التفكير الفلسفي، بل وفي الدرس الفلسفي أيضاً، لا يمكن لهذا الدرس أن تقوم له قائمة دون هذه المهارات الأساسيَّة الثلاث، كما أن هناك علاقة تناظم وتداخل وتكامل بين هذه المهارات، حيث أن القراءة الفلسفيَّة هي من تأتي لنا بأفكار فلسفيَّة يجب تدوينها وكتابتها فلسفيًّا، كما أنَّ هذه الأفكار الفلسفيَّة هي من تساهم في تعزيز نقاشاتنا الفلسفيَّة، فلا وجود لقراءة بدون كتابة، ولا وجود لكتابة بدون توظيفها عن طريق النقاش والحوار الجاد والهادئ أيضاً، وهذه من مميزات المناقشة الفلسفيَّة، فهي مقابلة ومناظرة فلسفيَّة بامتياز، يحضر فيها الحدس الفلسفي، ونعمل من خلالها على مقابلة فيلسوف ومناظرته بفيلسوف آخر، مدافع أو معارض له، وهذا يخلق لنا نقاشًا فلسفيًّا رصينًا وهادفًا .

ختامًا، نقول إنَّ ميشيل طوزي ومن معه، يعتبرون المؤسِّسين الفعليِّين للديداكتيك الفلسفي أو تعليم التفلسف، وذلك من خلال تلك القدرات الأساسيَّة لتعلُّم التفلسف المتمثِّلة في المفهمة والأشكلة والمحاجة، كما ركَّزوا أيضاً على الكفايات النوعيَّة الأساس في درس الفلسفة وهي القراءة الفلسفيَّة والكتابة الفلسفيَّة والمناقشة الفلسفيَّة، وقلنا إنَّ هذه جميعاً تشكِّل ذلك الخيط الناظم للتفكير الفلسفي بشكل عام، كما دافعوا عن فكرة أخرى مهمَّة جداً، ألا وهي أنَّ غاية تعليم التفلسف في النهاية تتجلى في التعلُّم الذاتي والحرّ للمتعلِّم، أي يجب على المتعلِّم في نهاية المطاف، أن يكون قادرًا على التعلُّم والتعليم أو التكوين الذاتي، بمعنى يعلِّم ذاته بذاته ولذاته وفقط، دون تدخُّل الآخر، حيث يصبح الآخر هو بمثابة المرشد والمنشّط والموجّه والمرافق، أقصد هنا المدرس، لذلك فالتعليم الذاتي هدفه الأساس هو تكوين المتعلِّم نفسه لنفسه وبنفسه، وذلك بعد تعلّمه للقدرات الفلسفيَّة الأساس، فيصبح قادرًا على مفهمة الخطاب الفلسفي وأشكلته، ثم إبراز الحجاج الذي يحتويه وينظمه، كذلك من خلال قراءته المتأنِّية للنصوص الفلسفيَّة وإنتاج أفكار فلسفيَّة حولها، بعد كتابتها، أو حتى اقتباس أفكار فلسفيَّة منها، بغرض الاشتغال بها أثناء نقاشاته ومحادثته، وبالتالي تصبح تلك الأفكار الفلسفيَّة داعمًا وسندًا يستند عليها أثناء أي مناقشة، كما أنَّ غرض التفكير الفلسفي هو التربية على الروح النقديَّة وتعويد العقل على المساءلة والنقد والدحض والتفنيد والفحص والتمحيص والاستدلال والبرهنة على الأفكار، وحصول استنتاجات انطلاقا من قضايا عامَّة، هذا ما يتيحه لنا التعلُّم الذاتي في الحقيقة، فالغرض منه هو تحقيق نوع من الإستقلاليَّة والحريَّة الفكريَّة والإبداع الذاتي وشحذ ملكة النقد، إذن كان الغرض من كتابة هذا المقال هو التعرف على مرتكزات ديداكتيك تعلم التفلسف لدى ميشيل طوزي، وكذلك التعرف على مسارات الدرس الفلسفي عبر القدرات الأساسيَّة لهذا الدرس، والكفايات النوعيَّة الأساس منه، كل هذا بغرض «تحقيق الكفاية الفكريَّة التاليَّة: تعلُّم التفكير الذاتي وتحقيق نوع من الاستقلاليَّة والحريَّة الفكريَّة.» [4]، نضيف كذلك تنمية الروح النقديَّة، إضافة إلى التحلِّي بقيم التنوير المتمثِّلة في الخروج من القصور أو الحجر الذي الإنسان هو نفسه  المسؤول عنه .

___
 المراجع والمصادر المعتمدة:

[1] – محمد عبيدة (2002): إشكاليَّة المفهمة في الفلسفة وفي تدريسها: مجلة فكر ونقد: السنة الخامسة، العدد 48.

[2] – ميشيل طوزي ومن معه (2005): بناء القدرات والكفايات في الفلسفة، ترجمة حسن احجيج، منشورات عالم التربيَّة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 38-39 .

[3] – Jacqueline Russ: Les méthodes en philosophie, Armand Colin éditeur, paris, 1992, Janvier.

[4] – انظر ديداكتيك الفلسفة معالم نظريَّة وتجارب مهنيَّة، تنسيق وتقديم د عبد الله بربزي، المراجعة والتدقيق اللغوي د عبد العاطي الزياني، مؤسسة آفاق 2023 -المغرب، مقال بعنوان تدريس الفلسفة بين تعليم الفلسفة وتعلُّم التفلسف، للدكتور عبد الله بربزي، ص 57-58 .
__________

*محمد فراح:طالب في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، سلك الإجازة في التربية تخصُّص التعليم الثانوي التأهيلي -الفلسفة، السنة الثالثة.

جديدنا