بالإيحاء.. كان الوجودُ كلُّه

image_pdf

لا أشقَّ على الناظر في إلهيَّات الوجود من أن يختبر مسائلها على أرض المفاهيم. ولسوف تتضاعف مشقَّتُه إذ تجدُه أمام مسألة تتأبَّى على هندسات العقل القياسيِّ كمسألة الوحي. قضيَّة بهذه الفرادة المعرفيَّة، لا ينبغي لها – وتبعًا للضرورة العقلية – أن تمكث في معزل عن المشاغلات البديهية للعقل نفسه. الشيء نفسه يصح بطريقة عكسية: ليس من شأن ما يسمو فوق المتناهيات المرئية أن يصُدَّ عن اختبار ما يقع تحت مرمى النظر ومقاساته المنطقيَّة. ما نرانا نأخذ بهذه المعادلة إلَّا للافتراض بأنَّ ثمَّة ما يستحثُّ على بيان شهادة العقل على الوحي كإمكان ميتافيزيقي. ولنا أن نقول إن فرضيَّة كهذه جائزة ومشروعة، ما دام كل شيء في عالم الظهور يكون مسبوقًا بموجودٍ هو علّةُ كشفِهِ وإظهاره. لعلَّنا في هذا بإزاء واحدة من المسلَّمات التي ابتنى عليها التفكير الميتافيزيقيُّ خطَطَهُ الكبرى لاستكشاف المطارح العصِيَّة في علم الوجود. وسيبدو جوهريًّا، بالنسبة إلى كلِّ تصوُّر عن الوحي، أن يمضي صاحب هذا التصور بعيداً في أفق الألوهيَّة، وأن يحدِّد خصائصها بدقَّة، عبر محمولات الروح، والعقل، والكلمة، والإيجاد، والوحدة، والذات. ففي هذه الحال سيكون في وسعِهِ أن يدرك هذه المحمولات بالفهم، وأن يحلِّلها بالفكر؛ بل أن يؤسِّس لها منطقًا ومنهجًا ونظريَّة معرفة. ذاك يدل على أنَّ كلَّ أمر وحيانيٍّ يفكَّر فيه ويُنظر إليه بتعقُّل، هو أمرٌ عقليٌّ ولو لم يدخل في نطاق العقل الحاسب ونظامه الاستدلاليّ. ونميل إلى الاعتقاد أنَّ كلَّ قضيَّة تُقاربُ على قاعدة مفاهيميَّة، جدير بها أن تسمَّى  قضيَّة عقلانيَّة. فعندئذٍ تصير قضيَّة الوحي والألوهيَّة طبقًا للمقتضيات الآنفة الذكر، قضيَّة ذات طبيعة عقلانيَّة.

لو تدبَّرنا هذا المنفسح من التفكير بـ “الماوراء”، لَفَهِمنا أنَّ عالمًا موصولًا بالوحي هو عالمٌ لا يدنو منه زَلَلٌ ما دام كلُّ موجود لا يوجد إلَّا بعِلَّة موجِدة. لهذا سيقرِّر الحكماء أنْ لو نُزِع الوحيُ عن شيءٍ انعدم وجوده في الواقع؛ ما يعني أن لا فصل ولا قطيعة بين فعَّاليَّة الوحي وانتظام الأكوان، حتى ليصير جليًّا ألَّا توجد أشياء الوجود كلِّها، ناطقة وغير ناطقة، بمعزلٍ من عطاءات الوحي وتأييده.

I

ماهيَّة الوحي …كلمتُه الموجِدة

حين يدعونا الهمُّ الميتافيزيقيُّ إلى السؤال عن ماهيَّة الوحي، نرانا محمولين بالضرورة على تحرِّي الإجابة في الحقل الذي تكلَّم الوحي به عن نفسه. قصدُنا بهذا، أنَّ المتكلِّم الإلهي وحده من يعرب عن كُنهِ ماهيَّته وغاية مراده. فإنما وَحيُه  القولي- بحسب المقصود – هو روحُه الذي من سرِّ أمره ولا يعلمه أحدٌ سواه. نجدنا مع الوحي بإزاء مكنون رحمانيٍّ له لسانه الخاصُّ وهوّيَّته المفارقة. وسيكون من الحريِّ بنا ألَّا نتعجَّل رأيًا به أو حكمًا عليه، إلَّا من خلال النظر إليه بعين النقص. وما علينا حالذاك إلا الصبر حتى يظهر أثرُه لكي نستدل من أثرِهِ عليه. ما يعني أنَّ الفكر مهما بلغت فطنتُه، فلن يدرك سرّ هذا المكنون، لأنَّه من كُنْه الذات الأحديَّة وعلمِها الغيبيّ. وعليه، فإن إدراك هذا السرِّ لا يتأتَّى إلَّا باعتلان الأمر الوحيانيِّ من خَبَأِ الذات إلى عالم الأسماء. فالوحي في اعتلانه هو إظهار الأمر الرحمانيِّ بإيجاد الموجودات. وبفعله صارت هذه الموجودات وجودًا دالًّا على القول الآمر بما هو علَّةٌ مُظهِرةٌ للعالم. من أجل ذلك قيل إنَّ الفعل الإيحائي هو إلقاء قدسيٌّ دالٌّ على الأمر الإلهيِّ بالكلمة الموجِدة. قيل كذلك، ان الوحي قولٌ إيجاديٌّ جعليٌّ قاله الموجِدُ الجاعلُ، لا من مظنَّة فكرٍ، ولا من همسة حرفٍ، ولا من قبضة يد. فإنَّما هو إشارة خاطفةٌ دالَّةٌ على إلقاء علمٍ في إخفاء” كما يذهب ابن فارس. وفي مقام الإصطفاء النبوي يتأتَّى الإيحاء على نحو الخطاب الذي مبتدأه من سرِّ ومنتهاه إلى سر.. وأنَّه يفضي إلى معنى يخفى فهمُه على غير من قُصِدَ إفهامُه. أي أنَّ الوحيَ دالٌّ على إلقاء المعنى في النفس المصطفاة على وجه خفيِّ، إذ يجيء للموحَى إليه خَفيةً عن سائر الخلق.

المتكلِّمون وعلماء التفسير سيقولون، من بعد أن أضناهم وصفُه ونعتُه، إنَّ للوحي ثلاثَ خواصّ: الأولى: خاصّيَّة الخلق والتكوين. وهي خاصِّية تتَّخذ صيغة فعل الأمر البَدئي بإيجاد الموجود الأول الذي منه نشأت الموجودات كلُّها. والثانية: خاصّيَّة الصنع والتصوير، وهي مختصَّة بالكثرات الوجوديَّة حيث تمنح كل شيء من أجناسها وأنواعها ما يناسبه على التفصيل والتفريد. والثالثة: خاصّيَّة الاصطفاء والتعليم؛ وهي مخصوصة للأنبياء والرُّسل والأولياء. في المواضع كلها يبقى أمرُ الوحي هو نفسه. ذلك بأن كل فعل من أفعاله يجري مجرى الكلمة الموجِدة؛ سواء للشيء الأول الذي وُجدَ ولم يكن قبله شيء، أو لسائر الأشياء الَّلامتناهية في كثرتها واختلافها وتغايرها. وهذا دليل على سيريَّة الوحي وسريانه المستدام في ثنايا الموجودات المتجددة على غير انقطاع. وأمَّا كلمة الوحي في الأحوال جميعاً فإنما هي الكلمة الكاشفة عن نفسها، إما كشاهد على الواقع، أو كواقع مشهود عليه. وليس ذاك إلَّا لأنَّ الكلمة الآمرة “كن” هي تجلّي الوحي كفعل خلقٍ وإظهار. وبهذا الاعتبار لا يكون ثمَّة حاجة لإقامة الدليل على مصدر الكلمة ما دامت صدرت عن علَّة بيِّنة لا لَبْسَ فيها.

.. ولمَّا كان الوحي خيرًا محضًا، وخيريَّته تشتمل على الوجود كلَّه، فلن يكون حاصِلُه زللًا ولا عدمًا؛ بل هو فعل القيوميَّة الإيحائيَّة التي بها صار للموجودات وجودٌ يتجدَّد. فالكلمة الإلهية الآمرة “كن” هي عين حقيقة الإيحاء. والله الذي أوجد الموجودات جميعًا بأمره وإرادته سيحفظها بالاعتناء والتدبير بوحي كلمته. وإذا كان من الصواب أن نقول: في البدء خلق الله السموات والأرض، فما ذاك إلَّا لأنَّ ابتداء العالم كان بالقول الآمر الذي به كلُّ الأشياء خُلقت، وبه كلُّ شيء كان، وبسواه لم يكن شيء ممَّا كان. فإذا ما فُهِمَ الوحيُ على هذا النحو، صحّ القول أنَّ تدبير الأشياء هو عين خلقها، وخلقها عين تدبيرها.

وللتبيين نضيف: إنَّ للخلق والتدبير المتجدِّدَين توسُّطاتٍ وحيانيَّةً تتنزَّل على المخلوقات فتلهُمها وتسدِّدها كلًّا بحسب سعتها ومقادير وجودها. والإلهام الهادي لا يفارق الوحي الساري في ثنايا الوجود، إنَّما هو رتبة رفيعة منه، ولطفٌ وحيانيٌّ شاملٌ عالم الخلق والتدبير. ولقد ذهب العرفاء إلى تعريف الإلهام بأنَّه “خبرٌ إلهيٌّ”، إلَّا أنَّه – عندهم – يَفرُقُ عن الوحي بطريقة التلقِّي والإفاضة كما يورد ابن عربي. وذلك نظير آليَّات التفريق والتمييز بين علوم الأنبياء ومعارف الأولياء. لأجل ذلك، كان التنبيه إلى اجتناب الخلط بين هذين المعنيين، وهو ما بيَّنه صاحب “الفتوحات المكّيَّة” بقوله: “إنَّ لنا من الله الإلهام، لا الوحي”، وما يُدرَكُ الإلهامُ بالعقل إنَّما بطريق القلب. ولأجل التمييز بين الإلهام و”العلم الَّلدنيّ”، يبيِّن ابن عربي أنَّ الإلهام عارضٌ طارئ؛ يزول ويجيء غيره، والعلم الوحيانيَّ الَّلدنيَّ ثابتٌ لا يبرح. فمنه يكون في أصل الخِلقة والجِبِلَّة كعلم الحيوانات والأطفال ببعض منافعهم ومضارّهم، وهذا علمٌ ضروريٌّ لا إلهام. وأمَّا قوله: {وَأوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ}[النحل- 68]، فإنَّه يريد بيان النشأة الأصليَّة التي فطرها الله عليها. والإلهام قد يصيب، وقد يخطئ. فالمصيب منه يسمَّى “علم الإلهام”، وما يخطئ منه يسمَّى إلهامًا لا علمًا، أي لا علم إلهام. وهكذا، فإنَّ الإلهام الإلهيَّ يمدُّ المصلحين والفلاسفة بالنواميس التي تبقي فيها حالة الصلاح دائمة على الأرض من دون أن يخطر ببالهم أنَّ عملهم وأفكارهم تأتيهم من دون علم مسبق منهم. والحاصل أنَّ “الوحي” والإلهام يشملان كلَّ الموجودات: “الوحيُ سارٍ في كلِّ صنف من المخلوقات يمنحها العلم والمعرفة بحسب مقاديرها.. وأمَّا الإلهام، فهو معرفة وتعريف، ولا يخلو منه موجود. من أجل ذلك، سيقال إنَّ كلَّ معرفة هي علم وليس كلُّ علم معرفة، فعلم الله ليس معرفة، ولا تسري على الخالق صفة العارف، لأنَّه العالم الذي يجود بعلمه على خلقه وكلٌّ بحسب مقداره وسعته. أمَّا المعرفة التامَّة لمقاصد الوحي فهي التصديق بالخبر الإلهيِّ كمبدأ ضروريٍّ لإدراك الوجود على ما هو عليه، ثمَّ ليميِّز بالحكمة العمليَّة، خيرها من شرِّها وحسنُها من سوئها.

II

“فطرانيَّة” الوحي وسرَّانيَّته

الميول الوحيانيَّة في الإنسان فطريَّة، وهي الأرض البكر التي منها تُستنبتُ المعارف الإلهيَّة وعلوم التوحيد، شأنها في هذا، شأن القبليَّات التي بها يستعينُ العقلُ على إدراك البديهيَّات. لهذا صحَّ القول أنَّ التعاليم والأحكام الوحيانيَّة جميعها مبنيَّة على العقل والفطرة، وأنَّ العمل بمقتضاهما يؤدّي إلى نموِّ وتفتُّح أسمى مراتب المعرفة لدى الإنسان. ونعني بهذه المرتبة، المعرفة الوحيانيَّة المتأتيِّة من الفطرة بوصفها غرسة إلهيَّة بَدئيَّة في الطبيعة البشريَّة. فهي راسخة في الكينونة الإنسانيَّة، ولا يمكن لفطرة كائنٍ ما أن يكون لها اقتضاء معيَّن في مرحلة زمنيَّة، بينما لها اقتضاء آخر في حقبة زمنيَّة أخرى. وبما أن الأمور الفطريَّة من اقتضاءات أصل خِلقة كلّ موجود، فإنَّها – لأجل ذلك- لا تحتاج في وجودها إلى التعليم والتعلّم، وإن احتاجت إلى التربية والتعلُّم قصدَ التوجُّه والاهتداء والثبات على الأصل. لهذا السبب ينبري أهل البحث إلى تصنيف المعرفة الفطريَّة ضمن دائرتين معرفيَّتين:

الأولى: دائرة المدركات الفطريَّة الموجودة في تكوين كلِّ إنسان ولا حاجة فيها إلى التعلُّم والاكتساب.

الثانية: دائرة الميول والرغبات الفطريَّة التي تكون بمقتضى الطبيعة التكوينيَّة لدى كلِّ فرد.

الدائرتان المذكورتان تفضيان إلى المعادلة التالية: لمَّا ثبت أنَّ لكلِّ فرد نوعًا من معرفة الله، ولا يحتاج معه إلى التعلُّم والتعليم؛  جاز أن ندعو ذلك بـ «معرفة الله الفطريَّة».. وإذا ثبت وجود نوعٍ من الميل إلى الله وإلى عبادته في كلِّ إنسان، أمكن أن نسمّيه «عبادة الله الفطريَّة»، أو ما يسمَّى بـ «التديُّن الفطريّ». والحاصل أنَّ معرفة الله الفطريَّة تعني: أنَّ الإنسان يعرف الله بقلبه، وفي عمق كينونته تنغرس المعرفة الشعوريَّة بالتوحيد. ولأنَّ هذه القابليَّات الفطريَّة لا تغني عن التفكير والتأمُّل والاستدلال العقليّ، فإنَّ اتّساق صلات الوصل بين المعرفة الفطريَّة والمعرفة العقليَّة، يفضي إلى استشعار الوحي المعاني القصية للفعل الوحياني، بل قد يترقَّى المتلقِّي إلى تلك الدرجة التي لا تعود فيها نفسه عرضة لغزوات الشكّ. وهذي هي على وجه التقريب ما يُعرف بـ “الحادث الروحاني” الذي يعرب عن اختبار معنويٍّ، وانخطاف روحيٍّ لا يتوفَّر عليهما إلا الذي تعرض له واستقام عليه. بعض علماء الأنثروبولوجيا (علم الإناسة) ينفون أن يكون الوحيانيُّ أو المقدَّس مجرَّد طور من أطوار الوعي البشريِّ، بل يرونه عنصرًا مكوِّنًا لبنية هذا الوعي. وأنَّ وجود العالم كله  هو حصيلة لتجلِّي الوحيانيِّ وفعله.

في الحضرة الوحيانيَّة كصيرورة وعي وعيش، يُستشعرُ سرُّ الوحي بالَّلمح الباطنيِّ. وهذا السرُّ- كما طاب للفيلسوف واللَّاهوتيِّ الألمانيِّ رودولف أوتو أن يقول- هو خاطرة قَبْسيَّة تُستمدُّ من الدائرة الطبيعيَّة لوجودنا، ولكنَّها عاجزة عن أن تفصح عنه إفصاحًا تامًّا. فما هو سرِّيٌّ – كما يضيف- إنَّما هو “ذو الغيريَّة التامَّة”، ذاك الذي يوجد بتمامه خارج دائرة المعهود، وهو الذي يقع نتيجة لذلك، بالضَّبط، خلف حدود “المألوف”، ويناقضه، مالئًا الذِّهن دهشةً وذهولًا. أمَّا الكلام على “سرَّانيَّة” الوحي فهو كلامٌ يتخطَّى منطق العقل المقيَّد وتناهيه. فالأمر “السرّيُّ” من جهة كونه وَحْيًا، إنَّما يقع خارج إمساكنا به، أو إدراكنا له، وذلك عائدٌ، ليس فقط إلى أنَّ لمعرفتنا حدودًا مرسومة، وإنَّما لأنَّنا بإزاء حضورٍ لا كأيِّ حضور، ولأنَّنا أيضاً وأساساً في حضرة الذي ماهيَّته وهويَّته لا تقاسان بما لدينا من أعراف ومراسيم. ولأنَّ الوحي حضورٌ مطويٌّ في مكنون الألوهية فإنَّ وجه الامتياز في التعرُّف عليه، هو في كونه علمًا سرَّانيًّا (من السرِّ)؛ أي أنَّه علم كامن في السريرة، ومعرفته على وجهين: إمَّا بالنظر والاستدلال، أو بالتصديق والتسليم. إلَّا أنَّه بوجهيه المذكورين يؤلِّف وحدة علميَّة، ولو تقدّم فيها الوجه العمليُّ كاختبار باطنيٍّ، على النظريِّ كتعبير لسانيٍّ لاحق عن التجربة. لهذا لا يمكن الفصل بين هذين الوجهين بحال من الأحوال.

III

الوحي بما هو شأن عقلانيٌّ – فؤاديّ

تُظهر تاريخيَّة الجدل الَّلاهوتيِّ واحدة من أبرز المعضلات الناجمة عن استخدام العقل القياسيِّ في إثبات الوحي. من ذلك ما واجهته تيَّارات لاهوتيَّة في الغرب حين وجدت نفسها عاجزة عن تسويغ الجانب غير العقلانيِّ في بنيتها الاعتقاديَّة. لقد بدت الصورة على غير ما كانت تبتغيه تلك التيَّارات. فإنَّها بدل أن تحتفظ بالعنصر غير العقلانيِّ حيًّا في قلب الاختبار الدينيِّ، فقد أخفقت إخفاقًا بيّنًا في تقدير قيمته، لمَّا أغدقت على فكرة الله، تفسيرًا فكريًّا وعقلانيًّا، أحادي الجانب. وكانت النتيجة من بعد ذلك، النكوص إلى دنيا المرئيات الصمَّاء والمَيْل نحو علمنة الإيمان. حيال هذه الوضعيَّة، سينبري من النظَّار من يقارب المسألة على نحو يُرفَع فيه التناقض بين العقل والوحي. يبتدئ هؤلاء من الإقرار بحقيقة أنَّ إيمان المؤمن بالأمر الوحيانيِّ لا يمكن وصفه، أو تحديد معناه على النحو الذي تتحدَّد فيه معاني الموجودات وفق أطرها المفاهيميَّة. فالإيمان بالوحي بما هو أمرٌ غيبيٌّ، ليس مجرَّد ظاهرة تُماثِل الظاهرات الطبيعيَّة الأخرى، بل هو الظاهرة المركزيَّة في حياة الإنسان الشخصيَّة الجليَّة والخفيَّة في الوقت نفسه. ولأنَّ الإيمان إمكانيَّة جوهريَّة للإنسان، فوجوده ضروريٌّ وكلِّيّْ، وهو ممكن وضروريٌّ أيضًا في كلِّ زمان ومكان. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على أنَّه همٌّ أقصى، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أيُّ نوع من الفلسفة. ومردُّ ذلك – على ما يبيِّن اللَّاهوتي والفيلسوف الألماني بول تيلش- إلى أنَّه يسوِّغ ذاته ضدَّ من يهاجمونه، لأنَّهم لا يستطيعون أن يهاجموه إلَّا باسم إيمان آخر. ولعلَّ أبرز ما في واقعيَّة الإيمان أنَّ الذين يرفضونه إنَّما يعبِّرون، وهم يفعلون ذلك، عن إيمان ما.

ينبغي القول أيضًا إنَّ المعنى الجوهريَّ لنشاط العقل في امتداداته وإنجازاته، هو ما يفيد بأنَّه غير مقيَّد بتناهيه ومحدوديَّته، بل هو على وعيٍ بهذا التناهي. وبهذا الوعي سوف يتمكَّن من مجاوزة التناهي والتقييد ليصير الإقرار بإيحاء الوحي كفعلٍ إيجاديٍّ للوجود هو نفسه المقام الذي يتوصَّل إليه العقل في أطواره الامتداديَّة. وعند هذه الوضعيَّة المتعالية يضمحلُّ التناقض المتصوَّر بين طبيعة الوحي وطبيعة العقل، ليتموضع كلٌّ منهما في داخل الآخر.

سوف نجد نظير هذه المقاربة في ما شهدته الحُقَب الإسلاميَّة الأولى من مجادلات كلاميَّة وفلسفيَّة بصدد صلات الوصل أو القطيعة بين المعرفتين العقليَّة والنقليَّة. فقد انبرى جمع من المحقّقين والعرفاء إلى إجراء تأصيل عقليٍّ للكشف والشهود في ميدان التصوُّف النظريِّ.. نذكر في هذا المنفسح ما سعى له أبو إسحاق الشاطبي(ت.790هـ) لجهة إنشاء نظريَّة فقهيَّة للتصوُّف تقوم على الموافقة بين الشرع والكشف. يقرِّر الشاطبيُّ أنَّ الخوارق التي عبَّرت عنها كرامات الأولياء ومكاشفاتهم، هي حقيقة واقعيَّة، واستدلَّ على مذهبه بشواهد تجعل المعجزات موصولة بتاريخ الأنبياء كما تبيِّنه آيات القرآن الكريم. أمَّا المكاشفات التي تحدث للأولياء، فيضعها في منطقة النظر الشرعيّ. والحجَّة المنطقيَّة عنده أنَّ المكاشفة هي نتاج لمقدِّمات، والمقدِّمات مسبِّبات لأسباب، ولمَّا كانت الأسباب والمقدِّمات نازلة تحت نظر الشرع، فمن المنطقيِّ أن ينسحب السياق نفسه على المعجزات والخوارق والمكاشفات لأنَّها تتبع لها. وبهذا تصبح المعجزات من مشمولات الشريعة لا من أسرار الحقيقة، ولذلك جهد في جعل مسائل التصوُّف، ما جلَّ منها وما دقَّ، داخلةً في نطاق الشريعة وغير خارجة عنها بحال. فالشرع – كما يقول – حاكم على الخوارق، ولا يخرج عن حكمه شيء منها. في السياق إيَّاه يورد الحكيم الإلهيُّ صدر الدين الشيرازي في كتاب “الأسفار” خمسة أركان لتحصيل المعارف الوحيانيَّة استنادًا إلى منظومته الجامعة بين القرآن والبرهان والعرفان:

أول هذه الأركان، معرفة النفس وإزالة الحُجُب بينها وبين الحقائق العينيَّة والمعارف الحقَّة اليقينيَّة.

ثانيها، المعرفة القلبيَّة أساس معرفة النفس، فهي محلُّ التجلّي والإدراك، وهما متَّحدان، فلا معرفة من دون شهود النفس لذاتها؛ ذلك بأنَّها شعورٌ وحركةٌ داخليَّان، وتفاعل ذاتيٌّ، وأمر وجوديٌّ، والنفس حقيقة الإنسان وروحه، “فمن لا معرفة له بالنفس لا وجود لنفسه، لأنَّ وجود النفس هو عين النور والحضور والشعور”.

ثالثها، الألم والمعاناة من مفارقة الحقائق. والألم حالة إدراكيَّة شعوريَّة، يعيشها الطالب للحقِّ، ويتقلَّب فيها بحرقة وبحزن على البعد، والتفرُّق عن أصل وجوده وكينونته؛ ولا يرتفع الألم، إلَّا بإدراك ملائمٍ لمقام النفس وأحوالها. ثمَّ يعرِّف الشيرازيُّ الَّلذَّة والألم بقوله: “اللَّذة كمالٌ خاصٌّ بالمدرِكِ بما هو إدراكٌ لذلك الكمال، والألم ضدُّ كمال خاصٍّ بالمدرِكِ بما هو إدراكٌ لذلك الضدّ”. فالَّلذَّة والألم حالتان إدراكيَّتان معرفيَّتان، تحصلان للمدرِك وللعارف. وحيث إنَّ الإدراك أمرٌ وجوديٌّ، وليس عدميًّا أو اعتباريًّا، ونظرًا إلى الاتحاد بين المدرِكِ والمدْرَك، لزم من ذلك أنَّ الألم والَّلذَّة متَّحدان بالعارف وبالمدرِك. ويثبت الشيرازيُّ بالبرهان في أبحاثه أنَّ الَّلذَّة هي الإدراك بالملائم، والألم هو الإدراك بالمنافي. الألم الذي يعيشه العارف لمفارقته ما يلائمه من الإدراك والمعارف هو أمرٌ وجوديٌّ حقيقيٌّ؛ وإنَّ لسلوك منهج الشهود أصلًا متجذِّرًا في المعاناة، لا يتحقَّق بها إلَّا كلُّ عارفٍ صادق. وهكذا تترتَّب المعاناة في مراتب ودرجات بحسب نشآت النفس الإنسانيَّة.

رابعها، العشق والشوق والمحبَّة، وهي مصطلحات وردت في آثار صاحب الحكمة المتعالية، ولا تدلُّ على معنى واحد؛ وإنَّما تتفاوت بحسب النشأة الإمكانيَّة للهوّيَّات الوجوديَّة. فقد حكم الحكماء بسَرَيان محبَّة الله في جميع الموجودات حتى الجماد والنبات، بالحجَّة والبرهان، وأحكموا القول بأنَّ مبدأ جميع الحركات والسكنات في العاليات والسافلات من الفلكيَّات والأرضيَّات، هو كشف الواحد الأحد، والشوق إلى المعبود الصمد.

خامسها، التجرُّد والتعالي، ويكون ذلك عبر الرياضة والمجاهدة الروحيَّة والعلميَّة، وبشرائط مخصوصة”، منها أنَّ التجرُّد عن عالم الحسِّ، هو مقدِّمة لعلوم المكاشفة، التي هي المقصد الأصليُّ والكمال الحقيقيُّ، وتتحقَّق بعد التهذيب لظاهر الإنسان وباطنه. فعالم الحسِّ مانعٌ للنور والتجلّي، وعلى السالك أن يصفِّي قلبه، ويجلِّي عنه صدأ المعاصي الحسِّيَّة والخياليَّة، التي مردُّها إلى الحسِّيات، لأنَّ القلب كالمرآة، لا ينعكس فيه الحقُّ إلَّا بعد الصقل من الشوائب. أمَّا الرياضة الحكميَّة، فهي معرفة الربوبيَّات والفنِّ الإلهيِّ المتعلِّقَين بذاته وبصفاته وبأفعاله، ومعرفة المعاد، والرُّسل، والملائكة، والوحي؛ إن الذي يوجب القرب الإلهيَّ. هو العلم الإلهيُّ وعلم المكاشفات، لا علم المعاملات.

IV

واقعيَّة المعرفة الوحيانيَّة

المعرفة الوحيانيَّة يقينيَّة. ولأنَّها كذلك، فهي مبرَّأة من الخطأ والنقصان. لهذا الداعي اكتسبت هذه المعرفة صفة التوحيد بين حقَّانية الغيب وحقيقة الواقع. وبناءً عليه، يصير من أظهر أشكال التعرُّف في طوره الوحيانيِّ، الإقرارُ الرضيُّ بواقعيَّة أفعال الوحي وحقَّانيَّتها. ذلك بأنَّ كلَّ معرفة متأتيِّة من هذه الحقَّانيَّة هي معرفة يقينيَّة، والعلم بها علمٌ حضوريٌّ لا لَبْسَ فيه. من هذا الأساس لن يكون ثمَّة تغاير جوهريٌّ بين التسليم بواقعيَّة الوحي وحقَّانيَّته في عالم الموجودات، والرؤية الأنطولوجيَّة لنشاط العقل الاستدلاليّ. فلهذا الأخير مراتب معهودة في النظام الفلسفيِّ الكلاسيكيِّ: كالعقل الهيولانيِّ، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد. ثمَّ إنَّ من يفلح بالوصول إلى مرتبة “العقل المستفاد” يمسي صاحب نفس قدسيَّة؛ ويصبح عمله مصانًا ومحفوظًا من أيِّ عيب. في التنظير العرفانيِّ للواقعيَّة الوحيانيَّة، أمكن أن نتبيَّن كيف استند ملَّا صدرا في تأصيل نظريَّتها المعرفيَّة إلى مبدأ اتحاد العالِم والمعلوم. فالنفس القدسيَّة التي تحقَّقت بالعقل واتَّحدت معه صارت هي نفسها عقلًا كليًّا. والعقل الكلّيُّ بهذه المنزلة هو حقيقة الوحي الجامع لكمال الدين وتمام العقل. فالعقل الكلّيُّ بما هو حقيقة وحيانيَّة، هو مخزن جميع المعقولات، وبالتالي فإنَّ جميع الحقائق موجودة عنده كحضور واقعيّ. وإذا كان لنا أن نطابق بين العقل النبويِّ وحقيقة العقل الكلّيِّ، سيظهر لنا كيف أنَّ إلقاء الوحي على النفس القدسيَّة هو ضربٌ من الاصطفاء الإلهيِّ لأشخاص ترفَّعت نفوسهم عن دَنَسِ الطبيعة ودَرَنِ المعاصي، وتطهَّرت عن الرذائل الخُلقيَّة. فالله تعالى ينظر إليها بُحسن عنايته، ويُقبل عليها إقبالًا كليًّا، ويتَّخذ منها لوحًا، ومن العقل الكلِّيِّ قلمًا، وينقش من لدنه فيها جميع العلوم كما قال Nوَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًاM[الكهف، 65]، وهنا يصير العقل الكليُّ كالمعلِّم، والنفس القُدسيُّ كالمتعلِّم، حيث يتصوَّر الحقائق من غير تعلُّم. 

لا يكتفي النظام المعرفيُّ العرفانيُّ ببيان القواعد العقليَّة والأُسُس النظريَّة لواقعيَّة الوحي بل هو يعتني بدور آخر بالغ الأهميَّة، هو تقرير الكشف والشهود بوصفه علمًا حقيقيًّا يصل علم الغيب بعالم الشهادة. والحاصل، أنَّ العارف حين يجاوز العقل المسكون بعالم الحواسِّ، فإنَّه يتَّصل حالذاك بطورٍ “ما بَعديٍّ” حيث تتمدَّد فعَّاليَّات العقل إلى ما يتعدَّى محابسها المألوفة. في هذا الطور الامتداديِّ للعقل يستطيع الذي قُدِّر له ذلك، أن يجاوز نفسه نحو عالمٍ عقليٍّ مفارقٍ تنفسحُ فيه المدارك وتتلاحم فيه الآفاق. والعقل الممتدُّ الذي به يستأنف العارف معراجه المعرفيَّ إلى ما لا يتناهى من معارف وجوديَّة، هو نفسه ما يسمّيه العرفاء العقل القدسيّ. والأخير هو إيَّاه ما أخذت الفلسفة الأولى ولواحقها وسمَّته اصطلاحًا العقل المستفاد أو العقل الفعَّال. إلَّا أنَّ المهمَّة التي يتولَّاها العقل القدسيُّ هي تحقيق ما لا يقدر عليه العقل الفلسفيُّ صبرًا وتدبُّرًا. ذلك بأنَّه العقل المتسامي الذي يدرك الحقائق الكليَّة المطلقة بوساطة الكشف.(يزدان بناه- فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة- ص 321-322).

ولكي نتبيَّن ما يفيد عن المرتكزات العقليَّة للمعرفة الشهوديَّة العرفانيَّة، من المهمِّ بيان مفهوم العقل كما جرى تداوله بين الفلاسفة والعرفاء. فالعقل في نظر الفيلسوف هو استعداد طبيعيٌّ، وجوهر أو ذات، أو علم مكسوب. أمَّا عند العارف فهو استعداد مخلوق، أو وظيفة، أو علمٌ موهوب. وكلٌّ من الفلاسفة والصوفيَّة يقسمون العلم العقليَّ إلى نظريٍّ وعمليّ. فالعقل النظريُّ عند الفلاسفة مبنيٌّ على مقدِّماتٍ يقينيَّة، وعند العرفاء من الصوفيَّة هو غريزةٌ للتمييز. أمَّا العقل العمليُّ عند الفلاسفة (الأخلاقيين خصوصًا) فهو يؤدّي أعمالًا دنيويَّة، وعند الصوفيَّة هو عقلٌ دينيٌّ (وجدانيٌّ خلقيٌّ). وإذا كانت مرجعيَّة العقل الوجوديَّة، طبيعيَّة- إنسانيَّة لدى الفلاسفة، فهي عند الصوفيَّة ربَّانيَّة – غيبيَّة. وفي حين قام منهج الفلسفة على التجريد البرهانيِّ، انبنى العقل العرفانيُّ على التفاعل السلوكيِّ في إطار جدليَّة: علم – عمل – علم. ما يعني أنَّ غاية العقل في الفلسفة هي معرفة الأشياء في ذاتها، وإدراك الحقائق العليا المجرَّدة، بينما غاية أهل الكشف والشهود التخلُّق بالأخلاق الوحيانيَّة، والتحقُّق بمعارفها…

لم يحجم العرفاء عن الاعتناء بأحوال العقل المقولاتيِّ وتناهيه. إلَّا أنَّهم لم يعفوه من النقد. وهذا ما أوردوه في شأنه: إنَّ “من أعجب الأمور كون الإنسان يقلِّد فكره ونظره، وهما مُحْدثان مثله، والفكر والنظر قوَّة من قوى الإنسان التي خلقها الله فيه ولكنَّ العقل يقلِّدها، مع علمه أنَّها لا تتعدَّى مرتبتها، وأنَّها تعجز في نفسها عن أن يكون لها حكم قوَّة أخرى مثل القوَّة الحافظة والمصوِّرة والمتخيّلة، والقوى التي هي الحواسُّ من لمس وطعم وشم وسمع وبصر. ومع كلِّ هذا القصور كلّه يقلّدها العقل في معرفة ربِّه، ولا يقلّد ربّه في ما يخبر به عن نفسه في كتابه وعلى ألسنة رسله، فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط، وكلُّ صاحب فكر هو تحت هذا الغلط بلا شكٍّ، إلّا من نوَّر الله بصيرته، وأطال في ذلك.

V

كهف الفلسفة وأرجاء الوحي

على خلاف ما اقترفته أنطولوجيا الحداثة من فصل ذرائعيٍّ بين العقل والوحي، نجدنا تلقاء بيِّنة ميتافيزيقيَّة لا ترى إلى العقل إلَّا بما هو تمهيد ضروريٌّ يستكشف الطريق إلى الوجود الوحيانيّ. بل هي تمضي إلى إسباغ العقلانيَّة على ما ليس بإمكان المفاهيم العقليَّة إدراكه والوقوف عليه. عند هذه الانعطافة المعرفيَّة سوف يجد العقل مكانته العظمى في الميتافيزيقا الوحيانيَّة. فإنَّه حيث يتبوّأ هذه المكانة، يروح يشاهد الأشياء كما هي، ويشهد عليها على وجه الصواب واليقين، في حين لن يتسنَّى للعقل الذي أخلد إلى أرض المفاهيم أن يشاهد أو يشهد، وحيث طابت له الإقامة في أرجاء الأذهان المجرَّدة.

مع ظهور الحكمة النظريَّة في مدوَّناتها الأولى، سيبيِّن أفلاطون أنَّ “الفلسفة هي العلم بالحقائق المطلقة المستترة وراء ظواهر الأشياء”. وكان بهذا صادق النيَّة في الدعوة إلى تأسيس ميتافيزيقا ما ورائيّة تتغيّا الكشف عن حقيقة الوجود. ولمَّا جاء أرسطو ليعرِّف الفلسفة بأنّها “العلم بالأسباب القصوى للموجودات، أو هي علم الموجود بما هو موجود”، ربّما لم يكن يدرك أنَّه بهذا التعريف سيفتح الباب واسعًا أمام إلحاق الميتافيزيقا بعلم المنطق، واستنزالها إلى دنيا التقييد. وعلى غالب الظنِّ، كان أرسطو توَّاقًا إلى الانعطاف بمهمّة الفلسفة من أجل أن يجاوز التعالي الميتافيزيقيَّ للمُثُل الأفلاطونيَّة ويحسم الجدل حول تعريفاتها. وهكذا جاءت هندسة العقل بالمقولات العشر ثمرة هذا الانعطاف، وهو لم ينفِ ما أعلنه القدماء من أنَّ الفلسفة تبقى العلم الأشرف من المعرفة العلميَّة، وأنَّ إدراك الحقيقة ومعرفة جوهر الأشياء يحتاجان إلى إلهام وحدسٍ عقليٍّ يمضي إلى ما وراء طور العقل. إلَّا أنّه – مع ذلك – سيبقى أول من افتتح باب الشكِّ في ما إذا كان بمستطاع العقل البشريِّ إدراك الحقائق الجوهريَّة للأشياء. بسببٍ من ذلك، لم يولِ أرسطو عناية خاصَّة بمعرفة الله، ولم يعتبرها غرضًا رئيسيًّا لفلسفته، ولم يدخلها بالتالي في قوانينه الأخلاقيَّة ولا في نظمه السياسيَّة. كانت الأولويَّة عنده النظر إلى العالم الحسّيِّ وبيان أسبابه وعلله من دون أن يفكِّر في قوَّة خفيَّة تُدبِّره. أمَّا مؤدَّى منهجه فيقوم على أنَّ الطبيعة، بعدما استكملت وسائلها وانتظمت الأفلاك في سيرها، انتهى بها المطاف إلى محرِّك أول يحرِّك غيره ولا يتحرَّك هو. وهذا المحرِّك الساكن أو المحرِّك الصُوَريُّ هو عنده الإله الذي لا يذكر من صفاته إلَّا أنَّه عقل دائم التفكير، وتفكيره منصبٌّ على ذاته.

في الأحقاب المتأخِّرة من التفلسُف الحديث، سيشهد التفكير الميتافيزيقيُّ على إرهاصات مفارقة حيال الوحي. والذي قدَّمته فينومينولوجيا الكينونة عند هايدغر – على سبيل المَثَلِ – يفارق، وإن بقسطٍ ملحوظ، ما دأب عليه التأويل التاريخانيُّ للأمر الغيبيّ. رأى هايدغر إلى الكينونة بوصفها حَدَثًا شديد الغموض والبساطة. بل هي – عنده – حدث الوحي أو الانكشاف.Unverborgenheit وبالتالي فهي ليست شيئًا، أو كائنًا يمكن الكشف عنه في حدِّ ذاته. إنها حدث “الإضاءة”/ (الفسحة Lichtung) الذي ينير الكائنات أو يكشف عنها. من هــذا النحو تبقى الكينونة – في حسبانه – غيــر مرئيَّة، بل “الأكثر خفــاء من الخفــيّ”. وأمَّا كشف الكائنات- بحسب مُدَّعاه-  فيعنــي جعلهــا تتفتَّح، كما يعنــي “تحريرها”، و”إضاءتها”، وجلبهــا إلى الحضــور، والسَّمــاح لها بأن تظهــر على أنَّها مـا هـي عليــه. ومن ثمَّ فإنَّ حدث الوجــود – لديه – هو حـدث كشف الحقيقة(ά- λήθεια). ومع أن سَيْلًا من الغموض واللّبْسِ أحاط بكينونة هايدغر وهوّيّتها الذاتيَّة، إلَّا أنَّه كان يلتفت بين الحين والحين- خصوصًا في أعماله المتأخِّرة – إلى تمييزها عمَّا سمَّاه بـ “الإله الأخير” الذي ينتشل الإنسان من جحيمه الأرضيّ. فالإله الأخير – كما يبيِّن-  ليس هو حركة الكينونة وحضورها مثلما قرَّرها التقليد اليونانيُّ، وإنما هو الذات المتحرِّرة من مقولات الفلسفة الأولى ومفاهيم العقل الأدنى. (أنظر أعماله: “إسهامات في الفلسفة” و “الكينونة والزمان”).

وأنَّى كان الحال، فإنَّ مساعي الانتقال من ضيق الميتافيزيقا القبْليَّة المقيَّدة بأحكام المقولات إلى سعة الوحي، وآفاقه تفترض التمييز بين صفتين وجوديَّتين شكّلتا إحدى أهم المعضلات التي عصفت بتاريخ الميتافيزيقا. نعني بذلك التمييز بين الله الخالق المدبِّر، والمخلوق الأول الذي خُلِق بوحي الكلمة الآمرة، وصار حاويًا لنظام الاعتناء الإلهيِّ والخاضع لقوانينه في الآن عينه. تذهب الميتافيزيقا الوحيانيَّة إلى مغايرة خطط الفلسفة الكلاسيكيَّة ومناهجها في تأسيسها لعلم الوجود. سواء بالنسبة إلى معرفة الإله بوصفه المحرِّك الذي لا يتحرَّك، أم معرفة الواجب الذي درجت عليه الفلسفة السينويَّة وأنشأته على نصاب المفاهيم وقوانين الأذهان. فما دام اشتغال الفكر يدور مدار فضاء ميتافيزيقيٍّ مسكون بطغيان المفاهيم، ومحكوم لمقتضياتها المنطقيَّة، فسيتعذَّر الوصول إلى حقيقة التوحيد. والميتافيزيقا التي مرجعها الوحي، هي تلك التي لا ترى إلى الذات الإلهيَّة بما هي مقولة من مقولات الفلسفة. ولمَّا أنَّ فعل الإغريق هذا مع الروَّاد الأوائل سقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد جرى كلُّ قول في الإله تصوُّرًا من جملة التصوُّرات الداخلة في لعبة الذهن البشريّ. ومع أنَّ الميتافيزيقا الوحيانيَّة لا تنكر مقتضيات العقل النظريِّ ومبادئ المنطق من أجل التعرُّف على الكون، إلَّا أنَّها لم تفعل ذلك، إلَّا لاعتبارها أنَّ هذه المقتضيات ضروريَّة لفهم الإخبار الإلهيِّ عن سببيَّة وجود الموجودات.

VI

الوحي الجامع لمعرفة الله ومعرفة الكون

في مقام المعرفة الوحيانيَّة يتوسَّع أفق التنظير والاستشعار، حتى لنجدُنا تلقاء مساعٍ فريدة تتغيَّا الخروج من العثرات التي تحول دون الأجوبة الآمنة. هنا نذكِّر بقاعدتين تؤلِّفان واحدًا من أبرز التنظيرات التي عَنِيَت بمعرفة الموجود البَدْئيِّ استنادًا إلى الوحي. وهاتان القاعدتان هما “علم كان” و “علم البَدء” اللتان ذكرهما ابن عربي في جواباته على أسئلة الحكيم الترمذيّ:

– القاعدة الأولى- علم “كان”: المقصود من هذا العلم تنزيه الله تعالى عن كلِّ ما سواه من أشياء الكون لقوله تعالى: Nلَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌM[الشورى- 11]. يقرِّر علم “كان” أنَّه سبحانه لا تصحبُه الشّيئيّة، ولا تنطبق عليه.. وأمَّا لفظة (كان) فلا تدلُّ على التّقييد الزمانيِّ، فالمراد بها الكون الذي هو (الوجود). ولذلك فُهِم حرف “كان” على أنَّه حرف وجوديٌّ، لا فعلٌ يطلُب الزمان. وعليه، كان تقرير الشيخ ابن عربي حول علم “كان” أنَّ الله موجود، ولا شيء معه. أي ما ثمّ من وجوده واجب لذاته غير الحقّ. والممكن واجب الوجود به لأنَّه مظهره، وهو ظاهر به. والعَيْن الممكنة مستورة بهذا الظاهر فيها.. فانْدَرج الممكن في واجب الوجود لذاته “عَيْنًا”، واندرج الواجب الوجود لذاته في الممكن “حُكمًا”..

– القاعدة الثانية: علم البَدء: لا ينأى هذا العلم عن علم “كان” في منظومة ابن عربي، بل هو الحلقة التالية في علم التوحيد وفعل الوحي. فإذا كان “علم كان” يعني الإقرار بالذات الأحديَّة وتنزيهها عن الفقر والإمكان، فإنَّ “علم البَدء” هو الإقرار بحاصل الكلمة الإلهيَّة “كُن”. أي بالموجود البَدْئيَّ كأول تجلٍّ إلهيٍّ في دنيا الخلق. وعلى هذا الأساس يُعرَّف بأنَّه علمُ الفصل بين الوجودين، القديم والمُحدث. وهو حسب ابن عربي علم عزيز وغير مقيَّد، وأنَّ أقرب ما تكون العبارة عنه، أن يُقال: البَدْء افتتاح وجود الممكنات على التّتالي والتّتابُع، لكون الذات الموجِدة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان. فالزمان من جملة الممكنات الجسمانيَّة، وهو لا يُعقل إلَّا ارتباط ممكن بواجب لذاته. فكان في مقابلة وجود الحقِّ، أعيان ثابتة، موصوفة بالعدم أزلًا، وهو الكون، الذي لا شيء مع الله فيه، إلَّا أنَّ وجوده أفاض على هذه الأعيان، على حسب ما اقتضته استعداداتها، فتكوَّنت لأعيانها، لا لهُ، من غير بينيَّة تُعقَل أو تُتَوَهّم. فوقعت في تصوُّرها “الحَيْرة” من طريقين: طريق “الكشف”، وطريق “الدليل الفكريّ”. والنُّطق عمَّا يقتضيه الكشف، بإيضاح معناه، يتعذَّر: فإنَّ الأمر غير مُتخيَّل، فلا يُقال، ولا يدخُل في قوالب الألفاظ. وسبب عزَّة ذلك، يعود إلى الجهل بالسبب الأول وهو “ذات الحقّ”. والذي وصل إليه علمُنا من ذلك – وَوَافَقنا الأنبياء عليه – كما يضيف ابن عربي- أنَّ “البدء عن نسبة أمْر، فيه رائحة جَبْر”. إذ الخطاب لا يَقَع إلَّا على عَيْن ثابتة، معدومة، عاقلة، سميعة، عالمة بما تسمع: بسَمْع ما هو سمع وجود، ولا عقل وجود، ولا علم وجود. فالْتَبست، عند هذا الخطاب بوجوده. فكانت “مَظْهرًا له” من اسمه (الأول-الظاهر). وانسحبت هذه الحقيقة، على هذه الطريقة، على كلِّ عَيْن إلى ما لا يتناهى.. فإنَّ مُعطي الوجود لا يُقيِّده ترتيب الممكنات، إذ النسبة منه واحدة. فالبَدْء ما زال، ولا يزال. وكلُّ شيء من الممكنات له عين الأوليَّة في البدء. ثُمّ إذا نُسبت الممكنات، بعضها إلى بعض، تعيَّن التقدُّم والتأخُّر، لا بالنسبة إليه سبحانه.. فوقف “علماء النَّظر” مع ترتيب الممكنات، حيث وَقَفنا نحن مع نسبتها إليه تعالى..

يُستفاد من هاتين القاعدتين العلميَّتين السابقتَيْ الذكر، أنَّ الوحيَ حاضرٌ فيهما حضور المطابقة والتناسب. وبيان الأمر أنَّ العلم بكلٍّ منهما له سعته الخاصَّة ومقداره الخاصُّ، ذلك بأنَّ مهمَّة الوحي في هذه المنزلة، تعليميَّة وتعريفيَّة. تعليم الأنبياء القانون الإلهيّ بالوحي المباشر، وتعريف الناس بهذا القانون عن طريق الخبر وأحكام الشريعة.

VII

علم الوحي.. خفاء وبداء ومسرَّة

علم الوحي في مقام الذات الأحديَّة المقدَّسة هو علم مخصوص بنفس المقام، ولا يعلم سِرَّه إلَّا هو. وفي مقام الموحَى إليه هو علم دالٌّ على المعرفة بفعل الفاعل أمرًا وخلقًا وتدبيرًا. فالمعرفة من هذه الجهة هي معرفة معنيَّة بالمخلوق، بدءًا من الذرَّة البدائيَّة وحتى الإنسان الكامل. لهذا قيل إنَّ معرفة الموحَى إليه علمٌ من الدرجة الثانية لأنَّها مختصَّة بالعلم الهادي إلى عالم الخلق. ومثل هذا العلم لا يُنال إلَّا بتعيُّن الموجودات وظهورها بوصف كونها علامات دالَّة عليها. وحالذاك، نغدو تلقاء علمٍ تفصيليٍّ حيث تكون فيه المعرفة من جنس العلم وعلى نحو لا تُنجز معرفة المخلوقات إلَّا بربطها بأصلها، وبما يفيض عليها ذاك الأصل. ومن قبيل الإيضاح نقول، إنَّ أهل المعرفة إذا أرادوا معرفة أمرٍ ما، فإنَّما يعرفونه بحكم من أحكام العلم الأول أو بصفة من صفاته. بل إنَّ كلَّ محصَّلٍ من المعرفة إنَّما يحصَّلُ بالعلم الموحى به لا بغيره. وهنا منشأ التمايز بين العلم والمعرفة. فالمعرفة – كما يبيِّن العارفون – أخصّ من العلم، وهي تطلق على معنَيَيْن: الأول، علم بأمرٍ باطن يُستدلُّ عليه بأثر ظاهر، كما لو توسَّمت شخصًا ما، فعلِمتَ باطن أمره من علامة ظهرت على سيماء وجهه أو على لسانه. والثاني، العلم بمشهودٍ شاهدته وسبق به عهد: كما لو رأيتَ شخصًا كنت رأيتَه من قبل، فعلمِتَ أنَّه هو ذلك المعهود. يشير المعنى الأول للمعرفة إلى المنطقة الباطنيَّة للإدراك التي يستدلُّ عليها بما هو ظاهر من الشيء أو الشخص. ويومئ المعنى الثاني، إلى الاستذكار والانتباه من بعد نسيان أو غفلة. وهو الحال الذي يحدث إثر حصول اليقظة لدى الإنسان، وبناءً على هذا الفهم، سمِّي العارف عارفًا لأنَّه عرف ربَّه من بعد نسيان وغفلة، لا من بعد جهل به. ولبيان المزيد، نشير إلى المعرفة الفائقة التي يحوزها العرفاء لدى بلوغهم مقام التلقّي غير المباشر من الغيب. أي المقام الذي به ينالون حظًّا ما من سرِّ العلم البادي على صورة معارف تفصيليَّة. والمقصود من سرِّ العلم كما يلاحظ صدر الدين القونويُّ هو معرفة التوحيد في مرتبة الغيب. فيطَّلع المشاهد على العلم ومرتبة وحدته بصفة وحدة، ليدرك بهذا التجلِّي العلميِّ من الحقائق ما شاء الحقُّ تعالى أن يُرِيَه منها ممَّا هي في مرتبته أو تحت حيطته. وعليه، فإنَّ كلَّ ما يصل إليه المتعرِّف الوحيانيُّ من معرفة كان مرجِعُه إلى الغيب. فالمعرفة التوحيديَّة هي ثمرة كلمة الوحي في تحقُّقها الوجوديّ. وهي معرفة تعرفُها الموجودات غير الناطقة بغريزتها التكوينيَّة، كما يعرفها الإنسان المتكلِّم بالفطرة والخبرة والشهود العقليُّ والاستشعار الباطنيّ.

ولو شئنا التمييز بين مراتب معرفة الوحي فسنجدها على وجهين: أولهما، معرفة الشيء بالكنه والحقيقة على ما هو عليه في ذاته وواقعه. وثانيهما، معرفة الشي بالوجه، أي اقتصار معرفته فقط على وجه الخصوص، وهذا هو حال عامَّة البشر. أمَّا حقيقة الوحي في ذاته فهو مما لا تناله العقول ولا تحويه الألفاظ. على حين أنَّ النبيَّ يتلقَّى الوحي من غير توسُّط الحواسِّ الظاهرة، فيسمع ويرى من غير وساطة السمع والبصر الماديّين. 

هذه المسألة في وعي طبيعة الوحي الخاصِّ والمباشر، وأنَّه حاصل الاتصال الغيبيِّ بين النبيِّ وعالم الملكوت والجبروت، قد تفضي إلى تعذُّر الفهم العقلانيِّ لظاهرة الوحي النبويِّ أو إمكانيَّة تحليله في ضوء التجربة العلميَّة. ومن البيِّن أنَّ الذين عكفوا على فهم الوحي في ضوء المنطق العقليِّ المحض أو التجربة العلميَّة المخبريَّة لم يصيبوا؛ ثمَّ لم يبرحوا كهف الأذهان وحسابات العقل الأدنى. ذلك بأنَّهم طلبوا المعرفة ممَّا يقع خارج دائرة مجالهم الإدراكيّ. فالخفاء في طبيعة الوحي، هو الذي جعل البعض ينكرونه مطلقًا، أوانهم ينكرونه خصوصًا بمفهومه الغيبيِّ ويلبسونه ثوبًا علميًّا، فحيث عجزوا عن تحليل ظاهرة الوحي كنوع متميّز من أنواع الإدراك، حاولوا أن يحلِّلوه ويدرسوه في ضوء ما توصَّل إليه العلم الحديث من معطيات تجريبيَّة ليسهل عليهم الاعتقاد به. 

في الميتافيزيقا الوحيانيَّة ما يفيد أنَّ عدم فهْم حقيقة الاتّصال الروحيِّ الخفيِّ بين المَلأ الأعلى وجانب الإنسان الروحيِّ لا يعني إنكار هذا الاتِّصال. فالإنسان يتلقَّى بروحه إفاضات وإشراقات نوريَّة تشعُّ على نفسه من عالَم وراء هذا العالم المادّيّ، وليس في ذلك اتّصالًا أو تقاربًا مكانيًّا؛ لكي يستلزم تحيُّزًا في جانبه تعالى. ولعلَّ منشأ هذه الشبهة قياسهم أمور ذاك العالم غير المادّيِّ بمقاييسَ تخصُّ العالم المادّيّ. وبهذا يتَّضح أنَّ الوحي ليس أمرًا ممكنًا فحسب، بل هو أمرٌ واقع أيضًا. والوقوع هنا يجري على نحو الأصالة الإيجاديَّة في مقام الأمر والخلق. ذلك خلافًا للذي تصوَّره أهل العقل الأدنى إذ اعتبروا أنَّ الوحي من خصيصة الملائكة، ولا ينكشف للبشر لامتناعه الذاتيّ.

*      *      *

ما من ريب، أنَّ التأصيل الجوهريِّ لمعنى الوحيانيِّ في حضوره وتبدِّيه في الواقع، يفضي إلى حقيقة أنَّ الإنسان – بوصفه إنسانًا – هو كائنٌ ميتافيزيقيٌّ لا يستطيع العيش إلَّا في عالمٍ مرعيٍّ بالألوهيَّة. فالإنسان الوحيانيُّ الذي يؤسِّس وجوده وفقًا لعالم الرعاية الإلهيَّة، هو الأكثر توقًا إلى العيش في محاريب التوحيد. بل هو ذاك الذي أصغى إلى نداء العالم السماويِّ من أجل أن يتلقَّى ما قُدِّر له من ألطاف الوحي وشهوده. وحالذاك لا يعود العارف يرى إلى حقيقة الوحي إلَّا كونه واقعًا حقيقيًّا يمنحه الشعور بالامتلاء المحض وبالسعادة التي يتأمَّلها بشغفٍ رضيّ، ثمَّ ليرجو منتهاه إلى المكان الأعلى طهرًا وتقدُّسًا، مثلما كان على الفطرة من قبل، كائنًا طهرانيًّا في علم الله وحضرته القدسيَّة.
_____
*د. محمود حيدر/مفكر وباحث في الفلسفة والإلهيات- لبنان/ رئيس تحرير مجلة “علم المبدأ”.

جديدنا