الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني؛ أو ما تكون – هذه- فلسفة “النّوابت”؟

image_pdf

تمهيد: 

بيد أنّ النّاظر بعين النظّار للفلسفة يزداد يقينا بخلده أنّ فتحي المسكيني هو فيلسوف من جنس “النّوابت“. أولئك الذين لا ينبتون إلاّ على حوافي المدن وعلى سفوح الجبال بلا سبب ومن “تلقاء أنفسهم” حسب عبارة ابن الصائغ الملّقب بابن باجّة في كتابه “تدبير المتوحّد“[1]. فهو بلا ريب، يعدّ فيلسوفا “خِنْذيذا” وهو “الفائق من كلّ شيء” بتعبير الأنباري (كتاب الأضداد، §.27، ص.59.) في نحت المصطلح الفلسفي وتشحيذ “المعاني العاميّة” وتحويلها إلى “معاني فلسفيّة” بتعبير الفارابي في كتابه “الحروف“[2]. وخنذيذ في استكداد الفكر يحتقله احتقالا ليرد عليك الفائت من الفكر ويبعثر مطاميره كي يعود غبشه من جديد يُسمع حتى من به صمم ويُرى حتى لمن عمي عن النظر الفلسفي. فقد أفلق القول في غبش الفلسفة المعاصرة وبرع أيّما براعة في تأويل العبارة الفلسفية وفتق ما ران عليها من قلق وبيّن تبيّينا قصودها ومداليلها وكشف مخابئها الدفينة وأتى على أهم نكات الاستشكال فيها مذ أفلاطون وأرسطو مرورا بفلسفة القرون الوسطى خصوصا الفلاسفة العاربة الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الصائغ والمستعربة منها مستخرجا ما لا ينقال فلسفيا وما لم يأت به الأوائل ولا الأواخر من المتفلسفين غازيا بالفكر والقلم مساحات فكرية لم يزن بها الدهر. وفاتحا فتوحات فلسفية تقارب الفتوحات المكية لابن عربي من جهة موسوعته المعرفية المطلعة على أمهات الكتب الفلسفيّة العربية والغربية وموطأ بالترجمة لفلاسفة كبار مثل يورغن هابرماس ورورتي وأغامبن وفاتّمو وسلوتردايك وجديث بتلر وزيجمونت باومن وباديو وغيرهم كثر.

فتحي المسكيني هذا الفليسوف النّابت حقّا في فلاة الأيْس من أجل دفع الليْس وطرد النّعاس عن أهداب عقولنا الكسولة واستنطاق الفلسفة بلسان عربي مبين يبتلع جميع الألسنة المختلفة عنه في جوفه ليكون ترجمان عصره الفالت من عقاله “عصر المرْدَدة” بتعبير الفيلسوف مصطفى كمال فرحات و”عصر الكلبية المعمّمة” بتعبير سلوتردايك. حقيق أنّه يحفر حفرا بلا هوادة في المساحات الفكرية التي غفل عنها الفلاسفة منذ أمد طويل إلى حين يومنا هذا مثل الحفر في معنى “النّابتة” الذي استبعده أفلاطون من جمهوريته وخبط فيه خبط عشواء ونفض غبار التاريخ المعفّر بوجهه من لدن ابن الصائغ واستعاده من بين يراع الفارابي واستخرجه استخراجا طريفا لم يكن له من قبل سميّا فلسفيا وإنّما كان تقولا ليس إلاّ منحصرا في جمل فلسفية أساءت فهمه ولذلك سحبه من خطمه ليكون صفة لموصوف هو الفيلسوف. ذاك الذي يستنبت المشاكل من أدمة الواقع ويحرث في أديمه حرثا بعيد الغور وسبرا يبلغ الشأو حتى تناهيه كما هلّ علينا كتابه “فلسفة النّوابت“[3] وبان “البيان” من معانيه.

  1. الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني:

يراوغنا السؤال ويخاتلنا بين الفينة والأخرى ليستوي منطلقا كالسّهم من قوسه للتوّ: من بعث مفهوم “النّابتة” من مرقده؟ ومن جعله ينسل من جدث الفلسفة؟ ألا يكون إلاّ الفيلسوف النّابت من تلقاء نفسه الذي استل المفاهيم الفلسفية المطمورة من غمدها وجعلها تنسل من أجداثها سراعا لتقول عن نفسها ما لم تستطع بوْحه في زمانها الفالت أو بالأحرى لم تستطع ترجمة بوْحاتها إلاّ في كتاب “فلسفة النّوابت” الذي طبخ على درجة عالية من السخونة الفكرية ووضع على درجة منخفضة من البرودة الفكرية. فكان ما كان من القوة. قوة العطاء الفكري ووهج العبارة الفلسفية تلفح قارئها. أمّا نصوصه فقد بنيت عبارة فوق عبارة وفي وسط باحتها بيت الفلسفة ذاك “البيت الكونيّ” قد يبنى حجارة فوق حجارة. وهو كتاب لا تعرف قانون غبطته إلاّ بمعرفة ألحانه الفلسفية أو بمعرفة كتاب “الموسيقى الكبير” للفارابي وقد أتى فيه الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني من غربه إلى شرقه تقصدا فلسفيا على طريقة هيدغر العارف بممشى الفلسفة والمتمرس به تمرسا تركه يقول عن نفسه في لغة الضاد ما لم يستطع هيدغر قوله في لغته الألمانية. فلا ريب، أن كتاب “فلسفة النّوابت” الفالت من بين يراع الفيلسوف النّابت يعتبر أوّل بواكير كتبه الفلسفية وقد خرج من بين أنامله بعد كتاب “هيغل ونهاية الميتافيزيقا“[4] الذي يعدّ بمثابة أطروحة جامعية مرحلة ثالثة. ومن الآكد والحقيق أنّه أسرف فيه جهد فكره واستكده من أجل استرداد حق التفلسف عربيا وأعاد فيه “الحقّ العربي في الاختلاف الفلسفي“[5] على غرار الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان في أيقوناته الفلسفية، ولكن الفيلسوف النّابت المسكيني يدخل من مضايق وشعاب فلسفية أخرى تنفتح تحت معيُونه الفلسفي وتجري رياح الفلسفة بما تشتهي السفن فتأتي الفلسفة عند غبش الصبح وليس عند أفول الشمس كما ظن هيغل مستجدلة على الطريقة الهيرمينوطيقية أو التأويلية تدور حول مجرة النصوص الفلسفية مستنطقة إيّاها ومفقلة حمى أرضها ومستنبتة مفاهيم ومصطلحات فلسفيّة من فليها للنصوص الفلسفية العربية فليّا دقيقا لا تثريب عليه ولا غمطا لحقه في النبس.

فإذا كان الفيلسوف طه عبد الرحمان اتخذ سبيله الفلسفي من جهة الفلسفة التحليلية المنطقية الأنغلوسكسونية مستفيدا من الفلسفات التداولية، فحريّ بنا القول أنّ الفيلسوف النّابت المسكيني يسلك طريقا فلسفيا آخرا هو طريق وممشى وثنية الفلسفة التأويلية الهيدغرية التي خبرها حينا من الدهر خُبرا. إذ به يستأنف التفلسف الأصيل أو بالأحرى القول الفلسفي الأثيل الذي يقتفي فيه الفكر الفلسفي آثار جداوله الضائعة التي طمرت تحت رغام الكينونة اللاأثيلة مستحرثا التراث الفلسفي العربي حرثا لقول ثقيل ومستخرجا منه تسمية جديدة تليق بمقامه الكوني الإنساني “نوابت الملّة” الفارابي وابن باجّة وابن رشد وجبران مستديم النظر الفلسفي في نبشهم الفلسفي وحرثهم لمساحات كبرى من التفكير الفلسفي مستنبتا إياه على حوافي الحضارة العالمية.

فليس غريبا أنّ من بدع الفلسفة وفضائلها أن تعيد للأموات حقهم في الحياة من جديد وتخرجهم من أوكارهم وتردهم إلينا ردا فلسفيا جميلا. وشأن ذلك هو ما دأب عليه الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني في تلفته التفاتة جُدارء نحو التراث العربي وحرثه ونخله وغربلته وتصفيته وتنقيته من شوائب علم الكلام والفقه ومن ثمّة تجديده حتى يكون مشتركا إنسانيا كونيا عابرا للحدود والقارات مهاجرا لكل من لبس الثياب ثياب الكوني. وذلك ما نتبيّنه تحت إياءات كتاب “فلسفة النّوابت” للفيلسوف النّابت فتحي المكسيني. فهو ينطلق من نكتة فلسفية وشم بها هيدغر جسد الحضارة الغربية بخط غليظ ترجمت تحت عبارة “نهاية الميتافيزيقا” مسدّدا نظره صوب التراث العربي الفلسفي من أجل بدء السير في فتح الملفات الفلسفية بعيدا عن ضجيج الميتافيزيقا ومومياء الفكر. فخليق إذا، أن يصير التفلسف عربيا مع الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني يخوض غمار الفلسفة خوضا جسورا لا خوض الجبان الحذور من أجل استنبات المسكوت عنه والذي لا ينقال ولم تنبس به شفّة فيلسوف من قبل في التراث العربي وقراءته على نحو جديد طلبا للاستسعاد الفلسفي وبلوغ “الخيرُورة” الفلسفية التي سكت عنها هيدغر في شِعابه الفلسفية استسعادا على نحو إيتيقي بلا يوم ميتافيزيقي يصبح فيه الاختلاف الفلسفي سُنة حميدة تنبع من قرارة الفيلسوف وعُرفا فلسفيا وجبلة فلسفية. آنذاك فقط يعود التفلسف حقا عربيا كما أومأ إليه الفيلسوف النّابت صاحب “فلسفة النّوابت“.  

2. كتاب “فلسفة النّوابت” للفيلسوف النّابت فتحي المسكيني:

بالحريّ يبدو لنا كتاب “فلسفة النّوابت” متخذا مسار الدائرة المفتوحة على جملة من الإمكانات الفلسفية المأمولة من لدُن الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني الذي يأمل في توطينها داخل أفق الملة وهي رأسا تتلخص في نقطة بدأ يرسم ملامحها منذ وضع العنوان “فلسفة النّوابت” ألا وهي التساؤل عمن يكون الفيلسوف النّابتة؟ فهو بلا ريب، كتاب ينشطر إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما. إذ يعتمل القسم الأوّل على تسليط الضوء على خبايا العقل الحداثي أو “العقل المرآوي” بتعبير رورتي بدءا بتشخيص ما يسميه “انفعالات الحداثة” ضمن “معاودة التفكير في هيغل ضدّ هيغل نفسه“[6] وفي عوده يعُوج على قراءة بعيدة الغور تحت عنوان طريف: “جبران أمام نيتشه أو النسخة العربية من العدمية“[7] مستديم النظر مليّا في “جغرافية العقل العمومي أو من يتفلسف في الفضاء العمومي؟“[8]

ههنا يبدأ الفيلسوف النّابت المسكيني بإشعال قبس هيدغري مقتبس من “نهاية الميتافيزيقا” مستأنسا به حيث سينشر إياءاته خلال قراءته الهيرمينوطيقية في وضعية الفلسفة العربية ضمن التراث الفلسفي والأدبي العربيين مستخرجا إياه من الظلام الدامس والسدف الذي يكتنفه منذ أمد طويل إلى الضوء المُسفر مثلما عاج هيدغر على التراث الغربي وأعاده للنُّظار بدءا من أهل اليونان الما قبل سقراطيين بارمنيدس وهراقليطس للتفكير فيه على نحو جديد تفكيرا أثيلا بلا ميتافيزيقا. تلك التي حجبت الكينونة من أفلاطون حتى “نيتشه آخر الميتافيزيقيين” بتعبير فيلسوف “الغابة السّوداء” (Holzwege). ومن هذه الكوّة الفلسفية استطاع الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني الحرث في تضاريس العقل العمومي مستفيدا من فلسفة كنْط النقدية ووريثه الشرعي هابرماس في استجلاء العواصة بين العقل والفضاء العمومي متسائلا تساؤل المهموم فلسفيا: “من يتفلسف في الفضاء العمومي؟”[9].

بيد أنّ القسم الثاني من كتاب “فلسفة النّوابت” يحاول فيه الفيلسوف النّابت المسكيني استكداد الفكر وتشحيذ المعاني وتثقيف المصطلحات الفلسفيّة المطمورة في تراثنا العربي والتي لم ينفض الغبار عنها مذ أمد طويل وكثيرا منها بقي ضمن “مخطوطات لم تر النّور بعد” بتعبير الفيلسوف مصطفى كمال فرحات “الفيلسوف الجوديّ” في إحدى فلتاته الفلسفية. وعليه نرتقي في القول لنبيّن تبيّينا أنّ المسكيني يجري امتحانا فلسفيا عسيرا وتمرينا فكريا على المصطلحات الفلسفيّة من داخل النّصوص الفلسفيّة العربية مستخرجا عدّة مفاهيم فلسفية مطمورة لم تسفر عن إياءاتها مثلما هو الشأن مع مفهوم “نوابت الملّة“.

وبالحريّ فهو يفلق قولا فلسفيا إبداعيا تحت هذا القسم “نوابت الملّة“[10] مستهلا إيّاه بعنوان رشيق: “مولد “الإيتيقا” عند العرب؛ الفارابي شاهد“[11] ومتوقفا عند سؤال مربك يفلت من عقال لسانه: “من هو متوحّد ابن باجة؟“[12] ثمّ ينيخ برحله الفلسفي فوق فلاة ابن رشد الشاسعة والمترامية الأطراف تحت عنوان: “ابن رشد والاستعمال العمومي للعقل“[13]. حينئذ يمكن القول أنّ الدائرة في ماهيتها مجموعة من النقاط وقد شبهنا هذا الكتاب بـ”الدائرة” (kreis) وعليه نقول أنّ الفيلسوف النّابت المسكيني استطاع إلى حدّ بعيد الغور أن يكتب جنسا جديدا من الكتابة الفلسفية الخارقة للعوائد الفكرية قد تتماهى مع لغة الهندسة التي تستعين بالمسطرة والبركار ضمن كتاب “فلسفة النّوابت” الذي كتب بدقة فائقة وعدّ خريدة من خرائد الفلسفة التي هلّت علينا بأمر جديد لم يخطر على فكر بشري ولم تسمع به أذن فلسفيّة من قبله.

من رحم الأيْس (الوجود) لا من ليْسه (عدمه) انطلق الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني من أفق نظري فلسفي في هذا الكتاب من نقطة حاسمة تتمثّل في “نهاية الميتافيزيقا” التي شق هيدغر بعصاه بحرها وخاض فيها فلسفيا وأسدل الستار عنها مستعيضا إيّاها بالتفكير بما بدء ومسير وطريق لا ينتهي ولا تهدأ سورته ويهجع ولو هجعة واحدة. ويغرف المسكيني غرفا من فلسفة هيدغر مولدا منها نقاطا كثيرة ينثرها على سطوح الدائرة التي رسمها لكتابه “فلسفة النّوابت” بالفرجار وقبل أن توشك على الانتهاء يتركها عنوة مفتوحة على المُهْمت بهواملها وشواملها بما يشبه الخاتمة وليست بخاتمة. فليس للفكر خواتم وإنّما له فُصوصٌ. كلّ فُصٌ له طبقاته وسكناته وحركاته وهمسه وحسيسه وهسيسه ودبيبه والتواءاته وتعرجاته وما يتعجن بداخله وما يتخمّر في صلبه وما لم لا يتقوّل. والحقيق أنّها خاتمة في مقام فاتحة الفتوحات الفلسفية قادمة من مستقبل الكينونة-الهناك على قلق يهزّها هزّا لطيفا تلوّح بإشاراتها وتنبيهاتها اللطيفة تتهوّى خارج أفق الملّة وهي معلنة قدوم “الفيلسوف النّابت” الآتي من بعيد والناتئ من إهاب الدهر.

ذاك الفيلسوف النّابت الذي “وقع على رأي صادق لم يكن من تلك المدينة” مثلما هو الشأن مع النّابت فتحي المسكيني الذي سيحدّق فلسفيّا في البعيد القريب منّا والقريب البعيد عنّا مثيرا حزمة من المشكلات الراهنيّة التي يلوح وميضها في الأفق القريب للإنسانية القادمة المهاجرة لبيتها الكونيّ ونستشرف ذلك من تساؤله بكلّ الممكن الفلسفي لديه عن نوع الحيوان الفلسفي القادم من جنس الثدييات ضمن سؤال: “من هو الفيلسوف؟“[14] أ حقيقٌ هُو تلك “الدّابة الشقراء” بتعبير نيتشه أم هو ذاك الحارس أو “راعي الكينونة” بتعبير هيدغر أم هو “حيوان فلسفي” لا يعرف الحرن مثلما هو الشأن مع سلوتردايك؟ أم هو ذاك الغريب في غربته “غريبٌ كصَالحٍ في ثمودٍ” ينثر درره ونفحاته ويكون سخيا معطاء إلاّ عند هجعة الليل الأخير ليقول لنا قولا فلسفيا ثقيلا لا تستطيع العقول الواهنة على فهم غمزاته الفلسفيّة وتلطف شطحاته الصوفيّة وسماع نغم موسيقى القرآن بداخله واسترقاق السمع لهديل جداول القصائد مثل المعلقات العشر وأشعار المتنبي والمعري ورهافة أسلوب جبران ورقته وسلاسته بكتاباته الفلسفيّة والشعرية.       

فلا استغراب في القول أنّ المسكيني يأخذ الفلسفة بقوة لا تلين مقاوما للحمق البشري كما علّمنا الدرس الدلوزي “أنّ مهمّة الفلسفة هي طرد للحمق” كما هي “خلق للمفاهيم” و”تحليق” فوق “حِمَى“[15] الفلسفة أو لا تكون. لذلك ما فتئ فيلسوفنا النّابت القيام بتنشيط المفاهيم الفلسفية التي طمرت تحت عناوين أخرى مثل مسألة “الإيمان الحرّ” الذي وضعت السلطة الدينية يدها عليه، وقامت بوضع سردية أخرى له حتى يكون ظهيرا لها ونصيرا لتحركاتها ومساندا لها عند بسط نفوذها على الأفراد، ولكن الفليسوف النّابت فتحي المسكيني رغم عواصة هذا الباب الذي يدقّ مأخذه ويصعب الإقدام عليه من متفلسفي القرن الحالي إلاّ أنّه تجاسر عليه بقوة وقذف به خارج أسوار الفضاء الملّي الديني ليعيد قراءته قراءة تأويلية ضمن أفق ما-بعد حديث مستخرجا المطمور فيه من المعاني الخبيئة والدلالات الحافّة به ومستكشفا قُصوده الفلسفيّة تحقيقا وتدقيقا. وإن تقرّر ذلك فهو جدير بالقول لقد “أسْدَف ليله“[16] تحت يراعته وبرزت إياءات شمسه من تحت أنامله.    

فحريّ بنا القول أنّ الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني يكتب كتابة فلسفيّة شاهقة تطفح على أديمها لآلئ علينا التقاطها والإنصات إليها برهافة حسّ فلسفي لما تتضمنه من أفكار قمينة بالاهتمام وجديرة بالنظر والتحقيق في معانيها والسفور عن خوافيها. بيد أنّه لا يكتب لنفسه، وإنّما يكتب للجميع ولكل جنس بشري آدمي من لحم وعظم ودم. ذلك هو الجنس الذي آمن به لكونه حرّا وما دام حرّا فهو “لا يستطيع أن يقتل” و”لا يستطيع أن يتركني وحيدا” بتعبير ليفيناس ولا يتكلّم إلاّ بلسانه حتى وإن كانت ثأثاة عابرة. فلا غرو، أنّ الفيلسوف النّابت هو جنس بشري رسول يؤمن بكوجيطو جديد وشمه الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني على جبينه وشما جميلا: “أنا أفكر، إذن أنا لا أكره” و”الكُرْه لا يفكرالكُرْه لا يناقش“.

فبلا معاندة فلسفية هو “كوجيطو الصداقة” يوسّع من دائرة المحبة (البهاكتي*) ويقاوم هالة الإنطفاء (النّرفانا*) الذاتي الذي باتت الذات التي تفكّر معرضة للسّدر والحيرة والخسار المبين من فقدانه وهجرانه. لأجل ذلك نبغ هذا الكوجيطو ممهدا الطريق نحو التنوير العقلي ومشرعا لضيافة كونية يلتقي فيها “مجتمع الأصدقاء” بتعبير سلوتردايك ضمن “نادي الفلسفة” أو “البيت الكونيّ” بلا ضغائن ولا رضّات نفسية يمكن أن تتفق الذوات المتفلسفة التي تفكر من داخل الحضيرة البشرية على نوع جديد من “سياسات الصداقة” كما أومأ إليها فحوى كتاب جاك دريدا من قبل.

فمن الآكد أنّ استحداث هذا الكوجيطو “كوجيطو الصداقة” من لدن الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني يعدّ سابقة فلسفية تخترق كلّ التّواريخ التي أرّخت للعداوة وبذرت فضيلة الفلسفة بما هي “صداقة” منحدرة من جذر عبارة “الفيليا“(philia)  اليونانية السّنخ، فاستنبتها على حوافي مجرة كوكبنا الحزين بتعبير إدغار موران من أجل توطين “خيرُورة“** فلسفية أو ضربا من فنّ الإثيقا تكون أسّا فلسفيا وعمدا لكلّ نادي فلسفي كوني يجتمع فيه الخلاّن والأصفياء وجميع الأصدقاء على مائدته حيث لا تنزل الأحزان ساحته ويكون خليقا بدحو حمولة الشحناء والبغضاء والعداوة والكره والضغينة التي تعطل آلة التفكير الحرّ وتحوّله إلى “حوانيت للتفكير” لا تصدر إلاّ ضجيجا ناشزا لا يورّث إلاّ طباعا فاسدة وحماقات بشرية قد تعي من يداويها.

فجدير بنا القول أنّ كوجيطو “أنا لا أكره” الذي استنبته الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني سيعبّد الطريق نحو تأسيس نوادي فلسفية عالمية كونيّة تشبه ساحة الأغورا اليونانية التي نبتت في تربتها زهرة الفلسفة وترعرعت ثمّ انتشر عبق شذاها في كلّ شبر من أشبار الأرض. حينها فقط ستصبح العبارة الفلسفية بحوزة الجميع وعابرة للقارات وللحدود ومرتحلة في سديم “عصر الرغوات” أو “عصر موت الكرة” بتعبير سلوتردايك. 

بيد أنّ كثيرا من الخلق تفلسفوا ومروا من هذا “الطريق الوعر” بتعبير أفلاطون ولم يبلغوا الشأو في بلوغ قُصودهم الفلسفية ولم يصلوا إلى منتهى تخومها وقضوا نحبهم وما تزالوا أطيافهم وأشباحهم تطوف تطوافا في محاريب المتفلسفين في قرنا الحالي علّها تنبت تحت ظلهم أو تجد الطريق نحو فهما مستقبلا أو استكمال سيرها في فلاة الوجود بلا دليل ووجهها والهجير بلا لثام. ولكن ليس أمرا مريبا حينما نصدح بالقول أنّه ليس كلّ من تاه في مسارب الفلسفة هو فيلسوف نابت حتى وإن فلت لسان أفلاطون بأنّ في كلّ إنسان فيلسوف نائم يتوجب علينا إيقاظه من نومه. فالفيلسوف النّابت هو من أتى من طريق فلسفية غير مسبوقة وجاب أودية الفلسفة وفيافيها وضاع في فلاة الوجود ودخل الخلوة وكشف الجلوة واهتدى إلى الطريق نحو معرفة ذاته وتلك هي منتهى الدرس السقراطي.   

وما تلك إلاّ فلتة لسان أو ربّما لم ينبس بها أفلاطون أصلا ولم يدوّن فلسفة على الإطلاق* وإنّما أتباعه المخلصين له نقلوا فلسفته في شكل محاورات أتى الفلاسفة على الغرف منها ومن ثمّة تدوينها وكتابتها ونقلها من مكان ولادتها إلى الإسكندرية ثم إلى الهند ثمّ إلى الفرس ثم إلى الرومان ثمّ إلى العرب ثمّ أخيرا إلى الغرب اللاتيني. لذلك نأتي على القول أنّ أغلب الذين كتبوا في الفلسفة لا يمكن تسميتهم فلاسفة، بل هم مفكرون أو موظفون في الفلسفة يعتبرهم شوبنهاور “مزعجون” “يريدون أن يتعيّشوا من الفلسفة“[17] ليس إلاّ. لذلك يجب علينا التميّيز بين نوعين من الفيلسوف؛ جنس ينتمي إلى “سقراط الفيلسوف” وجنس آخر من نوع “سقراط الموظف” وفق عبارة الفيلسوف سليم دولة في كتابه الرائع والمريع “الجراحات والمدارات“[18]. بيد أنّه على كثرة الرؤوس المتفلسفة وشبه المتفلسفة يوجد زخم من الكتب تحمل على رؤوس صفحاتها

عناوينا فلسفية منها ما هو جيّد ومنها ما هو يدعو للسّدر والحيرة. وحينما تتغلغل في مظانها ونقف على منتهى زواياها الخفية لا تخرج عن كونها نبشا في قبور الفلاسفة وتحريكا للحودهم تنتهي إلى وضع لحد على لحد. فليس أصحابها إلاّ جنسا من البشر احترفوا مهنة حفر القبور وتمرّنوا على رفع الأفكار الميتة التي لا تصلح لزماننا هذا ولا تمت له بصلة وإنّما هي ربّما تصلح فقط لزمان الغابرين أو “لطمأنة الأطفال” بتعبير جاك دريدا.

لذلك يبدو من المغالطة وضع الشيء في غير موضعه كأن ندافع على الأموات بدل الدفاع عن الأحياء. فالحقيق أنّ الأحياء أحق بالدفاع عنهم من الأموات. أفلم يقل فوكو ذات حين “أنّ في الأرض ما يكفي لأن نتفلسف” حتى آخر رمق من حياتنا؟ فلماذا تتكلّم الفلسفة أيّة فلسفة خارج سديم الواقع؟ ولماذا تنبس الفلسفة بكلام والواقع يلفظ ليله البهيم بكلام آخر مستعجم؟ “وكأن الفلسفة تقول شيئا والواقع يقول شيئا آخر” بتعبير سلوتردايك في كتابه “نقد العقل الكلبي“؟ أليس من الحماقة أن نفكر خارج الواقع؟ أليس على الفلسفة اليوم قبل أي وقت مضى في عصر “الما-بعديات” وانخرام المعنى وتشظي العبارة وتساقط شعيرات الفكر ولهاث لسانه ووكوكته أمام ما يجري أمامه “هذا بناقوس يدق وذاك بمأذنة يصيح، فيا ليت شعري ما الصحيح؟” كما فلت لسان المعري ذات أصيل.

إنّه لعمري عصر “التّفاهة” بتعبير آلان دونو، عصر “التجاريب التّافهة” بعبارة هيدغر التي على الفيلسوف أن يقرأ لها ألف حساب. ههنا على الفيلسوف الحقيقي “سقراط الفيلسوف” أن يخترق حجاب التفاهة ويقتصد في كلّ الممكن الفلسفي الذي بحوزته ليصرّفه في تغيّير بنية فكرنا التي لا يكمن أن تكون منعزلة عن بنية الواقع وما يجري في ساحاته وعليه أن يميط اللّثام عن “بوْحاته” ودحْوها دحوا والتقاط ما يسقط من غرباله من استشكالات يومية ووجودية وإنسانية وكونية ونخلها نخولا ليكررها حتى تكون مستصفى من كلّ شواشية وقابلة للفهم. ومن ثمّة لا يمكن أن لا تتحوّل إلى “أرشيفات إنسانية” بلا ملامح بشرية لا جدوى من التفكير فيها. فالعصر لم يعد حسب سلوتردايك يحتمل حكيما يتكلم بلسانه ولا حكمة نافعة توضع على أبواب الجامعات والمعاهد والمدارس وفي مداخل المدن ولا على الجدران الذكية، بل هو عصر يتطلب فيلسوفا جريئا في كتاباته الفلسفية مثل الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني.

بلا ريب، هي كتابات فلسفية تأتي على الأفكار اليابسة والخضراء وتتناول المشاكل اليومية الحارقة اللحظية والآنية و”الشوارعية” الملقاة على قارعة الطرقات السريعة التي باتت تخترق بيوتنا وتسير من فوقنا ومن تحتنا من خلال هذا “العصر الرقمي” الشبيه بكبّة الغزل جميع خيوطها متشابه، ولكن ثمّة “شيء ما مهمّ” بتعبير هيدغر بداخلها على الفيلسوف معاصرتها وأخذها في الحسبان وملاطفتها ومعاشرتها وجعلها تنطق بلسانه وتعبّر عمّا يجري في داخل “البيت الكوني“. وإن كان ذلك كذلك، فإنّ الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني لم يتوان في جعل الفلسفة قريبة من الجمهور تمشي بينهم وتنصت إلى واقعهم وتشمشم في تراب الواقع وتقتفي أثر المشاكل التي ينوء بها كلكلهم مثل مشكل الحرية والهوية والملّة والأنوار والثورة و”الثيموس” (الغضب) غضب الشعوب وآفة الجوع خصوصا العالم العربي وما يجري في سمائه من تحولات سياسية وثقافية جرّاء الثورات الشعبية. ولذلك يبدو مهمّة الفيلسوف النّابت عليه طرح هاته المشاكل اليومية باعتبارها شأنا إنسانيا بشريا يهم مجموعة بشرية تنتمي إلى سكان العالم أو المعمورة.

بيد أنّ هذه الفلسفة النقدية تتدثر بحسّ إشكالي وتكتسي لحما بشريا ولها قِسَمات وجهيّة وتمتلك “يدين” ولسانا وشفتين و”شعر” بتعبير نبس به سلوتردايك في شأن الفلسفة “المستفرسة” التي هي نفسها تلتقي مع أطّاريح الفيلسوف النّابت المسكيني في كثير من الأحايين.

فجميع هذه الغمزات والإشارات والعلامات تجتمع في الكتابات الفلسفية للفيلسوف القرطاجني فتحي المسكيني الذي يسعى بقصارى جهده في استنبات فلسفة عربية تنطق بلغة الضاد وتحوز من “البيان” (المنطق بلسان ابن حزم) ما يجعلها قادرة على الوقوف على ساقيها بعد هجرة رشدية طويلة نحو الغرب ليردّها إلينا ردّا جميلا غير مغموزة النسب ومخللة بأسلوب فلسفي سلس ومن بيانها سحرا. هي بلا ريب، فلسفة نقدية تلامس الواقع وتدغدغ المشاكل فوق أديمه وتركض جنين الفكر في بطنه من أجل معالجته بكلّ ما أوتيت من قوّة. هي فلسفة ليست حزينة ولا متشائلة وإنّما يغلب عليها طابع التفاؤل لانشغالها بمستقبل الإنسان العربي مشرئبة عنقها نحو ما يجري من تغيّيرات “جيو-فلسفية” بتعبير دُلوز في الضفة الأخرى من العالم.

ألم يومئ دلوز في كتابه “ما هي الفلسفة؟” إلى قيمة الفلسفة العربية ولفت الانتباه إلى انفتاح الغرب على الشرق مثلما يتساءل دلوز: “هل من الممكن الحديث عن “فلسفة” صينية، هندية، يهودية، إسلامية؟ نعم“[19]. ألا يمكن القول حينئذ بأنّ كثير من الخلق الفلسفي لم يتفلسفوا إلاّ من خلال عودتهم المحمودة إلى الشرق بدءا من ديكارت ومروره على كتابات الغزالي حسب بعض المقارنات الفلسفية بينهما التي حبذها بعض الباحثين مثل الباحث السويسري كريستوف فون فولتسوغن تحت عنوان: “هل كان الغزالي ديكارتا قبل ديكارت؟” وقد ألمع إليه محمود محمدي زقزوق في كتابه “المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت“[20] وذهب في تخمينه إلى أنّ بصريات أو علة المناظر للحسن ابن الهيثم لها أثرا عظيما لدى فلاسفة الحداثة كما نعتقد أنّ أرجل ليبنتز تلاقت مع ابن رشد حسب الفهّامة عباس محمود العقاد في كثير من الأحايين وليس من غريب القول وغموسه أنّ نذهب إلى القول أنّ الفيلسوف كونيسبيرغ كنْط قد اطلع على آي القرآن وربّما شغف به من خلال إعجابه بالشاعر غوته وثقافته الموسوعية آنذاك الذي كان يعرف جيدا اللغة العربية وقد ألمع الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني إلى إمكانية إطلاع كنْط على الثقافة العربية وخاصة القرآن الذي مدحه غوته في “الديوان الشرقي” ممّا تحوّل هذا الإعجاب به بعدئذ إلى الكتابة على رأس الصفحة الأولى من رسالة الدكتوراه آي من القرآن “بسم الله الرّحمان الرّحيم“[21] تيمنا به.

بلا ريب، أنّ استنبات هيغل لمفهوم الرّوح (Geist) إلاّ تأثرا بالشرق وليس غريبا على الناظر أنّ شوبنهاور غرف من كتب “الأوبانيشاد” الهندية حدّ البشم ونيتشه الذي حرّر زرادشت من رماد التاريخ الفارسي وجعله بمثابة هرمس مثلث العظمة* أو “الهُرْمُس” أو “أخنوخ” وقد تأثر كارل ياسبرز أيّما تأثير بفلسفات الهند وهنري كوربان وهيدغر الذي من المؤكد أنّه نهل من “الفلسفة الطاوية”[22] وقد يذهب البعض إلى أنّه كرع من حوض الفلسفة الفارسية خصوصا فلسفة صدر الدين الشيرازي[23] التي تعود إلى القرن السّابع عشر.

الخاتمة:

فقد يوجد كثيرا من الكتب التي تتخذ عناوينا فلسفية ليست إلاّ نبشا في قبور الفلاسفة وليس أصحابها إلاّ “حفاري قبور” بتعبير سلوتردايك يستحضرون أفكارا ميتة لا تصلح لزماننا هذا وإنّما هي صالحة فقط لزمانهم. فهي جمل سيئة كتبت بخط رديء لا يمكن قراءتها قراءة راهنية. ومثل ذلك شبيه بوضع الشيء في غير موضعه ليس إلاّ هرطقة وسفسطة وأغاليطا لا طائل من تحتها. كذلك دفاع الفلسفة عن الأموات بدل الأحياء والتفكير في وحل الماضي بدل التفكير في الحاضر وإنّما عليها الإنكباب على تحسين شكلها وتغيير بنية وعينا حتى يكون متساوقا مع الواقع الذي يفرض سلطته عليه ودحوها بالوعي حينما يسقط من غرباله من مشكلات فلسفية يومية ووجودية وإنسانية كونية يجب فعلا على الفيلسوف النّابت الحقيقي الذي تعلّم الدرس السقراطي أن يجوب أزقة الوجود ويحرث في مساحاته الممكنة قدر المستطاع لاستجلائها ونخلها نخولا ومعالجتها حتى لا تتحوّل إلى أرشيفات إنسانية أو يكون مآلها “النفاية” بتعبير رورتي.

لذلك لم يعد العصر يحتمل حكيما يتكلم بلسانه ولا حكمة نافعة يصرّفها للسائلين ولا تنبيها وتحذيرا فلسفيا يوضع على أبواب الجامعات مثل ما وضع المثل المشهور على باب أكاديمية أفلاطون “من لم يكن مهندسا لا يدخل علينا” أو في واجهات المعاهد والمدارس والجدران الذكية. وإنّما العصر عصر “الما-بعديات” و”نهاية السرديات الكبرى” بتعبير رورتي يتطلب فيلسوفا من نمط آخر يزيل “النّفاية“[24] من الوجود الإنساني و”يجعل حياتنا أكثر مرحا“[25] واستبدال بيبليوغرافيا الحزن والبؤس بيبليوغرافيا الفرح والأمل. وذلك حقّا ما تتوق إليه كتابات الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني من تلقاء نفسه كالزّرع .                         


[1] – ابن باجّة، تدبير المتوحّد، تحقيق وتقديم الدكتور معن زيادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1978، صص.45-46: “فأمّا من وقع على رأي صادق لم يكن من تلك المدينة أو كان فيها نقيضه هو المعتقد. فإنهم يسمون النوابت. وكلما كانت معتقداتهم اكثر واعظم موقعا. كان هذا الإسم أوقع عليهم. وهذا الإسم يقال عليهم خصوصا. وقد يقال بعموم على من هو يرى غير رأي أهل المدينة. كيف كان صادقا او كاذبا. ونقل اليهم هذا الإسم من العشب النابت من تلقاء نفسه بين الزرع.”

[2] – أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، الطبعة الثانية، 1990، ص.159.

[3] فتحي المسكيني، فلسفة النّوابت، دار الطليعة، بيروت،1997، ص.90: “النّابتة“.

[4] – فتحي المسكيني، هيغل ونهاية الميتافيزيقا،  دراسة لعلم المنطق، دار الجنوب، تونس، 1997.

[5] – طه عبد الرحمان، الحق العربي في الإختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2006.

[6] – فتحي المسكيني، فلسفة النّوابت، مرجع سابق، ص.17.

[7] – المرجع نفسه، ص.33.

[8]  المرجع نفسه، ص.48.

[9] – المرجع نفسه، ص.48.

[10]  المرجع نفسه، ص.67.

[11]  المرجع نفسه، ص.68.

[12]  المرجع نفسه، ص.82.

[13]  المرجع نفسه، ص.82.

[14]  المرجع نفسه، ص.125.

[15] طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة، الجزء الثّاني، القول الفلسفي؛ كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثّانية، 2005، الفصل السادس، ص.375: “فلسفة الفلسفة والتأثيل: “دولوز” نموذجا“. هاهنا يبدع الفيلسوف طه عبد الرحمان في نحت المصطلحات الفلسفية وينصت إنصاتا بعيد الغور للمفاهيم الفلسفية ويرفع بعض السّدر والحيرة عنها بلسان عربي مبين ويعترض على ترجمة مطاع صفدي لكتاب دلوز “ما هي الفلسفة؟”. وهو اعتراض محمود يدفع إلى تحويل الترجمة إلى فقه للمعاني ويوطد الطريق الآمنة للترجمة الأثيلة التي “تتصرف في اللفظ والمعنى معا” وهي ترجمة تأصيلية تتميّز عن سابقاتها الترجمة التحصيلية التي تقف عند “حرفية اللفظ” والترجمة التوصيلية التي “تحافظ على حرفية المعنى” ورغم أنّ الثانية يرفع مقامها على الأولى إلاّ أنهما لا يتخذان سبيل الترجمة التأثيلية ولا يبلغان الشأو في تأثيل المعنى الفلسفي المطلوب. را أيضا: طه عبد الرحمان، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، لبنان-بيروت، الطبعة الثانية، 2016، ص.17.

[16] محمّد بن القاسم الأنباري، كتاب الأضداد، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 1987، ص.132. يقال: قد أسدف الليل (أضاء)  وصاح الحنزاب (الديك). 

* يعود مفهومي “البهاكتي” (المحبة) و”النّرفانا” (الانطفاء) إلى الفلسفة الهندية. را: علي زيعور، الفلسفة في الهند، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1993، ص.32.

** عبارة “الخيرورة” لأبي حسن العامري. را: أبو الحسن محمّد يوسف العامري النيشابوري، الأمد على الأبد، تصحيح وتقديم أوتك روسن، دار الكندي-بيروت، سلسلة دانش إيراني، الطبعة الأولى، 1979، ص. 82 وما بعدها وص.113 يميّز العامري بين نوعين من الخيرورة المطلقة والمقيّدة.

*  انظر: الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، المدارس الفلسفية، الدار المصرية للتأليف والترجمة، الطبعة الأولى، 1965، ص.35: “ومع أن أفلاطون حذر طلابه من تدوين الفلسفة، وأعلن صراحة أن هذه المحاورات لا تعبر عن آرائه الفلسفية، إلاّ أن المتأخرين اعتمدوا عليها في معرفة فلسفته، وبخاصة في نظرية المثل.”.

[17] – آرثو شوبنهاور، العالم إرادة وتمثلا، المجلد الأوّل والمجلد الثّاني، ترجمة سعيد توفيق، مراجعة على النصّ الألماني فاطمة مسعود، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، ص.36 وص.46.

[18]  سليم دولة، الجراحات والمدارات، مرجع سابق، ص.47.

[19]  Gilles Deleuze, Félix Guattari,  Qu’est-ce que la philosophie?, Les Editions de Minuit, 1991, p.89.

[20] الدكتور محمود محمدي زقزوق، المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، دار المعارف، القاهرة، دون تاريخ، مقدمة الطبعة الرابعة، ص.12. وص.63 وما بعدها. را: للمؤلف نفسه؛ علم المقارنات الفلسفية، رؤية مستقبلية، مجلة الأزهر، 1931، ص.67. وقد ألمح الكاتب إلى مقال كريستوف فون فولتسوغن المنشور في صحيفة سويسرية يومية تصدر في زيوريخ. كما قدم الكاتب رسالة بحث مقارنة بين الغزالي وديكارت. أنظر:

Christoph von Walzogen, in; Neue Zuericher Zeitung, N° 281, 1993.Mahmoud Zakzouk, Al Gazalis Philosophie Im Vergleich mit Descartes Peter Lang GmbH, Internationaler Verlag der Wissenschaften (March 1, 1992).

كذلكيمكن التنبيه أيضا إلى أنّ عبد الصمد الشاذلي الذي ترجم كتاب “المنقد من الضلال” للغزالي إلى اللغة الألمانية سنة 1988 ضمن سلسلة المكتبة الفلسفية بألمانيا ألمع إلى حقيقة آكدة مفادها أنّ بعض المستشرقين الذين تربطهم وشائج قربى بديكارت يذهبون إلى أن كتاب المنقذ من الضلال كان بحوزته ممّا يرفع عنّا بعض التخمين عن إطلاع ديكارت على “المنقذ من الضلال” للغزالي ويستوي القول بتعبير دلوز في كتابه “محادثات“: “السرقة هي عكس الاختلاس” وقد أيضا عرف الأدب العربي سرقات مثل سرقات أبي الطيب المتنبي وهي سرقات محمودة وليس من جنس الاختلاس وهو ضرب غير محمود. را:

 Gilles Deleuze et Claire Parnet, Dialogues, édition Flammarion, 1996,  p.13.

[21]  انظر فتحي المسكيني أثناء حديثه عن كانط والإسلام في محاضرة مبثوثة على موقع اليوتيوب: فتحي المسكيني، كانط والإسلام، (محاضرة)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المدّة الزمنية؛ (46:54)، 05/05/2014:

الدكتور فتحي المسكيني/تونس“فكرة النبي في الفكر العربي المعاصر”.

را:أ.د. محمود حمدي زقزوق، علم المقارنات الفلسفية، رؤية مستقبلية، مرجع سابق، صص.54 -55-56. أنظر: صورة للصفحة الأولى من شهادة الدكتوراه التي حصل عليها الفيلسوف كنْت وكتب على رأسها “بسم الله الرّحمان الرّحيم“. 

*هرمس مثلث العظمة Hermes Trismagiste “هرمس اسم علم سرياني” في “لسان العرب” لابن منظور وقد سمّاه الفرس “أنبجهد” واليهود في التوراة “أنوش” أو “أنوخ” أو “خنوخ” والصابئة “بوذا سيف” والمسيحيين باسم “أخنوخ” في الإنجيل وعرف لدى المسلمين باسم “النبي إدريس” في القرآن (سورة مريم آية 56-57 وسورة الأنبياء آية 84-85) ويقول الطبري في تفسيره عن ابن العباس: “قبضت روحه في السماء الرابعة” وهو أوّل نبي أرسل بعد آدم وأوّل من خط بالقلم وحاك اللباس وجال نظره في علم النجوم وأوّل من وضع الموازين والمكاييل للناس ويشاع القول في تسميته إدريس لكثرة دراسته ويتواتر اسمه لدى إخوان الصفاء هرمس المثلث بالحكمة هو إدريس النبي “صعد إلى فلك زحل ودار مهع ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثمّ نزل إلى الأرض فأخبر الناس بعلم النجوم، فقال الله تعالى “فرفعناه مكانا عليّا” وحسب تخمينهم أنّه يعدّ أوّل رائد من رواد الفضاء. وقد تكون نسبته من “اليمن” كما تواتر لدى شاعر الرسول محمّد عليه السلام حسان بن ثابت حينما تمثل به في بعض قصائده مفتخرا بنسبه وقد روي أيضا عن الطبري حديثا عن الرسول بكونه أخبر أبا ذر:”أربعة من الرسل سريانيون آدم وشيث ونوح وأخنوخ وهو أوّل من خط بالقلم وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة”. ويمكن أن نذهب مع القراءة الأنثروبولوجية والحفرية للمؤرخ الدكتورالفاضل الربيعي في حفرياته القيمة في تاريخ الذاكرة العربية وكشف بعض الأغاليط في التفاسير المنقولة ونقل القصص التاريخية نقلا مغلوطا كما في قصة النبي إبراهيم وسارة لدى البيهقي وغيره من المؤرخين مثل تأويل آي القرآن “اهبطوا مصرا” (سورة البقرة) وهي تعني حسب المؤرخ الفاضل الربيعي “مصريم” التي توجد في اليمن وليس في بلاد مصر كما كان يعتقد من قبل، وأن إبراهيم وإسماعيل “رفعا قواعد البيت” وهي حسب رأيه أنّ المقصود ليس قواعد البيت في مكة، بل “قواعد البيت في إيل مقه/مكة” في الجوف اليمني” وليس مكة التي في الحجاز. وأنّ جميع الأحداث دارت باليمن قرب نهر “مصريم” بوادي السحول الذي عرف بـ(مصر اليمن) لخصوبته. وبذلك يصبح منطقيا بأنّ الربّ وعد إبراهيم بأن يعطيه الأرض الخصبة الممتدة من وادي السحول…وهذه هي أرض الميعاد الإسرائيلي الأول عصر إبراهيم“. (أنظر: الفاضل الربيعي، إبراهيم وسارة، الهجرة الوهيمية إلى فلسطين، (إسرائيل المتخيلة: مساهمة في تصحيح التاريخ الرسمي لمملكة إسرائيل القديمةالمجلد الثاني، الكتاب الأول، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 2021، ص.39.) وليس كما ذهب البعض بأنّ أخنوخ “مصري عاش قبل الطوفان” (انظر: د. ماجد مصطفى الصعيدي، هرمس في المصادر العربية، دار الكرز للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007.). أمّا هرمس الأوّل وهو المشار إليه بالنبي إدريس عاش قبل الطوفان لأنه يعتبر أبو جد نوح الذي عرف بالطوفان وهرمس الثاني كلداني بابلي وهرمس الثالث مصري عاش بعد الطوفان وله عدة كتب في أحكام النجوم والخيمياء والطلسمات ويعرف عند المصريين بـ”توتْ” الإله وعند اليونان بـ”هرمس” “Ερμηζ” إله العلوم الطلسمية وعند الرومان بـ”عطارد“.   

[22]  ديفيد تشاي، هيدغر والطاوية، من العدم إلى البحث عن جلاء الفكرة، ص.97. عن مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الاسترتيجية-بيروت، العدد الخامس، خريف 2016.

[23] – نديمة عيتاني، هل تأثر هايدغر بالشيرازي..وكيف؟، ضرورة العثور على الحلقة الضائعة، المرجع نفسه، ص.317. تشير الباحثة اللبنانية إلى أنّه ثمّة خيطا رابطا بين الفيلسوفين خصوصا في تشابه المصطلحات الفلسفية مثل “الوجود العيني المتحقق في ههنا الوجود” للشيرازي سواء في كتابه “المشاعر” أو في كتاب “الأسفار الأربعة” و”الدّازين” في كتاب “الكينونة والزمان” لهيدغر رغم الفجوة الزمنية بينهما، وتذهب الباحثة إلى إمكانية إطلاع هيدغر على الشيرازي من خلال الباحث الألماني ماكس هورتن في كتابه “النسق الفلسفي عند الشيرازي” الصادر سنة 1913 بعنوانه الأصلي (Das Philosophische system von Shirazi). لكن نذهب نحن إلى أنّه رغم وجود تقارب في المصطلحات الفلسفية بين الشيرازي المعروف بـ”الملاّ صدرا” في كتابه “المشاعر” أو “الأسفار الأربعة” “مجموعة رسائل فلسفية“. فإنّ ذلك يتطلب بحثا مستفيضا في مقارنة الفيلسوفين الغير متزامنين صدر الدين محمّد الشيرازي ومارتن هيدغر. (انظر: الملاّ صدرا محمّد بن براهيم بن يحي الشيرازي، المشاعر، تحقيق خالد عبد الكريم الطّرزي، دون تاريخ، ص.105: “المشعر الثالث؛ في تحقيق الوجود عينا“. را: الحكيم الإلهي والفيلسوف الرباني صدر الدين محمّد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، الجزء الأول من السفر الأول، دار إحياء تراث العربي، بيروت-لبنان، دون تاريخ، أصالة الوجود، فصل 4، في أنّ للوجود حقيقة عينيّة، ص.39: “وبالجملة فالوجود حقيقته أنّه في الأعيان لا غير“. را: صدر الدين محمّد الشيرازي، مجموعة رسائل فلسفية، دار إحياء تراث العربي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2001، إصالة جعل الوجود، ص.233: “في أنّ للوجود صورة في الأعيان، وليس بمفهوم مصدري انتزاعي، وإن حقيقة كلّ شيء هو وجوده الذي به تترتب الآثار المخصوصة، لأن موجودية الشيء وكونه ذا حقيقة معنى واحد ومفاد واحد، لا اختلاف بينهما إلا في اللفظ؛ فحينئذ لا بد أن يكون في الأعيان ما يصدق عليه هذا المعنى، أي معنى الحقيقة“).

[24]- ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص.41.

[25] – المرجع نفسه، ص.38.

* مقال نشر في كتاب إليكتروني تحت عنوان: الصادق عبدلي، الفيلسوف النّابت فتحي المسكيني، دار أرام للنشر والترجمة، 2023.
_____________

* الدكتور الصادق عبدلي متحصل على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة.

جديدنا