من جاك دريدا وسياسات الصداقة إلى “الكراهية المعمّمة”    

image_pdf

ليس ثمّة شيء خارج النصّ بعبارة جاك دريدا. فكلّ ما يسقط من غربال اليومي وما يفلت من قبضته وما لا يقبل الدخول في حضرته، فهو يندرج في باب المعدوم والغير قابل للتسمية. بيد أنّ “كل نصّ يحمل جملة من الأعمار” بتعبير دريدا ومن هذه الطبقات تعد من باب الهوامش، ولكنها تعيد نفسها في كلّ ظهور على أديم النصّ، لكنها لا تعيد المفاهيم ذاتها، وإنّما تتخلّق وفق غبش صبح جديد، فتغيّر وجهتها عند كلّ قراءة لها، قراءة على نحو مختلف، قراءة لم تقرأ بعد مثلما هو الشأن مع مفهوم الديمقراطية ومفهوم الدولة والسلطة والمواطنة، والصداقة وسياساتها وكيفية تدبيرها في مجتمع لم يعد يؤمن بالسرديات الكبرى، هو بالأحرى “عصر ما-بعد حداثي“.

هو عصر يضرب صفحا عن كل خطاب حداثي ويطرح بين الفينة والأخرى المشاكل الوجودية اليومية ويتناول أهم القضايا الإنسانية المعتاصة والممنوعة من الحديث مثل عودة الديني ونوعية الصداقات وكيفية سياستها وأيهما أفضل تلك الصداقة المشروطة أم الصداقة الغير مشروطة؟ وهل حقّا نحن اليوم بحاجة إلى سياسات للصداقة؟ أليس مشكل سياسة الصداقة ما يزال بعد مشكلا غير محسوم بالنظر إلى الواقع الراهني، حيث تغيّرت سياسة الصداقة التي أتى عليها أرسطو في كتابه “إثيقا نيقوماخوس” بضروبها الثلاثة صداقة الفضيلة وصداقة اللذة وصداقة المنفعة إلى كيفية توزيع سياسات الصداقة بين الأفراد والدول والشعوب على اختلاف طبائعهم وعوائدهم وثقافاتهم وألسنتهم.

هاهنا يمتشق الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا طريقا فلسفية خاصا به لوحده دون غيره من الفلاسفة. هو طريق التفكيكية للنّصوص الفلسفية والغير فلسفية، ولعلّ من أهم هاته النّصوص ما أفلقه دريدا في كتابه “سياسات الصداقة” في (1988م) مدار القول فيه حول الصداقة بما هي ضربا من السياسة أو كيفية تدبير الأنا وقبولها الآخر الصديق.

لقد سال حبر أرسطو الفلسفي كثيرا في تجديل مفهوم الصداقة في كتابه المذكور آنفا وكذلك تركت لنا الفلسفة الرواقية أفانينا في القول مداره حول الصداقة خصوصا مع شيشرون، ولكن فيلسوف الأبيار الجزائري المولد واليهودي المنشأ جاك دريدا يأتي عليها بقول فلسفي من طريق آخر معتمدا تشقيق الكلام الفلسفي فيها تأثرا بطريقة هيدغر الفلسفية حيث يستهل حديثه عنها بعبارة قلقة وهي “يا أصدقائي ليس ثمّة صديقا البتة !” [1]. إنّ اللفظة الأخيرة (amy) ذلك الصديق الحاضر الغائب يشتقه دريدا من الجذر اليوناني واللاتيني (amicus, amica, de amare)،  وتعني في ما تعنيه هذه اللفظة بـ”الصداقة” “الفيليا” (peri philias) التي كانت تحيل فيما مضى على معنى الحب والتآخي والتوافق. بيد أنّ الصداقة هي عبارة تحدث في آذاننا طنينا نستشعر من خلاله قدوم الآخر إلينا، فنحبّه بمثل ما يفتح قلبه لنا وفي شأن ذلك يقول دريدا ” بكل ثقة حالما يدقّ جرس لفظ الصداقة المتمثلة في كوننا نحبّ صديقا. أليس ذلك كذلك. من الآكد أنّها طريقة في الحبّ“.[2] أليست حقّا الصداقة تمرينا نحوّل من خلاله الآخر إلى صديق ونعبر عليه مشيا كطريق أو بمثابة جسر نحو الحبّ، حبّ الآخر.

ومن ثمّة تنبثق علاقة الأنا بالآخر. ألم يقل دريدا “الحقيق أنّ الصداقة هي أن يكون الواحد -منّا- صديقا. فما المقصود من ذلك إذن؟ بلى، هو أن يحبّ الواحد -منّا- قبل أن يكون محبوبا من -الآخرين“[3]. ههنا يتساءل دريدا ما الذي نعنيه بعبارة الصديق؟ وما هي القُصُود الفلسفيّة من وراء لفظ “الحبّ“؟ يلوّح دريدا بالسؤال بعيدا عن الأفق النظري من أجل طرحه على نحو آخر؛ كيف نتمرّن على الحبّ؟ أو بالأحرى كيف نعيش تجربة الحبّ؟ بمعنى أنّ الصداقة في الأخير ليست إلاّ تمرينا شاقا علينا تجريبه أو خُبُرُها خُبُرًا. فهل يستطيع كثير من الخلق البشري عليها صبرًا؟ 

يمعن جاك دريدا النظر مليّا في وضع الإنسان الرّاهن لافتا النظر الفلسفي إلى أنّ سياسات الصداقة قد ظهرت في البدء مع الحكيم شيشرون الذي يعتبر أن الفرد لا ينظر إليه إلاّ في صيغة الجمع، أي أنه كفرد لا يستطيع العيش في كنف العزلة متوحدا، وإنّما هو كائن بشري من “لحم وعظم” بتعبير فيورباخ ينتمي إلى المجتمع الذي وجد فيه وترعرع في تربته وتلك هي رئته التي يتنفس بها وقد عرّفه أرسطو في كتاب “السياسة” بكونه حقّا ذاك “الحيوان السياسي” بامتياز. لذلك كان يطمح شيشرون إلى أن يكون أفراد العالم بأسرهم أشبه بـ”الأسرة الواحدة” تجمعهم صداقة كونية ويلتقون على موائد فلسفية يتطارحون فيها ما به يكونون أصدقاء كونيين. فلا غرو، أنّه كان لأفلاطون قصب السبق والكعب العلى في اعتباره أنّ الفيلسوف هو “المربي” و”المعلّم” للبشرية و”صديق الجمهور” تحت غطاء “الحكماء-الفلاسفة” مهمته تربية الجنس البشري وتهذيب سلوكه حتى يكون فاضلا متناغما مع المدينة الفاضلة التي يطمح إلى تأسيسها تأسيا فلسفيا على موت الحكيم سقراط.

بمعنى آخر، أن الحاكم- الفيلسوف سيكون صديقا للمحكومين، وبذلك سيصبح حارسا أي بعبارة دريدا “راعيا يرعى القطيع“، وعندها فقط تكون غاية الحاكم الأرستقراطي الذي يفضله صاحب كتاب “الجمهورية” أفلاطون هو رعاية المحكومين تحت سلطة “الملوك الفلاسفة“. وفي ظل حكم الفلاسفة أصدقاء الحكمة في “المدينة الفاضلة” يتحوّل العالم إلى نادي كوني تلتقي فيه الأصدقاء وتترعرع فيه الفضيلة ويعمّ فيه الخير ويستسعد فيه البشر ويعود الشر أدراجه يكر أذيال الخيبة لأن لا مكان له في “المدينة الفاضلة” حسب الفارابي. ولكن هيهات إذ ستجري رياح سياسات الصداقة “بما لا تشتهي السفن” كما يقول شاعرنا المتنبي، وترسي سفينتها على شاطئ الكراهية بلا صاري وحينها ستفقد توازنها فوق عباب البحر فتلفظها أمواجه بعيدا عن مسقط رأسها الأول.

بيد أنّ سياسات الصداقة وفق دريدا قد تغيّرت معانيها من القدامة إلى الحداثة وصولا إلى ما-بعد الحداثة، ولم تعد كما هي في السابق تلك الصداقة التي تنبثق من علاقة الأنا بالآخر والتي تنبع من الحبّ، بل ساد اليوم في عصرنا الحالي كوجيتو الكراهية “أنا أكره” وعاد بذلك غضب “آخيل” من وراء أناشيد “إلياذة” هوميروس، ولم يعد ثمّة اليوم “ضيافة كونية” بتعبير كنْط، وإنّما تحوّلت الضيافة للآخر ضيافة مشروطة تقوم على صداقة وقتية تنتهي بانتهاء قضاء حاجة الآخر وتحقيق مآربه.

إذا، لم يعد العالم تلك الآية السبحانية ولم يعد كتابا ميتافيزيقيا مفتوحا على دفتيه ذاك الذي نسبح بخيالنا في سديم فضاءاته العلوية كما أنّه لم يعد حداثيا أنواريا أو إنسانيا كونيا سماؤه مرصعة بالنجوم وحروفه منقوشة على صفحة الذات كما هي ميتافيزيقا الأخلاق الكونية التي لهج بها لسان كنْط حينا من الدهر ومات وفي نفسه شيء منها بقوله آخر لفظ تنبست به شفته “هذا حسنٌ”  (Es ist gut) وهو يصارع سكرة الموت في ساعة متأخرة من الليل البهيم، إذ يلفظ أنفاسه الأخيرة عند السّاعة الحادية عشر و”تتوقف الحياة” لحين كما قال تلميذه فازيسكي. لكن العالم بات اليوم “ما-بعد إنسانيا” أو “عصر ما-بعد الأُكَرُ (الكُرات)”، هو “عصر الرغوات” بتعبير سلوتردايك كل ما فيه “رماديّا” أكثر عتمة من بدايته الأولى. إذ أصبحنا اليوم نعيش في “حضيرة بشرية” تخضع لشروط “بيو-تقنية” قد تتدخل في تحسين الجنس البشري أو تغيير بشرته وسحنته وتزوّده بجرعة زائدة من الحياة مثل الكبسولات وزراعة القلب الاصطناعي، وبالتالي سيفقد الإنسان شطرا من إنسانيته ويستعيضها بشطر آخر هو ليس بشريا، وإنّما هو تقنيّا.

فلا غرو، أنّ الصداقة باتت اليوم تفتقر إلى جملة المعاني الإنسانية الكونية، وبات مثلها مثل الأشياء النادرة لا نكاد نظفر على الأصدقاء الحقيقيين وخلاّن الوفاء وإخوان الصفاء في عصر أصبح يسوده الاضطهاد والعنف بأشكاله الرمزية والمادية والقمع المفرط المتلوّن بألوان الاستبداد الناعم. إذ غدا العنف ليس ذاك العنف الظاهر بمعنى الشر، وإنّما ظهر عنفا آخر حسب عبارة بودريار “العنف الخير” أو بتعبير توكفيل العنف الذي يحمل في طياته “الاستبداد النّاعم“. عندئذ يمكن القول أنّ جملة المعاني التي تدخرها عبارة الصداقة لم تعد صالحة لكل زمان ومكان. ولذلك أفلت جميع المصادر الروحية التي كانت تمتح منها الصداقة معانيها وغابت معاني الصداقة والصديق أو كوجيتو “أنا لا أكره… الكُره لا يناقش“[4]  الذي استنبته “الفيلسوف النّابت“[5] فتحي المسكيني في كتابه “الهجرة إلى الإنسانية” استنباتا عنيدا خارج فضاء الملّة الدينية أو ما-بعد الملّة رغم تنامي كوجيتو الكراهية والعداوة “أنا أكره” بين الفينة والأخرى في هذا “العصر الكلبي” بتعبير سلوتردايك وانتشار كلبياته في كلّ شبر من أشبار الكون الأنيق والفسيح، ومن آكد قول جاك دريدا أنّه “لا يوجد صديق” يمكن أن أحبّه وأتفاعل معه وفق حكمة “العيش معا“.

رُبَّ عبارة قلقة مثل عبارة الصداقة تحرج سائلها أكثر ممّا ترجح عدمها على وجودها، فتوحي بحلول الشر المطلق المتمثل في أمركة العالم، حيث يقول في شأن ذلك مطاع صفدي في كتابه “نقد الشر المحض، نظرية الإستبداد في عتبة الألفية الثالثة، الكتاب الأول” وخاصة في فصل “الأمركة: حرث-في-العالم: “خطر الأخطار المتمثل في ـــ الأمركة، والمواجه لمستقبل العالم كله. خطر استعادة تاريخ التمركزية الأوروبية برمته منذ عصر النهضة، ومضاعفة ـــ الشر التاريخي، الواعي والبرمجي بالشر المطلق الجديد الذي تمثله القوة الهائلة العمياءـــ التحييدية المطلقة (la neutralisation) للنمط الاستهلاكي، المنسوخ حول الأداتية الواحدية للتكنولوجيا، والمشفَّف (ضبابيا !) بالشبكة الشمولية التفصيلية للإعلام اليومي الالكتروني.”[6] إذا لم يعد العالم آية جميلة نتلوها صباحا مساءً ويوم الأحد بتعبير شاعرنا محمد الصغير أولاد أحمد، ولم يعد العالم “أفضل العوالم” كما حلم لايبنيتز ذات مرّة، وإنّما وقع تحريف هذه الآية، بحلول إمبراطورية العولمة كما كشف أحابيلها أنطونيو نغري في رائعته “الإمبراطورية“: “فالعولمة أو ظاهرة إزلة الحدود الإقليمية المنفَّذة من قبل الآلة الإمبراطورية ليست، في الحقيقة، متعارضةً مع المركزة المحلية أو إعادة الأقلمة، بل تبادر، بالأحرى، إلى إطلاق دورات نشطة وملطفة من التمايز والتماهي… فالعدو إنْ هو، بالأحرى، إلاَّ نظام محدد من العلاقات العالمية نطلق عليه اسم الإمبراطورية (العولمة الجديدة).“[7].

وفي خضم ذلك يتهافت السلم، وتأفل شمسه الدائمة التي دعا إليها كنْط أكثر العقول المتفلسفة دعوة إلى الصداقة الكونية، وعندها فقط يحل النزاع محلّ التسامح بين الناس كما شرع له جون لوك ويذوب في محيطات الوعي البشري ككرة الثلج وينتشر كوجيتو الكراهية رافعا من قيمة الشر بما هو أصل العداوة إلى رتبة العقيدة، حينها لا تتكلم إلاّ معاجم الحرب والعسكرة والتسلح والقوة فوق فوهة المدفع وأزيز الطائرات المحملة بالقنابل الفتاكة وحينئذ يظهر ذاك المخزون البشري الدفين المتمثل في أوّل جريمة قتل بشري على أديم هذا “الكوكب الحزين” بتعبير إدغار موران بين ابني آدم “قابيل وهابيل“[8]. وإذّاك يطفح الكيل بينهما ويحنق قابيل على أخيه هابيل، فتمتد يده فرّاسة تردي أخيه هابيل قتيلا ويتركه جثة أمام عراء الكون مطروحا بلا إنسانية غير بشرته وأدمته وعظمه ولحمه تتناوب عليهم الجوارح من الطيور الكواسر تفترسه إلى أن يهتدي طائر الغراب لدفنه ويواري التراب على أوّل جسد بشري. وهي أوّل وأد لكوجيتو الصداقة. ولعلّها أوّل عملية محو وشطب للكائن البشري من خارطة الوجود.

ومن هذه الكوّة التاريخية يمكن القول أنّنا نَلْفي في قتل قابيل لأخيه هابيل أوّل ارتسام لملامح وجه من وجوه كوجيتو الكراهية، وقد باتت كالوشم على ظهر البشرية تظهر بين الفينة والأخرى في شكل سياسات للكراهية بدل سياسات الصداقة التي ألمع إليها جاك دريدا من أول نتوئها شيشرونيا نتأة واحدة. فمن رحم الكراهية ولدت بذرة العداوة التي تمتح من بئر الكراهية وتحثّ البشر على فعل الشر وتشرير المساحات الممكنة من التعايش بينهم وتدفعهم إلى العيش في حرب بلا هوادة تشبه إلى حد ما تلك الحرب الحامية الوطيس التي افترضها هوبز كحالة سابقة على مرحلة المجتمع المدني وقد استلهمها من اقتتال الملل والنحل على مر الحدثان.

وعليه يستقر الرأي على أنّ العنف بما هو أداة وسيلة تنمّ عن سياسيات الكراهية بأنّه متأصل في الطبيعة البشرية ومتغلغل في طباع هذا “الحيوان المسقام” و”السقيم بسقم ذاته” (Die Tier ist krank) بتعبير نيتشه وقد لفت إليها الانتباه عبد الرحمان الكواكبي في كتابه “طبائع الإستبداد” وأفاض فيها الكلام وأطنب. وقد تنبأ لينين بأن هذا العصر يكون دمويا وأن عجلة قطاره لن تتوقف، بل ستدوس على جماجم البشر وتمحقهم محقا بلا سبب وستومئ حنا أرنت في كتابها “في العنف” هذه البيبليوغرافيا الحزينة من فهرست الإنسانية المتبقية: “ما أثار هذه التأملات لدي، إنما هو الأحداث والسجلات التي دارت خلال السنوات القليلة الماضية، هذا القرن الذي صار، حقا وكما كان لينين قد توقع، قرن الحروب والثورات، وبالتالي قرن ذلك العنف الذي يعتبر عادة قاسما مشتركا بينهما“[9].

والحقيق والآكد أنّ تلك الحكمةالفلسفة الرواقية “حكمة العيش– معا” (Vivre -ensemble) التي يتوق إليها كثير من الخلق البشري وتنبس بها شفتهم في حلهم وترحاله الوجودي من أجل تأثيث سياسات الصداقة بينهم وترسيخ مبدأ “احترام الغريب” كما وشمه إكسينوفيل (Xénophile) على ذراع كل كائن بشري يرنو للحرية ويعتقد كما اعتقد سارتر “أنّ الحرية قدر” لا فرار منه لكل متنوّر. لكن هذه الحكمة لم تعد عملة نصرّفها على نحو سليم يحفظ ماء الوجه للإنسان عقلا وجسدا، ويجعله كائنا اجتماعيا يتعاون مع الآخرين ويتقاسم معهم نفس الهموم، ويبحث عن حلول لتحسين وجوده على النحو الذي يرتضيه كأن يطمح إلى تأسيس نادي صداقة كونية بينه وبين الآخر الجنس البشري بما هو آخر الآخر الذي يولد منا. بيد أنّ الإنسان اليوم هو إنسان مكلوم مجروح مندمل الجراح قد وقع تطويعه وتدجينه داخل “حضيرة بشرية” من أجل تحسين نسله وفق تعبير سلوتردايك بحلول “العصر الرقمي” .

ولكن العقل الكلبي الحديث وكلبياته المتعددة والمنتشرة كونيا جعلت من هذا اللحم البشري قابلا للرّقاحة أو للتتجيير وخاضعا للرسملوت الربحي من أجل إحلال ديانة جديدة هي “ديانة العجل الذهبي“[10] بتعبير الفيلسوف مصطفى كمال فرحات أو ديانة “بوذية” من نوع آخر بتعبير سلوتردايك تبسط هيمنتها على العالم برمّته أرضا وجوا، وتتسع عيونها إلى كل ما يسقط من غربال الوجود الإنساني وتحيط به علما.

لقد تمثلت هذه الديانة للعجل الذهبي في هذا النظام العالمي الجديد الذي بسط سيطرة “ميتافيزيقا العولمة الأرضية” بتعبير سلوتردايك على الوجود الإنسيّ وقام بتفقيره أنتولوجيا من كلّ قيمة إنسانية كونية وفق نمط جديد من “سياسات الصداقة” حسب جاك دريدا التي غيّرت من وجه الصداقة وحرّفت معانيها الطافحة بالشفافية والمرصعة بتاج الفضيلة بما هي فضيلة الخير كما فهمها أرسطو في “إثيقا نخوماخوس” حيث لم تعد حتى الفلسفة بما هي “حبّ الحكمة” و”فيليا” بما هي “صداقة” بتعبير دلوز صالحة حسب جاك دريدا إلاّ سردية تسرد لطمأنة الأطفال وتنشيط ذاكرتهم عندما يكتحل النعاس عيونهم ويثقل النوم أجفانهم ويطبق أهدابهم.  

ومن كوّة فلسفية أخرى حداثية، عندما يكون نظام الحكم جمهوريا ديمقراطيا في ظل دولة ذات سيادة شرعية، فإنّ الدولة الشرعية عليها أن تحافظ على القانون الذي وقع الاتفاق عليه بالإجماع من طرف جماعة بشرية يسميه إمانويل كنْط “إتحاد الدول” أو ما يسمّى اليوم “القانون الدولي” من أجل الحافظ على حقوق الإنسان التي تم تنقحها في 1948، وزيدت عليها حقوق أخرى للإنسان، فأصبحنا نتكلم عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وأصبحت الحياة هي ذات أولوية من بين جميع الحقوق المنشودة والعناية بها هي في حدّ ذاتها تأمينا لوجود الإنسان باعتباره مواطنا يعيش في كنف الدولة الحقوقية ذات شرعية قانونية تولي أهميّة قصوى لحقوق المواطنين داخل دولة ذات سيادة شرعية في كنف نظام ديمقراطي تتساوى في حقوق الأفراد بلا تزيّد.

فالحقيق أنّ الديمقراطية التي تحدث عنها فلاسفة العقد الاجتماعي خاصة لوك وروسّو سبينوزا باستثناء هوبز، تحولت اليوم إلى شكل جديد يحافظ على المصالح الفردية غير أن في الحفاظ على المصالح الذاتية سيؤدي إلى تشريع العنف الغير شرعي وسيخلق توترات داخل النظام العالمي الجديد ومن ثمّة ستحوّل الدول التي تصدر الأنظمة الديمقراطية إلى دول إمبريالية تقصي الآخر تحت غطاء حقوقي وشرعي. هذا الآخر هو ذاك الصديق الذي لا يرغب “في قتلي” “ولا يتركني وحيدا” بتعبير ليفيناس ومثال ذلك الآخر الفلسطيني الذي يعاقب تحت سلطة القانون والشرعية الدولية وصدق ميشال فوكو في قوله “لقد وضع القانون وضع لكي يحتال به الإنسان على الإنسان“.

حالتئذ سيغيب مفهوم الصداقة ويقع تأجيله إلى حين آخر خاصة في قرننا الحالي “قرن الحروب” كما هو الشأن في بعض الدول على سبيل المثال لا الحصر أن الولايات المتحدة الأمريكية أدرجت مفهوم الحرب الوقائية ضد ما يسمّى الحرب على الإرهاب، ممّا جرّ العالم بأسره إلى الخوف من حالة ما قبل الطبيعة، الخوف من العودة إلى التوحش وحرب الكل ضد الكل كما في فحوى عبارة هوبز، إلى شنّ الحرب على أفغانستان (2001م) وتدمير العراق (2003م) وتغيير سحنة وجه الشرق الأوسط وإدخاله في قلاقل ونزاعات ملية دينية وهمية وإحياء النعرات الإثنية والعصبية والهووية ممّا سيزيد في جرعة الكراهية حتى تصبح “كراهية معمّمة” تطال سكان هذا الكوكب حتى من به صمم. وذلك هو ما يدعو إلى الخوف من نهاية الإنسان والتاريخ معا تنبؤ بـ”أبوكاليبس” أو “قيامة” تلك “الحآقة” التي تجعل كل كينونة تقف مشدوهة أمام الموت بما هو تناهيها الأخير أو بالأحرى هي تقف أمام “كوجيتو كينونة-نحو- الموت” (Sein-Zum-Tod) بما هو “كوجيتو كينونة محتضرة“[11] بتعبير جان غروندان. ولذلك يفترض تزفتيان تودوروف في كتابه “اللانظام العالمي الجديد” أن العنف يولد بالضرورة العنف ويؤجج الكراهية بين البشر ويزيد من انتشار الإرهاب واستفحاله في الوجود حين يقول: “ليس من المؤكد أنّ الحرب في العراق قد ساهمت حقا في استئصال الإرهاب. فالعنف يولد العنف ورغم شيوع هذه القاعدة، فهي مع ذلك صحيحة“[12].

لكن رغم ذلك يبقى النظام الديمقراطي هو الضامن لحقوق المواطن داخل سيادة الدولة الشرعية والضامن لحقوق الأفراد مثل حق العيش الكريم في الحياة. لذلك يطمح رهط من الفلاسفة إلى تجذير مفهوم الصداقة بين الأفراد، وإدراجها ضمن المواثيق الدولية لضمان السلم بين الدول وقد خاضجاك دريدا في غمار هذا المفهوم خاصة في كتابه “سياسات الصداقة” الذي متحنا منه أفكار دريدا حول الصداقة وقد ألمع إلى القول أنّ الصّداقة هي قيمة إنسانية تعدّ حلاّ من جملة الحلول الممكنة لنزع فتيل الحروب بين الدول، وامتصاص غضب الشعوب، ونزع النّعرات العرقية، وتأسيس نادي كوني للأصدقاء يتحرك ضمنه  المواطن العالمي باعتباره كائنا حرّا كما يدعو الفيلسوف فتحي التريكي في جل كتاباته الفلسفيّة إلى تفعيل تلك الحكمة الرواقية التي تقول بـ”العيش- معًا” (Vivre -ensemble) بين الأنا والآخر يحدوهما الأمل ويحتكمان لفلسفة المعيش، فلسفة اليومي أو بتعبير الفيلسوف فتحي التريكي “فلسفة التآنس” إذ يقول: “لذلك تكون الفلسفة نضال ضد كل ما لا يقبل. فهي نضال يؤكد الحق في الاختلاف لكل فرد في أي مجتمع كان ولكنه من ناحية أخرى، لا يعتبر هذا الحق هو انعزال عن الآخر، بل هو حق مع الغير من أجل تعايش حرّ.”[13].

ولكن عصرنا بلونه “الرماديّ“[14] بتعبير سلوتردايك، سقط حينا من الدهر في مزاعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وكونيتها والاعتراف بالآخر غير الأوروبي والقيم الإنسانية الكونية المشتركة ولكنه عصر قاتم أتى بهبوب رياح “الكلبية المعمّمة“[15] بعبارة سلوتردايك رياح صرصر من شدة صقيعها حولت الوجود الإنسي إلى عروش خاوية وعندئذ بات الوجود ليس ذاك “الجحيم” كما هَذّهُ علينا دانتي اليجيري هذًّا جميلا، بل هو “جحُوم” لا يطاق المكوث فيها ولا حتى النظر مليّا في قيعانها وأصدق قيلا وإنباء هو ما تقوله “مدرسة الواقع” بتعبير سلوتردايك وخاصة ما نشاهده اليوم في “غزة” فلسطين التي وقع إبادتها من طرف الكيان الصهيوني بداية من 8 أكتوبر 2023 أمام الخلق البشري الكثير وتهجير ما تبقى من سكانها وزلزلة الأرض من تحتها بقنابل محرمة دوليا تحوّل البشر إلى جماجم تحت حماية أمريكية وأوروبية تدعي أنّها راعية لحقوق الإنسان وحارسة القيم الكونية المشتركة.

ولكن هذه الحروب الهجينة التي دبّرت بليل بهيم من “الأسياد الكلبيين” بتعبير سلوتردايك وهي تدار اليوم بتفعيل كوجيتو “الكراهية المعمّمة” وتحاكي “سرير بروكوست” وتمطط في أجساد البشرية وتنقص منها حتى تكون متناسبة مع السرير البروكوستي لمحاصرة هذه الإنسانية الأخيرة وإخراجها من أدمتها. وهي تكشف أنّ الإنسانية لم تعد إلاّ شبحا من أشباح الماضي التليد وأنّ “سياسات الصداقة” التي أطنب كثيرا فيها جاك دريدا إلى حدّ الإسهاب لم تعد مجدية بما فيه الكفاية. وأن ما يحكم هذا العالم إلاّ قوة النار وفرقعة القنابل وصلصلة المدافع ودويها وليس للضعفاء مكانا ومقاما وسكنى في هذا العالم، وحتى أصحاب العقول الداعية في كتاباتها الفلسفية إلى التنوير خرست ألسنتها مثل إدغار موران ونغري وخلق كثير من المتفلسفين عربا وعجما أو خرصت (كذبت) في تصريحاتها مثل صاحب “نظرية الفعل التواصلي” يورغن هابرماس كبيرهم الذي أشاد بفاعلية هذه “النظرية التواصلية“[16] وأنّها ستعبّد الطريق نحو ما أسماه “آداب الحوار” بين الذوات العاقلة، ولكنّه في حوار نقلته صحيفة ألمانية يومية “فرانكفورت رونتشاو” (Frankfurter Rundschau)[17] نجده يخرص في القول ويدافع عن وحشية الكيان الصهيوني ويبرّر قتله للأطفال والنساء. وتلك الفلتة من اللسان تكتب للتوّ فشل “النظرية التواصلية” لهابرماس في أوّل اختبار تجريبي لها وتلك لعمري هي سقطة فلسفية أفضت إلى وأد نظريته الفلسفية وهي ما تزال حية ولسان حالها يقول “بأي ذنب قتلت“.

وهي بلا ريب، تؤكد حقا ما قاله بيتر سلوتردايك في شأنه لما أصبح خصيما له، أنّه ليس سوى “قسّ كبير” من قساوسة هذا العصر، وأنّ لا خير في “فيلسوف البهْرج الذي يعيش في برجه العاجي“[18] و”فلسفة البهْرج التي لا تغني ولا تسمن من جوع“[19] بتعبير الفيلسوف فتحي التريكي لكونها فلسفة انعزالية تعيش في برجها العاجي ولا تكون مرآة لعصرها وشاهدة عليه بعيون ناقدة ولا تقف في وجه الظلم والاستبداد ولا ترفع من قيمة الإنسان أينما وجد ولا تتصدى في وجه العنف مهما كان نوعه. لذلك يبقى “الفيلسوف مناضل“[20] مثلما هو الشأن مع ميشال فوكو وتبقى مهمّة “الفلسفة مقاومة” بتعبير دلوز وتلك هي “الفلسفة نضال… يؤكد الحقّ في الاختلاف لكل فرد في أي مجتمع كان“[21] بعبارة فتحي التركي.   


المراجع والمصادر:

[1]-Jacques Derrida, Politiques de l’amitié,  Editions Galilés, 1994.p.14 : «ô, mes amis il n’y a nul amy».

[2] -Ibid., p.25.

[3] -Ibid., p.25.

[4]- فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، منشورات ضفاف، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 2016، ص.19.

– نلفت الانتباه أيضا إلى كثير من الوقائع التي تدل على التعصّب الهووي الديني وخطورته على الوجود الإنساني خصوصا في ثورة الربيع العربي مثل التمثيل بجثة القائد معمر القذافي في الشوارع الليبية من طرف المتعصبين الدواعش وقتل الرعاة مثل مبروك السلطاني والجنود في جبل المغيلة الجنوب التونسي والتمثيل بجثثهم تحت راية الإسلام. را: رواية أم الزين بنشيخة، طوفان من الحلوى في معبد الجماجم، الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى، 2020.  را: الصادق عبدلي، الطوبوفاجيون أو آكلي لحوم البشر تحت راية الله، قراءة في رواية “طوفان من الحلوى في معبد الجماجم” لأم الزين بنشيخة، عن الحوار المتمدن وموقع الأوان.

[5]- الصادق عبدلي، الفيلسوف النّابت؛ فتحي المسكيني نموذجا، دار أرام للنشر والترجمة، فرنسا، الطبعة الأولى، 2023.

[6]- مطاع صفدي، نقد الشر المحض، نظرية الإستبداد في عتبة الألفية الثالثة، الكتاب الأول، مركز الانماء القومي، بيروت-باريس، الطبعة الأولى، 2001، ص.110 وما بعدها. را: الأمركة: الحرث –في- العدم.

[7]- أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، الإمبراطورية، إمبراطورية العولمة الجديدة، ترجمة فاضل جتكر، دار النشر العبيكان، الطبعة الأولى، 2002، ص.86. 

[8]- القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 27-31: “{واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين}“.

[9] -حنا أرنت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، 1992، ص.5.

[10]- مصطفى كمال فرحات، لماذا الفلسفة اليوم؟ من ممكنات التفلسف آخريّاً، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2016، صص.74-81.

[11] – Jean GrondinHeidegger et le problème de la métaphysique, in revue DIOTI , n°VI, 1999, pp.163-201.

[12] – تزفتيان تودوروف، اللانظام العالمي الجديد، تأملات مواطن أوروبي، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار للنشر والتوزيع- سورية، الطبعة الأولى، 2006، ص.64.

[13] – فتحي التريكي، فلسفة الحياة اليومية، “سلسلة الكوثر”، الدار المتوسطية للنشر، بيروت- تونس، الطبعة الأولى، 2009، ص.55.

[14] -Peter Sloterdijk, Gristhéorie politique des couleurs, Payot, 2023.

[15]-Peter Sloterdijk, Réflexes primitifscontre le cynisme généraliséConsidérations psychopolitiques sur les inquiétudes européennes, Traduit de l’allemand par Olivier Mannoni, Payot, Paris, 2019.

[16] – يورغن هابرماس، نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأوّل؛ عقلانية الفعل والعقلنة الاجتماعية، ترجمة فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة ترجمان، بيروت، الطبعة الأولى، 2020، ص.88.

[17]-Jürgen Habermas zum Nahost-Konflikt: Israels Reaktion „prinzipiell gerechtfertigt“, in: Frankfurter Rundschau, 15/11/ 2023. https://www.fr.de/kultur/gesellschaft/habermas-israel-krieg-hamas-stellungnahme.

[18] – فتحي التريكي، فلسفة الحياة اليومية، مرجع سابق، ص.22.

[19] – المرجع نفسه، ص.23.

[20]-Didier Eribon, Michel Foucault, édition, Flammarion, 1998, p.211: « Troisième partie : « Militant et professeur au collège de France » »

[21] – فتحي التريكي، فلسفة الحياة اليومية، مرجع سابق، ص.55.


الدكتور الصادق عبدلي باحث من تونس متحصل على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة.

جديدنا