استخلاص لوسيان سيباج للإرهاصات البنيويَّة في فلسفة ماركس

image_pdf

” أصبحت لقضية ” موت الذات ” أولوية طاغية عند الماركسية البنيوية، بدعوى أن شعورنا بأننا صانعو أفعالنا، هو من بعض الوجوه شعور خاطئ أو شعور إيديولوجي، فما يحدث حقاً هو أن البنى الاجتماعية الكامنة هي التي تحدد أفعالنا، وتعمل من خلالها، وأن أفعالنا تعمل على إعادة إنتاج البنى وإدامتها، أو أحياناً على تحويلها عن طريق الثورة. فالبشر – بناءً على هذا الرأي – يضحون دُمّى للبنية الاجتماعية، وهذه البنية بدورها تصبح نوعاً من الآلة ذات الحركة  الدائمة. وما نريد قوله هو إن هذه النظرية تقف عاجزة تماماً حينما تتناول الفعل الاجتماعي، وتصف الخيوط التي تحرك تلك الدمى، رغم فائدتها في تحليل البنى الاجتماعية “. (إيان كريب: النظرية الاجتماعية – من بارسونز إلى هابرماس، ص: 200) .

 وهذا ما ينطبق على نظرة لوسيان سيباج للماركسية باعتبارها تتضمن إرهاصات بنيوية، التي سوف نحاول مناقشتها في هذا المقال.

بلغت البنائية ذروتها باعتبارها اتجاه فكري وفلسفي في السنوات الأخيرة من ستينيات القرن العشرين المنصرم. وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن يُنظر إليها على أنها ” مذهب فلسفي “، ومن سمات المذهب الفلسفي أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء، وبالفعل وصل المد البنائي – في فترة الذروة هذه – إلى ميادين شديدة التنوع، ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون Jakobson وشومسكي Chomsly يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجاً ومثالاً يحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان لاكان Lacan يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو – قبل نشر بحوثه – في حالة ركود نسبي. وفي النقد الأدبي كان بارت R. Barthes يفتتح عهداً جديداً في تفسير النصوص على أساس بنائي. وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل فوكو Foucault يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور الكلمات والأشياء  Les Mots et les Choses، على حين أن مفكراً ماركسياً أصيلاً هو ألتوسير Althusser كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية – وخاصةً كتاب ” رأس المال ” ذاته- من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعاً كان  ليفي ستروس Lévi-Strauss يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاماً، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علماً اجتماعياً وليس فلسفياً هو الانثروبولوجيا.

إن هذا الانتشار للبنائية جعل منها مذهباً فلسفياً شاملاً، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تصبح البنائية مذهباً فلسفياً إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة (البناء)، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال (بناءات)، فكان معروفاً قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي – قبل كل شيء – (منهج) في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح مذهباً فلسفياً إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين – بطريقة واعية – إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها (مذهباً) شاملاً يقدم تفسيراً للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية – من حيث هي منهج – قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل، فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.

ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية كمنهج  كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، فإذا أدركنا أن العلم الحديث منذ القرن السابع عشر لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته (بنائياً)، لأنه استهدف الاهتداء إلى (البناء) الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لابد أن يكون له من البنائية نصيب، لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.

ويؤيد بياجيه (1896-1980) الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهباً، ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (Technical)، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءاً من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تُكتشف إلا في وقت متأخر، وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفياً بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلاً عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد (صور الصور Forms of Forms).

على أنه إذا كان للبنائية – بوصفها منهجاً – مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات، إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح (أسلوباً خاصاً للحياة) يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم (الوجوديون) الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدد آراء سارتر في الحرية (المحكوم بها) على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعاً (داخل) الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين، لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للإيديولوجية البورجوازية.

خلاصة بالقول: إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (ابستمولوجيا)، تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة هي فترة الستينيات المتأخرة من القرن العشرين. وربما أوائل السبعينيات، أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلاباً فلسفياً شاملاً، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات. ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية، على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر داخلية عليها، عندما أصبحت هي (الموضة) الشائعة، وعُوملت على أنها إيديولوجية جديدة كاملة، طُبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحاً لها أصلاً. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف. ولكنه لا يصح أن يتخذ أساساً للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة. فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء ” موجود هناك “، بغض النظر عن الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يطبق فيها هذا البناء، فإن قدرة الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء هي الأمر الجدير بالاهتمام حقاً.

ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون أن يكون للإنسان دور فيها – أعني الميل إلى جعل الإنسان (مفعولاً) لا (فاعلاً) – يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع. ولقد ضرب (دوفرين) للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق مثلاً طريفاً، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفيتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح (وهي لم تكن قد انتصرت بعدُ عندما قال هذا الكلام)، فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي ممارسة الحرب ذاتها، وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد (للنسق)، وهكذا فإن الأنساق لا تستطيع أن تسير في طرقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله مجرد مفعول.

وهكذا تظهر الصورة أخيراً  في تطور التاريخ مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتاً، فأحداث الحركة الطلابية عام 1968م تفجر الإطار السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو ثابتاً، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو استقلال الأنساق عن الإنسان. ولكن، إذا كان التاريخ قد بادر إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها مباشرةً، فلنذكر أننا لسنا في حاجة إلى شهادة التاريخ لكي ندافع عن فاعلية الإنسان إزاء بناءاته، فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول، إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا جهداً عقلياً لا نظير له، ومارسوا فاعليتهم الذهنية إلى أقصى حد لكي يكتشفوا بناءات يقولون: إنها تجعل ذهن الإنسان (مفعولاً). بناءً على ما سبق سنحاول تتبع الإرهاصات البنيوية عند كارل ماركس من وجهة نظر لوسيان سيباج.

رؤية لوسيان سيباج  لإرهاصات البنائية في الماركسية: يعتبر لوسيان سيباج* Lucien Sebag 1933) – 1965) من أوائل الماركسيين الذين تنبهوا إلى إمكان وجود عناصر بنائية في فكر ماركس. ويبدو أن تحمسه لإثبات هذه الفكرة قد أدى به إلى الانحياز إلى جانب البنائية وإنكار عناصر أساسية في الماركسية، مما أبعده بالتدريج عن التيار الرئيسي للفكر الماركسي الفرنسي، وأدى إلى فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي. وعلى أية حال فقد أتيح لسيباج أن يعرض وجهة نظره كاملة، قبل موته المبكر، في كتاب يعد من الكتب الكلاسيكية في هذا الموضوع، هو ” الماركسية والبنائية ” 1964.

لقد أثار هذا الكتاب مجموعة من المسائل التي قد لا يلقَى بعضها معارضة شديدة من الماركسية التقليدية، على حين أن البعض الآخر لا يمكن الاعتراف به في الإطار التقليدي للفكر الماركسي، لأنه يتضمن تشكيكاً في مبادئ كانت أساسية عند ماركس نفسه، لا مجرد تفسير جديد لأفكار كانت موجودة عنده بالفعل. ومن أمثلة النوع الأول، أعني ذلك الذي يمكن أن يكون مقبولاً في إطار الماركسية التقليدية، القول بوجود عناصر بنائية في صميم فلسفة ماركس. أما النوع الثاني فيتمثل في رفض الصورة المألوفة للعلاقة بين البناء التحتي infrastructure  وخاصة الاقتصاد، وبين البناء الأعلى Superstructure وهو رفض يصل إلى حد تغيير ركن أساسي من أركان الماركسية. وسوف نعرض لكل من هذين النوعين على حدة.

في حقيقة الأمر، تربط الماركسية بين الأسس التي يرتكز عليها سلوك أفراد أو جماعات معينة، وبين عناصر معينة في إيديولوجية هؤلاء الأفراد أو الجماعات، على نحو ينطوي على القول بوجود تشابه بين الطرفين. فمثلاً تُفسر الماركسية النمط الخاص للعلاقة بين الله والإنسان في العصور الوسطى (وهو نمط ينتمي إلى مجال الإيديولوجيا) بأنه انعكاس للعلاقة بين الإقطاعي ورقيق الأرض في هذه العصور (وهي علاقة تنتمي إلى البناء التحتي). وتُفسر سيادة الفكر النظري المحض على البحث في العلوم التطبيقية، في المجتمع اليوناني (وهو موضوع ينتمي إلى إيديولوجية ذلك المجتمع) بأنها ترجمة لعلاقة السيد بالعبد في مجتمع يسوده الرق (وهو تفسير ينتمي إلى البناء التحتي). وتُفسر عقيدة الجبر المطلق Predestination  كما قال بها كالفان Calvin في عصر النهضة الأوروبية، بأنها تعبير عن إحساس الإنسان في بداية العصر الرأسمالي بوجود قوى مجهولة تتحكم في مصيره، هي قوى السوق وقوانينه، وتفرض نفسها عليه دون أن يستطيع السيطرة عليها. في كل هذه الحالات تُفسر الماركسية عنصراً معيناً من عناصر الإيديولوجية في مجتمع معين، بعلاقات إنتاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي. ولكي يكون هذا التفسير ممكناً ومقبولاً، فلابد من وجود (بناء) مشترك يجمع بين المجالين المتباينين، المجال الإيديولوجي (وهو في هذه الحالة فلسفي أو ديني) والمجال الاجتماعي الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، فكما أن العلاقة بين الإقطاعي وتابعه في العصور الوسطى هي علاقة رأسية بين طرفين يعلو أحدهما على الآخر علواً هائلاً، فإن هذا النمط أو (البناء) ينعكس هو ذاته على تصور هذه العصور للعلاقة بين الله والإنسان. وقل مثل هذا عن سائر التفسيرات الماركسية لمختلف عناصر الإيديولوجية، كالفكر الفلسفي، والفن، والأدب.

ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه، من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك. فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقى معارضة من الماركسيين المتمسكين، لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.

على أن هذا الطرح، حسب سيباج، لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية. فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى، أي الأساس، وبين البناء الأعلى، أي الإيديولوجية، على مستوى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو إيديولوجية. فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فردٍ معين، أو جماعة معينة، وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحو أعم، وأكثر تجريداً، بين (أنماط) معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج، أو من الواقع الاجتماعي. ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشد تعمقاً مما يحتاج إليه الربط على المستوى الأول. وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معاً، فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه. فهو لا يلجأ إلا نادراً إلى الكلام عن تأثير عامل معين يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهة معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل، كالاقتصاد الرأسمالي، في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط، أي إنه يستهدف دائمًا بحث ” كليات شاملة totalities ” وتؤثر كل منها في الأخرى، وتكشف عن (بناء) مشترك. ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى (علماً) بالمعنى الصحيح، لأن موضوعه بناءات كلية.

يستخلص سيباج من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجةً تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية. فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه (سبباً) للعناصر الأخرى، فالعامل الاقتصادي، وفقاً للنظرة البنائية، هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء، وليس هو أساس البناء بأكمله، ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنباً إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة، على أنها كلها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذ يمكننا الوصول إلى مقارنات متوازيات بين كل عنصر والآخر ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر – كالعنصر الاقتصادي مثلًا – أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.

وإذا كانت وحدة العناصر وتفاعلها المتبادل في البناء تمنَع من معاملة أحدِ هذه العناصر (كالعنصر الاقتصادي) معاملة مميزة، بوصفه أصلًا للباقين، فإن هناك أسباباً أخرى تؤدي في نظر سيباج إلى هذه النتيجة نفسها. ومن أهم هذه الأسباب، أن العامل الاقتصادي لا يمكن أن يكون عاملاً مادياً بحتاً، في مقابل نتيجة فكرية أو عقلية هي الإيديولوجية بصورها المختلفة. وينتقد سيباج التصوير التقليدي عند بعض الماركسيين، الذي يعالجون العامل الاقتصادي كما لو كان مادة خاماً، تختلف في طبيعتها عن العوامل الأخرى التي هي ” معلولات ” لها. والواقع أن العقل الإنساني، الذي يتدخل في كل هذه العوامل، يُزيل الفوارق النوعية بينها عن طريق تدخله هذا. فالأساس الاقتصادي لا يكتسب كيانه ووجوده إلا من تلك الدلالة التي يُضفيها عليه العقل الإنساني، بحيث إن التضاد بين الواقع الاقتصادي والناتج الإيديولوجي المرتكز عليه ليس تضاداً بين حقيقتين بينهما اختلاف أساسي في الطبيعة، وإنما هو تضاد يقع (داخل) الإطار العقلي والعلمي ذاته. ومن هذا الإطار العقلي يكتسب الطرفان معاً دلالتهما. وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لدراسة العلاقة بين الاقتصاد والإيديولوجية، في نظر سيباج، هي البحث في العلاقة المتبادلة بين الطرفين. أما فكرة وجود بداية مطلقة، أو سببية نهائية، يكون فيها أحد الطرفين منتجًا للآخر وأصلاً له، فإنه يرفضها بوصفها فكرة مستحيلة.

وهناك سبب أخير يؤدي إلى إنكار فكرة السببية المطلقة بين الواقع الاقتصادي والإيديولوجيا، هو أن الناتج الإيديولوجي، من فكر أو فن أو دين، لا يكفي لتفسيره أن نُرجعه إلى أصله، لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه، ويكتسب خلال تطوره دلالة خاصة مستقلة عن الأصل الذي نشأ منه.

ويعبّر سيباج عن هذه الفكرة بقوله: ” إن القول بأن نظامًا فكرياً معيناً يتولد عن ممارسة اجتماعية معينة لا يكفي لتفسير طبيعة هذا النظام، إذ إن ما نعبر عنه على المستوى الرمزي يتجاوز دائماً ذلك الواقع الذي اتخذ منه نقطة بدايته ” وهو يستشهد في هذا الصدد برأي لبياجيه Piaget يقول فيه: ” إن تولد البناءات من أصل اجتماعي لا يفسر وظائفها اللاحقة، لأن هذه البناءات حين تندمج في تركيبات كلية جديدة، يمكن أن تتغير دلالتها. وبعبارة أخرى: فإذا كان بناء تصور معين يتوقف على تاريخه السابق، فإن قيمته تتوقف على موقعه الوظيفي في الكل الذي يكون هذا التصور جزءًا منه في لحظة معينة “.

وهكذا يدافع سيباج عن تلك القدرة الخلاقة التي يتسم بها العقل الإنساني، والتي تجعل لنواتج هذا العقل استقلالاً ذاتياً بالقياس إلى الواقع الاجتماعي الذي أنتجها. ويترتب على ذلك أن النسق البنائي الواحد الذي يكونه هذا العقل يستطيع أن يعبر عن أكثر من واقع أساسي واحد، كما أن الواقع الواحد يمكن أن يولد أنساقاً متباينة. ولهذا الرأي نتيجتان هامتان، تؤلفان تعديلاً أساسياً على النظرية الماركسية التقليدية: الأولى: هي إنكار وجود علاقة مباشرة بين الأساس الاقتصادي والاجتماعي الواحد، والنسق الفكري الذي يُقال إنه يرتكز عليه، فالسببية هنا ليست خطية تجمع بين طرفين، بل هي متشعبة يمكن أن تسير في شتى الاتجاهات.أما النتيجة الثانية: فتذهب إلى مدًى أبعد، إذ تنكر تلك القسمة الثنائية التقليدية بين بناء أدنى وبناء أعلى، أو بين أسس الواقع الاقتصادي الاجتماعي والبناءات التي تُشيد عليه في ميادين الفكر والدين والفن … إلخ. فليس ثمة أولوية للأسس الاقتصادية الاجتماعية، وإنما يكشف لنا التاريخ عن سلسلة دائمة من التفاعلات المتبادلة، التي تتحول فيها الأسباب إلى نتائج، والنتائج إلى أسباب. ولو رجعنا إلى ما يحدث بالفعل في عالم الواقع؛ لوجدنا أن الناس حين يسلكون، يجمعون في مركب واحد بين مستويات كثيرة لا يمكن الفصل بينها إلا بعملية فيها قدر من العمق، ولذلك فإن هذه العملية المزعومة للعنصر الاقتصادي تعزل شطراً واحداً من كل لا ينطوي إلا على علاقات متبادلة.

وهكذا يذهب سيباج، في تحليله البنائي للماركسية، إلى مدى بعيد في الخروج عن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية التقليدية. وليس أدل على ذلك من أنه يرفض النقد الذي وجهه ماركس إلى هيجل، على أساس أنه قلب الأوضاع رأساً على عقب، وجعل من الواقع الاقتصادي الاجتماعي مجرد ناتج مترتب على (الفكرة) الدينية أو الميتافيزيقية أو المنطقية. على حين يريد ماركس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف الديالكتيك (على قدميه)، بعد أن كان واقفاً (على رأسه). هذا النقد يرفضه سيباج، لأن قلب الأوضاع هذا يمكن أن يحدث بالفعل، ولأنه سمة أساسية من سمات العملية الرمزية التي ينفرد بها الإنسان، والتي تجعل للنواتج الرمزية، من فكر ولغة وعقيدة، استقلالاً ذاتياً عن الأصل الذي نشأت منه، وقدرةً على التأثير في الواقع ذاته، وتغيير الأسس الاقتصادية الاجتماعية. فنحن ها هنا في مجال لا يمكن التمييز فيه بين ما هو (أصل) وما هو (نتيجة). وتلك كلها آراء تعدها الماركسية التقليدية تحريفات غير مشروعة، لأنها لا تتعلق بالاجتهادات في تفسير النظرية، بل بالأسس التي ترتكز عليها.

المراجع المعتمدة:

1. Lucien Sebag: Marxisme Et Structuralisme, Payot, Paris, January 1, 1964.

2. فؤاد زكريا: الجذور الفلسفية للبنائية، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2022.

3. فؤاد زكريا: آفاق الفلسفة، المركز الثقافي العربي ودار التنوير، بيروت، ط1، 1988.

4. إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة في النظريات الاجتماعية المعاصرة، دار وائل، عمان، ط3، 2015.

5. إيان كريب: النظرية الاجتماعية – من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 244، أبريل 1999.

د. حسام الدين فياض


* لوسيان سيباج (1933 تونس – 1965 باريس) كان عالم أنثروبولوجيا ماركسياً فرنسياً، وهو تلميذ كلود ليفي شتراوس. باحث في المركز الوطني للبحث العلمي، اشتهر بمحاولته التوفيق بين البنيوية والماركسية في كتاب بعنوان: الماركسية والبنيوية (1964). ذو مزاج انتحاري، تبعه المحلل النفسي جاك لاكان. وفي عام 1965 انتحر بعد أن وقع في حب جوديث ابنة لاكان.
________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

جديدنا