هل نحن ملزمون بإعادة تبرير مشروعيَّة الفلسفة؟اَلْقَوْلُ اَلرُّشْدِيَّ فِي “فَصْلِ اَلْمَقَالِ ” أُنْمُوذَجًا

image_pdf

منزلة فصل المقال من خلال “المتن الرشدي” للأستاذ الفيلولوجي جمال الدين العلوي:

لقد كان كتاب فصل المقال لما بين الحكمة والشريعة من اتصال بحسب الأستاذ جمال الدين العلوي يروم تحقيق التصحيح العقدي وهو نفسه الغرض الذي رامه في الكشف عن مناهج الأدلة. “كما كان في الآن نفسه علامة على أن هذا التصحيح الأخير إنما هو تعميق وتدعيم من ناحية أخرى للتصحيح الفلسفي الذي كانت الجوامع والتلاخيص كماله الأول، وستكون الشروح الكبرى كماله الأخير” ومن هنا سيكون فصل المقال بين منزلتين؛ أو بالأحرى هو حلقة وصل بين جزئين متمايزين في المتن الرشدي.

إنَّ الغاية بهذا تكون كرد فعل منه للواقع الاجتماعي الذي سادت فيه شوائب على المستوى العقدي، ومنه كان الهدف من تأليفه هذا الكتاب “هو تصحيح العقائد وما داخلها من تغيير بعد أن تم له تصحيح الفلسفة وما داخلها من تحريف من خلال إحيائه لمذهب ارسطو والأرسطية المشائية على وجه العموم “[1].

يندرج كتاب “فصل المقال” ضمن كتب ابن رشد الموضوعة، والتي تمثِّل ابن رشد الحقيقي، أي ضمن مجموعة”الكشف عن مناهج الأدلَّة” وتهافت التهافت” والكليَّات في الطب”..؛ بذلك يكون متميِّزا عن باقي المؤلَّفات الأخرى المندرجة ضمن الشروح والتلاخيص والجوامع والمختصرات.

حكم دراسة الفلسفة:

في الباب الأول من فصل المقال يوضح أبو الوليد بن رشد الغرض من قوله، فهو الفحص على جهة النظر الشرعي حول إباحة الشرع للنظر في الفلسفة وعلوم المنطق أم حظرها. أم أنها تدخل ضمن المأمور به سواء أكان ذلك مندوبا أو وجوبا.

يعتبر ابن رشد ان فعل الفلسفة ليس سوى النظر والتفكر في الموجودات والاعتبار فيها، من حيث هي موجودات دالة على الذي أوجدها، ويستعمل ابن رشد هنا الصانع وهو مفهوم أفلاطوني محض “الديمورج”، وعليه فالفلسفة عنده نظر واعتبار في المصنوعات التي هي موجودات تقودنا نحو علة وجودها؛ أي الصانع الذي أوجدها.

يستشهد أبو الوليد بالنص القرآني الذي كان قد ندب[2] إلى اعتبار الموجودات وحث على التفكر فيها ، والندب إما أن يؤول إلى ما أوجب الشرع الإقدام عليه، وإما مندوب إليه. واعتبار الموجودات بحسب الشرع يتم من خلال الاحتكام للعقل ، وتطلب معرفتها لا تتم إلا به من خلال استعمال القياس[3] بضربيه العقلي أو الشرعي من خلال قوله تعالى:”فاعتبروا يا أولي الأبصار” ومثل قوله تعالى[4]” أو لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض وما خلق الله من شيء[5]“. ومن هذين النصين يؤكد أبو الوليد ان الشرع قد حث على النظر في جميع الموجودات.

ضرورة النظر:

بعدما أكد ابن رشد على ان الشرع قد أوجب النظر بالعقل في المجودات واعتبارها من حيث دلالتها على الصانع، يعود ليفسر ما المقصود بهذا الاعتبار، فالاعتبار ما هو إلا استنباط للمجهول من المعلوم ، واستخراجه منه[6] ، وبهذا نستنتج أن هذا الاعتبار في الموجودات هو قياس ولا يتم إلا به من جهة ثانية، وبهذا يصير النظر اعتبارا ، والاعتبار قياسا، والقياس الحق هو الأعلى منزلة ، والأكثر دقة  ويقينا ÷و القياس العقلي. وبهذا يكون النظر الذي دعا إليه الشرع أتم أنواع النظر يؤول إلى القياس، وليس أي قياس، إنه القياس العقلي، وعلى سبيل التخصيص المسمى برهانا.

إن الغاية من النظر هو معرفة الله تعالى وسائر موجوداته باستعمال القياس العقلي –البرهان – وبهذا يصبح من الضروري على المرء الذي يسعى لهذا الفعل أي النظر والاعتبار، أن يعلم أنواع البراهين وشرائطها ومنزلة كل نوع من البراهين، حتى يسنح له التمييز بين ما هو قياس منها وما منها ليس بقياس.

فتقدم معرفة هذه الأشياء أليات القياس وأنواعه بات واضحا وضروريا للمؤمن بالشرع الذي أمر بالنظر في الموجودات، فهذه الأشياء تتنزل من النظر منزلة الآلات  من العمل، يورد ابن رشد مثال الفقيه الذي يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام، فقد توجب عليه معرفة المقاييس الفقهية التي يشتغل بها كالآلات في استنباطه هذا، بل إن هذه المعرفة تتقدم وجوبا، وبهذا فالناظر في الموجودات توجب عليه معرفة القياس العقلي أولا، بل إنه هو الأولى به على الفقيه، لأنه إذا كان هذا الأخير يستنبط من الآية ضرورة استعمال قياسه الفقهي، فبالأحرى والأولى ان أن يستنبط العارف بالله وجوب المعرفة بقياسه العقلي.

وإذا كان القياس الفقهي لم يوجد لحظة  صدر الإسلام -يستعمل ابن رشد هنا لفظة الصدر الأول-   و ما هو ببدعة عند الفقهاء المشتغلين به ، فحتى القياس العقلي الذي لم يكن البتة في الصدر الأول ليس بدعة ، يقول ابن رشد: “بل وأكثر أصحاب هذه الملة مثبتون القياس العقلي إلا طائفة  من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص” [7].

بعد هذا التقرير ، يرى ابن رشد أنه من اللازم معرفة ما هو هذا القياس العقلي وما أنواعه قبل الاشغال به في النظر العقلي ، ولأجل هذا الفحص،” فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك “[8] دون تمييز بين من يشاركنا في الملة أو غير ذلك، فآلة المنطق التي هي القياس لا يؤخذ بعين الاعتبار صحتها من جهة كونها  < تذكية >  لمشارك لنا في الملة او غير مشارك ، فإن توفرت صحة حججها و قوة براهينها  و يقينية صدقها، صار لازما علينا الأخذ من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام، بل ويكون لنا موردا نستعين به و نستدل بما قاس به ، ونسلك طريقه.

لا يستثني ابن رشد الحكمة من احتوائها على جملة من مسائل الخلاف التاريخية ومن المناظرات الكثيرة التي وضعت في معظم بلاد الإسلام، على غرار الصنائع العلمية والعملية.

وإذا كان هذا هكذا، فقد بات من الواضح أننا ملزمون بإيراد واستثمار ما تقدم من الحكمة عند القدامى من اعتبار ونظر في الموجودات وفق ما يقتضيه البرهان، وننظر في متونهم السالفة من خلال ما أثبتوه فيها، فإذا كانت أفكارهم وأطروحاتهم موافقة للشرع قبلناها منهم، وسرنا طريقهم فيها، وقدمنا لهم الشكر على ذلك، وإذا كانت غير موافقة للحق نبهنا على ذلك وحذرنا منه، وعذرناهم. بهذا يكون ابن رشد قد وضع منهجه في التلقي الفلسفي، هو الأخذ من السابقين في النظر وفق ما يتماشى والحق والتنبيه والتحذير وإعذارهم لما كان غير موافق للحق، والشكر لهم في اجتهادهم.

وبما أن مقصد كتب القدامى هو المقصد نفسه الذي حث عليه الشرع، فإن هذا النظر واجب بالشرع، والذي يراه ابن رشد أن الناس-   ربما يقصد هنا ابن رشد فقهاء عصره في عصره -قد صدوا عن الباب الذي منه يدعو الشرع لمعرفة الله حق المعرفة، بل أنه اعتبر هذا الصد غاية الجهل والبعد عن الله تعالى.

شروط النظر:

يرى ابن رشد أن ما لحق من الضرر من سوء الفهم للنظر ليس من جوهره هو ، وإنما بالعرض، “فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات”[9]، أما النظر فهو نافع بطباعه وذاته ، فيجب أن ينظر إلى نفع ومزايا جوهره التي تعود بالنفع على فاعله و  المستفيدين منه ، أما المضرة التي تظهر فهي خارجة عنه ، أي أنه بالعرض عليه لا بالذات له، مستشهدا بقول الرسول(ص) ” صدق الله، وكذب بطن أخيك” حين أمر إمرئ بسقي بطن أخيه بالعسل ولم يشفى بعد ثلاث مرات.

مراتب الناس:

بعدما قرر ابن رشد، في أن شريعتنا الإلهية قد نبهت على الحق، وهو سعادة، فهي تدعوا إليها، إنها بهذا المعنى تدعوا وتحث على معرفة الله، وبمخلوقاته، وهذا عند كل مسلم متقرر بحسب طبيعته وفي جبلته، وما يستطيع إليه من جهة التصديق التي تتناسب وطبعه.

يقول ابن رشد:” وذلك ان طباع الناس متفاضلة في التصديق ، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية”[10].

بهذا يكون ابن رشد قد حدد ثلاث أنماط في التصديق التي تكون للناس بالطبع، فالشريعة هي نفسها تدعوا الناس من خلال هذه الأقاويل، وذلك بحسب استطاعة ومقدرة الانسان التي هو مفطور عليها،فكل انسان يصدق بنوع من الأقاويل الثلاثة، يتناسب وما هو مجبول عليه، وهذا ما يراه ابن رشد في طريقة مخاطبة الناس في الموضوعات الإلهية، إنه بات من اللازم استحضار طبع الاخر وما يمكنه الصديق به، فان كان يصدق بالبرهان جاز لنا استعمال الاقاويل البرهانية، وإذا كان يصدق بالجدل، جاز لنا التعامل معه وفق أقاويل جدلية، أما إن كان لا يصدق سوى بالخطابة، فنستعمل معه الأقاويل الخطابية.

وكي يبرز ابن شد تجلي هذا التقسيم الذي وضع لمراتب الناس من حيث التصديق، يستشهد بقوله تعالى: ” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن”[11]فالحكمة هنا دليل على؛ لأقاويل البرهانية. والموعظة الحسنة؛ هي الأقاويل الخطابية. أما قوله جادلهم بالتي هي أحسن؛ فهي تدل على استعمال الأقاويل الجدلية.

علاقة الحكمة بالشريعة:

إذا كان النظر الذي يؤدي إلى معرفة الحق بالبرهان، غير مخالف لما ورد به الشرع كما بيننا سلفا، والشريعة حق، “فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.”[12]

فالنظر البرهاني بهذا يكون داعيا للنظر في موضوعات وأحكام لا تعارض فيها مع الشرع، فهذا الأخير ينطق بها ظاهرا فتكون موافقة للبرهان، أما إن خالف ذلك بشكل ظاهريا تطلب تأويل ذلك. وأحيانا أخر يسكت عنها فيستنبطها الفقيه الشرعي من خلال استعمال القياس الشرعي. وبهذا يكون التأويل مطلبا أو الة في محاولة استظهار تجليات الاختلاف الظاهر على التوافق الباطن.

التأويل أو هيرمينوطيقا سابقة لأوانها:

يعود ابن رشد للتحدث في التأويل الذي صار ضروريا لتبيان التوافق في الأحكام التي تبدو مخالفة في الظاهر.

أما التأويل فهو :”إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لا حقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عدت في تصنيف الكلام المجازي”[13]

فالفقيه هو بدوره يقوم بالتأويل في كثير من الأحكام الشرعية، فبالأولى أن يستعمل ذلك المشتغل بالبرهان، كون هذا الأخير يعتمد على قياس يقيني، عكس الفقيه الذي يكون برهانه برهانا ظنيا،إن ابن رشد يرجع الاختلاف الذي يكون في الظاهر لما يتوصل إليه صاحب البرهان إلى اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم وأصنافهم في التصديق لاغير، فمنهم من ليس آهل للتأويل للظواهر المتعارضة في الشرع، وبهذا يكون الشرع قد نبه الراسخين في العلم وحثهم على التأويل وهذا جلي من قوله تعالى:” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات… والراسخون في العلم.

وبهذا يكون ابن رشد قد ميز بين أهل البرهان وهم الراسخون في العلم الذي يحق لهم فعل التأويل وجوبا وجوازا في حالات أخرى، وفئة جمهور الناس الذين لا حق لهم في التأويل البتة، فممارستهم للتأويل تشوش عليهم عقيدتهم.  كما أنه يلزم تثبيت التأويل في كتب البرهان، ” يجب ألا تثبت التأويل إلا في كتب البراهين، لأنها إذا كانت في كتب البرهان، لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو أهل البرهان”.

وبعدما قرر ابن رشد ان التأويل لا يكون بشكل كليا الا للراسخين في العلم وهم خاصة الخاصة، فهو يرد على الذين يقومون بإفشاء التأويل لغير أهله، ويقصد بذلك الغزالي الذي استعمل التأويل في خطابه لعامة الجمهور، فهذا يشوش عليهم عقيدتهم. إن جمهور الناس بهذا القول لا يحق لهم التأويل ولا الأخذ به، فما عليهم سوي الاخذ بالظاهر الذي فرضه ايمانهم.

العلم الإلهي أو في مسألة “أن الله لا يعلم الجزئيات”:

 إن الحكماء المشائيون يرون أن الله تعالى يعلم الجزئيات بعلم غير مجانس لعلمنا، كون علمنا بها معلول وليس علة للمعلوم به، أما علم الله فهو علة للوجود، الذي هو الموجود. إن علمه للجزئيات

فلا يمكن أن نشبه العلمين أحدهما بالأخر، فالعلم المحدث يختلف عن العلم القديم. إن علم الله بهذا يكون منزها عن أن يوصف بالجزئي أو بالكلي، أما نحن فلا نعلم سوى ما هو موجود، ووجود الاشياء سابق لعلمنا نحن، أما علم الله فهو علة لوجود الأشياء. وبهذا يكون من الممتنع ان نقيس العلم الإلهي على العلم البشري ونضع مماثلة أو مقارنة بينهما.

وبهذا فان الحكماء لا يقرون على ان الله لا يعلم الجزئيات كما زعم أبو حامد الذي غلط عليهم وعلى المشائين خصوصا.

 في مسألة المعاد:

لقد اعتبر ابن رشد أن الباحث في مسألة المعاد إذا كان مخطئا فهو معذورا والمصيب مشكورا شريطة الاعتراف بالوجود، أما البحث فيكون في صفته لا في وجوده. فاذا كان هذا التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود للمعاد، لأنه أصل في الشريعة، أتعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا؟ أو تعدم الاعراض دون الجواهر، وانما الأعراض؟ يدخل ابن رشد هذا ضمن الممكنات، “وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات[14]“.

إن الاشاعرة يقولون بحمله على ما هو ظاهر في النص دون تأويله، أما من أولوا ذلك واختلفوا فيه اختلافا فهم المتصوفة والغزالي. أما ابن رشد فموقفه واضح كما بينا سلفا ذلك.

وبهذا فالنظر في المعاد من حيث وجوده فهذا لا يجوز لأنه امر حسم فيه الشرع بالثبات، والتأويل في أحوال جائز وممكن.

ضميمة العلم الإلهي:

جاءت ضميمة العلم الإلهي كملحق لفصل المقال من حيث الترتيب في الكتاب، رغم انها سابقة على الفصل في التأليف كما تنبه لذلك الأستاذ جمال الدين العلوي، وجاءت هذه الرسالة كجواب على سؤال طرحه أحد أصدقاء ابن رشد عليه، حول مسالة علم الله بالجزئيات، ومعلوم أنها من احدى المسائل التي كفر الغزالي فيها الفلاسفة، وبهذا الضميمة بمثابة رد على الغزالي والاشاعرة في المسألة المذكورة.

  • طرح الشك: كل الأشياء المحدثة هي في علم الله قبل أن تكون، فهل علمه بها حال وجودها هو نفس العلم الأول بها؟
  • إذا كان الامر بالمغايرة يلزم عنه أن يكون العلم القديم متغيرا، وان يكون هناك حدوث لعلم زائد بعد الخروج من العدم إلى الوجود.
  • أما القول إن العلم بها واحد في الحالتين، سيؤول هذا إلى سؤال أخر: هل الموجودات الحديثة هي نفسها قبل أن توجد؟ يجيب ابن رشد بالنفي ودليله على هذا، هو لو كان كذلك، لكان الموجود والمعدوم واحد.
  • أما إذا قيل إن العلم الحق هو معرفة الوجود على ما هو عليه: يلزم عنه ان يكون العلم مختلف، وبه يكون اختلاف العلم القديم في نفسه، أو ان الأشياء الحادثة ليس في علمه (غير معلومة). وهذين الأمرين مستحيلان عليه سبحانه.

أما أبا حامد فقد رام لحل هذا في التهافت بقول لم يقنع ابن رشد، وطريق قوله فيه هو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف، فيمكن للمضاف أن يتغير ويبقى علمه سبحانه على حاله دون تغير. (يورد ابن رشد مثال الغزالي للأسطوانة التي توجد يمنة زيد، وتصير يسرته، أما زيد يبقى ثابت لا يتغير…) يرد ابن رشد على أن العلم هو نفس الإضافة فقد وجب له التغير عند تغير المعلوم (وضع الاسطوانة).

  • حل الشك لابن رشد:

إن الحال في العلم القديم مع الموجود يختلف والعلم المحدث، إذ أن وجود الموجود هو علة لعمنا به، وعلة هذا الموجود الذي هو نفسه علة لعمنا نحن، هو العلم القديم.

 أما التغير فيحدث في العلم المحدث بعد وجود الموجود، ولا يجب قياس هذا على العلم القديم، يعطي ابن رشد مثالا؛ في أنه لا يحدث في الفاعل تغير -لم يكن قبل- عند وجود مفعوله، وهو نفس الشيء في العلم القديم لا يحدث تغير عند حدوث معلومة عنه.

  •  خلاصة الحل النهائي:
  • إن تغير العلم عند تغير الموجود هو شرط في العلم المعلول عن الموجود وهذا العلم الذي يلزمه أن يتغير هو العلم المحدث وليس العلم القديم.
  • إن علمه بالموجود في حين حدوثه على ما هو عليه، يكون بالعلم القديم لا بالعلم المحدث.
  • إنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها والمحايثة معها، أما علمه لها بالعلم القديم فثابت ولا شك فيه.

 خاتمة:

بهذا يكون ابن رشد قد تناول مسألة أساسية في فصل المقال، وهي التي يعبر عنها صريحا بالتساؤل الأول الذي افتتح به خطابة:” هل النظر في الفلسفة والمنطق بعلومه مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الندب، إما على جهة الوجوب؟

وبالانطلاق من هذا التساؤل الأساس للمتن الرشدي في هذا الكتاب الصغير الحجم الضخم الأطروحة، سيكون المطلوب هو الاشتغال على إشكالية “مشروعية العلوم العقلية من فلسفة ومنطق ” في الفضاء العربي الإسلامي وذلك يظهر جليا من خلال القضايا الثاوية داخل هذا المتن من قبيل: علوم غير المسلمين والمعقول والمنقول والظاهر والباطن والعامة والخاصة والقياس البرهان، كما أن ابن رشد تعاطى بشكل مقتضب للغزالي وتكفيره للفلاسفة، كما أشار بالإضافة إلى ذلك إلى مسألة التأويل حده وشروط إقامته. إذ أن الاهتمام الذي أولاه ابن رشد بهذه القضايا يطرح أمامنا ما يلي: هل نحن في حاجة لتبربر مشروعية الفلسفة بعد مرور قرون من زمن محاولة التوفيق والردود والشكوك؟ أم يجب ان نأخذ مشروعيتها وفرضية ” الفلسفة هي منقذنا من الضلال” كمسلمة تم البرهنة عليها سلفا؟


[1] جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، ص 191.

[2] معنى الندب:

[3] معنى القياس

[4] الحشر 59

[5] الأعراف 7

[6] ابن رشد، فصل المقال لما بين الحكمة والشريعة من اتصال، ص 23

[7] مرجع سابق، ص 25

[8] م ص، ص 26

[9] م س ص 69

[10] م س، ص 31

[11] سورة النحل

[12] م س31. 32

[13] م س، ص 32

[14] م س، ص50

جديدنا