جدل الدولة المدنيَّة في الفكر الإسلامي المعاصر

image_pdf

مقدمة:

هل ممكن أن تعود موجات الربيع العربي مرَّة ثانية؟

هناك نقاش تفاعلي يتصاعد عند كل دورات الاحتجاج الثوريَّة في الشارع العام، كما أنَّ الجغرافيا المرتبطة بهذا الحراك، لم تعد مرتبطة بالوطن العربي فقط، ولكنَّها موجات ساخنة عاشتها باكستان* مؤخَّراً، كما أنها لم تهدأ في إيران، وخاصَّة في موجات الحركة الثوريَّة المدنيَّة، التي تتصاعد عند كل دورة، رغم قدرة طهران على سحقها كل مرَّة.

ولم يعد الجدل اليوم حول موجات الربيع العربي ومآلاته، مختص بما يصنَّف ثقافة الثورة المضادة، ولكنَّه جدل داخلي أول ما يُطرح سؤاله الكبير المزدوج، إلى أين قادت الثورات وما هي تكاليف فواتيرها، وهنا الفاتورة حصاد دماء وإعاقة وتشريد، مثَّلت سوريا أحد أبشع صوره، وخاصَّة في ظلِّ عدد اللاجئين الضخم، وضيق كل الدول المحيطة بهم، ثم اليمن وواقع الانقسام الطائفي، الذي كرَّسته إيران مستفيدة من سياسات بعض الأنظمة العربيَّة في الخليج العربي.

  • إسقاط عمران خان في ابريل 2022 أطلق احتجاجات ضد نفوذ الجيش والذي قفز سيطر على المسرح السياسي منذ رحيل محمد علي جناح مؤسس باكستان رغم ان مشروعه كان دولة مدنية للمسلمين، وفي ايران لا تزال موجة الانتفاضة الشعبية مستمرة منذ مقتل الشابة مهسا اميني، وهي الأكبر منذ انطلاق ثورة الحركة الخضراء

فأصبح إنسان اليمن لأول مرَّة في التاريخ المعاصر، منقسم الهوية، بين الإرث الحضاري والجذور العربيَّة المسلمة، والانتقال المدني المختلط بجذور القبيلة، وبين نموذج الفرد التابع للأيدلوجية الطائفية الجديدة*، التي لم تعرفها اليمن في المدارس السنيَّة ولا الزيديَّة.

 وفي مصر خسرت المعارضة الطبقة الوسطي والقوة التي كانت تحتضنها وتديرها، وكان الإخوان المسلمون هم القوة الاجتماعيَّة الفارقة، التي ساهمت في صناعة الاستقرار الاجتماعي النسبي، ونظّمت مساحة الصراع المدني السياسي المتعدِّد في مستوياته، مع النظام المصري منذ العهد الملكي حتى الرئيس محمد حسني مبارك.

وقس على ذلك بقيَّة الدول قبل الربيع وبعده، وخاصَّة في مسألة التحوّل إلى مرحلة الحرب الأهليَّة في سوريا بعد تصعيد النظام والعراق بعد الاحتلال، وهي حرب بواقع الحال عاشها القطران، لكن لا يهدم ذلك أن مقدّمات الحراك، ومرابطته كان ضمن آمال مشروعة بالحرية السياسيَّة والمساواة، كما أن المرحلة التي عاشتها تونس، للنجاة من مآل الثورات المضادة عاد تهديدها عبر رئيس منتخب شعبيّاً، وهي تسعى لعدم الانحدار في مسار المواجهة الأهليَّة، في حين عاشت ليبيا حرباً أهليَّة حقيقة اعتمدت الانقسام المناطقي، الذي استثمره أعداء ثورة فبراير.

عند هذه النقطة من حصاد الصراعات نقف، وهو ما هو النموذج، الذي كان من الممكن أن تتحوَّل فيه آمال الشعوب بتكلفة أقل، إلى التخلّص من المستبد المتوحش، وهو وصف ينظم لدينا درجات هذا الاستبداد، وعليه فإن مقدّمتنا هذه لا تسقط حجم البغي والتسلُّط على الفرد، وواقع الدول والمجتمعات فيه، من اضطهاد وفساد اسطوري، يشمل دول الخليج العربيَّة، ويبقى الأمر في كل أحواله منضبطاً بنسبية هذا الاستبداد والفساد، ومساحة الشعوب فيه.

  • رغم جذور الحكم الإمامي إلا ان نموذج الحركة الحوثية لا يمثل الطبيعة الاجتماعية السياسية للمدرسة الزيدية، التي كانت على خلاف مع مذهب ولي الفقيه، قبل إعادة توظيفها من طهران بعد حرب الرئيس السابق علي عبد الله صالح معها منذ 2004 ثم اجتياح الحركة لصنعاء سبتمبر 2014 وانقلابها على مخرجات الثورة اليمنية.

ولا تلغي طموح الشعوب ولا الحركات الثورية، في تحقيق دولة العدالة الاجتماعيَّة التي انفجر عنها الخلاف مبكراً، كما أن عدم توافق الإسلاميين في ذاتهم، ومع شركائهم الوطنيين من المعتدلين أو المتطرفين، في طوائف دينية أو جماعات علمانيَّة، لم يكن السبب الوحيد، الذي دخل عبره المستبد إلى عجلة الثورة، فعطَّلها ثم سحق بنيتها البشريَّة، ومن ذلك دور المساحة الخطرة فيما يسمَّى بحلفاء الثورات ومصالحهم، في تمكين خصومها.

محور الفكرة

فلقد تعوّد المستبد أن يصنع عذره، الذي ينقلب على الشارع أو يستخدمه لعودة الاستبداد، لكن غياب التصورات التنفيذية، وتحديد النموذج العملي الذي تُدمج فيه آمال الشعوب بتعدديتها، لم يُحرّر وعليه انفجر الصراع، ثم تطوَّر اليوم وكأنه يعود لقاعدة الصفر من جديد، في تحرير المفهوم الإسلامي للدولة الحديثة الوطنيَّة، وهل هي مدنية لضرورات التشريع الدستوري الشامل، أم دينية تُعطي حقوقاً مشروطة بحسب الإسلاميين للأقليات.

وفي أصل التعامل مع مثل هذه الأفكار المركزية، في حياة الشعوب هناك تجربة تفاعلية فكرية، فحين يبرر البعض من الإسلاميين وبعض الثوريين، الفشل بأنه محمول بالضرورة على أن تكون هناك دورات من الثورة تقدم ضحايا كبيرة، عند كل موجة مستشهدين بالثورة الفرنسية* وغيرها، يغيب عنهم أن هناك أيضاً معركة ثقافية، حررت مفاهيم الحقوق وتحويلها لمرحلة الدسترة، شكَّل العقد الاجتماعي لجان جاك روسو أحدها.

فأخذُ النموذج الفرنسي لتبرير التضحيات الكبيرة، وكأنَّه الطريق الوحيد للنجاح، هو في ذاته عجزٌ عن نقد التجربة، كما أنَّه مراهنة خطرة لتسويق الحل عبر دورات مواجهة دمويَّة غير متكافئة.

  • الثورة الفرنسية 1789 – 1799 أسقطت الملكية وهيمنة الكنيسة، عاشت عدة دورات تخللها مذابح كبرى سقط فيها مئات القتلى، وعرفت محاكم ثورية اعدمت الآلاف دون شروط عدالة حقوقية، قبل ان تنتقل للجمهورية الدستورية وفصل السلطات

ولذلك فالسؤال هنا يعود إلى أصل قيام الدولة الحديثة الوطنية، فهو لا يزال مؤثراً في المخيال الخصب للإسلاميين، سقط آخر أحلامه في تحولات النموذج التركي للدولة الحديثة*، حين اختط الحزب الحاكم ذو الجذور الإسلاميَّة مساحته المصلحية من جديد، أمام إرث الربيع العربي، وانفتح بلا حدود على النظام الرسمي العربي القمعي، عبر بنيته الذاتية والمرتبطة بالدولة القوميَّة الحديثة، وليس الأمميَّة الإسلاميَّة.

تاريخ الأزمة فكرياً وتحريرها

وهي أزمة قديمة بشقها المعاصر الحركي، وبشقها التاريخي التشريعي، الذي رغم مساهمات المفكرين الإسلاميين، وتوثيق أقوال متقدمة عن العلماء من السلف ومن تابعهم، في تحديد إشكالية التوريث، وهو جذر حكم المستبد وفردانيته المطلقة، إلا أن الحكم المسمى حكماً (إسلاميّا) كوصف تاريخي لا تزكية تشريعيَّة، ظل يعتمد على الاستبداد والتوريث، وقد يتساءل البعض عن هل هناك في الإسلام مثلاً، مشارطة لتحقيق الحكم عبر نموذج الديمقراطيَّة المعاصر، وهل هذا يعني رفض حكم الفرد ولو كان عادلاً، ونموذج عمر ابن عبد العزيز شاهداً على ذلك، فنقول كلا..

قضية مصطلح أم مفهوم؟

فالثوب الديمقراطي متعدد بذاته، وهو كمصطلح تلاعب به المستبد الفرد المعاصر، فالقضية ليست في المصطلح، ولكن في جسر التأهيل الاجتماعي، للوصول للعدالة السياسية، وتنظيم الرقابة الشعبية على الحاكم، غير أن الحالة التي تمتع بها عمر ابن عبد العزيز، ومنذ تعيين أبو بكر الصديق للفاروق عمر، رضي الله عنهما، كان ضمن سياق انتخاب فردي، لا يوجد له نص قطعي من النبي صلى الله عليه وسلم.

  • العدالة والتنمية التركي تأسس في ثوب ديمقراطي محافظ 2001، رغم جذور مؤسسيه الإسلاميين الذين اختلفوا مع مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة نجم الدين اربكان، حظي الحزب في اكثر من دورة بشعبية تصويت واسعة، قبل ان ينقسم مؤسسيه، وتحول بعضهم لصفوف المعارضة، اصطدم بعدد من الأنظمة الرسمية العربية لموقفه من دعم الحركات الإسلامية في الربيع العربي، ثم عاد إلى تطبيع العلاقات معها في 2021- 2022 وانسحب من المواجهة بناء على مصالح الجمهورية القومية الحديثة التي أسسها الرئيس اتاتورك 1923 م والموقف الشعبي التركي من اللاجئين العرب.

سوى أن حالة عمر وخصوصية صحبته ومآل العدالة في حكمه، جعلت الأمة ترى ذلك نبراساً مضيئاً، وهو بذاته أي الفاروق قال إن تولي أبو بكر الصديق كان فلتة، أي أنهُ حالة خاصة لا يُقاس عليها حمل الأمة على حاكم معين.

فهو تشريع اجتهادي وليس إلزاميّاً، وعليه فلا يمكن أن يعتبر ما هو خلافه، في إطار البحث عن العدالة التي نص عليها الشارع، مخالفاً للشريعة.

ولذلك فإن هذه المسالة رغم أنها بُحثت في معاهد وأروقة الفكر الإسلامي المعاصر، لكنها تعود إلى نقطة الصفر، وجاذبية فكر الماوردي أو من شابهه في المعادلة التراثية للحكم، والتي عزّزت الشرعية في صورة التوريث أو المنعة الجائرة، أو التزكية لعهود متقدمة من سلاطين وخلفاء ما بعد العهد الراشد، هي تدوينات تبرير خضعت مبكراً لإرث المستبد الفرد وعصبيته، منذ حكم بني أمية وحتى آخر سلاطين العثمانيين.

أي أن اقتباس مقاصد الحكم الإسلامي الرشيد، تاه كليّاً في هذا التسلسل التراثي، ولا نقول أنه غاب مطلقاً، بل العكس فمفهوم المعارضة كان مبكراً جداً وتصدره الإمام أبو حنيفة*، بل إنّ الصديق واجه معارضة في تعيين عمر من بعض الصحابة ذاتهم، فكيف يعترض الصحابة على تشريع ملزم، الجواب أن هذه الأطر السياسية ليست تشريعاً ملزماً، ولكنها اجتهادات وافقت إشارات النبي صلى الله عليه وسلم، والتي لم يتعامل معها الصحابة على أنها تشريعاً ولم يعرف في حينه أنهم الخلفاء الراشدون، وجرى الخلاف منذ سقيفة بني ساعدة عليها.

  • أحد ابرز أئمة مدرسة أهل السُنة وإمام مدرسة الرأي، ولد في 80 من الهجرة وادرك الأمويين ثم العباسيين ولاقى منهم أذىً كثيراً، لرفضه مناصبهم وعطاياهم والخضوع بفتاواه لهم، وإيمانه بحق المعارضة السياسية في الأمة، وورد في ترجمته أن استشهاده بين تعذيبهم وبين دس السم له، قارن بينه ومن ماثله مع غيره من مدونات التراث السياسي في دعم المستبدين.

خصوصية دولة النبوة

كل ذلك خارج الجدل حول مفهوم دولة النبوة، الذي آراه نقاشاَ خارج محل الخلاف، فلا يَلزم من الإقرار بالنموذج الواضح الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، في هيكل الحكم، كونه دولة نبوّة، أن يقفز على تلك الخصوصية التاريخية.

فكيف يستقي أي مشروع تاريخي أو معاصر، منه العصمة أو التشريع، ولذلك ترسخ الانحراف في الأمة وشُرّعت مقاتل المعارضين، عبر الاعتساف المضلل، لدورات الحكم للأمم السابقة، حتى أنظمة الحكم المعاصر، لتتدثر بالنص الديني وسياقه، ووظفت أحوال الدولة للنبي صلى الله عليه وسلم باعتساف، تغطية لذلك الزعيم أو السلطان أو الملك، لتعطيه مشروعية مكذوبة بل مسروقة لا تنطبق عليه، بل إن حتى سيرة النبوّة في الشورى والتسامح كانت بعيدة عنهم كل البعد، رغم أنهُ نبي يوحى إليه صلى الله عليه وسلم.

بين الدولة الأمميَّة والقطريَّة

فلنلاحظ هنا أن القسم السابق، كان مختصاً بمفهوم الدولة الأمميَّة للمسلمين، وليس دولة القُطر أو الوطن الجزئي، في داخل الوطن العربي أو حاضر العالم الإسلامي، ولذلك يبرز هنا إشكال مهم ونحن في طريقنا لتحرير مفهوم الدولة المدنية في أفق الشريعة، هل هذه المدونات النقاشية في قضية شرعية الدولة، التي تختص بمفهوم الدولة الأممية الجامعة للمسلمين، مع كل ما بيناه من مساحات اجتهاد تُلزم بها الدولة المدنيَّة لقطر من الأقطار؟

فحالة الصراع الفكري وليس الحوار اليوم فقط، هو في الحقيقة يستدعي ذلك الإرث في تاريخ التشريع الإسلامي وميراث السلاطين، ليسقطه على دولة جزئية، ربما كان من المقاربة الأفضل، أن يُنظر لمساحة الفدرالية* في الفقه الإسلامي.

  • راجع كتاب فكر السيرة للكاتب حول الإسلام في الصدر الأول في التراسل مع أمم الأرض وسلاطين الدول، ومساحة الاستقلال لهم في إدارة أقاليمهم ودولهم.

التي مُنحت لأمم وشعوب وتُركت لتحكم ذاتها، وكان المدار الاجتماعي مرتبط بالعدالة السياسية، والمساواة وتوزيع ثروة الإقليم، بعدالة ونزاهة شديدة، مع رفع حق الميزانية المركزية.

ولكن ما يجري اليوم في هياكل هذه الدول، منفصل حتى عن إطار وحدة كونفدرالية، فالتمزق شرس وبعيد عن مساحات المصالح المشتركة، ومفتقد لخطط الدفاع المزدوج ضد المعتدين على دول المسلمين، وخليط الشعوب والثقافات والتعددية القائمة في أفكار الناس فضلاً عن الأقليات، هي العمق الأساس، في تحرير ميثاق الجمع لمجتمعات الدولة المعاصرة، وخاصة ذات الغالبية المسلمة، فهنا خللٌ كبيرٌ في عملية الإسقاط بين التاريخ الإسلامي، بما فيه المخالف لنهج العدالة الراشدة، وهيكل الدولة الحديثة.

الدولة المستحيلة في جدل الاسلاميين

ومؤخّرا احتج عددٌ من الإسلاميين الشرعيين، وبعض المفكرين بخلاصات مدرسة نقد الحداثة، وبالذات ما انتهى إليه د. وائل حلاق في *الدولة المستحيلة، وأنا هنا في هذه الورقة لا أستطيع لضيق الوقت، عرض الفكرة الثالثة التي أراها غائبة عن جوهر الجدال، لكنني سارد على مركز استدلالهم بنظرية د. وائل حلاق، وأن فلسفة التشريع الإسلامي تتناقض في تعريف الدولة، مع أساسيات الدولة الحديثة، وأذكّر بالمفهوم الأول وهو أن النقاش هنا ليس على الدولة الأممية، التي دعا لها حزب التحرير أو تنظيم القاعدة أو غيرهم كمشارطة مطلقة.

وإنما هو في تنظيم حالة مجتمعية من بلدان المسلمين، تضمن حقوقهم السياسية والعدالة الاجتماعية المشتركة لهم ولغيرهم، والمساواة الاقتصادية، أما الثاني فهو سؤال ما هو السبيل لتحقيق مشروع الإرادة العامة، في قيادة المجتمع وتحييد الدولة.

  • وائل حلاق – الدولة المستحيلة المركز العربي للأبحاث 2014 م

وفي تشريع أنظمته كما هي في أطروحة الدولة المستحيلة، هل وائل حلاق حين طرح هذه الرؤية كان يرد على حتميات الغرب، في شيطنة فكرة الدولة المسلمة، وأن قياسهم يقوم على معادلة فاسدة بسبب مرجعية الحداثة المتطرفة.

أم انه كان يقصد أن منهجية الشريعة عاجزة عن ترصيف أرضية حكم محلي، وخاصة أن صفة الوطنية بذاتها تصطدم مع الفكرة الإسلامية، المسلم الإنسان وغير المسلم الذمي، ولا أُريد هنا أن أضع نفسي مكان حلاق، غير أن المقاربة هنا مضطربة للغاية.

فنحن أمام أمرين إما أن تكون الشريعة ذات مساحة مرنة، في تهذيب وتعديل هيكل الحكم المدني، أخلاقياً وحقوقياً وقيمياً، بسبب سعة الاستدلال فيها وقوة مقاصدها، أو أن يكون المبرر الاعتراضي، هو أنهُ لا شرعية ولا جدوى من هذا الإصلاح، واستثمار آليات تنظيم العدالة، والحكم الدستوري والشراكة الشعبية، وهي كلها أدوات ضرورية، لا ترفضها الشريعة بل قد توجبها، إذا كانت المدار الوحيد، أو النادر لحماية الشعوب من الحروب والنزاعات، والمدافعات الحقوقية.

وفي ذات الوقت فإن هذا الموقف أو التقنين الفكري، لا يمنع الإسلاميين من تطوير فكرتهم في الدولة الحديثة، ولا وضع أرضية تنتقل فيها الدول، إلى حالة التمكين الإنساني الأخلاقي للشراكة المجتمعية التي يحتج بها حلاق، لكن الواقع اليوم هو رفض أطر التنظيم الدستوري الذي يُقلل من سلطة الفرد، ورفض التوافق على منظومة تأسيس للدولة المدنية، يُتوافق عليها مع بقية الأطياف، علماً بأن الواقع بائس للغاية، والإسلام فيه يُستدعى للتبرير للمستبد، في الأنظمة الملكية وغيرها.

هل الدولة المدنية محصورة في الإطار العلماني

واحدة من أهم مسارات الاشتباك في تحرير مفهوم الدولة المدنية، هي جذورها العلمانية الحتمية، وذات هذه الحتمية المفترضة، تحتاج إلى تفكيك نظري وتطبيقي لتحرير الموقف الشرعي منها،  فحتى مصطلح (العلمانية) يخضع في نهاية الأمر، وفق أصول الفقه الإسلامي لتشريح توضيحي، هل المعارضة للمصطلح أم للمفهوم التطبيقي للمصطلح.

فهل مصطلح دولة على سبيل المثال ثم معاصرة، هو مصطلح ديني مقابل الدين الإسلامي، أم مصطلح مدني يقتضي بالضرورة تنزيل القاعدة التشريعية لمصالح المسلمين، والحقيقة التي تحتاج فيها تيارات التفكير الإسلامية لإعادة النظر، أن المصطلح لا يقتضي حكماً بالضرورة، وإنما مفاهيم هذا الحكم وتجربة تطبيقه بحسب التاريخ والحدث.

 فما أسمته التجربة التركية الحديثة في حزب العدالة، بغض النظر عن مآلاتها المحبطة الأخيرة وانقسامها، بالعلمانية الديمقراطية، كانت مفهوماً مختلفاً عن العلمانية الإلحادية الشمولية، التي طبقتها شيوعية ماوتستنج في الصين، أو ستالين في الاتحاد السوفييتي.

والدولة المدنية التي تأسست في ماليزيا بعد الاستقلال، وتنص على أن من واجبات الملك حماية الدين الإسلامي، وأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، تختلف عن مدنية دول علمانية في اسكندنافيا أو كندا، فضلاً عن مفاهيم القيم التي لا تزال البيئة الاجتماعية الماليزية تتمسك بها، ومن حيث القناعة الشعبية فهي أقوى من دول دينية طائفية كإيران، كما أن القناعة الشعبية بالإسلام في ماليزيا أفضل من الدول الخليط بين الثيوقراطية الملكية والعلمانية السُنيّة، التي ترفض المشاركة الشعبية وفصل السلطات النافذ لصالح الشعب.

مفاهيم السيادة العليا

نص روسو* في العقد الاجتماعي على مبادئ السيادة العليا التي تحكم الدستور، ومرجعيته هنا، هي تحريراته لصناعة جمهورية المشاركة الشعبية، الديمقراطية أو الارستقراطية، التي لا تخضع للدين المسيحي، لكن مع ذلك كرر روسو في ميثاقه الذي أضحى إنجيلاً للثورة الفرنسية وغيرها، بأن قاعدة أن الدين الذي يُحدد معيار التساوي بين الشعب، ومرجعيته التي لا تنطلق من انحياز أرضي، هي قاعدة صحيحة.

لكنه تساءل محتجاً أين هو ذلك المرجع الديني المطلق، واستدل بحشد من آلهة الرومان ثم الانهيار الأخلاقي الكاثوليكي في أوروبا.

تاريخ المسيحيَّة أم مقاصديَّة الإسلام

إننا هنا لا نستدعي الرد العاطفي المكرَّر بأن الإسلام مختلف عن التاريخ المسيحي في أوروبا، فهو مختلف في جذور تصوره، وفي فقهه العمراني وفي انضباط علاقة الروح بالمؤسسة العبادية، ومساحة التعبُّد الضخمة في عمران الأرض وفقه المصالح الدنيوية، التي وسّعت الشريعة قواعد قياسها.

فحديثنا هنا نَفْصله عن ذلك الاستدعاء الذي يعود ليتكئ على الإرث المذهبي العاجز، والذي يُسقط مفاهيم الحرية السياسية لدى علماء بارزين من السلف، أوّلوا بها فهمهم للحريات العامَّة في الشريعة، ولذلك نقول هنا أن منع الشعوب المسلمة، من اعتماد الإسلام كأساس للمبادئ العليا الحاكمة للدستور، لا شرعيَّة أخلاقيَّة له، ولا فلسفيَّة.

وجهة الحكم المفوضة في هذه المبادئ ليست مجموعة فقهاء عاجزة عن فهم التصوير الفكري، والتطبيقي للقوانين والتشريعات

  • جان جاك روسو – العقد الاجتماعي 1762 فرنسا

وإنما نخبة متخصَّصة ذات دراية، لا شرعية فقط بل مدنية قانونية، تملك مساحة مستقلة وواعية للوصول إلى المرجعيات الدستورية العُليا.

حقّ الشعب في المرجعية العُليا

وإقرار هذه المرجعيات التي تنصّ على حقّ الشعب في رفض نقض الشريعة، أو عزل هويته عن الإسلام، كما هي مراهقة بعض الحكام العرب اليوم، الذي يزايد في علمانيته على الغرب، لا يُقصد منه الصراع القانوني التنفيذي، إنما مبدأ التشريع ومرجعيته الدستورية.

 أما القوانين فهي تتخذ مساحة مرونة أكبر ومنظومة بنود أوسع، المهم هنا ألا ينص الدستور على رفض قطعية اسلامية، فضلاً عن مهاجمتها، وهذه لا تتناقض مع مساحة التقنين، لحقوق الأقليات ولا طبائعهم ولا مساحة التشريعات المناسبة لهم.

القانون والتطبيق التنفيذي

كما أن المحافظة على القيم العامَّة لا يترتب عليها مطاردة أمنية لسلوكيات الأفراد، إلا في حالات اختراق شرسة فاضحة وخادشة للمجتمع العام، لا شرطة دينيَّة تطارد الناس في سلوكهم، ولا تعسفهم على ضوابط محددة في حياتهم الشخصية، فهنا مفصل مهم بين سيادة المجتمع الحقوقية، وطبيعة التشريعات القانونية.

فكلما انسجم الشعب في احترام تعدّده وميثاقه المجتمعي، كلما تعزز استقراراه ولا تُستخدم أدوات العقاب إلا من خلال محاكم، تضمن عدم خنق الحقّ المدني، وحقّ الحياة الشخصية المنفصلة عن الحضور العام، فهنا الدولة ليست جهة رقابة تشارك الملائكة تسجيل الخطايا، إنما جهاز ضبط عام لحقوق المجتمع وعدم تعدِّي فئة على الأخرى، وهي ما يفرز مفهوم الدولة في الإسلام عن نظام الحكم الديني المذهبي، المشابه للحياة الكنسيَّة القيصريَّة في الغرب.

أثر سيادة المبادئ العليا في استقرار المجتمع

ماذا عن الطوائف الدينية والمذهبية، وماذا عن القناعة الشخصية في الحياة العلمانية، أين هي من دستور الدولة المدنية المسلمة التي ينص على احترام الإسلام وتشريعاته القطعية للدولة وهويتها؟

إن المشكلة تواجهنا هنا في نموذج التنميط لصورة الحكم الإسلامي، وحتى في الوصف، فمفهوم الحكم بالشريعة أو الحكومة الإسلامية، عليه حمولات تاريخية ضخمة، تراكمت تحته منذ الزمن القديم ومن بعد حكم الحسن بن علي، وما تخلل بين حكم معاوية بن يزيد وعمر ابن عبد العزيز وما بعده إلا ما ندر، طبقات من السياسات المستبدة والعصبيات، التي كان من خطايا التراث أن تُجذّر عند البعض كتشريعات دينية.

ثم ما تعرضت له بعض الدول المسلمة حديثاً، من استثمار متنوع لمصطلح تطبيق الشريعة، لم يكن إلا إعلاناً مزوراً أو استثمارياً لهذا النظام أو ذاك، وكان في حقيقته غطاءً يستفيد من نظام الحكم الفاسد أو المستبد، ويخلق منه جُنّة بينه وبين الشعب، دون أي تغيير يُذكر، فضلاً عن أحقية الانتخاب أو حتى الرقابة المستحقَّة للأمة، بحكم أن الحاكم في المبدأ الشرعي، أجير عند السيد العام كما يسميه روسو، وهي هنا الأمة الشاملة.

الدين في المجتمع بين التنميط والتنظيم

فالخروج من هذا التنميط في جدل الدسترة والتشريع، لتحرير فرصة قيام دولة مدنية لا تُلغي حق الشعب في هويته الإسلامية، هو المدخل الأوّل، وحينها فإن مساحة الحقوق الشخصية وحتى الطباع الذاتية، هي ممارسات تتم ضمن خصوصيات المجتمع وأفراده، فلا سلطة للدولة على الناس في أفكارهم ولا قناعاتهم، ولا يجوز لها أن تتدخل في حواراتهم الشخصية ولا ندواتهم العلمية، ولهم حق الرأي في النقد لمنظومة الدولة.

 ومساحة التشريع القانوني هنا هي في احترام الدين، بل الأديان وعدم التجديف عليها واستفزاز منتسبيها، وهذا مطبق حتى في دول علمانية.

والتطرف الغربي الأخير بتشجيع التهجم على الإسلام*، باسم حرية الرأي، هو ضمن انتكاسة الحالة الأخلاقية وعلو العنصرية والتطرف، ذات الجذور العميقة في تبرير الإبادة أو الحط من قيم الشعوب، باعتبارها أمم متخلفة في نظرية الحداثة المادية، وتأصيلها في بعض تيارات الفلسفة الغربية المعاصرة، التي كانت أداة للكولونيالية*.

فكيف يُطرح حق التجديف ضد الإسلام، في المنابر العامة كقانون ملزم يفرض على شعوب دول مسلمة، فلا علاقة لذلك بمنظومة الحريات والمساواة بين الشعب، فالطوائف والتيارات اليمينية في العلمانية، لها كامل حق المشاركة، والنقاش والرد حتى في منظومة القوانين، وسقف الإسلام هنا يسع الاستدلال به غير المسلمين، كمرجع حقوقي، لو كان الأمر متعلق بقانون يستقي شريعته من مسار قطعي في الشريعة، بحسب النواب والهيئات التشريعية، أو طُرح تحت مفهوم الأسلمة.

 ونحن لا نتحدث هنا عن الأساسيات كالحق المعيشي والوظيفي والانتخاب والترشح، وحرية الرأي السياسي وتشكيل منظمات المجتمع المدني، فلا يوجد في قطعيات الشريعة ما يمنع أبناء الوطن والدولة المدنية المسلمة، من ممارسة حقوق المواطنة الشاملة.

  • النماذج الغربية المتطرفة كثيرة، لعل من ابرزها في فرنسا 2020 في موقف الرئاسة والتشريعات القانونية والتصريحات الرسمية المتعددة ضد حقوق المسلمين، وقهرهم على قبول وتشجيع إهانة رموزهم باسم احترام حق التعبير.
  • وائل حلاق وإدوارد سعيد ..جدل ثالث – مهنا الحبيل المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2021

ولا تتصادم المبادئ السيادية العليا مع حياة الأفراد الاجتماعية، التي تنظم على سبيل المثال أنظمة الحياء العام والاحتشام، وحقوق الأسرة الفطرية التي تتفق عليها الأديان، وتحمي مفهوم الأسرة الاجتماعية، ولكن لا تتدخل في الخصوصيات الثقافية للأفراد والمجتمعات التعددية.

أزمة غياب التجربة كمصدر للفقه الدستوري

رغم وجود تجارب قصيرة في حياة الوطن العربي، شارك فيها الإسلاميون في سوريا وفي مصر*، وفي المغرب العربي، غير أن هذه المشاركات كانت قصيرة ومحدودة، إما من خلال نقضها والانقلاب عليها، او من خلال هيمنة السلطة التنفيذية عليها باسم الملك أو الرئيس أو الحاكم، فلم تؤسس لمساحة تدافع سياسي فكري، يغني الحوار وينظم الخلافات، ويدفع مصادر الفقه الإسلامي المعاصر لمواجهة مسؤوليتها.

وهذا ما وسّع طرفي التناقض بين الخائفين من مفهوم الإسلام في مرجعية الدولة، وبين الخائفين من قيام دولة مدنية، تنظم حقوقهم دون أن تُقصي هويتهم وتحترم مرجعية غالبية الشعب الأخلاقية والفكرية، وبالتالي جزء من تراكم الأزمة اليوم، هو ما ساعد على استثمار المركز الغربي، أو الأطراف المستبدة الموالية أو المتقاطعة مع مصالحه، في استثمار هذا الخوف.

الذي يدفع بقوة الى ساحة المجتمع للخلاف حتى في ذروة مآسيه، وهنا نستحضر على سبيل المثال تجربة الثورة السورية، في إطار الحوارات والصراعات الفكرية التي عاشتها.

  • انتخابات البرلمان السوري 1954 كنموذج

 حين طَرحَت تساؤلاً كبيراً حينها، ما هي فرص التوافق على المرجعية الدستورية لو تحقَّق أمل نجاح الثورة*؟

وقد يُتعقب على ذلك بأن الثورة اُعيقت من الحلفاء، ومن الأعداء، وبتالي لم تتح فرصة للتدافع الفكري، والحقيقة أن في مصر وسوريا، كان هناك غياب كبير لتنظيم الحوارات الفكرية، والوصول إلى سن مرجعية فقهية للدولة المدنية، تنظم مساحات الاختلاف ومرجعية التحاكم عليها، وتقبل بمرحلة انتقالية لا تنص في دستورها على رفض للشريعة، وتبقي حق الهوية المركزية.

فهذا المدار هو المخرج الممكن أن تنتقل فيه الأقطار العربية، سواء في مستويات الثورة أو ما دونها من حركات كفاح وإصلاح، لحسم إيجابي لا يمنع من أن يطرح الإسلاميون على سبيل المثال، منظومة تشريع حقوقي أو اجتماعي تحقق مصالح الإنسان، وتطور صناعة الدولة والفقه الدستوري.

ولكن دون القفز إلى المجهول، أو الاعتماد على لافتة تقدم كمراغمة لبقية أطياف المجتمع، حتى من الإسلاميين المختلفين عنهم، بأن الأمر يكفي فيه رفع مقولة (الإسلام هو الحل)، فالإسلام كمرجع لرحلة الكون وفهم دلالته فضلاً عن مفاهيم الإيمان الروحية، ليس مباراة صراع، ولكن رسالته في الدولة أن يُقتص من القوي حتى تضمن العدالة للضعيف.

وأن يجد فيه المواطن الذمي والمسلم، قاعدة صلبة تشريعية تضمن حقوقه السياسية والاقتصادية، وتُحافظ على مستقبل الأجيال الأخلاقي والبيئة النفسية والطبيعية للشعب، هنا سنجد أن أطياف المواطنة سوف تتَّحد في مدارات العمل لوطن أفضل، تشمل القادم من رؤية المسجد أو الكنيسة، أو حتى الفكرة الوجودية.

  • الثورة السورية 2011

 فمجمل قضايا التدافع السلبي، تعود على جذر حقوقي، حين يطمئن الإنسان له يهدأ باله، وإن بقي حق الاختلاف الفكري قائما، فمن شاء آمن ومن شاء رفض، ولكن يتحد الجميع في وطن الحقوق والواجبات والقيم، والتي تملك أصولها الرؤية الكونية في الإسلام، لكن لن يحقّقها، إلا من فقه أصولها المقاصدية، وواقع الحياة المعاصرة وحاجاتها السببيَّة.

_________

مهنا الحبيل: باحث عربي مستقلّ، مؤسِّس المركز الكندي للاستشارات الفكريَّة.

جديدنا