السيادة النسبيَّة في القرن الواحد والعشرين

image_pdf

تعيش الدول في القرن الواحد والعشرين، في ظل عالم متشابك في كل شيء تقريباً، في المصالح من جهة، والصراعات والحروب من جهة أخرى، فليس غريباً أن تجد المتنافسين أو غير الأصدقاء يلتقون معاً في بعض الملفات،  ويفسرها بعض المفسرين بأن ذلك ضرباً من ضروب المؤامرة والاتفاقات السرية، التي تخفي تحت الطاولة ما قد يؤدي إلى الاتفاق على تدمير دولة أو شعب ما. إلا أن هذا الأمر لربما يبدو بديهياً في عالم بات يزداد تعقيداً مع مرور الزمن، واللعبة الصفرية لم تعد تجد نفعاً في لعبة الدول، ولا يمكن لدولة أن تحقق المكاسب المطلقة، على حساب دولة أو مجموعة دول لا يكون مكاسبها إلا أن يساوي صفر. فالدولة المنتصرة بحاجة إلى عالم أكثر أمناً وتعاوناً مما هو منغلق عليها وعلى ذاته، فلو كان النصر يكفي لتحقيق الهيمنة، للجأت الدول النووية إلى سلاحها النووي ولفرضت سيادتها على كل العالم، بيد أنه حتى الإله بحاجة إلى أناس يعترفون بألوهيته. فكيف بدولة مهما امتلكت من أسباب القوة، فهي بحاجة إلى العالم، ولعل الولايات المتحدة الأمريكية أهم مثال ينطبق على هذه الفرضية. 

ومن ثم فإنَّ قوتها أي الولايات المتحدة الأمريكية لم تسعفها في تحقيق النصر بمعناه الاستراتيجي، لا في فيتنام ولا أفغانستان ولا العراق، فالضعفاء أيضاً يعرفون كيف يسببون الأذى للقوي، إلا أنهم أي الضعفاء، حتى وإن حققوا النصر السياسي على القوي، فهم لن يستطيعوا الاستغناء عن أهميته والقدرات التي بحوزته، والتي يمكن لهم أن يستثمرونها لأجل البناء والتقدم والتطور. ومن ثم فإن الدول في القرن الواحد والعشرين، لم تعد تتعامل مع نظائرها فحسب، بل هي أضحت مجبرة لا مخيرة تتعامل مع فواعل مؤثرين في مختلف المجالات، ولعل ظاهرة الفواعل من غير الدول مثال واضح على ذلك، وهم قد يمثلون منظمات دولية أو إقليمية، أو شركات عالمية كبرى، أو جماعات مسلحة نجدها ناشطة بشكل كبير في الدول الهشة والضعيفة، فالولايات المتحدة الأمريكية اضطرت لكي تنسحب من أفغانستان إلى التفاوض مع حركة طالبان، وهي من الفواعل المسلحة المؤثرة في الشرق الأوسط.

وعليه، لم تعد هنالك سيادة مطلقة للدول حتى العظمى والكبرى منها؛ فكيف بالدول المتوسطة والصغرى وما دون الصغرى؟!. والسيادة بمفهومها المطلق ولدت في ظروف زمنية سابقة، كانت الدول القومية التي نتجت عن نظام ويستفاليا لسنة (1648)، والتي أدت إلى إنهاء حرب الثلاثين عاماً الدينية في القارة الأوروبية، ومن ثم الاعتراف بتوطين الدين عبر إيجاد فكرة حرية الدين، واختياره من قبل الحاكم، وبالتالي رعاياه يصبحون على دينه -وكما يقال الناس على دين ملوكهم-، وسيادة الدول على أرضيها واحترام هذه السيادة ورفض فكرة الغزو(1) .

هذه السيادة المطلقة كانت مهمة في وقت سابق، احتاجت الدول إليها لكي تثبت حدودها وسلطانها، حتى وصل بها الأمر في ذلك، إلى اللجوء للقوميات المتشددة التي تعلي من شأن الشعب وتجعله في مكانة متقدمة على بقية الشعوب، بالنظر إلى امتلاكه ما يميزه عنها، كأن يكون على أساس العرق أو الدم أو اللون أو الدين أو المكانة التاريخية. إلا أنها أي السيادة اختلف معناها مرور الزمن وتطور الكثير من الجوانب، فضلاً عن ذلك فإن معظم الدول صحيح أنها تمتلك السيادة القانونية، إلا أنها لم تمتلك السيادة بمعناها الآخر السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، فهنالك بعض الدول تعتمد على القروض والمساعدات الخارجية مثل لبنان ومصر والأردن، وهنالك أخرى بحاجة إلى التقنية والتقدم التكنولوجي والدعم الأمني وغيرها من أسباب التطور مثل العراق، وأمثلة أخرى عديدة يمكن الاستعانة بها، لأجل التأكيد على مسألة أن السيادة بمعناها المطلق لم يعد له وجود، فهذه دول أوروبا الغربية، كلها اندمجت ضمن الاتحاد الأوروبي، بعد أن أيقنت أن التنازل عن جزء من السيادة لصالح التعاون والاندماج في بعض المجالات، نتيجته تحقيق السلام والتطور، والتخلص من الحروب التي عانت منها دول أوروبا حتى وقت ليس بالبعيد. ومثال آخر هو حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يضم (31) دولة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تتركز مهمته الأساسية في حماية الدول  الأعضاء من التهديدات الأمنية، وهذا الهدف ينفع بالدرجة الأساس الدول الأعضاء الضعيفة التي لا تقدر على تدبير أمنها لوحدها، بالتالي هي بحاجة إلى مظلة أمنية تستطيع عبرها ضمان بقائها، وهذا يترتب عليه التنازل بعض الشيء من سيادتها. 

يمكن القول: إن عالم اليوم هو متشابك وعلى مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، ومن يعتقد أن بإمكانه نيل السيادة المطلقة، سيصاب بالضمور والتأخر الحضاري عن بقية العالم، مثال على ذلك جربت الصين في فترة من فتراتها غلق الباب على ذاتها، فإذا بالقوى الأخرى تأتي لغزوها، ومن ثم تقدمت هذه القوى عليها بشكل كبير مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واليابان إلخ. نتج عن ذلك خضوعها لشروط معاهدة عام (1842)، التي فرضتها عليها الإمبراطورية البريطانية في وقتها، وكانت شروطها قاسية بحق الصين، ومن بين هذه الشروط: التنازل عن هونغ كونغ، وفتح خمسة موانئ للتجارة العالمية، ودفع تعويضات قدرها (21) مليون دولار بسبب وقفها لتجارة الأفيون، وكانت هذه التعويضات تعد كبيرةً بقيمة عملة الدولار حينها، ومن نتائج هذه المعاهدة وقوع الصين تحت ما يطلق عليه بقرن الإذلال(2) ، والذي لا ازل الصينيون يتذكرونه جيداً، كانت خاتمته قيام ثورة (1949).

لهذا لا توجد دولة ومهما امتلكت من إمكانيات يمكن أن تعتمد على ذاتها فقط، لنأخذ مثال الصين والولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن حجم التبادل التجاري بين البلدين لعام (2022) هو (690) مليار دولار، تستأثر الصين بالنسبة الأكبر منه، إذ تصدر للولايات المتحدة الأمريكية ما قيمته (563) مليار دولار، بينما تصدر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين ما قيمته (154) مليار دولار، أي أن الصين تعد أكبر شريك تجاري  لأمريكا على مستوى العالم(3) ، فهل من العقلانية تأتي أحدهما لتغلق الباب على نفسها أمام الأخرى؟، بالتأكيد ستكون خسارتها كبيرة، فلو مثلا قررت الصين مقاطعة السوق الأمريكية فأين تجد سوق آخر يستهلك ما قيمته سنوياً أكثر من نصف ترليون دولار؟!، والأمر أيضاً معكوس بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. 

إن السيادة في القرن الواحد والعشرين اختلفت المفاهيم بشأنها، وهي تتركز بالدرجة الأولى على قوة الاقتصاد وعلاقات الدولة مع العالم الخارجي،  وكيف تستثمر هذه العلاقات في تطوير ذاتها وماركمة الخبارت والتطور، وقبول الشرعية والقوانين الدولية، ولن تقدر الدولة على الانكفاء على ذاتها بحجة السيادة والاستقلالية التامة، نعم قد تحقق ذلك على الصعيد الثقافي عبر المحافظة على بعض تقاليدها وأعرافها التي لا تريد لها أن تذوب ضمن أنموذج معولم؛ إلا أن ذلك لا يمكن على المستويات الأخرى السياسية والاقتصادية والأمنية والتكنولوجية. بالتالي السيادة بمعناها المطلق اختفى بنسبة كبيرة في هذا القرن، والعالم بشكل أو بآخر يدار باللعبة غير الصفرية، فمن الصعب أو شبه المستحيل أن تستأثر دولة أو مجموعة دول بكل شيء على حساب دول أخرى؛ فذلك لو حصل سيؤدي إلى انهيار المنظومة الأمنية الدولية. والدول التي تحاول اللجوء للعبة الصفرية لفرض رؤيتها، ستجد ذاتها وقد تارجعت فرصها، وتزايدت عزلتها بشكل كبير. ولعل من الأمثلة الحية على ذلك حرب روسيا على أوكرانيا، وحرب الكيان الإسرائيلي على غزة، إذ نجد أن كلا الحربين قد أديا إلى قيام موجة كبيرة من الاعتراضات من قبل مختلف الدول والشعوب الرافضة للحرب بوصفها نهجاً لحل الملفات العالقة، ولا سيما أنها لم تعد نتائجها الوخيمة تقتصر على الجيوش المتحاربة، بل تتعداها إلى المواطنين المسالمين والمدن الآمنة. بالتالي لم يعد بمقدور أية دولة أن تشن حرباً وتغزو دولاً أخرى بحجة الدفاع عن أمنها القومي، دون أن يلقى ذلك الاعتراضات من المؤسسات الدولية، فضلاً عن الدول التي لا تتفق مع هذا النهج.

 ….

المصادر

  1. شمال حسين، العلاقات الدولية دراسة تحليلية في (المفاهيم والأصول. التاريخ والمراحل. الأحداث والظواهر. المناهج والنظريات)، مكتبة التفسير للطباعة والنشر، ط2، أربيل، 2021، ص ص156-157.
  2. برت ارن بديع، زمن المذلولين (باثولوجيا العلاقات الدولية)، ترجمة: جان ماجد جبور، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت،2015 ،  ص16.
  3.  بالأرقام تعرف إلى أين وصل حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، قناة اقتصاد الشرق، منصة اليوتيوب، نشر في 11 تموز 2023، استخرج في 25 شباط 2024، على الرابط: https://youtu.be/v6IsqCDkruM?si=_iWfpd3QAVKOZ4nE

جديدنا