الراديكاليّة مقابل التقدُّميّة

image_pdf

الكاتب:ميجل ابنسور[1]/ المترجم: محمد لسود

مقدِّمة المترجم:

التفكير في التاريخ يضع المتأمّل منذ الوهلة الأولى في وضع  إشكالي، فأول ما يلاقيه هو انقسام حاصل في تصورات أبدعها الفكر البشري حول طبيعة الآلية التي تحكم مساره وتقابل بين مقاربات أقل ما فيها تكافؤ حجج بين قائل بالتقدّم وقائل بالانحطاط، وبين متفائل ومتشائم، وبين ناظر لما حدث على أنه حالة نهائية ومصير محتوم أو قدر يقوده عقل خفي أو النظر إليه باعتباره حالة، الأمر الذي يجعل منه مسألة إشكالية بامتياز.

ومع ذلك فراهننا يكشف عن  فكرة التقدّم  كفكرة لا تزال تحتفظ ببريقها وقدرتها على أن تقدّم لنا معنى وقيمة للتفكير في التاريخ وعلى رفع مستوى الرهانات النظرية والعملية للخوض في المسألة، وهي فكرة لم تسلم من المعارضات الجذرية والمطاعن العميقة، ولكنها تبقى رغم كل ذلك أحد المفاهيم الكبرى في مقاربة التاريخ ومأثرة من مآثر الحداثة الغربية التي لم يتورّع البعض عن مهاجمتها كما يبدو مثلا عند روسو في  “مقال حول الفنون والعلوم” الذي جادل به تنويريون دافعوا بشدة عن التنوير والعقلانية وحلم التقدّم.

وهكذا  تكونت البذرة الأولى لنقد تقدمي لفكرة التقدّم عامة وللفهم التقدّمي للتاريخ، وكان مولدها قرينا لولادة هذا المفهوم وسيتواصل نمو هذه البذرة لاحقا مع النظرية النقدية لمدرسة فرنكفورت التي ركزت على نقد العقل، ومع بنيوية كلود ليفي ستروس الذي واجه فيه انحرافات الحداثة ونزوعها التقدمي نحو نزعة أرو مركزية تعتبر الحداثة الغربية مقياسا للتقدم إلى درجة تستدعي تجاوزا لها نحو إقرار بالتنوع والتعدد الثقافي لدفع السقوط في “دوامة الحاضر” و” أزمة الحداثة”  التي جعل منها على حد عبارة ادغار موران  الذي خاض في هذه الانزياحات الخطيرة لفكرة التقدّم حين ابتعدت عن الكوكبية وسقطت  في الفهم الهووي الغربي للمشروع الحداثي، والملاحظ أن هذا النقد لفكرة التقدّم بعيد عن أن يقودنا إلى تبني مقولات الانحطاط والانحدار في فهم التاريخ كما تبدو عند هيدقر أو السقوط في العدمية النيتشوية التي تحدّثت عن مرض اسمه التاريخ، خاصة وأنه يحافظ على المراهنة على التقدم بما يعطي معنى وقيمة لمسار التاريخ  بل فهما يشده إلى غايات قصوى وعليا ذات صلة بالمعنى والقيم التي يمكنها أن تؤسس لكونية إنسانية يجد فيه الجميع موطنا له.

فهل من داعي إلى التفكير في مفهوم التقدّم راهنا؟ وهل إن مقاربة نقدية داخلية للتقدّم قادرة على استعادة هذا المفهوم لمكانته في فهم التاريخ أم إن الأمر يحتاج إلى نقد خارجي أو إلى رفض لقيمة التقدّم والتسليم بأن الانحدار يحكم التاريخ ؟ وهل يستجيب التفكير النقدي لقيمة التقدّم إلى  مقتضيات تخطي الانسانية لهذه اللحظة المتأزمة ؟ وهل لازال بالإمكان المراهنة نظريا على مفهوم التقدّم كمفتاح لفهم حقيقة التاريخ والمراهنة عمليا على هذا المفهوم لاستكشاف آفاق جديدة للمعنى والقيمة  في الآن والهنا الذين ننتمي اليهما؟ثم ألا يكون التفكير في معنى التقدّم في التاريخ هو ضرورة تفكير في آفاق تقدمنا؟

يهدف هذا النص إلى التأمل في نقد فهم فكرة التقدّم في التاريخ الحديث من داخل رؤية مدافعة عن هذا المفهوم -القيمة إذ يبقى مفهوم التقدم رافعة لتأسيس ينشد، في نفس الوقت، رهان الحقيقة ورهان المعنى ويستدعي من جديد منزلة للفلسفة في عصر أزمة النموذج العلمي التقني والنزعة الأداتية التي تولّدت عن عقلانية صارمة ومغلقة، بدأت منذ وقت بعيد تترك المكان لعقلانية مرنة ومتفتّحة، نجحت ثقافة ما بعد الحداثة في توطينها  أرضا كانت إلى وقت غير بعيد غريبة عنها. وهذا يتطلب كشفا لمقاربات التقدّم  التي جاءت بها الحداثة عبر رؤاها الفلسفية الكبرى بدءا بالنظرية التقدّمية للتقدم، فالنظرية النقدية للتقدم القائلة بالانحدار في التاريخ  وهي تجمع بين القول بالانحدار والتشاؤم تجاه المستقبل وانتهاء بالتصور المأساوي للتاريخ  قبل الولوج إلى مسألة النقد الجذري للتقدم من منظور ما بعد حداثي تخلى عن اعتبار الحضارة الغربية مقياسا للتقدم وهو ما يمكن في الأخير من التفكير في تقدّم تاريخي في المعنى الكوكبي يحفظ التنوّع والاختلاف ويقبل بمسارات تحفظ الهويات وتمكن الآخر اللاغربي بما في ذلك العرب والمسلمين من المشاركة في بناء تقدّم متكافئ لكل الهويات والخصوصيات الحضارية والثقافية. وقد لا يكون الهدف من ذلك سوى المراهنة عل أن التقدّم لا يزال قيمة ثابتة يمكنا أن نعتمده رافعة لرهاناتنا تجاه مستقبل  واعد “للآخر” و”للنحن” الملزمان بتخطي القطبية نحو ضرورة بناء  أفق عيش معا.

وفي هذا السياق يتناول كاتب المقال تفرّد روسو من بين معاصريه بنقد جذري للتقدم في التاريخ  وهو الذي عاش التنوير وشارك في إنجازه ولكنه وقف ضد الخطاب المدحي، مما أعطى عمله أهمية قصوى لم يكن للنظرية النقدية خاصة مع أدرنو وهوركهيمر، إلا أن تعود إليها خاصة في كتاب جدلية العقل، الذي تضمن نقدا جذريا للحداثة وخاصة لمفهوم العقل ولمركزية العقل الذي تأسست عليه.

ترجمة المقال:

في كتابها “صرامة مضاربة” تناولت ميشال حليمي كوهين “الصرامة النقدية التي وجهت لروسو  من قبل أدورنو في كتاب ” جدلية العقل” بما جعل من أدورنو ينأى بنفسه عن مشاركة روسو في أمر ما . هذا هو السبب في أنها تربط بين “تحليلات روسو للصيرورة القاسية لحب الذات والتأملات التي طورتها جدلية العقل حول الصيرورة القاسية للذاتية البرجوازية. “[2]. لكن ألا يمكننا أن نرى في  كتاب جدلية العقل حدة أخرى بين روسو وأدورنو من شأنها أن تكون أكثر من إيماءة، بينما في نفس الوقت تقيم علاقة مع مستقبل العقل، أي اختيار الراديكالية على التقدمية التي لن تكون منفصلة عن هذه الإيماءة المبتكرة المدهشة التي ينتقد بها التنوير عند روسو التنوير[3] نفسه؟ من خلال موقف روسو الذي ولد في الخطاب الأول حول العلوم والفنون ثم تم تطويره بالكامل في رسالة إلى دالمبار حول المشهد المسرحي  (1757).

ألم يخترع روسو هذا الموقف ويفتتحه، حتى هذا الموقف  المختلف عن أصدقائه الفلاسفة من المؤيدين المتحمسين وغير المتحفظين على التنوير  وقاتلوا على جميع الجبهات من أجل التقدم وكأنه كان  يكرر فرضية لابواسي[4] ؟

في الواقع  منذ الخطاب الأول، أعرب روسو عن شكوكه حول القيمة التكوينية والتحررية للعلوم والفنون من الناحية  الأخلاقية. وعلاوة على ذلك طرح هذا السؤال المزعج للغاية: ألن تنشر العلوم والفنون “أكاليل من الزهور” على عبوديتنا من أجل إخفائها بشكل أفضل ؟ وهكذا منذ الخطاب الأول ينأى بنفسه بوضوح عن الفلاسفة.المعاصرين له وهذا هو “استثناء روسو”:[5]لكن فكر روسو ثوري قبل كل شيء لأنه ولد من معارضة أساسية للنظام القائم. بينما ينتقد الفلاسفة النظام القائم  وهم يضعونه في تطور تاريخي ليروا فيه نتيجة لتطور حدث على مر القرون ليأتي روسو ويهاجم أسس هذه النظرية ليصبح انتقاده موجها إلى المجتمع ككل الذي يرى أنه يحتاج إلى  تغيير كامل  للشروط الأخلاقية للحياة برمتها. بالطبع  لقد كان الفلاسفة أيضا ناقدين ومعارضين، لكن وجهة نظرهم ليست جذرية بما فيه الكفاية. [6]

وعلى عكس الفلاسفة، لم يكن روسو مدعوما من قبل أي من الطغاة المستنيرين في ذلك الوقت. ومع ذاك فإن راديكالية روسو تقف وجها لوجه ضد تقدمية الفلاسفة وضد هدوئهم ووثقتهم الهادئة في التطور التاريخي والتقدم .وضمن هذا العداء، تمثل الرسالة  سالفة الذكر إلى دالمبار نوعا من نوبة عصبية.  ومنذ هذه اللحظة انفصل روسو نهائيا عن ديدرو ومع  فلاسفة الموسوعة. وهذا ليس مستغربا. فمن خلال طريقة وجوده وتصرفه، جلب روسو كمواطن من جنيف، أي مواطن في جمهورية، نمطا جديدا يساء فهمه من قبل المعارضة اعتقدت  فيما تعتقده في ذلك الوقت أنه طريق التقدم .”فبطريقته في الوجود، وبطريقته في محاربة المجتمع، قام بثورة فردية سبقت الثورة الجماعية الكبرى. “[7]

3هذه هي الفرضية التي نقترحها: أليست ثورة روسو ضد تقدمية الفلاسفة، وعلى نطاق أوسع ضد التنوير كقوة الدافعة قد مثل المنطلق التأسيسي لثيودور دبليو أدورنو وماكس هوركهايمر  في كتاب جدلية العقل ؟ كما يعلن عنوان كتاب عام 1947،  فإن المسألة تتعلّق بتمييز وإدانة الحركة المتناقضة التي  جعلت من التنوير، الموجه بالكامل نحو التحرر، يتحول إلى نقيضه ويولد شكلا جديدا من أشكال القمع. وهكذا كان السؤال الافتتاحي الشهير: “لماذا غرقت البشرية، بدلا من أن تلزم نفسها بظروف إنسانية حقيقية، في بربرية جديدة”؟ ومن هنا جاء الشك في التنوير، والذي، في ظل ظروف معينة، لن يثبت أنه الطريق الملكي إلى التحرر.

ولكن دعونا نعود بإيجاز إلى رسالة  روسو إلى دالمبار.  ففي الكتاب العاشر من “الاعترافات “، حيث تتم مناقشة الرسالة الشهيرة، يعترف روسو أنه حتى بداية كتابة “الهلويسة الجديدة”حل سخط الفضيلة محل أبولو[8] “.  لقد كتب  روسو رسالته في ثلاثة أسابيع، وكان سخط الفضيلة مرة أخرى هو الذي ألهمه. وفقا لجان ستاروبينسكي، “إن إلهام روسو الأساسي معاد بطبيعته…، إنه يحركه فكر اتهامي”[9].

ولقد كان المصدر الأول للسخط هو أن المحررين المشاركين في  الموسوعة اعتقدوا أنه من المناسب أن يعهد كتابة مقال “جنيف” إلى دالمبار وليس إلى روسو، الذي كان مساهما منتظما في الموسوعة وقبل كل شيء مواطنا في جنيف، والذي كان من المؤكد أنه كان في وضع أفضل لتقديم الجمهورية السويسرية الصغيرة للجمهور.  وفي ديسمبر 1757، تلقى روسو المجلد السابع من  الموسوعة الذي احتوى على المقالة وقرّر على الفور الرّد عليها فتضاعف السخط، لأن إسناد مقال “جنيف” إلى دالمبار أظهر بما فيه الكفاية أن محرري الموسوعة لم يكونوا خائفين من تكليف هذه المهمة الحساسة بموضوع ملكية مطلقة لم يكن لديه السلطة اللازمة لتقديم واحدة من الجمهوريات القليلة الموجودة في أوروبا الملكية والحكم عليها. فهل كان هذا يعني أن إدارة الموسوعة اعتبرت هذا السؤال غير مهم؟

ولم يكن لهذا الصراع إلا أن يزداد سوءا، لأنه خلف ديدرو ودالمبار كان هناك فولتير الذي  كان يدفع إلى تأسيس مسرح  في ضواحي جنيف.

ما الذي يمكن أن يكون أكثر تقدمية وما الذي يمكن أن يكون أكثر انسجاما مع روح التنوير من محاربة الأحكام المسبقة الدينية  وفي هذه الحالة ضد دساتير كالفن، التي، باسم السياسة اللاهوتية، أدانت كلا من مؤسسة المسرح ومجتمع الممثلين الذين حكم عليهم بأنهم أناس سيئو الحياة ؟ وهكذا يمكن لمؤيد التنوير كفولتير أن يدعم فقط إنشاء مسرح. لكن روسو بتطرفه  لم ير الأمر بهذه الطريقة. ويجب أن يقال إن التطرف في ذلك الوقت  المضطرب لا يشير إلى التمسك بالهمجية، ولكن إلى حقيقة طرح سؤال من خلال دفع فحصه إلى الجذور أي إلى الراديكالية مقابل التقدمية ؟

وفي الواقع، في نظر روسو، فإن الموقف المؤيد لإنشاء مسرح في جنيف من قبل فولتير، باسم مكافحة التحيز الديني واجه مباشرة معاناة كبرى.

وفي هذه الحالة، تبين أن التقدمية غير انعكاسية مثل التجريبية البراغماتية التي تكتفي باتخاذ تدابير دون التساؤل عن مزاياها أو آثارها.  وفي مواجهة لهذه الفورية غير النقدية كان من الضروري معارضة نهج جذري يدرك الوساطات ومعنى الإجراء المعني بالاتخاذ .إذ يجب استبدال التفكير التقدمي  الذي يعاني بوضوح من التبسيط، بتعقيد يأخذ في الاعتبار بعدا أو أكثر تم تجاهله حتى الآن. ومن هنا جاء اللجوء إلى الجذور  التي يحدد روسو طبيعتها صراحة في كتاب الاعترافات حين قال: “لقد رأيت أن كل شيء مرتبط جذريا بالسياسة[10]. “

وهكذا كانت الجذور تعني عند روسو السياسة والمؤسسة السياسية لما هو اجتماعي.  وروسو لم يقل “كل شيء سياسي” ولكن  قال”كل شيء مرتبط جذريا بالسياسة”، مما يعني أنه في أي مجتمع بشري، فإن مؤسسة معينة، بغض النظر عن طبيعتها، سواء كانت عائلية أو جمالية، تتوافق أو يجب أن تكون متوافقة مع السياسة، أي مع “طبيعة حكومتها”  وهو ما يسميه آخرون “النظام”.

ومع وضع هذا المبدأ في الاعتبار  يمكن التساؤل : ما هي، وفقا للرسالة إلى دالمبار، أكثر تنافر صارخ بين جنيف وإنشاء مسرح داخل جدرانها؟

بادئ ذي بدء، جنيف مدينة صغيرة، حيث وإن كان هناك تفاوت في الحظ،[11] ليتم احتواؤها داخل الحدود، بحيث يقاوم مجتمع المواطنين الانقسام .  ولقد كتب روسو: “كل المجتمعات واحدة، كل شيء يصبح مشتركا للجميع.”  ولكن سيؤدي إنشاء المسرح إلى ثورة في العادات من شأنها أن تثير ثورة في الأخلاق. فإنشاء مسرح سيكون نقطة جذب كبيرة في بلدة صغيرة  وهو ما من شأنه أن يدمر في الحال هذا المجتمع المنقلب على نفسه  من مجتمع بسيط، ريفي تقريبا، يمارس نمطا أصليا من التواصل الاجتماعي في الدوائر أو المجتمعات. إلى مجتمع مغاير. أما بالنسبة للمهرجانات الشعبية، فيمكن للمرء أن يلاحظ نرجسية اجتماعية معينة، حيث يقدم الأشخاص عرضا لأنفسهم. كل هذا سينهار بين عشية وضحاها مع إدخال الرذيلة والكسل والذوق وتعايش أكبر بين الجنسين، باختصار، كل ما له تأثير في المدن الكبرى على إبقاء الإنسان على مسافة من  الآخر.

ومن المستحيل تخيل صراع أكثر نموذجية  من صراع نوعان من المجتمع يواجهان بعضهما البعض  مما يمكن أن يظهر في المواجهة بين المسرح وجنيف، وهو صراع لا يطاق بالنسبة لروسو لأنه يتزامن تماما مع القطيعة بين الوجود والظاهر. فالمسرح الذي يريد الفلاسفة إدخاله إلى جنيف هو المسرح الفرنسي كما يمارس في باريس . “باريس أين يتم الحكم على كل شيء من خلال المظاهر”. [12]وعلاوة على ذلك، مع المسرح يأتي الممثل، الذي قيل لنا أن الحالة  التي يجب أن يكون عليها هي التظاهر. إنه إدراك أن القطيعة التي ستحصل ستكون بين الوجود والمظهر  وهي المؤلمة للغاية بالنسبة لروسو  بل هي القضية الرئيسية  الكامنة في قلب خلافه مع الفلاسفة حول المشهد المسرحي فجنيف  التي هي نصف ريفية، يسكنها شعب يعمل بجد، بأخلاق بسيطة، أقرب إلى الطبيعة.

إنها وطن يرتبط به مواطنون. وفي جنيف، يبدو أن ما نحن عليه  يجعلنا نبحث عن حقيقة الوجود في هذه المدينة الفاضلة.  أما في المسرح، وكما هو الحال في عالم الباروك، فأنت ما تبدو عليه”وعالم الباروك هو مسرح يلعب فيه كل رجل دوره خلف قناع[13]. وهكذا يمكننا أن نفهم شدة روسو، الساخط على عمى الموقف الفاضح للفلاسفة الذين أرادوا تحويل جنيف  إلى نسخة من باريس. فبالنسبة لروسو، لم تكن هذه الرسالة  تخدم هدفا أقل من إنقاذ جنيف  ومنعها من الوقوع في عالم المظهر.

ما هي جنيف ؟ في ذهن روسو، إنه تذكير، مثل الحضور الاستثنائي تقريبا، بروما القديمة، بروما الجمهورية قبل السقوط الناجم عن الفساد. واحدة من الجمهوريات القليلة التي نجت في أوروبا المطلقة. ليس هناك شك في أن الرسالة إلى دالمبار هي جزء من العلاقة المتناقضة بين الموسوعة والتقليد الجمهوري. من المحتمل أن روسو وموسوعي آخر، ألكسندر ديلير، ينتميان إلى الأقلية الجمهورية في مجموعة الفلاسفة.[14]

وعلاوة على ذلك، بالنظر إلى الفعالية التي يعطيها روسو للسياسة وللتأسيس السياسي  لما هو اجتماعي، يطرح سؤال أساسي: هل إنشاء مسرح في جنيف، أي مؤسسة أرستقراطية ملكية، تنتمي إلى ثقافة باروكية أكثر من كونها كلاسيكية، يمكن تصوره في جمهورية، متوافق مع المنطق الصحيح للجمهورية ومع مبدأها، أي الفضيلة وكذلك مع روحها ؟ هذا سؤال فشل دالمبار والفلاسفة، الذين أعماهم نضالهم ضد التحيز الديني وتقدميتهم، في طرحه، على الرغم من أنه حاسم بشكل واضح. وغني عن القول أن الجواب بالنسبة لروسو هو لا. إن إنشاء مسرح فرنسي في جنيف من شأنه أن يؤدي إلى تنافر  وتناقض كبير سيؤدي في النهاية إلى فقدان الجمهورية الهلفيتية، من حيث أنه سيهاجم مبدأها، الذي ليس سوى الفضيلة.

بمعنى ما، فإن الرسالة إلى دالمبار حول المشهد المسرحي التي يجعل فيها روسو نفسه بطل الشعب هي رسالة عن المسرح الفرنسي يمكن مقارنتها بالرسالة السابقة (1753) حول الموسيقى الفرنسية .  ووراء كل من هذين  الرسالتين النفور من المجتمع الفرنسي في الفترة التي لا تزال تتميز بعصر لويس الرابع عشر، عندما روعة مجتمع البلاط  تخفي العبودية البغيضة للشعب. هذا هو السبب في أننا يمكن أن نأخذ إلى حد ما استنتاجات فيليب بوسان في “فرساي” و” أوبرا” .لقد كانت الرسالة إلى دالمبار، مثل رسالة حول الموسيقى الفرنسية، “قنبلة” أطلقت ضد ما سيطلق عليه قريبا النظام القديم.  ونحن نسمع هنا صوت منبر جمهوري يدين تواطؤ المسرح الفرنسي والمجتمع الذي ينتجه،و باختصار، نسمع نبرات “خطيب ثوري”[15].ولقد فاز روسو، وتغلبت الراديكالية على التقدمية وخلال حياته لم يكن هناك مسرح فرنسي في جنيف.

ولقد تساءل يورغن هابرماس، في الفصل الخامس من الخطاب الفلسفي للحداثة، والذي يتعلق بجدلية العقل عن “الأسباب التي تدفع هوركهايمر وأدورنو إلى الرغبة في تعريف العقل عن نفسه بمثل هذه الرادكالية” .ولقد حددت تقدمية هابرماس منذ البداية “العدو”، أي الراديكالية التي لا يتوقف أبدا عن استنكارها حتى نهاية نصه. ومع ذلك، من الضروري أن نسأل أنفسنا أكثر كيف تتجلى الراديكالية في حالة جدلية العقل. هل هي، كما هو الحال في عمل روسو، مسألة مراعاة التعقيد، بحيث نفحص السؤال عن طريق دفعه إلى جذوره، ومن المرجح أن يكشف الأخير عن بعد لم يلاحظه أحد حتى الآن؟ من المؤكد أن هوركهايمر وأدورنو، مثل روسو، وضعا حدا للمواقف التي بدت بديهية.

ولكن بعيدا عن التعقيد، يشرع هوركهايمر وأدورنو في تضخيم غير مسبوق لشكوك روسو بالفعل في عصر التنوير. ولكي نقول الحقيقة، فإننا لا نشهد توقفا، بل قعقعة رعدية حقيقية تزعج بعنفها المشهد الذي اعتاد عليه البشر.  وهناك جملة قاتلة تصدم الخيال الغربي والتمثيلات المطمئنة التي تتغذى عليها. لم يعد العقل تلك القوة  الروحية التي، مثل شروق الشمس، تضيء العالم، بعد أن أطاحت بالقوى المعارضة للأسطورة. [16]“الأسطورة نفسها هي بالفعل العقل، والعقل يتحول إلى أساطير. ” ليس من أجل لا شيء أن يتحدث هابرماس عن الظلام والعتمة وحتى الإسوداد. حتى أنه يذهب إلى حد استخلاص استنتاج، بعيدا عن أن يكون واضحا، فهو إشكالي للغاية، لأنه يتجاهل، أو لا يريد أن يرى، الحركة التي تلهم عمل هوركهايمر وأدورنو.

لم يتردد في الكتابة: ” إن تحليلاتهم لا تترك لهم أي أمل فيما يتعلق بالقوة المحررة للمفهوم”.[17] لكن أليس هذا العنف، الذي يرفضه هابرماس، شرطا لإمكانية إنقاذ العقل في حد ذاته ؟ هذا السؤال أكثر شرعية لأن هوركهايمر وأدورنو حذرا من أن التفكير المستنير، من أجل فصل نفسه عن الأساطير، يجب أن يسلك طريق العنف. “فقط الفكر الذي يمارس العنف على نفسه لديه القسوة اللازمة لتدمير الأساطير (ص 22 ) .لذلك يمكن أن يستنتج جي بيتيتديمانج، على عكس هابرماس، أنه ليس التخلي عن العقل هو الذي يحرك مؤلفي جدلية العقل، بل على العكس من ذلك الرغبة في إنقاذه.

“وبالتالي فإن التنوير هو موضوع إدانة، وتفكيك لا يرحم. لكن هذه ليست إجازة تعطى للعقل، إنها تحتضن إرادة الإنقاذ.[18] ” لم ينهار فقط الجدار الذي، وفقا لوجهة النظر الكلاسيكية، يفصل العقل عن الأسطورة، ولكن بسبب هذا الانهيار، يتم إسقاط الفلسفة فجأة في مناخ من الغرابة والغرابة المزعجة .  ومن الواضح أن المسار الذي يؤدي إلى الرادكالية يمر عبر لحظة التعقيد، حتى لو استمر إلى ما بعد ذلك.

انطلاقا من ملاحظة تراجع التفكير المستنير، في حركة التنوير، وضع هوركهايمر وأدورنو لنفسيهما المهمة الأولى لاكتساب فهم لهذا الانحدار.  وما هو على المحك هو وجود العقل ذاته .”إذا لم يقم العقل بعمل تفكير في لحظة الانحدار هذه، فسوف يحسم مصيره  (ص 15 )  ويتعلّق الأمر بانتزاع مسألة الطابع المدمر للتقدم من أعداء التقدم من خلال إخضاعه لمنظور أكثر راديكالية للتحرر ومن خلال مناشدة الخيال النظري، الذي هو وحده القادر على الابتعاد عن الإجابات السهلة والفورية للتجريبية أو البراغماتية من أجل السماح بإلقاء نظرة على رابط هش ولكنه أساسي بالحقيقة وراء هذا السؤال. وهذه هي الطريقة التي يتم بها أخذ الخطوة الأولى بعيدا عن التقدمية والتقاليد العقلانية.

وفي الواقع، فإن النهج الكلاسيكي الذي يتكون من تقديم سرد لظاهرة معينة – في هذه الحالة انحطاط العقل إلى الأساطير – من خلال البحث عن السبب الخارجي الذي أنتجه، يتم التخلي عنه هنا لصالح تحقيق أكثر مغامرة من حيث أنه سيجبر الذكاء النظري على مواجهة الألغاز على الفور .  ونظرا لأن تفسير الأمر بالسبب الخارجي قد تم رفضه، فمن المهم إظهار أن “سبب تراجع العقل إلى الأساطير لا يمكن البحث عنه كثيرا في الأساطير الحديثة  القومية والوثنية  وما إلى ذلك  وهي المصممة خصيصا لمثل هذا الانحدار  ولكن في العقل نفسه  المشلول بسبب الخوف من الحقيقة ” (ص 16).

ووعيا من المؤلفان بالمقاومة التي من المحتمل أن تثيرها فرضية التدمير الذاتي للعقل قدما فحصا لمفهوم الوضوح  الذي هو ثمرة الاتفاقيات السائدة.  وميّزا في النفور الذي يلحقه هذا المفهوم بأي معالجة سلبية لظاهرة معينة، على أي علاج غامض ومعقد، عمى العقل. ” فالوضوح الزائف هو مجرد تعبير آخر عن الأسطورة التي كانت دائما غامضة وواضحة بشكل واضح. ولقد ميز العقل نفسه دائما بقدرته على التهرب من عمل التصور (ص17) وبذلك، فإنهما يمنحان الوصول إلى غرابة عالم ساحر حيث يمكن أن يتحول العقل إلى أسطورة.و تجدر الإشارة إلى أن هوركهايمر وأدورنو يقارنان على الفور لغز التدمير الذاتي للعقل مع لغز آخر  وهو العبودية الطوعية، كما لو أن سببية داخلية تربط بين الظاهرتين.

“إن النزعة الغامضة للجماهير لتكون مفتونة بأي استبداد، وتقاربها المدمر للذات مع جنون العظمة العنصري، كل هذا العبث غير المفهوم يكشف ضعف الذكاء النظري الحالي (ص 16  )في مواجهة هذين اللغزين، فإن مهمة الخيال النظري هي الابتعاد عن السببية الخارجية، أي عن الإنتاج الأيديولوجي، على سبيل المثال  كتاب ألفريد روزنبرغ أساطير القرن العشرين، ولكن أيضا عن الإنتاج الفلسفي للقرن التاسع عشر، والذي، وفقا لجورج لوكاتش في كتابه تدمير العقل (1954)، أدى إلى ظهور عدة أشكال من اللاعقلانية تهدف إلى محاربة التقدمية التي انبثقت عن الثورة الفرنسية ويكون لها تأثير سلبي على البروليتاريا التي انبثقت عن الثورة الفرنسية. إنه فقط من خلال التحول إلى البحث الصعب عن السببية الداخلية يمكن للتفكير النقدي أن يدعي أنه يوضح إلى حد ما ألغاز الحداثة.

إن التحول من الخارج إلى الداخل الذي تم إنجازه على هذا النحو يفتح الطريق أمام النظر وتسليط الضوء على جذور التدمير الذاتي للعقل. في حالة أدورنو، لا يمكن أن يكون هناك شك في الإشارة، كما فعل روسو، إلى الجذور السياسية للمشكل. وتدعونا فرضية التدمير الذاتي للعقل إلى اتخاذ طريق أطول وأكثر صعوبة لمحاولة إعادة بناء ما يمكن تسميته “مغامرات العقل”، أو “ملحمة العقل”، وهو اسم أكثر ملائمة لأن “الاستطراد الأول” من جدلية العقل بعنوان “أولييس أو الأسطورة والعقل”، كما لو كان أوليس مثالا متميزا على التشابك بين الأسطورة والعقل.  وهذا التواطؤ بين الأسطورة والعقل  يتضح بالفعل من خلال سرد محن أوليس عند عودته إلى إيثاكا[19].

هناك أعماق لا يسبر غورها ؟ ومن هنا جاءت راديكالية جدلية العقل بحثا عن جذور هذه الحركة الجدلية التي لا تتوقف أبدا عن العمل على العقل. وقد نشير مؤقتا إلى محاولة للتوضيح من خلال اللجوء إلى صيغة تفترض عمدا وجود حدّة محتملة بين أدورنو وروسو.  فبالنسبة لروسو “كل شيء مرتبط جذريا بالسياسة” ويمكننا مقارنة هذا الاقتراح الآخر لأدورنو وهوركهايمر: “كل شيء مرتبط جذريا بالعلاقة الجدلية بين العقل والطبيعة. وهذه العلاقة، أو بالأحرى مجموعة العلاقات بين العقل والطبيعة، هي التي يمكن أن تقدّم مفتاحا لفك رموز مغامرات العقل وبشكل أكثر دقة لفك رموز جدلية العقل.  ولقد كان غاي بيتيتديمانج قد حكم بالفعل على أن “الجدلية الموصوفة على هذا النحو بين العقل والطبيعة هي التقدم الأكثر فائدة لمدرسة فرانكفورت، التي راقبها هوركهايمر منذ فترة طويلة. “[20]

لا يزال من الضروري محاولة استكشاف هذه العلاقات، أو بعضها، من خلال محاولة تمييزها عن بعضها البعض. لقول الحقيقة، لا يوجد دليل أفضل لهذا الاستكشاف من هذه الأسطر القليلة من الجدلية السلبية:

“حقيقة أن الطبيعة هي شيء آخر غير الطبيعة، ومع ذلك فهي أيضا لحظة من الطبيعة، هي عصور ما قبل التاريخ لهذا السبب، وهو تحديد متأصل فيه. إنه ينتمي إلى نظام الطبيعة بقدر ما هو قوة نفسية مستمدة من خدمة الحفاظ على الذات: ولكنه أيضا منفصل ومعارض للطبيعة، وهذه هي الطريقة التي يصبح بها الآخر فيما يتعلق به.  وعند الهروب منه بطريقة سريعة الزوال  يكون العقل متطابقا وغير متطابق مع الطبيعة، جدلي في مفهومه ذاته. ولكن في هذه الجدلية، كلما وضع العقل نفسه في معارضة مطلقة للطبيعة وبالتالي نسي نفسه، كلما تراجع نحو الطبيعة باعتبارها الحفاظ على الذات الجامح. ففقط كانعكاس للطبيعة يمكن  للعقل أن يكون خارقا للطبيعة. “[21]

لنحتفظ من هذا المقطع الأساسي بالنقاط التي ستسمح لنا بالتغلغل أكثر في الاقتصاد الداخلي للعلاقة بين العقل والطبيعة.

1 -بالانتقال إلى عصور ما قبل التاريخ للعقل، يكتشف أدورنو وهوركهايمر تصميما جوهريا فيه. ومثل يانوس فإن للعقل وجهان: من ناحية هو غير الطبيعة ومن ناحية أخرى هو أيضا لحظة في الطبيعة. فالعقل مطابق وغير متطابق للطبيعة لذلك فهو يحتوي على تناقض داخلي، إنه جدلي في الأساس  و. بهذه الطريقة يمكننا أن نفهم تفاعل التناقض الداخلي وفي نفس الوقت جدلية العقل.

2العقل هو لحظة في الطبيعة كقوة نفسية تطيع – وهذا أمر حاسم – قانون الحفظ الذاتي أو الحفاظ على الذات. لكن بمعزل عن الطبيعة، يصبح العقل مختلفا عن نفسه وبفضل هذا الآخر يفلت من قيود الحفاظ على الذات، ولكن بطريقة سريعة الزوال، يتم تحديده.

يرسم أدورنو وهوركهايمر هذه السببية الداخلية وهذه الماهية الجدلية (. Ratio duplex نسبة الازدواج.).و يبدو أن العقل في ازدواجيته ينشر حركة من خلالها، بدءا من غيريته ومن اختلافه في علاقته بالطبيعة، فإنه يميل إلى جلب هذا الاختلاف إلى المطلق  وسيختبر لحظة من الفائض بحيث ينسى، أو حتى أسوأ من ذلك سيحجب الجزء الخاص به من الطبيعة. وهذا من شأنه أن يؤدي على الفور إلى عودة ما هو منسي أو مخفي، أي جزء من الطبيعة الموجود فيه والذي يطيع، من خلال ميله إلى الحفاظ على الذات  قانون الهيمنة. إن غطرسة L’hubris العقل ستثير انتكاسة أكثر صرامة في الطبيعة لأن المفهوم،  الذي هو تمظهر عمل العقل، يحمل بالفعل في داخله غضبا يعمل بالضبط على إعادة الآخر إلى نفس الشيء، مثل نوع من الالتهام.

“النظام الذي اعتقد فيه الفكر السيادي نفسه قد تجلى في عصور ما قبل التاريخ في الحياة الروحية وفي الحياة الحيوانية للأنواع  .[22] وفي مواجهة طموح النظام للوصول إلى هوية المماثل وغير المماثل، يخلص أدورنو إلى أن “النظام هو البطن الذي أصبح روحا، وأن الغضب هو سمة كل المثالية”.[23] في هذه العودة إلى قوة الطبيعة يحدث انعكاس العقل إلى الأساطير وتحدث هيمنة معممة. الهيمنة على الطبيعة، عندما يجب فهمها، كما يقول هوركهايمر.

إن زيادة سلطته على الطبيعة هي أن “العقل يتصرف تجاه الأشياء كما يتصرف الديكتاتور تجاه البشر: إنه يعرفهم بقدر ما يمكنه التلاعب بهم” (ص 27 )هيمنة الإنسان على الإنسان، عندما يجب عليهم تحرير أنفسهم. السيادة على الطبيعة الداخلية، بينما يجب تحرير البشر.

إن ازدواجية العقل وعودة ما هو طبيعي فيه، عندما يتظاهر العقل بفصل نفسه عنه، هي التي تجعل من الممكن توضيح الجملة الافتتاحية لكتاب جدلية العقل، والتي تحدد في بضع كلمات القوة الدافعة وراء ارتداد العقل إلى الأساطير.” ومنذ أمد بعيد كان التنوير بالمعنى الأوسع للفكر  في حالة تقدّم  الذي كان يهدف إلى تحرير البشر من الخوف وجعلهم أصحاب سيادة (ص 21).وفي الواقع، فإن اقتران هاتين اللحظتين يحدد بدقة شديدة ارتداد العقل إلى الأساطير، أو تراجعه إلى الأساطير. لذلك فإن الغرض من التنوير ذو شقين:  فمن ناحية، تحرير البشر من الخوف،الخوف من الآلهة والخوف من الموت ومن الطبيعة.  ومن ناحية أخرى، للسماح للبشر بالوصول إلى السيادة.

دعونا نتذكر أن عودة الطبيعة، الجزء المناسب من العقل، هي أصل هذه الحركة، ودعونا نفهم أنه من خلال وساطة الحفاظ على الذات، يطيع هذا الجزء من الطبيعة قانون الهيمنة. لذلك فإن السيادة مدرجة في سجل الهيمنة، والتي يمكن تعريفها على أنها هيمنة مفرطة، بقدر ما تميل، كما يوحي مفهوم السيادة، نحو الواحد، نحو قوة الواحد، كما أكدت حالة أوليس  .  فمن خلال هذا الربط غير الضروري، يحصر أدورنو وهوركهايمر هذه المنطقة من التنوير التي، على غرار روسو، يجب أن تخضع لنقد التنوير، أو، إذا فضل المرء، فهي الهدف الذي يجب أن يركز عليه النقد الذاتي أو التأمل الذاتي للعقل.

وتحدد العلاقة بين هذين الافتراضين جدلية العقل بدقة شديدة. إن المشروع ا الشرعي للتنوير لتحرير الناس من الخوف يؤدي إلى الانقلاب عندما يتم نقشه تحت علامة السيادة، عندما يخلط أو يحدد التحرر من الخوف مع الوصول إلى السيادة  . ففي هذا التحديد المسيء يكمن القرب والتواطؤ السري للعقل والأسطورة. لأنه من خلال ربط التحرّر من الخوف بالوصول إلى السيادة  أي من خلال توجيه نفسه نحو هيمنة الطبيعة أو البشر  فإن العقل  بدلا من تحرير نفسه من الخوف الأسطوري  يستوعبه، أو يقمعه بتحويله، على سبيل المثال، إلى الاستيلاء على الطبيعة ولذلك يحذر أدورنو وهوركهايمرمن مرض العقل  الذي يتمثل في اعتبار العالم فريسة.

ويبدو الأمر كما لو أن الخلط بين التحرر من الخوف والوصول إلى السيادة يدفع الإنسان إلى مطاردة المجهول واختزاله بكل قوته.  إنه الاستيعاب والتطرف  في الخوف الأسطوري بالفعل.  وفي هذه الحركة  يتكرر الخوف من الخارج ومن عدم التجانس والخوف من الآخر الذي يجبر العقل على تمييز الهوية، من خلال ربط الخارج  والآخر بنفس الشيء . إذ “يعتقد الإنسان أنه خال من الخوف عندما لا يكون هناك شيء مجهول…فالعقل هو تطرف الإرهاب الأسطوري…ولا ينبغي إغفال أي شيء، لأن مجرد فكرة “الخارج” هي مصدر الإرهاب ذاته” .(ص 33) أهو وهم العقل ؟ أهي شوكة قاتلة ؟ يمكن للعقل أن يدعي أنه أكثر من الطبيعة فقط إذا أصبح مدركا أولا لما هو موجود  من الطبيعة فيه، أي الحفاظ على الذات والميل إلى الهيمنة، كما لو أنه لا يمكن فصل الكوناتوس عن الرغبة الجنسية  المهيمنة.

وفي نفس الوقت الذي يحدّد فيه النقد بؤرة الانقلاب والقوة الدافعة وراء جدلية العقل  فإنه يشير إلى وجه آخر محتمل للعقل يمتنع عن ربط تحرير الخوف بالبحث عن السيادة وبالتالي يضع نفسه في وضع يمكنه من الترحيب بالخارج والآخر. وهكذا بدأت في عمل أدورنو وهوركهايمر عملية معقدة سعت، من ناحية، إلى تفكيك لا يرحم للتنوير، ومن ناحية أخرى، بعيدا عن إعطاء إجازة العقل، أكدت الرغبة في إنقاذه. وفي الواقع، يتم تنفيذ هذه المهمة في اتجاهين متميزين للغاية.  فإذا أشرنا إلى دراسات أدورنو الثلاث عن هيغل نلاحظ أن التأمل الذاتي للعقل القادر على إنقاذ العقل ويؤدي إلى “مجتمع إنساني حقيقي” يمكن أن يتخذ شكلين محتملين.

يتعلّق الأمر بالأخذ في الاعتبار “علامات عدم العقل التي لا تزال منقوشة في عقل المرء”  أو إدراك “آثار العقل التي يقدمها عدم العقل”[24] لذلك هناك اتجاهان لتناول الأمر: اتجاه كلاسيكي، وهو عمل نقدي مطهّر يهدف إلى تنقية العقل من عناصر عدم العقل التي يحتويها ونهج تأويل آخر، أقل كلاسيكية، يرفض إعادة تفسير اللامنطق، ويستعيد سيولته من أجل انتزاع محتواه من الحقيقة.  وفي حالة  أولى توجد محاولة ذات مسار محدد جيدا لنقد العقل وفي الأخرى مشروع أكثر مغامرة وخطورة من “توسيع العقل” بحيث يمكن دمج العقل الموسع من خلال تفسير وبالتالي تحويل آثار اللاعقل.

وفي نهاية هذا الوصف لنموذج جدلية العقل، الذي يعرف كيف يلاحظ إخفاقات العقل ولا يغرق في الاستسلام أو انهزامية العقل  يمكننا أن نتصور في هذا النموذج جدلية التحرر الحديث أو جدلية الحداثة. ولكن للقيام بذلك، من الضروري تخليص الذات من هدوء التقدمية، التي تفضل أن تعزو إخفاقات الحداثة إلى عدم اكتمالها بدلا من قبضة جدلية التحرر.

وهناك “صرامة روسو” أخرى جديرة بالملاحظة  بقدر ما ينتقل المفسر من جدلية العقل إلى الحد الأدنى من الأخلاق وينظر فقط إلى أدورنو.  فهذا الانفصال بين المؤلفين ليس تعسفيا  لأننا إذا فحصنا التفكير في السياسة عند كل منهما  نكتشف اختلافا جوهريا يفصل بينهما .  وفي الواقع، بدءا من وجهة نظر الهيمنة / التحرر، يمكننا أن نرى أن هوركهايمر يفكّر في السياسة من وجهة نظر الهيمنة.  وفي “بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية” نجده يكتب: “إن مجموعة الوسائل التي تؤدي إلى هذه الهيمنة (هيمنة الرجال الآخرين على البشر) والتدابير التي تعمل على الحفاظ عليها تسمى السياسة”[25].  ومن ناحية أخرى، يفكر أدورنو في السياسة من حيث التحرر  : فمنذ بداية التفاني لهوركهايمر في Minima moralia،  نجده يعتزم إعادة تنشيط “عقيدة الحياة الصحيحة” ضد تحويل الفلسفة إلى منهجية.

وهو لا يتأخر عن التساؤل حول تعريف مرض للمجتمع المتحرر بقوله: “لن يكون المجتمع المتحرر دولة موحّدة، بل تحقيق الكوني في التوفيق بين الاختلافات. وهكذا، فإن السياسة المهتمة بمثل هذا المجتمع يجب أن تتجنب مجرّد نشر فكرة المساواة المجردة بين البشر. بل على العكس من ذلك، ينبغي أن تلفت الانتباه إلى المساواة الضعيفة الحالية …وأن تضع نظاما أفضل أي نظاما للبشر الذين يمكنهم تأكيد اختلافهم دون خوف. [26]

إنها صرامة من روسو تجاه أدورنو؟ لقد طورت ميشيل كوهين حليمي جميع عناصر هذا التقارب من خلال تسليط الضوء على التفاعل بين حب الذات والشفقة في حالة الطبيعة والتفاعل بين حب الذات والقوانين والأخلاق والفضيلة التي ستحل محل الشفقة في الحالة الاجتماعية.  وهي تحدد “التشخيص الأدورني للتعزيز الدائري للعقلانية التي أصبحت أكثر فأكثر براغماتية وتخطيطية ووظيفية، مع ذاتية برجوازية أكثر فأكثر سلبية وغير مبالية ولا ترحم”[27].

ولكن إذا انتقلنا إلى Minima moralia، وهو عمل معاصر في جزئه الأول وبعده مباشرة في الجزء الثاني (1945) إلى النسخة الأولى من كتاب جدلية العقل (1944)، ألا يمكننا تنويع التشخيص الأدورني، كما لو أن ما أسميته “اختيار الصغير”، الذي أعاد صياغته جيل موتو في مقالته عن أدورنو، في مواجهة قسوة وبرودة الذاتية البرجوازية حيث جاءت شخصية الفرد المحتج لتقف في وجه شخصية الفرد المحتج الذي ذهب، في معاداة الهيغلية، إلى حد إقامة صلة إيجابية بين الفرد والصغير، مع كبح جماح كل من “الفرد العظيم” وربما الإنسان الميكافيلي وكذلك أنصار الكفاءة الفوردية.[28]

ويبدو الأمر كما لو أن شخصية الصغير المولود في مقاومة المؤسسات الشمولية في القرن العشرين المكرسة لعبادة العظماء، وحتى للعملاق والضخم، كشفت عن ذاتية غير مسبوقة .  ومثل الشفقة، يأتي شكل الطفل الصغير لإبطاء، إن لم يكن لإيقاف، الانجراف من حب الذات إلى حب الذات الذي لا يرحم. بل يمكن أن يكون تجسيدا لعدم السيادة وبالتالي للتحالف بين التحرر من الخوف ورفض السيادة.  وعندما يتم اختيار الصغير، لم يعد ينظر إلى العلاقة مع الآخر على أنها عداء ضروري   طبق الفرضية البغيضة لحرب الجميع ضد الجميع التي صاغها هوبز  ولكن يتم التفكير فيها تحت علامة اللقاء، أي كانفتاح على الآخر، على غيرية الآخر.

هذه ذاتية غير مسبوقة، لأنها غريبة عن الذاتية البرجوازية المنغلقة على نفسها، وكذلك عن الذاتية التي تسعى خطأ إلى التحرر في شكل الوفرة، التي لا يمكن فصله ا، وفقا لأدورنو، عن الرغبة في السلطة، إن لم يكن السيادة.  وإذا قبلنا هذه الفرضية، لا يمكننا القول إن “كل شيء مرتبط جذريا بالسياسة”، كما كتب روسو في “الاعترافات “، بل بالأحرى، في إشارة إلى العلاقة بين العقل والطبيعة، أن كل شيء مرتبط جذريا بشروط إمكانية سياسة التحرر البشري، واختيار الصغير يفتح طريقا غير متوقع إلى “عقيدة الحياة الصحيحة”.

وفي نهاية هذه الرحلة، يمكننا أن نستنتج دون تردد أن الإلهام الأساسي، الخطوط الرئيسية لجدلية العقل، يعارض علنا التقدمية وافتراضاتها المسبقة.  وهذا تناغم آخر بين أدورنو وروسو. في قلب القطيعة بين الأخير ومجموعة الفلاسفة وهو بالضبط الشك الذي يجرؤ روسو على تحقيقه بشأن التقدم. ففي معسكر التحرر، كان هو الوحيد تقريبا الذي أدرك أن التقدم، الذي عزا إليه الفلاسفة حركة غير مقيدة نحو مجتمع أفضل، يمكن أن يكون في نفس الوقت مصدر الانحدار. وبعيدا عن أن يكون التقدم موجها بالكامل نحو الأفضل، فإنه يمكن بالتالي أن يكون موضع تناقض . وهذا هو السبب في أن روسو يعلن طريقة تفكير تختلف عن طريقة تفكير الفلاسفة: من أجل هدوء الأخيرين، على يقين من أنهم ملتزمون بالطريق الصحيح، فإنه يستبدل فكرا جديدا تحت علامة القلق والتساؤل.  وبمعنى ما، يكشف عن المعارضة بين الراديكالية والتقدمية.

ولقد دعانا منظرو “المعجزة اليونانية”، على الأرجح إلى جانب التقدمية، إلى التفكير في ولادة العقل، في شكل انقطاع جذري، كما لو أن العقل قد جاء إلى العالم عن طريق فصل نفسه فجأة عن التعتيم الأسطوري للأصول.  ولكن، كما رأينا، يرفض كتاب جدلية العقل فرضية الفصل المطلق بين الأسطورة والعقل. بل على العكس من ذلك، فإنه يحبذ فكرة استمرارية معينة، بل يحاول الكشف عن علامات التقارب، وحتى التواطؤ، بين الاثنين .  فبقدر ما تجد التقدمية في أطروحة الانفصال المطلق ضمانا لعملها في التاريخ، فإن جدلية العقل تغذي قلقها و”تشاؤمها” بشأن التناقضات التي تسكن فكرة التقدم.

لكن النظرية النقدية، بعيدا عن جعل هذا الاكتشاف سببا للتخلي، على العكس من ذلك، تعترف فيه بدافع لممارسة ما أسماه بيير نافيل “تنظيم التشاؤم” والذي، وفقا له، هو العلامة المميزة للفكر الراديكالي. فحقيقة أن الوضع التاريخي السياسي أكثر تعقيدا مما كان متوقعا، بدلا من أن يؤدي إلى الاستقالة، لا يمكن إلا أن يحفّز وفي نفس الوقت يعزّز الرغبة في التحرّر.  ولقد حذر مفكرو النظرية النقدية من التعقيد المحتمل للعلاقة بين الأسطورة والعقل، مسلحين بهذه المعرفة، ووضعوا لأنفسهم مهمة تحديد وظبط احداثيات البؤر العمياء للتقدمية، والتي تهدد الحركة نحو التحرر بعكسها إلى نقيضها.

وكان هذا بالضبط عمل والتر بنيامين في كتابه “أطروحات حول مفهوم التاريخ “، الذي مهد الطريق لروح طوباوية جديدة لمواجهة البؤر العمياء للتقدمية واختراع “خطوط  هروب” جديدة. وهكذا ولدت استراتيجية النظرية النقدية، والتي تتمثل في انتزاع الحجج ضد التقدّم من أعداء التقدم، من أجل تحويلها ووضعها في خدمة التقدم.

وعلاوة على ذلك، فإن جدلية العقل أو جدلية التحرّر هي فرضيات لا يمكن تصورها لمؤيدي التقدمية. ففي نظرهم، لا العقل ولا التقدم يحمل معه أي تناقض. فهي ليست جدلية بطبيعتها. وهذا هو السبب في أنه لا ينبغي أن ينسب إليهم أي تناقض داخلي، ولا يمكن أن يؤدي إلى الحركة المتناقضة التي يتحول بها العقل إلى أساطير .  ويمكن الافتراض بأمان أن عقائد التقدّم تعارض نظريا فرضية التناقض الداخلي وتعترف بأنها تستحق النظر فقط في آثار السببية الخارجية.  وبطريقة عرضية للغاية، فإن مقاومتهم هنا لفكرة السببية الداخلية هي من نفس ترتيب معارضتهم لفرضية العبودية الطوعية، التي تستند إلى الآخر الذي لا يمكن تصوره والذي بموجبه ستتحول الحرية فجأة إلى عبودية.

دعونا نتذكر من هذه الملاحظات أن عداء الراديكالية تجاه التقدمية ينطوي على تغيير في الموقف، أو بالأحرى إزاحة الفيلسوف.  فبدلا من أن يكون بطل التنوير، الذي كان يرافق تقدمه ويغني عن الفتوحات التي أدت تدريجيا إلى مجتمع متحرر، فإن الفيلسوف، “المنكر” بطريقة ما له، بقدر ما كان قادرا على اكتشاف الاقتصاد الداخلي للعلاقة بين العقل والطبيعة، يصبح مراقبا لتراجع العقل وانعكاساته إلى الأساطير. لكنه يصبح أيضا الشخص الذي، مع ملاحظة هذه الانحدارات، يعتزم أكثر إنقاذ العقل وفي نفس الوقت فرص “الحياة العادلة”.

و يحتاج المرء فقط إلى قراءة نقد يورغن هابرماس القاسي لجدلية العقل ليرى  أن معارضة التقدمية للتطرف مؤكدة .  ففي الواقع، ومع عداء مبطن رقيق، يقدّم هابرماس كتاب جدلية العقل باعتباره “كتابهم الأكثر سوادا لتصور عملية التدمير الذاتي للتنوير ”  ومنذ البداية، كان هابرماس ينوي أن ينأى بنفسه عن راديكالية المؤلفينف “مثل هذه الحالة الذهنية، مثل هذا الموقف لم يعد موقفنا”[29]

ولقول الحقيقة، يهدف هذا النص إلى أن يكون لائحة اتهام تصر بشدة على تطرف الكتاب من أجل تسليط الضوء بشكل أفضل على فشله وتنتهي بنداء مؤيد  pro domo  .لذلك، فإن أفضل نقطة دخول في هذا النص هي تحديد مراحل التطرف التي هي في كل مرة موضوع نقد محدد  .والنقطة  الأولى هي أن المؤلفين، الحريصين على فهم الشمولية، قد شرعوا في تسوية ضارة لمختلف مجالات القيم وتجاهلوا الأسس الكونية للقانون والأخلاق. إن تحرير النقد من أسسه سيشكل التطرف الثاني.

وكانت النتيجة أن يكون الابتعاد عن الماركسية وفقدان الثقة في نقد ماركس للأيديولوجية. ومن هنا يأتي التحول نحو نقد كامل للأيديولوجية التي من شأنها أن تكون لها خصوصية تضمين العقل نفسه في هذا الإزاحة الحرجة. إن اللقاء مع عمل نيتشه سيترأس التطرف الثالث مع إدخال مفهوم العقل الأداتي، ينتهي الأمر بالخلط بين العقل والقوة.  وفي كتاب جدلية العقل، قام أدورنو وهوركهايمر بالتطرف بموقف نيتشه ضد العقل  إلى ابعد حدّ، حيث لم يروا في كل مكان سوى سبيكة من العقل والهيمنة، وهي الفكرة التي كانت ستقودهم إلى إهمال المحتوى العقلاني للحداثة الثقافية.  وتحت تأثير هذا التحديد للعقل مع السلطة، ستثبت النظرية بالتالي أنها خالية من أي أساس نقدي.  وهذا هو السبب في أن أدورنو وهوركهايمر كانا سيفشلان في تأسيس الأسس المعيارية لنظرية نقدية للمجتمع

وهذا ما كان  وفقا لهابرماس سينجح في نظرية الفعل التواصلي. فلإدانة الثقافة وكشف العلم والأخلاق كتجسيد للعقل الأداتي، كان أدورنو وهوركهايمر سيتجاهلان تعقيد الحداثة الثقافية ولم يكونا قادرين على إدراك “الآثار والأشكال الحالية للعقلانية التواصلية”[30].هنا يتوقف القارئ ويتساءل: ما الذي كان له  قيمة  سن1943-1944 هل هو “الآثار والأشكال الحالية للعقلانية التواصلية”؟ وبالفشل في إدراك هذه الآثار والأشكال، كان مؤلفا كتاب “جدلية العقل” قد انغمسا في شكوك مطلقة في الثقافة، “بدلا من دراسة الأسباب التي تسمح لنا بالشك في هذا التشكيك نفسه”[31]

إنه نص غريب لنكن صادقين. وهذه الغرابة تأتي من صمت الرصاص الذي يخيم على هذه الصفحات. وفي الواقع، هابرماس، الذي يدين التطرف المتزايد لجدلية العقل،  قد فشل في ربط هذه الراديكاليات المتتالية ب “الأوقات المظلمة” التي تم فيها تصور هذا العمل .  ويبدو أن أوشفيتز ومعسكرات الإبادة والإبادة الجماعية ليهود أوروبا لم تكن موجودة لمؤلف هذه السطور. ولكن بالنسبة لأدورنو وهوركايمر، كانت هذه الكارثة غير المسبوقة موجودة.  ومن المفهوم أنهما اختارا طريق النقد الكامل وأنهما أدركا آثار الهمجية وراء الواجهات الثقافية.  ويبدو الأمر كما لو أن هابرماس لم يكن يعرف أن هوركهايمر وأدورنو كانا مفكرين يهوديين ألمانيين وأنهما أجبرا على العيش في المنفى هربا من الاضطهاد العنصري.  وعلاوة على ذلك، في 1943-1944، كان من المعروف بالفعل في الولايات المتحدة أن المعسكرات كانت في الواقع معسكرات إبادة.

كان بإمكان هابرماس، الذي يوبخ مؤلفا كتاب “جدلية العقل” على شكوكهما الجامحة، أن يسأل نفسه هذا السؤال، باعتراف الجميع بطريقة أدورنية : ما هي النظرية النقدية للمجتمع بعد أوشفيتز ؟

و في مقال سابق بعنوان “النظرية النقدية: فكرة المنفى ؟ بعد أن تذكرت دعوة هربرت ماركوز بعد الحرب إلى تطرف النظرية النقدية، حاولت وصف التعددية الجديدة لدائرة فرانكفورت.  وكان هربرت ماركوز هو صاحب اختيار المدينة الفاضلة، بينما عاد هوركهايمر، من جانبه، إلى الليبرالية الهجومية بدراسات حول التحيز. أما بالنسبة لأدورنو، فقد بدا لي أنه كان يبحث عن راديكالية ميتافيزيقية في شكل تحويل للعلاقات بين الذات والموضوع – البحث عن موقف يرحب بالشيء دون ممارسة العنف تجاهه  –  وليس غريبا عن وجود تنظيم اجتماعي مختلف جذريا. حتى لو نسبت إلى أدورنو موقفا من الانحراف، لأنني لم أشكك في الحداثة، لم أفهم العداء بين الراديكالية والتقدمية. ربما يجب علي أولا أن ألتفت  إلى الوراء من خلال روسو ومعارضته لمجموعة الفلاسفة.

ووراء هذه المعارضة للراديكالية للتقدمية في الواقع نموذجان للحداثة. إما الحداثة غير المكتملة:  ووفقا لهذا النموذج، فإن الحداثة هي عملية مفيدة في حد ذاتها، بمعنى أنها مقدّر لها الوفاء بوعود التنوير. وطبعا من الممكن ملاحظة ونقد أوجه القصور في تطبيق الحداثة، لكن هذه العيوب، وفقا لهذا النموذج، لا يمكن أن تعزى إلا إلى عدم اكتمال مؤقت للعملية نفسها وليس إلى خلل جوهري أو نقص جوهري من شأنه أن يؤثر على مشروع الحداثة وينتج آثارا مخالفة للنوايا الأصلية. وهذا يؤدي إلى منظور مطمئن من المرجح أن يحافظ على هدوء التقدميين، لأن الحداثة ستنتهي، وستختفي أوجه القصور في عملية الإنجاز ذاتها    .و باختصار، سيكون السر:  يا مواطني العالم،  عليكم بجهد آخر!

أو أن تكون الحداثة في قبضة تناقضات متعددة، والتي هي داخلية وبسبب هذه التناقضات ستؤدي إلى جدلية حقيقية للتحرر يمكن التفكير فيها على نموذج جدلية العقل، أي على نموذج عملية متناقضة تتحول، بدءا من العقل، إلى نقيضها، في أساطير جديدة .  وسوف يتكشف التحرر الحديث، ولكن في تكشفه، فإنه سيؤدي إلى أشكال جديدة وغير متوقعة من الهيمنة والقمع، في تناقض مع المشروع التحرري الأصلي .  ولذلك من المهم الانطلاق بحثا عن  البؤر العمياء التي أدت، في تصميمها، إلى هذه الآثار غير المتوقعة.

و من الواضح أن هذا ينطوي على مهمة معقدة تتمثل في تحديد  البؤر العمياء، وفهم كيفية تحديدها، وبالتالي تعديل مشروع التحرر ومحتوى المجتمع المتحرر.  والعمل الذي افتتحه والتر بنيامين في “أطروحات حول مفهوم التاريخ.” وغني عن القول أنه بالنسبة لأولئك الذين يصلون إلى معرفة عميقة إلى حد ما بالعيوب الجوهرية لمشروع التحرر، فإن الصورة التي تقدمها الحداثة تختلف بلا شك عن تلك التي يقترحها التقدمي  الذي هو مؤيد لنموذج الحداثة غير المكتملة.  وهكذا يصف أدورنو عالمنا في قبضة مجموعة معقدة من الظواهر، كوكبة تشبه الكارثة من حيث أنها استمرار للهيمنة. دعونا نتذكر مقطعين من درس الميتافيزيقيا، التي تم تدريسه في عام 1965 .

“إن التجارب التي مررنا بها، ليس فقط في أوشفيتز ولكن أيضا مع إدخال التعذيب كمؤسسة دائمة وظهور القنبلة الذرية، تشكل نوعا من التعقيد والوحدة الجهنمية…وبعبارة أخرى، يمكن القول أنه بالنظر إلى ما اختبرناه … بالنسبة لكل إنسان، لم يتم إزالة حساسية جهاز خبرته، فإن العالم بعد أوشفيتز، أي العالم الذي كان فيه أوشفيتز ممكنا، لن يكون أبدا كما كان من قبل”[32]  و”لقد تم التوصل اليوم إلى وضع، في الأشكال الحالية لتنظيم العمل، وفيما يتعلق بالحفاظ على علاقات الإنتاج القائمة، وهو وضع أصبح فيه كل إنسان، على الرغم من تمتعه بالحرية الشكلية، قابلا للاستبدال أو الاستبدال بشكل مطلق: كل إنسان يمكن من الآن فصاعدا استبداله بالآخر. هذا الوضع يخلق شعورا بأن كل واحد منا لا لزوم له أو، إذا صح التعبير، غير مهم مقارنة بالمجموع. “[33]

وبالإضافة إلى حقيقة أن مثل هذا الموقف يتطلب من المشاهد إطلاق نداء إلى المدينة الفاضلة، في دعوة لاكتشاف طرق جديدة، فإنه يدعونا إلى التفكير من جديد في حالة النظرية النقدية. الراديكالية ضد التقدمية، ضد إفلاس التقدمية، هذه هي النظرية النقدية اليوم. هذه، إذن، هي موضوعية جدلية العقل.


[1] أستاذ فخري للفلسفة السياسية في جامعة باريس السابعة – دينيس ديدرو والمدير السابق للكلية الدولية للفلسفة. وهو مؤلف كتاب “اليوتوبيا  من توماس مور إلى والتر بنيامين، باريس، سينس وتونكا، 2000″، و”الديمقراطية ضد الدولة: ماركس واللحظة المكيافيلية”، باريس، لوفلين، 2004، و”من أجل فلسفة سياسية نقدية “، باريس، سينس وتونكا، 2009.

[2] Michèle Cohen-Halimi, Stridence spéculative : Adorno, Lyotard, Derrida, Paris, Payot, 2014, p. 12 ; dans le même ouvrage, voir également « Protocole de lecture : la “stridence” de Rousseau » (p. 125-139) : « L’analyse rousseauiste de la dégénérescence, comme celle adornienne de la “régression”, montrent que la raison, dans son développement, peut oublier une part d’elle-même […] » (citation p. 128).

[3] « Les Lumières-critiques-des-Lumières s’inaugurent par la voix de Rousseau, mise en résonance avec celles d’Adorno et d’Horkheimer, à l’insu de ces derniers » (Michèle Cohen-Halimi, Stridence spéculative : AdornoLyotard, Derrida, Paris, Payot, 2014, p. 129).

[4] David Munnich, L’art de l’amitié : Jean-Jacques Rousseau et la servitude volontaire, Paris, Sens & Tonka, 2012.

[5] Bernard Groethuysen, Jean-Jacques Rousseau, Paris, Gallimard, 1949, p. 209.

[6]  نفسه ص210

[7] Max Horkheimer, Theodor, W. Adorno, La dialectique de la Raison. Fragments philosophiques, trad. fr. par Éliane Kaufholz, Paris, Gallimard, 1974, p. 13. Dans la suite du chapitre, toutes les paginations données directement entre parenthèses dans le texte renvoient à cette édition.

[8] Jean-Jacques Rousseau, Les Confessions, in Œuvres complètes, t. I, Paris, Gallimard (Bibliothèque de la Pléiade), 1959, p. 495.

[9] Jean Starobinski, Accuser et séduire : essais sur Jean-Jacques Rousseau, Paris, Gallimard, 2012, p. 10

[10] Jean-Jacques Rousseau, Les Confessions, in Œuvres Complètes, t. I, Paris, Gallimard

[11] Jean-Jacques Rousseau, Lettre à d’Alembert, présentation par Marc Buffat, Paris, Flammarion, 2003,p184

[12] Jean-Jacques Rousseau, Lettre à d’Alembert, présentation par Marc Buffat, Paris, Flammarion, 2003,p110

[13] Philippe Beaussant, VersaillesOpéra, Paris, Gallimard, 1981, p. 24

[14] Franco Venturi, Utopia and Reform in the Enlightenment, Cambridge, Cambridge University Press, 1971

[15] Philippe Beaussant, Versailles, Opéra, Paris, Gallimard, 1981, p. 131 sq.

[16] Max Horkheimer, Theodor W. Adorno, La dialectique de la Raison, p. 18 ; également : « De même que les mythes accomplissent déjà l’Aufklärung, celle-ci s’empêtre de plus en plus dans la mythologie ». Et p. 43 : « C’est ainsi que la Raison rejoint la mythologie dont elle n’a jamais su se libérer » (p. 29).

[17] Jürgen Habermas, Le discours philosophique de la modernité, trad. fr. par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard, 1988, p. 128.

[18] Guy Petitdemange, « L’Aufklärung : un mythe, une tâche. La critique d’Adorno et de Horkheimer », Recherches de science religieuse, 72 (3), juillet-septembre 1984, p. 421-449.

[19] C’est là l’hypothèse de départ, empruntée à La dialectique de la raison, de l’ouvrage de Claudie Hamel et Frédéric Coché, qui dans L’Odyssée d’Adorno et de Horkheimer (Paris, Ollendorff & Desseins, 2010), ont tenté de lire La dialectique de la raison en regard du récit d’Homère. Les auteurs écrivent : « La raison contient son contraire, elle est d’essence dialectique. Adorno et Horkheimer ont creusé cette idée jusqu’en des profondeurs insoupçonnables dont ce livre montre les points saillants. » (ibid., p. 9)

[20] Guy Petitdemange, « L’Aufklärung : un mythe, une tâche. La critique d’Adorno et de Horkheimer », Recherches de science religieuse, 72 (3), juillet-septembre 1984, p. 421-449, ici p. 426.

[21] Cité par Guy Petitdemange dans « L’Aufklärung : un mythe, une tâche. La critique d’Adorno et de Horkheimer », Recherches de science religieuse, 72 (3), juillet-septembre 1984, p. 421-449, ici p. 444.

[22] Theodor W. Adorno, Dialectique négative, trad. fr. par le Groupe de traduction du Collège de philosophie, Paris, Payot, 1978, p. 25.

[23] Theodor W. Adorno, Dialectique négative, trad. fr. par le Groupe de traduction du Collège de philosophie, Paris, Payot, 1978, p. 26.

[24] Theodor W. Adorno, Trois études sur Hegel, trad. fr. par le séminaire de traduction du Collège de philosophie, Paris, Payot, 1979, p. 84.

[25] Max Horkheimer, Les débuts de la. philosophie bourgeoise de l’histoire, trad. fr. par Denis Authier, Paris, Payot, 1980, p. 16.

[26] Theodor W. Adorno, Minima moralia : réflexions sur la vie mutilée, trad. fr. par Éliane Kaufholz et Jean-René Ladmiral, Paris, Payot, 2003, p. 139.

[27] Michèle Cohen-Halimi, Stridence spéculative : Adorno, Lyotard, Derrida, Paris, Payot, 2014, p. 139.

[28] Je me permets de renvoyer à la postface « Le choix du petit » que j’ai proposée dans Theodor W. Adorno, Minima moralia : réflexions sur la vie mutilée, trad. fr. par Éliane Kaufholz et Jean-René Ladmiral, Paris, Payot, 2003. Voir également Gilles Moutot, Essai sur Adorno, Paris, Payot, 2010, p. 217-223.

[29] Jürgen Habermas, Le discours philosophique de la modernité, trad. fr. par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard, 1988, p. 128.

[30] Jürgen Habermas, Le discours philosophique de la modernité, trad. fr. par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard, 1988, p. 155.

[31] Jürgen Habermas, Le discours philosophique de la modernité, trad. fr. par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard, 1988, p. 155.

[32] Theodor W. Adorno, Métaphysique. Concept et problèmes, trad. fr. par Christophe David, Paris, Payot, 2006, p. 157.

[33] Theodor W. Adorno, Métaphysique. Concept et problèmes, trad. fr. par Christophe David, Paris, Payot, 2006, p. 163 sq.
________

La radicalité contre le progressisme. Rousseau – Adorno

Miguel Abensour

https://books.openedition.org/editionsmsh/28298?lang=fr

جديدنا