تصاريفُ القدَر: مصادفاتنا الخالدة ليس لها عنوانٌ ثابت

image_pdf

مدخل التوقُّعات:

تبنيت كثيرًا القناعة بأننا محمولون في الحياة بنوايانا، وأن “الرياح” قد تأتي بما تشتهي السَفَنُ، وهذا عكس ما درجنا على تبنيه من تشاؤمٍ ووهمٍ لازم بمعاكسة الأقدار لما تتطلع إليه أنفسنا من مصادفات كثيرها باتعة وماتعة، أو تَعْلَقُ بأذهاننا عندما تأخذنا بزهو الدهشة، وتفاجئنا بأبعد وأبدع وأجمل مما نتوقع، أو بما لا نتوقع. لذلك، يمكن القول إن الكثير من محطات حياتنا قد نتوقف عندها بغير خيار سابق، أو تخطيط يحسب قيمة المعنى المركوز فيها. ولذلك، كثيرًا ما نجد في أوراقنا الخاصة قصاصات سَطَّرَ فيها القلم المتأهِب بَيِّنَة تنادت للتدوين، وطفرت فيها لُمَعٌ تَحَيَّنَت الإطلالة عبر نافذة زمنٍ تجلت فيه لحظة وسيمة، وشخصت بما وهبت من سوانح لا تتكرر بمحض الاختيار. وما حديث “الرياح” إلا لأن من جمعتني به إحدى هذه الصدف قد عينها عنواناً لآخر رواياته، وزَجَّ فيها ما هو أقرب لصرير “الريح” منه إلى نفح “الرياح”، لأن مضمونها تَشَكَّلَ بما هو أقرب لرثاء العالم الحديث منها للترحيب بإيجابية منجزاته التكنولوجية. وذلك بنقده القاسي، بل نَعْيِهِ المستحق للثقافة الغربية في دوامات أفولها المحتوم، ألا وهو الروائي البيروفي خورخي ماريو بيدرو بارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، عام 2010، الذي اشتهر باسم “ماريو بارغاس يوسا”. ومناسبة هذا الحديث دالتين؛ إحداهما، كما أسلفت، هي روايته الأخيرة، التي اختار اسم “الرياح” عنوانًا لها. والثانية، قصاصة صغيرة وجدتها في بطن جواز قديم رقمت فيها تاريخ لقاء جمعني في طاولة غداء واحدة مع برغاس يوسا، ظهر يوم الأحد 22 أبريل 2012، في مدينة فاس بالمغرب. وكانت المناسبة الاجتماع السنوي لجمعية “ماونت بيليرين”، التي انعقدت لأول مرة في بلد عربي، واستمرت لأربعة أيام، تحت شعار: “حرية.. كرامة إنسانية.. ومجتمع منفتح”، وكان يوسا متحدثها الرئيس.

ومثلما طرح يوسا في روايته الجديدة من أسئلة فلسفية وأدبية عميقة حول التأثير السلبي المحتمل للتكنولوجيا على الثقافة، وانعكاس ذلك على رشد التجربة الإنسانية، نعى في فاس ما أسماها بـ”الثقافة العليا”، أو الراقية، وعاب عليها إفساحها المجال لـ”زخمٍ” فوارٍ من صنوف “الثقافة الوضيعة”، أو الدنيا، التي تكتسح مجالات عيشنا المختلفة. وكان بعض ما قاله هو موضوع حوارنا على مائدة الغداء الباذخة، فأفاض في النقد وطرح الأسئلة الحارقة والحرجة، وبَيَّنَ من مسالب الغرب بما شَعَرْتُ أنه أسس لموضوع روايته الجديدة المتوترة، التي صاغ فيها رؤيته الصادمة حول اضمحلال الثقافة الجادة، والاستغناء المحزن عن الكتاب ودور السينما والمسرح، والاكتفاء بما يعرضه الفضاء الافتراضي من ركام المنوعات غير المُحَقَّقَة، و”قمامة التافهين” الخادشة للحياء. وتساءل: هل يكتفي الناس بمشاهدة كل الأعمال الفنية عبر القبة الافتراضية فقط؟ وحاول في الرواية، كما حدثنا في يومنا ذاك، أن يرسم لوحة متعددة الأبعاد، لكنها مضطربة التفاصيل لمجتمع مستقبلي محتمل يعيش فيه البشر في توازن “هش” بين الأزمنة الثلاثة؛ الحاضر والماضي والمستقبل. وتعمد أن يقول، بلغة روائية مشوقة، إن الناس سيسعون إلى الحفاظ على الروح الإنسانية، وسيجهدون أنفسهم بحثًا عن التواصل الحقيقي، تحت ظل غمامة كثيفة من ثورة التكنولوجيا الرقمية، التي قلبت حياتهم رأساً على عقب. وما تختلف فيه هذه الرواية الجديدة عن أعماله السابقة، أنها قصيرة، ولكنها بالغة التعقيد، لأن يوسا أن تأثر في العديد مما سبقها بوجهة نظره حول المجتمع البيروفي، وصَوَّرَ تجاربه الشخصية فيه بوصفه مواطنًا بيروفيًا لاتينيًا. غير أنه وسّع مدا رؤيته في “الرياح” بشكل صاعد للمستوى العالمي، فعالج موضوعات وأفكار مستوحاة من شمولية هذه الرؤية للثقافة المعولمة.

الفكرة الوطنية:

وقبل مغادرة “الرياح”، ذات البعد العولمي، والعودة لخصوصية مؤتمر “ماونت بيليرين”، يحسن بنا الإشارة إلى أن بارغاس يوسا أقدم في كثير من مقالاته على نقد “الفكرة الوطنية”، وما تحتضنه أُطُرها من تَمَيُّز، ضمن مناطق مختلفة من العالم. فقد شهدت مسيرته السياسية تحولًا آخر؛ من توجهاته اليسارية الراديكالية، إلى دعوته المفتوحة إلى نظام ليبرالي يُعلي من قيم الثقافة الديمقراطية. ويُشْبِه هذا انتقاله من أسلوبٍ ومنهج قديم في طروحاته مرتبط بالحداثة الأدبية، إلى أسلوب جديد صعد به إلى ما بعد الحداثة، وبمداخل عابثة أحيانًا، قد نجدها تتعارض مع مقولاته حول انضباطية “الثقافة العليا”، التي صار يُكثِر الحديث عنها. وربما عبرت مشاركته في مؤتمر فاس سمة هذا التحول، لأن جمعية “ماونت بيليرين” قلعة ليبرالية، أسسها التشيكي فريدريش هايك الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في عام 1947، وقد جمعت لأول عهدها المحافظين الأمريكيين والأوروبيين معاً في قرية بالقرب من لوزان. وظلت نادياً دولياً صفويًا للمفكرين الليبراليين الجدد منذ ذلك الحين.

ولكن، عندما اجتمع أعضاؤها البالغ عددهم 400 عضوًا في فيينا عام 1996، تقرر الانفتاح على عالم أوسع من الخيارات الليبرالية المتاحة لدى التيارات المحافظة. ولمزيد من التأكيد على ما طرأ على عقل الجمعية من تغير، قال الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس إنه “لا توجد نظرية أو نموذج للتغيير المسبق، لكن ذلك يعتمد على وضع كل بلد على حدة، الأمر الذي يحتم عليه إيجاد مزيج عقلاني بين العفوية والمقاربة البنائية”. وأشار إلى أن “الانتقال من نظام إلى آخر هو مسلسل له ثمن ويتطلب وقتًا”. ويرى كلاوس، بهذا القول، إن السياسات مدعوة لخفض تكاليف الانتقال والحد قدر الإمكان من الهوة القائمة بين الواقع وطموحات الشعوب، موضحًا أنه لتحقيق هذا الانتقال “يتعين على هذه السياسات أن تستند إلى رؤية واضحة ومباشرة للمستقبل تكون الشعوب على بينة من أهدافها ومراميها حتى تنخرط فيها بشكل إيجابي”، معربًا عن اعتقاده بأن “العديد من الدول فشلت لكونها لم تأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى”.

لذلك، كان ضيف الشرف على حفل افتتاح فعاليات الاجتماع السنوي لجمعية “ماونت بيليرين”، الذي انتظم، مساء السبت 21 أبريل 2012، كلاوس، الذي اختار مدينة فاس المغربية كأول انعقاد للجمعية في بلد عربي منذ إنشائها عام 1947، لمخاطبة المغاربة والعرب حول التغييرات الجارية في العالم العربي كجزء من هذا الانفتاح، قائلًا “إن مصدرها بالأساس رجال ونساء البلدان المعنية وليس القوى الخارجية”. وأضاف أن الشعوب تحتاج فقط إعطاءها الفرصة كي تعبر عن قدراتها. وربما كان وجود كلاوس لحقيقة أن جمعية “ماونت بيليرين” تأسست في الأصل جمهورية التشيك لتعمل على استكشاف سبل التوصل إلى فهم أفضل لدور الحرية في أداء المجتمعات البشرية. وحول احتضان مدينة فاس للاجتماع السنوي للجمعية، قال كلاوس إن وجوده في مدينة فاس “هو في حد ذاته أمر ملهم ومشجع”. وأكد أن اجتماع فاس مهم للغاية بالنسبة للجمعية، التي هي في حاجة إلى وجوه جديدة وأفكار جديدة تساهم في مواجهة التحديات المطروحة.

دمقرطة الثقافة:

ولا شك أن يوسا كان أبرز هذه الوجوه الجديدة في مؤتمر فاس، كما أن مرافعته القيمة قدمت أفكارًا جديدة، لم تعهد قوة طرحها جمعية نشأت صفوية، مسكونة بليبراليتها وخصوصيتها. وفي ذلك يقول ميلتون فريدمان: “لقد أظهر لنا ماونت بيليرين أننا لسنا وحدنا” وعملنا “كنقطة تجمع”، وإلهام الصداقات، والشبكات، والبرامج المشتركة، والمشاريع المنتجة، والكتب، والمنشورات. رغم أن العضوية في الجمعية عن طريق الدعوة ولا يتم الكشف عن أسماء الأعضاء؛ ومع ذلك، فمن المعروف أن كلاوس، ووزير المالية الفرنسي السابق آلان ماديلين، وكبار مستشاري الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين ومارجريت تاتشر ينتمون لهذه الجمعية. وإمعانًا منه في تذكير الحضور بأن له وجهة نظرٍ مختلفة عن بدايات الجمعية، دعا يوسا إلى العمل على دمقرطة الثقافة حتى لا تظل حكرًا على النخبة فقط. وأبرز يوسا في حديثه، أمام الجلسة الافتتاحية ليوم الأحد 22 أبريل 2012، الذي جاء تحت عنوان: “التسامح باعتباره قيمة أخلاقية للمجتمع الحر”٬ ضرورة أن يعكس تدبير الشأن الثقافي جميع تمظهرات المجتمعات وعاداتها وانشغالاتها الحيوية. وقال إن “الثقافة التي نريد العيش فيها هي التي ترتقي بالفكر وتفتح آفاقًا جديدة وتنفتح على رؤىً خلاقة وواعدة”٬ وليست الثقافة “الخارجة عن النص والمثبطة للفكر والعزائم.” ويؤكد الروائي المعروف أن الرغبة في التسلية هي “أمر مشروع”، لكن أن تتحول إلى قيمة عليا، حينذاك تترتب عليها عواقب وخيمة: “الاستهانة بالثقافة، وتعميم اللامبالاة في ميدان المعلومات، التي تنتشر في الصحافة غير المسؤولة، والتي تهتم بالقيل والقال، والفضائح”.

إن هذه الرغبة في التسلية تؤثر في الأدب، وتجعل من كل ما هو “خفيف” أن ينتصر، ولها، هي الأخرى، عواقب أيضاً من حيث إن النقد الأدبي، الذي نكون بأمس الحاجة إليه لتسليط المزيد من الضوء على الساحة الثقافية المربكة، يكون في كل مرة، أقل تأثيراً. وينتقد يوسا أيضاً المساحة الواسعة، التي تخصص للموضة، والمطبخ، في الأقسام الثقافية، ويُشير إلى أن “الطهاة”، ومصممي الأزياء “استحوذوا على دور البطولة، الذي كان رجال العلم، والمؤلفون، والفلاسفة، يؤدونه فيما مضى”. ويضيف أنه في ثقافة التهريج هذه، والسائدة في الوقت الحاضر، “يكون لنجوم التلفزيون واللاعبين الكبار التأثير ذاته، الذي كان للأساتذة، والمفكرين، وقبل ذلك، علماء الدين”. وأما السينما، فيقول عنها، إنها لم تعد تنتج مبدعين مثل بيرغمان، أو فيسكونتي، أو بونويل، حيث لا يعتبر وودي ألن رمزاً سينمائياً “كما لو كان ديفيد لين، أو أورسون ويلز، أو أندي وارهول، كما لو كان غوغان، أو فان كوخ في الرسم، أو داريو فو، كما لو كان تشيخوف، أو إبسن في المسرح”. وتوقف يوسا عند الفنون التشكيلية أيضاً، مؤكداً أن “اللامبالاة فيها قد بلغت حدًا لا يطاق”. وقال إن الصحافة تسهم، بشكل كبير، في توطيد الثقافة “الخفيفة”، الأمر الذي يؤدي إلى نسيان أن الحياة “ليست مجرد متعة، بل دراما، وألم، وغموض، وإحباط”. 

حضارة للعرض:

إن “رياح” يوسا الهوجاء ما زالت تُسَطِّر له رواية حياته، وتُثَبِّت بالإشهار تناقضاتها، التي ربما لم تصل إلى نقطة رسوٍ لها بعد. فقد دخل الروائي اللاتيني اليساري الراديكالي، في التاسع من شهر فبراير 2023، رسميًّا كعضوٍ في “الأكاديمية الفرنسية”، التي كان يعتبرها قلعة من قلاع الإمبريالية، دفعته إليها “رياح” شهرة عالمية كاسحة، وقوة إعلاميّة لافتة. فجاء إليها متوجًا، يرافقه صديقه العجوز الملك خوان كارلوس، القادم من منفاه الاختياري في الإمارات العربية المتحدة، الذي أبت نفسه إلا أن يحضر حفل تنصيب صديقه بارغاس ماريو يوسا في محفلٍ كان يبغضه، والذي سيخّلد في قبتها، رغم أنه لم يكتب حرفًا واحدًا باللغة الفرنسيّة، التي يزعم أنه يجيدُ الحديث بها، إلى جانب لغته الإسبانية وإنجليزيته الطلقة. وهنا، لا ندري، أَجَرَت “الرياح” بما لا تشتهي السَفَنُ، أم أن سفن الحظ قد مخرت عبابًا سهلة، وبلغت مرفأ ترتاح في جنباته أعطاف كهل يقترب من نهاية عقده التاسع، بعد أن أفنى زهرة شبابه، وأرهق أواسط عمره بأثقال أيدولوجية رمتها تصاريف الأقدار في “مزبلة” التاريخ. أوليس هو ذات يوسا، الذي قال يومًا في معرض مقارنته بين الرجعية الإمبريالية، التي ترمز لها الأكاديمية الفرنسية، وتقدمية اليسار في بعض دول أمريكا اللاتينية، “إن الخطر، أيها السادة، يكمن في القدوة السيئة، لا في الشيوعية، وإنما في تحوّل غواتيمالا إلى الديمقراطية”، على شاكلة دول الغرب، بما فيه فرنسا. 

وفي الختام، نعود مجددًا لرؤية يوسا لما آلت إليه أوضاع الثقافة الغربية، فقد كتب، في عام 2015، مقالاً مهمًا في إحدى الصحف الإسبانية، بعنوان: “حضارة للعرض”، فَنَّدَ فيه التحول، الذي حدث في الثقافة، وكيف أصبحت عملًا ترفيهيًا، بدلًا من كونها حضورًا إبداعيًا جماليًا. ولا يبدو أن الصورة التي رسمها لرجال السياسة قد خرجت سليمة هي الأخرى، حيث يؤكد ضعفها، الذي يلفت الانتباه أيضاً إلى تأثير المثقفين الضئيل على المجتمع اليوم، إلى أن “السمعة السيئة للسياسة، في أيامنا هذه، لا حدود لها”، بسبب “هبوط المستوى الفكري، والمهني، وبالتأكيد الأخلاقي، للنخبة السياسية.” ويقول إن المفكر “اختفى من المناقشات العامة، على الأقل، من التي تكتسب أهمية خاصة”، ولم يعد للفكر وزنه “في حضارة الفرجة”، التي تطغى فيها اليوم “الصور على الأفكار.” وبعد كل هذا النقد لا أحسب أن يوسا يمانع أن نقتبس منه بعَضُ قولٍ له، “أجل يا أبتاه. إنني أصدق الآن كل الشرور والفظاعات، التي يروونها لي. وإذا كنتُ قد تعلمت شيئاً في الكونغو، فهو عدم وجود وحش أشد دموية [أو تقلبًا] من الكائن البشري”. ومثلما قال، وقد صدق: “كون المرء إنساناً يعني معرفته الحدود القصوى، التي يمكن أن يبلغها الجشع، والبخل، والأحكام المسبقة، والقسوة، وهذا هو الفساد الأخلاقي، أجل: إنه شيء لا وجود له بين الحيوانات، شيء يختص به الإنسان حصريًا”، وقد كشفت له تجربته الشخصية أن هذه الأشياء حاضرة في الواقع، أو هي تصاريف القدر. 

________

*الدكتور الصادق الفقيه: سفير سوداني، أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية بجامعة صقاريا، ومستشار مركز دراسات الشرق الأوسط “أوسام”، بتركيا.

السبت، 23 سبتمبر 2023

صقاريا، تركيا

جديدنا