هابرماس: النظرية القانونية ومشكلات الامتثال، الأخلاق، والخطاب

image_pdf

نستكشف هنا الطريقة التي يؤسس بها  يورغن هابرماس في كتابه “بين الوقائع والمعايير” العلاقة بين القانون (أو الإجراءات التشريعية للقانون) ومفهوم مثالي للخطاب العملي العقلاني. يوضح الجزء الأول من هذا البحث المشكلة التي تنشأ إذا قام أحدهم بإخضاع القانون لمثالية العقل العملي؛ وسأحاجج هنا بأن خضوع القانون للأخلاق هو جزء من مشكلة أكبر لا يمكن الأفلات منها بمجرد تحليل القانون بواسطة التبرير الخطابي بشكل عام. يتابع الجزء الثاني مسألة ما إذا كانت نظرية هابرماس القانونية تفلت من هذه الصعوبة من خلال تفسيره للمأسسة الديمقراطية للخطاب وعلاقته بالشكل القانوني كنظام للحقوق. ويتناول القسم الثالث مسألة الخضوع أو الأمتثال في تفسير هابرماس للحقوق ويختم بتناول صنع القرار الشرعي  بوصفه لا يقتصر على الخطاب فحسب بل يشمل ايضًا شكلاً من أشكال العدالة الإجرائية التي يميل تحليل هابرماس للخطاب النظري إلى إهمالها.

I

يمكن للمرء أن يتعامل مع المشكلة من خلال طرح السؤال ابتداءً: كيف يرتبط القانون بالأخلاق؟ حاجج هابرماس في كتابه، (بين الوقائع والمعايير)،[1] بأن شرعية القانون نشأت عن الطريقة التي تتداخل فيها العقلانية الأخلاقية العملية مع و\الإجراءات القانونية المؤسسية.[2] فُسر هذا الجانب الأخلاقي من القانون بمصطلحات إجرائية، فيتحدث هابرماس عن القانون بوصفه يتضمن نوعين من العقلانية الإجرائية، أحدهما أخلاقي-عملي وآخر تشريعي. وجدت العقلانية الإجرائية الملائمة  للأخلاق تعبيرها الكامل في مفهوم الحياد الذي يُعبر عنه بمبدأ التعميم: فلكي يكون معيار العمل صحيحًا أخلاقيًا، يجب أن يكون قادرًا على كسب موافقة جميع الخاضعين له بعد أن يأخذوا في الاعتبار التأثيرات المختلفة التي قد تحدثها مراعاة المعيار أو القاعدة العامة على مصالح واحتياجات كل شخص. تُعرف الصلاحية الأخلاقية، إذن، من خلال إجراء مثالي لمنظور يأخذ فيه كل شخص متأثر بالمشكلة أو الصراع الحل المعياري المقترح من وجهة نظر كل شخص آخر متأثر أو متضرر.[3] وبطبيعة الحال نادراً ما يتم التوصل إلى حل حقيقي للصراعات في مثل هذا الاتفاق العقلاني المثالي بالإجماع على قاعدة.  ومن هنا  جاءت الحاجة إلى النصف الآخر من معادلة هابرماس وهي “التداخل”، أيً الإجراءات القانونية التي تضمن نتائج واضحة ضمن أطر زمنية محدودة”.[4] ونظرًا لصعوبة الوصول إلى توافق عقلاني في مواقف الصراع، فإن الإجراءات القانونية المحددة للتوصل إلى قرارات واضحة لا لبس فيها تصبح مكملاً ضروريًا للخطاب الأخلاقي. قد تغري بعض صيغ هابرماس المرء باتخاذ خطوة أخرى وإخضاع القانون ضمنًا للأخلاق- بغض النظر عن استعارة المساواة للإجراءات “المتداخلة”. وهذا يعني أنه يمكن إغراء المرء بسهولة لرؤية النتائج القانونية على أنها مشروعة بقدر ما يقترب الإجراء القانوني المؤسسي من سمات المنظور العام الشامل المتضمن في الإجراء الأخلاقي المثالي.[5] لا شك أن هابرماس قد أقر في صيغ أخرى بتعقيد الشرعية القانونية: فلاتمثل الإجراءات المثالية للحجج الأخلاقية سوى جزءًا من الشرعية.[6] ومع ذلك، فإن الإغراء مفيد، لأنه يُظهر مدى سهولة انزلاق استعارة التداخل إلى شكل من التبعية يحمل آثارًا قوية من”الإرث الأفلاطوني” الذي اكتشفه هابرماس في تحليل كانط للقانون، أيً، أن يقيس صلاحية القانون مقابل المعايير التي يقدمها عالم مثالي، كما نجدها عند كانط كقضية أخلاقية.[7]

ما الخطأ في إضفاء الطابع الأخلاقي على القانون بالطريقة التي قام بها كانط؟  تكمن الصعوبة  الرئيسة لهذه النظرة في تبسيطيتها. لا ينصف إخضاع القانون للأخلاق تعقيد الاعتبارات والحجج التي تتعلق بشرعية القانون الحديث.  يجب أن تكون القرارات القانونية المشروعة، في أعقاب عمليات المفاضلة والتمايز الناتجة عن التبرير المجتمعي الحديث، متوافقة ليس فقط مع الاعتبارات الأخلاقية؛ ولكن عليها الاهتمام أيضًا بالمسائل التقنية الذرائعية أو العملية الممكنة حول اختيار الوسائل والاستراتيجيات الفعالة للتعامل مع مشكلة معينة؛ ويجب أن تكون مقبولة في ضوء فهم المجتمع، وهو ما يسميه هابرماس قضية “أخلاقية – سياسية”؛ ويجب أن تكون منصفة بين كل عناصر التسوية للمصالح الخاصة المتنافسة. [8] إن أيُ  تفسير للشرعية لا يعكس هذا التعقيد هو أمر مشكوك فيه من وجهة النظر المعيارية والاجتماعية. علاوة على ذلك، إنه لن يؤدي إلا إلى زيادة الصعوبات في تفسير الشرعية بطريقة تنصف كل من الاستقلال الذاتي الخاص والسيادة العامة، إلى الحريات السلبية للفرد، والقدرة الجماعية للنظام السياسي على تنظيم نفسه وحكم نفسه بالقوانين.[9]

يُعرِّف هابرماس علاقة القانون والأخلاق، في كتابه بين ( الوقائع والمعايير)، بطريقة تحاول تجنب مثل هذا الخضوع أو التبعية. يمكن وصف الخطوة الرئيسة على النحو التالي: يؤسس كلا الإجراءين المتداخلين للأخلاق والقانون عقلانية أكثر تجريدية وحيادية يعبر عنها  “مبدأ الخطاب”، ” أخلاق الخطاب”.[10] فقد قدم هابرماس بداية هذا باعتباره المبدأ الرئيس لنظريته الأخلاقية. ثم أعاد لاحقا تصنيف أخلاق الخطاب بحيث يتجاوز القانون والأخلاق بطريقة لا تضر بأي منهما.  ياخذ الخطاب في سياق تكوين الحكم الأخلاقي شكل أكثر تحديدًا مع مبدأ التعميم الذي  نوقش أعلاه؛ حيث يفترض شكل “المبدأ الديمقراطي” كنظام للحقوق الأساسية في سياق أنظمة الفعل المؤسسية للقانون. يبدو الطريق مفتوح الآن للتعامل مع الطابع الخاص للعقلانية والشرعية القانونية التي تنطوي على أكثر من تقليد للمثالية الأخلاقية. 

تسمح إعادة تموضع الخطاب لهابرماس بتحديد موقع الصلاحية القانونية فيما يتعلق بالنطاق الكامل للعقلانية الخطابية وعمليات التسوية. أي أن التعقيد الكامل للشرعية يمكن أن يظهر بشكل أوضح مما كانت عليه في الصوًغ السابق التي قدمه هابرماس. تعتمد شرعية القانون، كما تم التعبير عنه في المبدأ الديمقراطي، على الإجراءات القانونية التي تضفي الطابع المؤسسي، ليس فقط على منطق المحاججة المقابل للتعميم الأخلاقي، ولكن أيضًا على منطق المحاججة المقابل للاختيار البراغماتي التقني للوسائل والاستراتيجيات، والقرارات الأخلاقية السياسية حول السياسات والأهداف، والتسويات بين المصالح الخاصة.[11] 

ومع ذلك ، إذا كانت إعادة تموضع الخطاب تعني ببساطة ربط الشرعية القانونية بمجموعة أكثر تعقيدًا من المثالية الخطابية، فستظل مشكلة أخرى مرتبطة بدافع الخضوع قائمة. يأتي حل هذه المشكلة من صوًغ هابرماس للخطاب الأخلاقي: أن تلك المعايير العملية هي فقط التي يمكن أن يتفق عليها جميع الأشخاص المتأثرين الذين يحتمل مشاركتهم في الخطابات العقلانية.[12] يحتوي مبدأ التبرير العقلاني العام هذا على اثنين من النماذج المثالية على الأقل. الأول هو وجوب موافقة جميع الأطراف المتأثرة بالقرار  قبل اعتباره صحيحا  ساري المفعول. والثاني، يجب أن يأتي مثل هذا الاتفاق على أساس الحجة الأفضل، أي من خلال المشاركة في الخطابات العقلانية.[13] وان يضع المرء في اعتباره هنا الأنواع المختلفة من القرارات والخطابات. تتطلب القضايا الأخلاقية، على سبيل المثال، موافقة جميع الأشخاص، بينما تتطلب مسائل السياسة والأهداف الجماعية موافقة جماعة محددة.[14] ومع ذلك يهدف منطق المحاججة في كلتا الحالتين، إلى اتفاق كامل في دائرة  المخاطبين المرسل لهم. المشكلة هنا هي: أن فكرة الإجماع العقلاني تذهب الى نصف الطريق فقط في تفسير شرعية الإجراءات القانونية. وماتزال هذه الفكرة مجردة إلى حد كبير من التعقيد المؤسسي على وجه التحديد لعملية صنع القرار القانوني والسياسي: لا تخبرنا المثالية الخطابية الكثير عن مكان وضع الحدود المؤسسية اللازمة للتوصل إلى قرارات واضحة في ظل قيود زمنية أكثر من الإجراء الأخلاقي المثالي. إن العقلانية الإجرائية المثالية،كما قال بيرنهارد، غير محددة لتعريف مؤسسات صنع القرار المناسبة لقيود للمكان والزمان، والقيود التي تحرمنا من الراحة في مناقشة قضية متنازع عليها حتى يتحقق الإجماع التام.[15]

تبدو المثالية الخطابية مفيدة لإخبارنا لماذا يعتبر المشاركون في نتيجة معينة أكثر أو أقل شرعية- على سبيل المثال، ولماذا يعتبرون القرار الذي أُتخذ على أساس مناقشة طويلة ومفتوحة نسبيًا وإصداره بأغلبية ثلاثة أرباع أكثر شرعية من القرار الذي بالكاد يمر بعد مداولات متسرعة. لكن لا يمكن للمرء أن ينتقل مباشرة من الإجراء الخطابي المثالي إلى الوصفات والتعليمات الملموسة لإجراءات صنع القرار المؤسسية. لا يمكن للمرء أن يستنتج من هذا المثال أن المطلب المؤسسي لأغلبية ثلاثة أرباع هو أكثر عقلانية وبالتالي يولد شرعية أكبر- من شرط الأغلبية البسيطة. [16] المشكلة هي أن الإجراءات القانونية لا تخلق مساحة للخطاب فقط؛ لكنها تحد من فرض قيود على المتطلبات الخطابية الصعبة على الصلاحية  الشرعية. ألا يمكن أن يكشف هذا الأختصار أو التقييد الخاص بعملية صنع القرار القانوني عن مزيد من شروط الشرعية غير تلك التي تعبر عنها أفكار الخطاب العقلاني؟  إذا كان الأمر كذلك، فإن فكرة التبرير المحايد، حتى في شكلها الأكثر تعقيدًا، تفسر جزئياً فقط الشرعية المحددة للمؤسسات الديمقراطية وأشكالها صنع القرار فيها. وهنا يكمن المغزى الأعمق لمبدأ هابرماس الديمقراطي، والذي سأتناوله بمزيد من التفصيل في القسم التالي.

II

يكمن جزء من الصعوبة في النقاش أعلاه في طبيعة المثالية نفسها. إنها ليست، حتى من حيث المبدأ، وصفًا  قابلة للتحقًيق تجريبيًا لحالة إجماع محتملة، بل هي افتراض على المشاركين في الخطاب تقديمها إذا أرادوا التفكير في أيً إجماع على الأطلاق.[17] قد يكون الحديث عن الإجراءات الديمقراطية بوصفها “تقريب” للإجماع العقلاني مضللاً. ومع ذلك، يبقى هناك جوهرًا صالحًا للأهتمام بشأن الخضوع؛ فيبدو أن الصعوبة الأساسية تكمن في تفسير الشرعية من خلال الإحالة  إلى المثالية الخطابية فقط. إذا كانت هذه تعيًن شرعية إجراء ما وحدها، فإن أي متطلبات مؤسسية تحد من متطلبات الخطاب العقلاني يكون لها دور سلبي يتمثل في تقييد المثل الأعلى أوالنموذج المثالي، فهي تكشف عن عدم قدرتنا على تحقيق خطاب عقلاني بالكامل. إنه من الصعب تجنب نوع من الخضوع في مثل هذا البناء مهما كان دقيقًا. ويثير هذا التساؤول حول ما إذا كان يساهم هذا البعد المؤسسي بشكل إيجابي في الشرعية على وجه التحديد، أي بطريقة لا يمكن تفسيرها بالكامل من ناحية المثالية الخطابية التي تحدد الإجماع العقلاني. إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن نكون قادرين على تحديد مكون للشرعية له علاقة بإضفاء الطابع المؤسسي بطريقة ما على هذا النحو، بطريقة لا يمكن اختزالها في الخطاب. أيً، يجب أن نكون قادرين على التمييز، بالنسبة لإجراءات قانونية  أو سياسية معينة، جانب من الإجراءات لا يزيد من كمية ونوعية الخطاب، ومع ذلك فهو مهم للشرعية. وكما سنرى، فإن ما يسميه هابرماس “الوسيط القانوني” أو “الشكل القانوني” مكافئ تقريبًا لهذا المكون المؤسسي على وجه التحديد.[18]

إنه من المهم أن ينظر هابرماس في ظل هذه الصعوبات إلى المبدأ الديمقراطي بوصفه المصدر المباشر لصنع القرار الشرعي. يفترض هذا المبدأ مسبقًا العقلانية الواردة في الخطاب ويخبرنا كيف نؤسسها بوصفها “رأيًا سياسيًا عقلانيًا وتشكيل للإرادة”.[19] وبالتالي فهي تمثل تعريفًا للشرعية يرتكز على كل من المثالية الخطابية والمتطلبات المحددة لإضفاء الطابع المؤسسي القانوني. فينجم المبدأ الديمقراطي عن الجمع بين مبدأ الخطاب والشكل القانوني، على حد تعبير هابرماس. إنه يعرف المبدأ الديمقراطي على النحو التالي:

يجب أن يرسخ مبدأ الديمقراطية إجراءات سن القانون الشرعي. وأن ينص على أن القوانين التي يمكن ان تدعي الشرعية هي فقط تلك التي تحضى بموافقة جميع المواطنين في عملية تشريع خطابية شُكلت بدورها بطريقة قانونية. بعبارة أخرى، يفسر هذا المبدأ المعنى الأدائي ممارسة حرية إرادة مشرعين يعترفون ببعضهم البعض كأعضاء أحرار ومتساوين.[20]

على الرغم من أن هذا التعريف مازال يشير إلى المثل الأعلى الخطابي للإجماع الكامل، وهي نقطة سأعود إليها، إلا أنه يربط  الشرعية بالاعتراف المتبادل بين أشخاص قانونيين أحرار ومتساوين. ولايمكن أختزال  مساهمة الشكل القانوني حول الشرعية في الخطاب فقط. يجب علينا فحص نظام الحقوق الذي يحدد الموضوع القانوني لنرى كيف يلعب الشكل القانوني دورًا إيجابيًا في شرعية القانون.

لايمكن للمبدأ الديمقراطي أن يتخذ شكلًا مؤسسيًا إلا في نظام حقوق إذا أراد المواطنون أن يكونوا مخاطبين ومشرعين لقانون ينظم حياتهم بشكل شرعي معًا.[21] وبشكل أكثر تحديدًا، تطبيق مبدأ الخطاب على الوسيط القانوني على هذا النحو في مجموعة من الحقوق التي تضمن استقلالية المخاطبين من قبل القانون، في حين أن اشتراط أن يكون المرسل لهم أيضًا مؤلفي القانون يولد حقوق المشاركة السياسية وبالتالي الاستقلالية العامة للمواطنين. [22]  

يشير هذا إلى أنه يمكننا تحديد مساهمة مؤسسية خاصة للشرعية على مستوى الحريات السلبية التي تحدد الأستقلال الذاتي الخاص،  لأنه هنا يجتمع مبدأ الخطاب والوسط القانوني معًا.  تتضمن استقلالية الفرد ثلاثة فئات أو أنواع من الحقوق حسب هابرماس. الأول هي تلك الحريات السلبية التي تضمن مجالات الفعل الفردي المستقل. الثاني تشمل حقوق العضوية في المجتمع السياسي. والثالث حقوق التقاضي القانونية التي تسمح للأفراد بمقاضاة النوعين الأولين من الحقوق. فيجب على الدولة الدستورية، وفقًا لهابرماس، تفسير وتطوير حقوق وقوانين تقع ضمن هذه الفئات الثلاث. ليست الفئات الثلاث نفسها متطابقة مع أي مجموعة محددة من الحقوق الخاصة؛ فهذه الفئات هي أفكار مجردة تتطلب تطويرًا تاريخيًا وسياسيًا. فعلى سبيل الإيضاح يمكن للمرء ملاحظة أن الحق في الكرامة الشخصية، والحياة، والحرية، والنزاهة الجسدية، وما إلى ذلك، تفسر الفئة الأولى. تشتمل فئة حقوق العضوية مختلف القوانين والحقوق التي تحدد وضع الأعضاء في المجتمع القانوني. يشمل تفسير هابرماس هنا المحظورات ضد تسليم المتهمين، وحقوق اللجوء السياسي، وما إلى ذلك. أخيرًا، تجد الفئة الثالثة تعبيرًا عنها في حقوق الإجراءات القانونية الواجبة مثل: حظر العقوبة بأثر رجعي، وما إلى ذلك.[23]

تُعد مثل هذه الحقوق مركزية في القانون الحديث و مكونة للشكل القانوني. وبهذا الأعتبار فهي تحدد مجالات الفعل التي يمكن للأفراد أن يسعوا فيه بثقة إلى تحقيق غاياتهم الخاصة دون تدخل الآخرين ودون الاضطرار إلى تبرير خياراتهم في خطاب.[24] إذن يكون القانون قادرًا من خلال هذه الحقوق الفردية على تأمين مجالات للفعل يتم فيها إعفاء الأشخاص من الحاجة إلى الوصول إلى إجماع أو توافق في الآراء من خلال الخطاب: لا تتطلب التسوية أو التنسيق القائم على القانون سوى الامتثال الخارجي على عكس أشكال التسوية أو التنسيق الاجتماعي التي تتطلب من المشاركين التوصل إلى اتفاق بناءً على رؤية كل منهم. وبهذا المعنى، ليس الحقوق الفردية مجرد وسائل للخطاب ولكن لها وظيفة تتعلق بالشرعية فيما تضمن من مساواة في الحريات الفردية للمواطنين، رغم انهذه المساواة ليست سمة ضرورية للشكل القانوني نفسه. فوفقا لهابرماس، يمكن للمرء من خلال إدخال مبدأ الخطاب فقط أن يثبت أن لكل شخص الحق في حريات متساوية”.[25] لذلك إذا كنا نتطلع إلى مثل هذه الحقوق من أجل الجانب المؤسسي المحدد للشرعية  فلن نجدها بمعزل عن الخطاب – حتى لو كانت الحقوق التي تحدد الاستقلال الذاتي هي نفسها ليست قابلة للاختزال في خطاب ولا مجرد أدوات من أجل خطاب.

حجة هابرماس هنا هي: إذا أريد مأسسة الخطاب، فيجب أن يتخذ الشكل القانوني بنية محددة  قبل بداية أي خطابات سياسية- قانونية. بمعنى، يجب تعريف الأشخاص القانونيين بوصفهم أعضاء أحرار ومتساوون في المجتمع القانوني. لأن الخطاب يفترض مسبقًا أن المشاركين فيه هم أفراد مستقلون، وفقط مدونة قانونية منظمة من حيث الحقوق الفردية  ما يضمن مثل هذا الاستقلالية  والتي يمكن أن تحدد مسبقًا حتى المشاركين المحتملين للخطابات االموجودة بالفعل، حيث يتم تعريف المشاركة من حيث حقوق التصويت، والتمثيل، وما إلى ذلك. وكما يرى هابرماس، ينطوي وضع مجموعة القوانين على هذا النحو على حقوق الحرية التي تولد وضع الأشخاص القانوني وتضمن سلامتهم. وإن هذه الحقوق هي شرط تمكين ضرورية لممارسة الاستقلال السياسي. وبالتالي، فإن محاولة إضفاء الطابع المؤسسي على الخطاب تضع قيودًا على الوسيط القانوني الذي يمكن أن تقوم فيه مثل هذه المؤسسات، وهذه القيود موجودة في الأنواع الثلاثة للحقوق التي تؤسس الاستقلال الذاتي.[26]

ما يهمني هنا ليس كيف يمكن للمرء أن يدافع عن الادعاء بأن الاستقلال الشخصي الخاص هو شرط مسبق ضروري للديمقراطية التداولية.[27] ولكن مهتم في المقام الأول بكيفية فهم هابرماس للمساهمة التي تقدمها حقوق الحرية هذه في إضفاء الشرعية على العملية الديمقراطية. إنه يؤكد، حتى لو لم يستمد الحريات السلبية من المثل الخطابية مباشرة، فأن الخصائص الشرعية لهذه الحقوق تنبع من علاقتها غير المباشرة بالخطاب. وعلى وجه التحديد، تنشئ الحقوق التي الاستقلال الشخصي الخاص لها دور في الشرعية الديمقراطية عندما تكون مرتبطة بالخطاب السياسي فقط. يمكن للأشخاص القانونيين تفسير حقوقهم المدنية وتوضيحها بشكل تلقائي، وبالتالي يصبحون مشرعين للقانون وموجهين له بموجب حقوق المشاركة السياسية فقط، التي تمكّن المواطنين المستقلين من الانخراط في الاستقلال الذاتي الجماعي.[28]

وهذا يعني، باختصار، أن الاستقلال الشخصي الخاص والعام يفترض كل منهما الآخر في تفسير الشرعية.[29] ومن هنا يلعب الشكل القانوني في الشكل المحدد للحرية الفردية المتساوية دورًا إيجابيًا في الشرعية الديمقراطية. ومع ذلك، فإنه يكشف، في اتحاد مبدأ الخطاب والشكل القانوني، أن الأخير هو الذي يتأثر حقًا- أيً أنه مجبر على تبني شكل معين. من ناحية أخرى، يندمج مبدأ الخطاب مع المبدأ الديمقراطي دون تغيير، طالما أن شرط الإجماع يظل كما هو في المبدأ الديمقراطي. قد يبدو هذا غريب الى حد ما، بالنظر إلى أن صنع القرار الديمقراطي يتم تعريفه عادةً من حيث حكم الأغلبية بدلاً من الإجماع. وهكذا يلعب مبدأ الخطاب الدور المهيمن في تفسير الشرعية، مما يشير إلى أن دافع الخضوع مايزال قائمًا في وصف هابرماس للحقوق على الرغم من الدور الإيجابي الذي يلعبه الشكل القانوني. على الرغم من أن هابرماس لا يتبع تفسير كانط الأخلاقي للحريات المتساوية،[30] إلا أنه يفسر الحريات فيما يتعلق بإضفاء الطابع المؤسساتي على خطاب يقيس نجاحه مقابل إجماع مثالي من حيث استمرار الخضوع لهذا المعيار المطلوب في المبدأ الديمقراطي.[31]

لا ينطوي إخضاع القانون للخطاب المثالي على دلالات إشكالية تثقل كاهل نظرية كانط القانونية. لذلك حضورها عند هابرماس مفهوم لأنه يريد التأكيد على ضرورة الخطاب من أجل تشريع شرعي في المقام الأول.[32] إذا كان القانون والسياسة  تتمثل في مؤوسسات صنع القرار أولاً وقبل كل شيء ، فإن المداولات والخطاب يمثلان بُعدًا واحدًا فقط. فإلى جانب الحاجة إلى تحويل مبدأ الخطاب إلى قانون، على المرء أن يطرح قرارات عادلة وملزمة في الخطاب أيضًا. فلا يمكن للمبدأ الديمقراطي، مع شرط الإجماع، أن يخبرنا كيف نقرر القضايا المتنازع عليها. وبالتالي، هناك مستوى من المأسسة لا يصل إليه المبدأ الديمقراطي. وبشكل أكثر تحديدًا، ساشير  في القسم الأخير الى أن اعتبارات الإنصاف المعمول بها على مستوى اتخاذ القرار هذا لا يتم استيعابها بالكامل من خلال نموذج التبرير المحايد.

III

لا أجادل  بخصوص راي هابرماس بأن المؤسسات والإجراءات القانونية تهدف إلى توفير مساحة لعمليات المحاججة التي تخضع لمنطق مثالي خاص بها. فقد يكون هذا التوجه للخطاب هو العامل الأكثر أهمية في شرعية القانون. ويمثل القانون والسياسة أشكالًا من الخطاب المؤسسي إلى هذا الحد. ما أريد أن أصل إليه هنا، هو التعديل او التغيير الطفيف للخطاب في هذه المعادلة “ذات الطابع المؤسسي” على وجه التحديد . يمكن للإجراءات أن تعزز الخطاب إلى حد معين فقط، وبعد ذلك يكون القرار مطلوبًا. السؤال إذن هو ما إذا كان اتخاذ القرار نفسه يمكن أن يكون عادلاً بطرق لم يُعبر عنها في مفاهيم هابرماس للخطاب أو التسوية.

نجد دليلاً على طبيعة عقلانية اتخاذ القرار في إجراءات الصدفة. يمكننا  توضيح ما نقصد بمثال بسيط. لنفترض أن طفلين، صادفًا لوحة على الأرض في وقت واحد تقريبًا، بدأ الجدال بينهما حول من رأى اللوحة أولاً، وبالتالي له حق المطالبة بها. يعتقد كل منهم أن مطالبته باللوحة عادلة ويدافع عن ادعائه، بحيث تظهر القضية كمسألة أخلاقية تنطوي على حجة على الأقل. في حالة عدم تمكن أي من الطرفين من إقناع الآخر، فمن المنطقي أن يتفق الطفلين على إجراء مثل رمي عملة معدنية من أجل تسوية نزاعهم (على افتراض أنهم يريدون الحفاظ على علاقات جيدة). لا يبدو أن إجراء القرار هذا قابل للتفسير في حد ذاته سواء من حيث الخطاب أو الاجابة الصحيحة الواحدة. وبالمثل، ينطوي التوصل إلى توافق في الإجماع في خطاب أخلاقي مبرر على أن الاعتبارات المستقبلية لنفس القضية لن تبطل الإجماع الأول او الموجود اصلا.  على النقيض من ذلك ، فإن رمي العملة- الذي يمكن القول إنه إجراء عادل – لايدعي التوصل  إلى نتيجة  تؤكدها عمليات القذف المستقبلية، كما لو أن القرعة الأولى أنتجت نتيجة “صحيحة” أو “عادلة”. في الوقت نفسه، نحن لا نتعامل مع حل وسط كما حدده هابرماس: فمن ناحية، سيخسر طرف ويفوز آخر؛ من ناحية أخرى، وقد نكتشف بعد رمي العملة مزيدًا من المعلومات- حجج جديدة- تظهر فجأة مما يجعل الأمر واضحا من الذي يستحق اللوحة حقًا. تظل القضية مسألة عدالة من حيث المبدأ.[33]

لا أقصد مساواة الإجراءات القانونية بإلقاء العملات المعدنية، على الرغم من أن العاب اليانصيب كانت وما زالت مستخدمة في القانون والسياسة.[34] ولكني اخترت هذا المثال فقط لأنه يبرز- بشكل واضح – الاختلاف بين الخطاب وصنع القرار.وهذا يعني أن  إن إجراءات أتخاذ القرار نفسها، التي تبدو عادلة، ليس لها في هذه الحالة سوى الحد الأدنى من العلاقة بمتطلبات الخطاب العقلاني. فمن المسلم به أن إجراءات اتخاذ القرار القانوني السياسي الأخرى مثل حكم الأغلبية أو إجراءات المحكمة تتمتع بعلاقة أوثق مع الخطاب. ومع ذلك، مايزال هناك اختلاف مماثل بين متابعة الخطاب حتى يصل كل مشارك إلى البصيرة نفسها، ووبين الإجراءات المنصوص عليه الذي يدعو إلى التصويت، أو قرارًا قضائيًا موثوقًا بعد أن يكون لكل حزب أو ممثله فرصة متساوية ليعرض قضيته. إن رمي العملة ليس سوى مثال متطرف للنقطة المنصوص عليها حيث يقطع الإجراء الحقيقي المناقشة العقلانية ويتطلب قرارًا.

هناك رد سهل وسريع على الملاحظة أعلاه: لن يكون الإجراء الذي يتم من خلاله التوصل إلى قرار عادلًا إلا إذا كان هو نفسه موضوعًا خاضعا لنوع من الميتا- خطاب الذي يناقش  فيه المشاركون بعقلانية أفضل طريقة للوصول الى قرار في القضية المعنية. وبهذا المعنى، حتى إجراءات الصدفة لها علاقة غير مباشرة بالخطاب، وهي نقطة أثارها هابرماس بالفعل فيما يتعلق بالتنازلات.[35] تنطوي مثل هذه الخطابات الوصفية على اعتبارات معقدة كما يتضح من المناقشات حول كل من إجراءات الأحتمال أو الصدفة وقاعدة الأغلبية. سوف يسأل المشاركون، عند التفكير في احتمالات الفرصة، أنفسهم عما إذا كان رمي عملة معدنية يمكن أن يلحق الضرر بواحد منهم بشكل ثابت على الأقل. من المفترض لن تقبل الأطراف مثل هذا الإجراء إلا إذا أعطت كل منهما فرصة متساوية في الفوز. إذا كان هذا ليس هو الاعتبار الوحيد فإن قرعة العملة المعدنية تنجح في “حماية القيم المهمة المتمثلة في المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص”.[36] لا شك أن الميتا- خطابات حول حكم الأغلبية أو أشكال صنع القرار الموثوق به في نظام حكم مدني أكثر تعقيدًا. وسوف تركز على مدى جودة الشروط الإجرائية في زيادة فرص أن تتمتع النتيجة بافتراض يتزامن مع النتيجة التي سيصل إليها الخطاب العقلاني، مع إعطاء الوقت الكافي. ولكن تشكل الأفكار التي تركز على المساواة في المعاملة والفرص بعضًا من أهم المبررات هنا أيضًا.[37]

إن ما تعنيه “المساواة” هنا هو مسألة معقدة. فتبدو هناك حاجة إلى قول المزيد عن الشرعية أكثر من الرد السريع أعلاه. يفتح الاختلاف بين الخطاب واتخاذ القرار، ودور المساواة في الأخير، الباب أمام تفسير أكثر تعقيدًا للشرعية الديمقراطية ا في ظل ظروف التعددية. وحتى إذا كان ينبغي مناقشة إجراءات اتخاذ القرار في الميتا- خطابات، فبمجرد أن يتم تأسيس إجراء ما بشكل مؤسسي، يمكن أن تعمل سمات المساواة الجوهرية كمعيار مباشر للشرعية إلى جانب سماتها الخطابية. لا يمكنني في المساحة المتبقية إلا أن اقدم بعض الآثار المحتملة لهذا.[38]

لاحظ أولاً أن استخدام الميتا- خطاب لا يلغي الطابع المميز لإجراء القرار نفسه.  يلتزم المشاركون، من خلال الموافقة على استخدام رمي العملة، على سبيل المثال، بإجراء يمكنهم قبوله على أنه عادل من وجهة نظر المساواة، ولكن لا تتوافق نتيجته بالضرورة مع ما يمكن تبريره بشكل محايد في خطاب عقلاني محض بشكل كافٍ. إذا كان يكشف هذا شيئًا عن جميع الإجراءات القانونية والسياسية، فيمكن للمرءالتمييز بين الإنصاف الجوهري لهذه الإجراءات؛ ما إذا كان رمي العملة يمنح كل جانب فرصًا متساوية للفوز، أو ما إذا كان كل مشارك لديه فرصة متساوية لتقديم الحجج ويدلي بصوته بدرجة تقترب من متطلبات الخطاب العقلاني. لا تتطابق نتيجة رمي العملة أو التصويت أو إجراء قضائي حتى لو تم تنظيمها بشكل عادل  بالضرورة مع النتيجة المثالية التي سيصل إليها الخطاب في وقت كافٍ. وطالما أن جميع المتأثرين في وضع متماثل فيما يتعلق بالقرار، فإننا نميل عادةً إلى تسمية الإجراء “عادل” على الرغم من أنه لا يفي بالمتطلبات المعرفية الإلزامية التي حددها المنطق المثالي للمحاججة.[39] 

ينشأ الاختلاف بين الخطاب المحايد وصنع القرار العادل من حقيقة أنه في أي نقطة معينة في معظم الخطابات الواقعية، ليست “الحجة الأفضل”، التي تستحق الموافقة بالإجماع، واضحة. يمكن أن يختلف الأشخاص بشكل معقول، حتى لو، ستثبت إجابة واحدة فقط أنها صحيحة على المدى الطويل. وبالتالي، يكون الحل العقلاني أو العادل لمسألة قانونية أو سياسية غير محدد أو غير مؤكد في أي نقطة زمنية معينة.[40]  يمكن للإجراءات القانونية، في هذه الحالة، أن توفر شيئين على الأقل في الطريق إلى اتخاذ قرار في الوقت المناسب: (1) أنها تفسح المجال لـ “الخطاب”، وبالتالي تزيد من فرص أن تؤثر الحجة الأفضل على الأغلبية أو على السلطة القانونية (اعتمادًا على نوع الإجراء)؛ و(2) تمنح كل طرف في النزاع “فرصة متساوية” للتأثير على النتيجة. ليس تكافؤ الفرص هنا المساواة نفسها بالضبط التي تتطلبها مثالية الخطاب. يفترض الأخير حقًا متساويًا في المشاركة لتكوين قناعة مشتركة، بحيث يمكن لكل فرد أن يوافق بشكل متساوٍ على النتيجة الموضوعية على أساس صحتها من وجهة نظربصيرته الشخصية. ومع ذلك، قد لا يكون، في الخطاب الواقعي، هناك اقتناع مشترك في النهاية، على الرغم من أنه قد يكون هناك تصويت يدلي فيه كل شخص بصوت واحد. يُعرَّف الشكل الأخير من المساواة الذي يحكم اتخاذ القرار المناسب عادةً على أنه “سلطة متساوية على النتائج” (أي فرصة متساوية للتأثير على النتيجة).[41] ومع ذلك، يخضع مفهوم القوة لغموض مرتبط بحالات الطوارئ أو المحتملة المتعلقة بتكوين الجماعة وسياقها.[42] ومن ثم، يجب أن يشير التفصيل المناسب لتكافؤ الفرص في صنع القرار، ليس فقط للتأثير على النتيجة، ولكن إلى فكرة التضامن الشامل المبني على الاحترام المتساوي لكل مواطن أيضًا. إن ما يهم، من هذا المنظور، هو أن تنقل شروط المشاركة في إجراء ما اعترافًا مجتمعيًا بقيمة فردية متساوية.[43]

إذا كان هذا التأكيد على المسار الصحيح، فإن الإجراءات العادلة تُظهر جانبًا فرديًا وإراديًا من القانون. يمكن لهذا الجانب من الإجراءات القانونية أن يفسر جزئياً امتثال الأطراف التي لا تزال تختلف مع العدالة فيما يتعلق بنتيجة جوهرية معينة. وهذا يعني، بما أن الإجراء يعبر عن الاعتراف بالمكانة المتساوية للفرد كمواطن بغض النظر عن مدى حكم الفرد ثاقبًا على قضية معينة، فإن المشاركة في الإجراء يمكن أن تعيد تضامن المجموعة، إلى حد ما على الأقل. وهذا بدوره يمكن أن يعزز الامتثال للنتائج غير المواتية. ويمكن أن يجعل الأحزاب الخاسرة أكثر إحجامًا عن خرق القوانين أو رفض التعاون مع البرامج السياسية القانونية التي تم سنها بشأن معارضتها على الأقل.[44] لا يعني هذا أن النقد والاحتجاج المدني مستحيلان، ولكن فقط للإشارة إلى أن مثل هذه الإجراءات قد ينطوي على تكاليف تضامن بالإضافة إلى تكاليف مواجهة العقوبات القانونية .[45] على أي حال، قد يكون لدى المرء مصدر امتثال أو اذعان يتضمن أكثر من إكراه ومعاقبة ولكنه ليس امتثال بدافع عقلاني  قائم على نظرة ثاقبة للشرعية والصلاحية المعيارية للقانون. 

يخاطر هابرماس في تركيز الشرعية على مبدأ الخطاب حصريًا بإهمال الإنصاف الإجرائي الجوهري في القانون ومساهمته المحتملة في التضامن والامتثال. علاوة على ذلك، إذا كان من الممكن اعتبار مثل هذا الإنصاف عاملاً في الشرعية، فإنه يسمح للشخص بتحديد كيف تتداخل الخطابات المثالية والإجراءات القانونية العادلة بطريقة تجعل كل من العقلانية الخطابية والشكل القانوني يسهمان في شرعية قانون. وبما أن القضايا المطروحة في الخطاب القانوني السياسي لها مكونات أخلاقية براغماتية، فإن مناقشتها تخضع للمتطلبات المثالية لعمليات التفكير العقلاني. ويتم إعداد الخطابات القانونية والسياسية للسماح لمثل هذه الجدل بالحدوث من أجل تعزيز حكم المشاركين على المسألة المطروحة. لكن ليس تشكيل الحكم العقلاني كافيًا: حيث يخضع الى أين وكيف يبني إجراء قانوني معين ويقطع الخطاب في النهاية من أجل قرار محدد لمتطلبات التكافؤ للإجراءات العادلة. إن صنع القرار القانوني السياسي، إلى هذا الحد، موجه للوصول إلى قرارات ملزمة بطريقة تحافظ على التضامن من خلال الاعتراف المتبادل بالقيمة المتساوية للفائزين والخاسرين على حد سواء.

يشير هذا إلى أن التفسير المناسب لشرعية القانون يجب أن يشمل كلتا اللحظتين. لذلك، يجب أن يكون الصوغ المناسب للمبدأ الديمقراطي محايدة للتمييز بين التبرير العقلاني واتخاذ القرار العادل. يعني هذا أن المبدأ الديمقراطي لا يمكن صياغته من حيث الإجماع-؛ أيً، لا يمكن لمبدأ الخطاب أن يكتسب شكلاً مؤسسيًا دون أن يتأثر بشكل أساس. يعكس مبدأ هابرماس الديمقراطي تركيزًا مفرطًا على الخطاب. تثير كيفية تصحيح هذه المشكلة أسئلة أخرى بالطبع لا يمكن التطرق إليها هنا. لكن يشير الجانب التضامني للعدالة الإجرائية إلى أن البداية الجيدة ستشمل المزيد من فحص القانون من وجهة نظر التضامن في عمليات اتخاذ القرار وتماسك المجموعة. إذا كانت الملاحظات الموجزة في هذا التأمل صحيحة، فإن حكم القانون الحديث يفترض مسبقًا شيئًا مثل التضامن العقلاني الذي له جانبين خطابية وأرادية. وبينما لم ينكر هابرماس هذا، فقد طور في المقام الأول الجوانب الخطابية للقانون والسياسة، بل إنه أوضح أهمية وتشعبات الخطاب بدرجة ملحوظة بالفعل. بالنظر إلى التحديات المتزايدة التي تواجه الديمقراطيات التعددية اليوم، فإن مساهمته تستحق متابعة متعددة التخصصات بنسب متساوية.

______________________


[1] Jurgen Habermas, Between Facts and Norms: Contributions to A Discourse Theory of Law and Democracy (William Rehg trans., 1996).

[2]الشرعية ممكنة على أساس الشرعية على الرغم من أن إجراءات إنتاج وتطبيق المعايير القانونية تتم أيضًا بشكل معقول، في الجانب الأخلاقي والعملي والعقلانية الإجرائية. ترجع شرعية الشرعية إلى تشابك نوعين من الإجراءات، وهما الإجراءات القانونية مع عمليات الجدال الأخلاقي التي تخضع لـ. العقلانية الإجرائية الخاصة بهم

Jurgen Habermas, law and Morality, in 8. The Tanner Lectures on Human Values 217, 230(Sterling M. Mc Murrin ed., 1988).

[3] Jurgen Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justifica­tion, in Moral consciousness and Communicative Action 43-115 (Christian Lenhardt & Shierry W. Nicholsen trans., 1990);

وكذلك

 Thomas McCarthy, The Critical Theory of Jurgen Habermas ch.4 (1978).

و:

Willman Right, Insight and Solidarity: A Study in The Discourse Ethics of Jurgen Habermas pt.1 (1994)

[4] Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justifica­tion, in Moral consciousness and Communicative Action, note2, at 230,244,246-57.

[5] يكتب هابرماس، في القانون والأخلاق على سبيل المثال: “يمكن للشرعية أن تنتج شرعية إلى الحد الذي يستجيب فيه النظام القانوني بشكل انعكاسي للحاجة إلى التبرير التي تنبع من إضفاء الطابع الإيجابي على القانون، ويستجيب بطريقة تجعل الخطابات القانونية تنصب على طرق تجعلها سابقة للحجج الأخلاقية”. المصدر السابق، 243-44.

[6]. إن ممارسة السلطة السياسية في شكل قانون وضعي تحتاج إلى تبرير تدين بشرعيتها … – على الأقل جزئيًا – إلى المحتوى الأخلاقي الضمني للروابط الصحيحة للقانون. هابرماس، “االمصدر نفسه  241-42.

[7]  هابرماس المصدر نفسه 1, at 05 – 07.

[8] للحصول على تفسير هابرماس للتمايز الاجتماعي الحديث، انظر هابرماس ، المصدر نفسه: 94-99 ، 105- 07 ؛ ولنقده المعياري للخضوع كتبسيط مخل، انظر: .  22-34.

إن مشكلة إيجاد توازن بين الاستقلال الذاتي  الخاص والعام  تشغل  الفصل الثالث ، ولكن انظر بشكل خاص: 83-84 ، 92-94 ، 104 ، 121-122.

[9]    من أجل حساب هابرماس الاجتماعي عن التمايز الحديث ، انظر المصدر نفسه، 94-99, 105- 07

لنقده المعياري للخضوع باعتباره التبسيط المفرط ، انظر  المصدر نفسه:، 229-34 . حول مشكلة تحقيق التوازن بين الحكم الذاتي الخاص والعام أنظر الفصل الثالث ، لاسيما ص 83-84 ، 92-94104.

[10] Jurgen Habermas, Discourse Ethics: Nots on a Program of Philosophical Justification, in Moral consciousness and Communicative Action.

[11] هابرماس، المصدر نفسه، 108, 155- 56

[12]، هابرماس المصدر  نفسه، 108 -109

[13]  هابرماس، المصدر نفسه، 163-164

[14] هابرماس، المصدر نفسه، 123-124.

[15]  Peters, Bernhard Peters, Rationality, supra note 6, at 246- 50.

[16]للحصول على نظرة عامة على التعقيدات التي تحضر قاعدة الأغلبية ، انظر:  

Robert. A. Dahl, Democracy and Its Criticise 135-52 (198g).

Charles R. Beitz, Political Quality: An Essay in Democratic Theory chs1-4(1989);

Peter Jones, Political Equality and Majority Rule, in The Nature of political Theoey,1983, 155.

[17] Habermas, Jürgen, supra note I, at 323:

 أنظر ايضا:

Habermas, JUSTIFICATION AND APPLICATION: REMARKS ON DISCOURSE: ETHICS 54-57 (Ciaran Cronin trans., 199 3).

[18] أنظر: هابرماس، المصدر نفسه ، 113-18

حول تفسير هابرماس الاجتماعي للشكل القانوني ؛ أنظر أيضا المصدر نفسه. 178 – 79   

ولتجنب مصدر ارتباك محتمل ، لاحظ أن هابرماس أسقط التمييز السابق مكررًا بين “القانون كمؤسسة” و “القانون كوسيط”. انظر: 561  .48.

[19] هابرماس، المصدرنفسه: 110

[20] هابرماس، , المصدر نفسه ،110

[21]. هابرماس, المصدر نفسه:, 110

[22]، هابرماس، المصدر نفسه:,  118

[23]– هابرماسن المصدر نفسه:, 26

[24] هابرماسن المصدر نفسه، 115-19.

[25] هابرماس، المصدر نفسه   ، 123 .

[26] هابرماس، المصدر نفسه، . 128

لاحظ أن هابرماس لم يضع سلطة الدولة في الصورة بعد ؛ على الرغم من أن النظام القانوني لا يمكنه تثبيت نفسه دون دعم سلطة الدولة القسرية.

[27]   : لمزيد من المناقشة أو العلاقة بين الحرية السلبية والعملية الديمقراطية ، انظر

Albrecht Wellmer, Models of Freedom in the Modern World, 21 PHL F. 227 (1989-90).

[28] هابرماس، المصدر نفسه  126-27.

[29] هابرماس، المصدر نفسه، 408 .

[30] هابرماس، المصدر نفسه   ،105-06 .

[31] للحصول على نقد لنماذج الاجماع  بشأن الشرعية أنظر:

Bernard Manin, On Legitimacy and Political deliberation, 15 PoL. THEORY 338 (Elly Stein & Jane Mansbridge trans., 1987).

[32] هابرماسن المصدر نفس 304 .

[33] يميز هابرماس عمليات المفاوضة (التي تهدف إلى التسويات) عن القضايا الآمرة من حيث نوع المصالح المعرضة للخطر: تتضمن الأولى تضارب المصالح الخاصة فقط ، في حين تتضمن الأخيرة مصالح قابلة للتعميم قادرة على إرساء حل يكون معرفيًا صحيحًا. . “يمكن أن تكون الحلول الوسط” عادلة “بقدر ما تستند إلى توازن متساوٍ في السلطة. راجع:

هابرماس، المصدر نفسه, 161- 67.

[34] أنظر:

ELSTER, JON E LSTER, SOMONIC JUDGEMENTS: STUDIES IN THE LIMITATIONS OF RATIONALITY Ch. 3 (1989). supra note 34, at 62- 6 7.

[35]هابرماس، المصدر نفسه, 166-67.

 EISTER, المصدر السابق 34. at 99.

[36] EISTER, المصدر نفسه 34, at 170-71.

[37] Thomas Christiano, Social Choice and Democrats, in The Idea of Democracy 173 (David Copp et al. eds., 1993).

[38] للحصول على لمحات عامة عن القضايا المرتبطة بمختلف مفاهيم المساواة ، انظر ، على سبيل المثال ،

9 EQUAUTY (American Society for Political and Legal Philosophy,). Roland Pennock &John W. Chapman eds., 1967).

[39] هذا التمييز بين العدالة الإجرائية والقرار العادل  موجود في :

BRIAN BARRY, POLITICAL ARGUMENT Ch. 6 (1965).

وكذلك:

David Ingram, The Limits and Possibilities of Discourse Ethics in Democratic Theory, 21 POLITICAL THEORY 294 (1993),

[40] أنظر:

Thomas McCarthy, Legitimacy, and Diversity: Dialectical Reflections on Analytical Distinctions, 17 CARDOZO L. REv. 1o83 (1996) .

[41] BEITZمصدر سابق 16, at 4.

[42] Jones, مصدر سابق 16, at 165-72.

[43] RONALD DWORKIN, TAKING RIGHTS SERIOUSLY 266, 278 (1977).

[44] أنظر:

E, ALLAN LIND & TOM R. TYLER, THE SOCIAL PSYCHOLOGY OF PROCEDURAL JUSTICE  230-40 (1988).

[45]    انظر:

Habermas, Legitimation Crisis, Polity,1988. 

جديدنا