فينومينولوجيا الغيب..  بَداؤها عينُ خفائِها

image_pdf

ما كنَّا لنبتغي نحتًا اصطلاحيًّا مُركَّبًا كـ «فينومينولوجيا الغيب»، إلَّا قَصْدَ المؤالَفة بين شأنين يتراءيان للنَّظر كما لو كانا على طرفَيْ نقيض. ولأنَّ هذا المُركَّب يبدو على غير ما تعوَّدناه في أرض المفاهيم، تغدو المساءلةُ في شأنه جائزةً من ناحيتين: الأولى، في مدى صوابِ مصطلحٍ تَركَّب على مفردتين لكلٍّ منهما فرادتُها المعرفيَّة وخصوصيَّتُها الحضاريَّة، ودلالاتها في الفلسفة والمعارف الإلهيَّة. أمَّا الثانية، فمتعلِّقةٌ بالاستفهام عن ظهور الغيب كإمكانٍ ميتافيزيقيٍّ  يمكن التعرُّف على كيفيَّة ظهوره بالمشاهدةِ العقليَّة. وإذ نتحرَّى ما تستجليه دلالة المصطلح، نرانا بإزاءِ زوجيَّةٍ ضدِّيَّةٍ غالبًا ما يكون الِّلقاء بين طرفيها انفتاحًا على حقيقة مُفارِقة. المقصودُ من هذا، اختبار واستكشاف إمكانِ شهود العقل على ذات الشيء ومظهرهِ بوصفهما أمرًا واحدًا. ولأنَّنا في مُنفسحِ التنظير لظاهريَّات الغيب، فبالإمكان النظر إلى مفارقاتها كحقيقةٍ واحدةٍ مشهودٍ عليها بالعقل. لكنَّ العقل الشاهد هنا، ليس ذاك المحبوس في كهف المفاهيم، وإنَّما الذي جاوز نوازل دنياه، ثمَّ تواصى بالأمر القدسيِّ، حتى أدرك سرَّ الموجودات ذِكْرًا وعينًا. بهذه المنزلة يُشقُّ السبيلُ نحو معرفة البديهيَّات العقليَّة والمشاهدات القلبيَّة، وحالذاكَ لا تعود الظواهر تُشاهَدُ إلّا على نصاب التوحيد والتناغم. على الدُّرْبةِ إيَّاها يتيسَّر فهم المفارقات في ظهورات الغيب، كمِثلِ ما وُصف الفعل الإلهيُّ بأنَّه ظهورٌ من غيب، وغيبٌ في ظهور. بمعنى أنَّ كلًّا من جناحَيْ الفعل الإلهيِّ متضمّنٌ في نظيره، بل هما على واحديَّةٍ موثوقةٍ ترعاها عنايةُ الفاعل وتدبيرُه. من هنا جاء قول العرفاء «اعرفوا الله بالله». وقصدُهم في ما قالوا، هو ما يكون فيه تحصيلُ المعرفة بالله من الأثر العينيِّ لتجلّي أسمائه وصفاته وأفعاله. وما نعنيه بالأثر العينيِّ هو عالم الممكنات الذي لا تحقُّق لوجوده إلَّا بمعيَّة الحقِّ، ما يعني أنَّ موجوديَّةَ الكثرات هي ذاتُ وجود بالاعتبار، ذلك لأنَّها ليست عين الوجود، بل ما له الوجود بأمريَّة الواجد. فالموجودُ الحقيقيُّ يعني – كما يذكر أهل الحكمة – هو ما ذاتُه الوجود أو هو نفسُ الوجود، وما سواه إنَّما يُفهَم وجودُه على سبيل المجاز لا الحقيقة. فالله المتجلِّي في عوالم خلقهِ إنَّما هو ظهورٌ على إنشاءات الوحدة والاختلاف، وعلى وحدة الظاهر والباطن. ولذا قيل إنَّ الحقَّ تعالى ما عُرِفَ عن حقِّ معرفةٍ إلَّا بجمعهِ الأضداد.

I

«الواحديَّةُ البسيطة» كدُرْبةِ استبصار

تتَّخذ «فينومينولوجيا الغيب» سَيْريَّة «جمع الشمل» بين ذات الموجود وصورته التي يظهر فيها. على هذا المتَّخذ، ومن هذا المحلِّ، يصير ممكنًا عقلًا صوغُ المبدأ الذي تُستخرجُ منه نظريَّةٌ معرفيَّةٌ متبصِّرةٌ ترى إلى الشيء في ظهوره بما هو عين حقيقته في خفائه. فالموجودُ الأعيانيُّ – وفقًا لهذا المبدأ- موصولٌ بالأمر الغيبيِّ، ومنه يستمدُّ ماهيَّته وهوّيَّته وظهورَه. وبهذا الوصل ينفتح الأفق أمام شهود العقل على فعل الغيب، عبر تعرُّفٍ صيروريٍّ تغدو معه منزلةُ الإظهار بمصدرها الغيبيِّ، ومنزلةُ الظهور بواقعها المرئيِّ، على نشأةٍ واحدة. أمَّا كمال التعرُّف على المنزلتين، فبوساطةِ وعيٍ أعلى لا يكون فيه إدراكُ ظاهرِ الشيءِ منفصلًا عن إدراك حقيقته الذاتيَّةِ وجوهريَّته. أمَّا التلازم الذاتيُّ بين الشيء وأصله فلا يُفهم بأنَّه ذاك الذي يظهر من تلقاء نفسه بنفسه – على نحو ما زعمت فينومينولوجيا الماهيَّات الصمَّاء – وإنَّما الذي يوجدُ ويظهرُ بفعلٍ وحيانيٍّ يرعاه ويحرِّكه ويعتني به في خفائه واعتلانه. لأجل ذلك، يصير منطقيًّا القولُ أنَّ من شأن العقل المتَّصل بالغيب أن ينشئ حقلًا معرفيًّا يتآزر فيه شهود العقل وشهود القلب ليصبح معه بَداءُ الأشياءِ عينَ خفائها. وفي هذا الحقل بالذات يرتفع التبايُن بين منزلتَيْ الخفاء والظهور، ولا يعود الفصل بينهما إلَّا في ما تقتضيه طبيعةُ الذِّهن البشريِّ من تقسيم يميِّز بين ظهور الشيء وسرِّه المستتر.

في تمظهُرها المنبسط على وحدة المفارقات، تتبدَّى الموجوداتُ كلُّها كمظهرٍ وأثرٍ لأمرِ موجدِها، ولكن على سبيل الاختلاف في الخفاء والجلاء كما يبيَّن مُلَّا صدرا. هذا ما يوجبُهُ منطقُ الواحديَّة البسيطة في جمع الأضداد من دون أن يفارق الضدُّ ضدَّه قيدَ لمحة. بالواحديَّة البسيطة ينبسطُ وعيٌ أعلى يُجاوزُ وهمَ التناقضِ بين استدلالاتِ العقل الأدنى، وكشوفاتِ العقل في أطواره المابعديَّة. ولأنَّ العقل في تمدُّدهِ وترقِّيه قادرٌ على استبطانِ ما وراء  الحسِّ، فإنَّ من شأن ذلك تقويضَ الزَّعمِ بأنَّ سرَيان التعقُّلِ من حقيقةٍ إلى أخرى هو سرَيانٌ زائفٌ منطقيًّا، أو أنَّه يعمل خارج المنطق. بينما الذي يحصل بفعل الامتدادِ العقليِّ هو نشوءُ حقلٍ منطقيٍّ مخصوصٍ لا يكتفي بتوصيف الظواهر وتفسيرها، بل يمضي قُدُمًا إلى وَعْيها وعيًا مطابقًا، ثمَّ إلى الحكم عليها واتِّخاذ موقفٍ حيالها. الحكم والموقف في هذا المقام، خاصّيَّتان جوهريَّتان لم تفلح بهما فينومينولوجيا العقل الأدنى لمَّا قرَّرت وقف الحكم على ذوات الأشياء لجهلها بها. لقد انبرى أهل العقل الأدنى، ومنذ التأسيس اليونانيِّ، إلى تعليق الحكم على الظاهرة لتوكيد الامتناع عن التصديق بأيِّ شيء لا يتعيَّن في المظهر. تلقاءَ ذلك، لن نجد – طبقًا لمنهج الواحديَّة البسيطة – أيَّ تعليقٍ للحكم على ذوات الأشياء في المحراب المعرفيِّ لفينومينولوجيا الغيب. وما ذلك إلَّا لأنَّها بيِّنةٌ وصادقةٌ، وأنَّ البرهان عليها له منطِقُه الخاصُّ، حيث إنَّ الكشوفات الناتجة منه ذاتُ هوّيَّةٍ يقينيَّةٍ انطلاقًا من حجِّيَّتها الذاتيَّة. ورغم ما تنطوي عليه المعرفتان العقليَّة والكشفيَّة من خصائصَ ومميّزاتٍ، فإنَّهما غير قابلتين للانفصال واقعيًّا، بل هما حاضرتان إحداهما في نظيرتها حضورًا متعيِّنًا لا شِيةَ فيه. هذه المعادلة سيكون لها إسهامٌ بيِّنٌ في رفد الوعي التوحيديِّ المؤيَّد بفهمٍ دقيقٍ للعلاقة بين الغيب وظواهر الموجودات. فالذي يعرفه العارف من الواحديَّة البسيطة لفينومينولوجيا الغيب هو النظر إلى الكينونةِ الباديةِ له بوصف كونها أثرًا للتجلّيات الأسمائيَّة والأفعاليَّة والصِّفاتيَّة. كما يعرف في الآن عينه أنَّ إدراك الإسم الأعظم لا يحصل لأحدٍ من العالَمِين، لغاية إحاطته بالأشياء وقيّوميَّته عليها كما تبيِّن الحكمة المتعالية. ولذا، سيعرب عن ذلك بالقول: لا فهم للإسم الأعظم بالكيف، ولا قلب يثبته بالحدِّ، ولا وصف له إلَّا كما وصف نفسه، خلق الأشياء وليس من الأشياء شيءٌ مثله.[(ملَّا صدرا- المظاهر الإلهيَّة- ص 62)]. ولنا أن نؤيِّد ما ذهبنا إليه بما أشار إليه الحكماء الإلهيّون من أنَّ الأحديَّةَ، التي هي «الإسم الأعظم»، تُعدُّ أوَّل وجودٍ ذاتيٍّ ممنوعٍ الاتِّصافُ به لغيره، لأنَّه صرف الذات المجرَّدة عن الصفات. ولذا، كان من أنسب ما يقال عن الله إنَّه ليس كمثْلهِ شيء. فمقام الذات أو«غيب الغيوب» هو شأنٌ لا يُحمل على القول ويتأبَّى على الَّلفظ. ولو تُلفِّظَ عنه بلفظٍ فليس ذلك بصائبٍ حتى لو كان هذا الَّلفظ صادقًا في الَّلحظةِ التي يصدر فيها على لسان الَّلافظ. لهذا السبب، كان الاستفهام عن فعل الله وتجلِّيه بأسمائه الحسنى في عالم الخلق مُغايرًا للسؤال عن ذاته الأحديَّة. فالسؤال عن الذات مظنونٌ به على عقل السائل، ولا يُجهرُ به، لأنَّه استفهام عن غيبٍ مطلقٍ ممتنعٍ أصلًا عن الفهم، وكذلك لأنَّه ليس بعارض، ولا بمحكومٍ إلى زمان ومكان. أمَّا معرفةُ الخالق كإمكانٍ عقليٍّ فحاصلٌ في مقام تجلّيه بأسمائه وأفعاله، لأنَّ معنى الخلق كفعل إلهيٍّ يُدرك بالإظهار، أي بإيجاد المخلوق. أمَّا حقيقة الفعل بما هي ذات الفاعل فأمرها ممتنعٌ لأنَّ حقيقته تعالى عينُ ذاتهِ الصَّمديَّة المنزَّهة عن الظهور. وذاك ما يوضِحهُ مأثورُ القول: «له معنى الرُّبوبيَّة إذ لا مربوب، وله حقيقة الإلهيَّة إذ لا مألوه، وله معنى العالِمِ ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق. ثمَّ إنَّه ليس مذ خلق الخلق استحقَّ معنى الخالق، ولا بإحداث المخلوقات استفاد معنى البارئيَّة». على هذه السَّيريَّة أمكن أن نتبصَّر كيف تجري حقيقة التوحيد في مقام الفعل الإلهيِّ مجرى الكشف عن ستائر الجلال المخزون في سرِّ الأحديَّة من أجل أن تستوي الرحمانيَّةُ على عرش التدبير. أمَّا الأحديَّةُ، وبحكم صَمَديَّتِها الممتنعة عن الاتِّصاف، فإنَّها تغيِّب الصفات، وبالتالي لا يكون منها إلَّا الظاهرُ بها. ولا  تكون الصفة عين الذات إلَّا إذا اتَّصفت بصفاتها بلا تكثُّر ولا اختلاف. أمَّا إذا كانت من صفات الفعل فهي غير الموصوف لاقترانها بالفعل وحدوثها حاصلٌ بحدوث الفعل. ويبقى غيب الغيوب هو الحضورَ الأتمَّ بذاته في ذاته لذاته. ولم يزل بذاته ممتنعًا عمَّا سواه قبل الخلق ومعه وبعده، فلا تجري عليه العبارة، ولا تسري إليه الإشارة. فلا اسم له من تلك الحيثيَّة ولا رسم، حتى تعرَّف في خلقه لخلقه بأن ظهر في الإمكان بالإمكانات وفي الكون بالأكوان، فجعلها معانيَ كونيَّة كلّيَّةً وجزئيَّةً على صفة كينونته في ظهوره بها. ولقد جعلها كذلك حتى يمكن معرفته منها والتوجُّه بها إليه.

في «عالم الإمكان» المعرَّف في الكلام الإلهيِّ بـ(كُن)، أو عالم الأمر والخلق، فإنَّ الموجودات كلَّها تكون موجودةً فيه على وجه الإطلاق، أي أنَّها غير مقيَّدة بهيئة، فلا هي متحيِّزة بمكان ولا متحيِّنة بزمان. ولكون مادَّتها واحدة استحال تمييز أنواعها وأجناسها بعضها عن بعض، بمعنى أنَّها مادَّةٌ غير متعيِّنةٍ ولا متخصِّصة. خلاف الأمر ما هو عليه عالم الوجود المقيّد؛ فالوجودات فيه تكون وجودًا مقيَّدًا بصورة. والوجود المقيّد هو إيَّاه «العالم المرئيُّ» الممتلئ بالصُّوَر، والذي هو كناية عن الشيء الذي يحصل العلم به بعد ظهوره، سواء تعلق هذا الظهور بالجواهر المستترة أم بالأعراض البادية للعيان. وفي الحالين (أي الموجودات الجوهريَّة والعرَضيَّة) تكون ممكنة الوجود، وتحتاج إلى موجِدٍ لها هو الواجب ذاتًا.. ولمَّا كان العالم المرئيُّ عبارة عن الموجودات التي تحتلُّ مرتبةً خاصَّةً في مجموع الوجود، كانت الأجسام والجسمانيَّات كافّة – على تعدُّد أجناسها وأنواعها- عالمًا واحدًا؛ فليس أيُّ نوع من الأنواع، وأيُّ جنس من الأجناس، صاحبَ إحاطةٍ بأنواعه وأجناسه. لذلك؛ كانت موجودات الطبيعة كافَّة في عرض بعضها البعض، لا في طول بعضها البعض. ولأجل ذلك، صنَّف الفلاسفة عوالم الوجود إلى عالم المفارقات (العقول)، وعالم الطبيعة(العالم المرئيّ المادّيّ)، ثمَّ العالم الربوبيَّ الذي هو أعظم عوالم الوجود، ولا يمكن لأيِّ ذرَّة من الوجود الخروج عن إحاطته بها.

II

الظهور الأسمائيُّ.. أو فينومينولوجيا الحدوث الإسميّ

لا نجد في محراب الأسماء الإلهيَّة إلَّا ما له دلالة على الفعل والإنشاء. من أجل ذلك، ما عاد جائزًا في معرض التأصيل لفينومينولوجيا الغيب أن يوصف الفاعلُ المنشئُ إلَّا بما يليق بحضرته المقدَّسة من وصف. ولقد كان علينا أن نسمّيه بما سمَّى ذاته من أسمائه الحسنى. وحين يجري الكلام على أوَّل ظهور للغيب بوصفه البَدء الأول لعالم الإمكان، فإنَّ الاسم المطابقَ الذي نذهب إليه هو اسمُ الله المُبدِئُ حيث ابتدأ المبدأ الأوَّل وأبداه، ما يشير إلى أنَّ المبدأ هو المخلوق الأول للمُبدِئ، بمعنى أنَّه المظهر البَدئيُّ الذي به كان ابتداء ظهور العالم.

 يُعرَّف الاسم في المعارف الإلهيَّة، والمعرفة العرفانيَّة على وجه الخصوص، بأنَّه مظهرٌ مستورٌ بتعيُّناته. أو هو التجلِّي الأوَّل كمظهرٍ للاسم. وقد قيل فيه الكثير: إنَّه عبارة عن الوجود المنبسط والظهور القيّوميِّ للحضرة الإلهيَّة، وإنَّه ظلُّ الفيض الأقدس الأحديّ، أو تجلِّي الاسم الأعظم على وجه الغيبيَّةِ الأحديَّة. أمَّا القول عن الإسم الأعظم بأنَّه عبارة عن الذات مع أحد تجلِّياتها، -أي الذات من حيث عينها- فذلك ما يخالف حقيقة التوحيد، ذلك لأنَّ الذات من حيث كونها ذاتًا، لا تتعيَّن بأيِّ تعيُّنٍ على الإطلاق. وهذا عائدٌ إلى أنَّ التعيُّنات لا تخلو من شائبة التركيب والنقص، والله تعالى عينُ الكمال الأتمِّ، ومنزَّهٌ عن كلِّ أشكال التركيب.

نضيف: أنَّ تعيُّن الأمور- في الحكمة المتعالية- يختلف عن تشخُّصها؛ لأنُّ التعيُّن أمرٌ نسبيٌّ والتشخُّص ليس كذلك؛ بل هو نحو وجودِ الشيء وهُوّيّته. (مُلَّا صدرا، 1981م ، 113:1، 24؛ 11). أمَّا من وجهة نظر داوود القيصريِّ شارحِ «فصوص الحكم» لابن عربي، فالتعيُّن عبارة عن الشيء الذي يكون به امتياز كلِّ شيء عن غيره، وهو الأمر الذي يكون ما به التعيُّن؛ فقد يكون عين الذات، من قبيل تعيُّن واجب الوجود الممتاز بالذات، أو كتعيُّن الأعيان الثابتة في علم الحقِّ، حيث يكون تعيُّنها عين ذاتها؛ لأنَّ الوجود عندما تنضمُّ إليه صفة مميَّزة تجعله عينًا ثابتة في الحضرة العلميَّة.

وإذن، كلُّ ما في عالم الإمكان إنَّما هو صورةُ اسم من أسماء الله، ومظهرُ شأنٍ من شؤونه. فأسماء الله معانٍ معقولة في غيب الوجود الحقّ، بمعنى أنَّ الذات الأحديَّةَ التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، ولو وجدت في العقل أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني، ويصفها بها. والذات الأحديَّةُ مع أحديَّتها وبساطتها هي مصداقٌ لحمل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة. [المعجم في لغة القرآن-  ص 719- محمد واعظ زاده]. ولإيضاح هذه الدقيقة يلفتُ العرفاء إلى أنَّ المعيَّةَ بين ذات الله وأسمائه الحسنى ليست كالمعيَّة بين العرضيِّ والذاتيِّ، أو بين العرض والجوهر، ولا كذلك كمعيَّة الذاتيَّات في الماهيَّات الإمكانيَّة، ذلك لأنَّ الحقَّ ليس ذا ماهيَّة كلّيَّة، بل إنَّ حقيقته ليست إلَّا وجودًا مقدَّسًا بسيطًا صرفًا لا إسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلَّا بصريح العرفان، ولا حدَّ له ولا برهان عليه إلَّا بنور العيان وهو البرهان على كلِّ شيء، والشاهد في كلِّ عين. فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلّيَّة ليست عند التحقيق سوى علاماتٍ دالَّةٍ على الوجودات الإمكانيَّة والتي هي مظاهر أسمائه وصفاته.

 لكن، كيف لمظاهر الغيب أن تُحصَّل المعرفةُ بها وفقًا لنظريَّة الحدوث الإسميّ؟

الحدوثُ الأسميُّ – حسب واضعي نظريَّتهِ – يعني ظهور الغيب لنفسه وللوجود في آن. وهذه واحدةٌ من أدقِّ نظريَّات الحكمة النظريَّة الباحثة في حدوث العالم وقِدَمه. فالماهيَّات وأعيان الموجودات تصبح موجودةً كظهورٍ عينيٍّ في طور الأسماء والصفات. وإذ تتجلَّى الذات الأحديَّةُ المقدَّسةُ في أسمائها سيكون لكلِّ اسم منها مظهرٌ في التعيُّن الواقعيِّ، ويكون مبدأ ومرجع ذاك المظهر هو عينَ الاسم المناسب له.

تبيين الأمر: أنَّ كلَّ موجودٍ من موجودات عالم الكثرة راجعٌ إلى غيب ذاك الاسم؛ الذي هو مصدرُه، وأنَّ مبدأ اختلاف المظاهر يكون باختلاف الظَّاهر وحضرات الأسماء. وعلى هذا النحو، يُعْرَف اللهُ تعالى بمظاهر الأعيان والأسماء والصفات والخلق. وهو يعرف المخلوقات في المواطن والمقامات كافَّة، وأمَّا الإنسان فيعرف الله من خلال الأسماء والصفات، إلَّا أنَّه يستحيل عليه الاطّلاع على حضرة الحقِّ في مقام الهُوّيَّة والأحديَّة. تقول نظريَّة «الحدوث الإسميِّ» أنَّ ماهيَّات وأعيان الموجودات تظهر في مرحلة الأسماء والصِّفات، مع أنَّها لم تكن ظاهرة قبل ذلك. أمَّا ظهورُها بعد أن لم تكن ظاهرةً إنَّما هو ضربٌ من ضروب الحدوث. والمقصود، أنَّ الموجودات لم تكن موجودة في تعيُّن الأحديَّة، – وهي التعيُّن الأوَّل للذَّات والمرتبة المتقدِّمة على الواحديَّة – ثمَّ ظهرت إلى الوجود بعد التعيُّن الثاني في مقام الواحديَّة. ويلفت القائلون بنظريَّة الحدوث الإسميِّ إلى أنَّ الأشياء والماهيَّات ليس لها ظهور في مرتبة الذات، وإنَّما تظهر في التجلّي الأسمائيِّ، وهو ما يُعبِّر عنه العرفاء بـ»الظهور بعد البطون»، ويُطلقون عليه الحدوث. وهو عينه الذي أطلق عليه الفيلسوف العارف هادي السبزواريُّ صفة «الحدوث الاسميّ».[راجع: الوحي الاعتنائيُّ والحدوث الإسميُّ- العدد السادس من مجلَّة»علم المبدأ»).

أمَّا الاستفهام الذي يُسَاق حول حدوث العالم بتجلّيات الأسماء فهو هذا: كيف للغيب بما هو غيبٌ أن يظهر ويتراءى على مراتبَ وظهوراتٍ مختلفة؟

يحيلُ الاستفهام المذكور إلى ضرورةِ تبصُّر معنى التجلّي كأحد أدقِّ الأفاهيمِ الميتافيزيقيَّةِ في التنظير الفينومينولوجيِّ المتعالي. فالتجلِّي بالإسم كتظهيرٍ إلهيٍّ لعالم الموجودات، هو ما بفضلهِ يفسِّرالعرفاء – ومنهم خصوصًا ابن عربي ومُلَّا صدرا – تعدُّد المراتب الوجوديَّة في عين كونها واحدة. وهذه المنزلة من المعرفة الوجوديَّة تختزن رؤية تفارق ما دأبت إجراءات الفلاسفة والمتكلِّمين أمدًا طويلًا حيال فهم الصِّلة الدقيقة بين الله والعالم. تستوي هذه المنزلةُ على مبدأ النظر إلى التجلِّي كمبدأ إلهيٍّ في إيجاد الموجودات. ومن وجهة نظر ميتافيزيقا التجلّي أنَّها تجعل تجلِّي الإسم مُحايثًا للشيء مع تعاليه عليه. وذلك على قاعدة الانفصال لوجوب التنزيه، والاتصال لوجوب الاعتناء والتدبير. فهو متعالٍ من جهة ذاته، مُحايثٌ من جهة أسمائه. فالتجلّي هو حركة الوجود الأزليَّة الأبديَّة التي عنها يظهر الوجود في كلِّ آنٍ في ثوبٍ جديد. وهكذا تتعاقب عليه الصور التي لا تتناهى عددًا من غير أن تزيد فيه، أو تنقص شيئًا من جوهر ذاته، وذلك على مبدأ أنَّ للحقِّ في كلِّ خلق ظهورًا… ولقد تعدَّدت الآراء حول كيفيَّة صدور الكثرة عن الصادر الأوَّل. لكنَّ الرأي الشائع في الحكمة الإسلاميّة ما ذهب إليه الفارابي وابن سينا من أنَّ العالم صدر من الصادر الأوَّل على نحو الترتيب والترتُّب. وظهرت قاعدة «الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد» كإحدى أبرز القضايا الإشكاليَّة في تاريخ الميتافيزيقا والعلوم الإلهيَّة.

بناءً على ما ذُكِر، شاع التساؤلُ عن ماهيَّة وطبيعة وصفة ذلك الواحد الصادر أوَّلًا بإرادة المُبدىء الأعلى في منظومة الحكمة المتعالية أنَّ الصادر الأوَّل هو أول ممكن نشأ منه عالم الإمكان، إلَّا أنَّه لا يحتاج إلى غيره من الممكنات، بل وَجَبَ أن يكون هو وساطة في وجودها، وينحصر احتياجه إلى الواجب نفسه وحسب، ثمَّ ترى إليه على أنَّه الممكن الأشرف، وهو أوَّل ما ينشأ من الوجود الحقّ. ويجمع صدر الدين الشيرازي بين القولين، أي الممكن الأشرف والعقل الأوّل، باعتبار هذا الأخير صادرًا أوَّلَ بالقياس إلى الموجودات المتعيّنة المتباينة المتخالفة الآثار.[ملّا صدرا، الأسفار، ج2، ص 270].

مهما يكُن من أمر، فلو أخذنا بقاعدة «الواحد لا يصدر عنه إلَّا الواحد»، أمكن لنا أن نبتني الفرضيَّة التالية: الخلق الأوَّل باعتباره معادلًا للواحد الذي صدر عن الواحد تعالى، ولكن على نشأة البساطة والتركيب، فكان واحدًا ولاشيء قبله وكثيرًا وكلّ الأشياء فيه ومعه فلا تفارقه أبدًا.

III

«الحقُّ المخلوقُ به»: ظهورٌ وإظهار

يدلُّ الظهور الأول على الذي ظَهَرَ بالكلمة الإلهيَّة(كن). وهذا الظهور هو نفسه المبدأ الذي أبدأَه المبدئُ ومنحه الحقَّانيَّةَ واستودعه سُنَنَه وقوانينه ومقاديره. وكلمة «كُن» التي كان بها «الحقُّ المخلوق به كلُّ شيء»، واستحقَّ بها حقانيَّته، هي حقٌّ لظهورها بالأمر الحقِّ الذي أوجبها فأخرجها إلى الوجود بأمرهِ ووحيِه. والأمر الإلهيُّ إيحاءٌ غيبيٌّ ظهر به المخلوق الأوَّل طائعًا مستجيبًا للكلمة الآمرة. ولأنَّ خاصِّية المخلوق الأول تكمن في إنفاذ الأمر الإلهيِّ بلا مُساءلة أو جدل، فقد سَرَت عليه الحقّانيَّةُ وكان له من «التخليق» نصيبٌ بمقدار ما أعطي من تقديرِ الخالق. وما دام الخلق الأوَّل متَّصلًا بالقول الآمرِ فإنَّ جميع ما يصدر منه حقَّانيٌّ وحقيقيٌّ، إلَّا أنَّه في الآن عينهِ، مجرَّدُ وساطةٍ لقانونِ الخلق. ووفقًا لما قدِّر له، قامت طبيعتهُ التكوينيَّةُ على بُعدٍ مركَّب: فالخالق المخلوق يُنَمْذِجُ وحدةَ الأضداد من أجل ديمومةِ الخلق وتجدُّده. هذا القانون متأصِّلٌ في الوجود منذ الأزل؛ لكن التعرُّف إلى ماهيَّته لا يُحصَّلُ إلَّا بشهود العقل وشهود القلب معًا. وفي تحقُّقِهما يتحقَّقُ وعيٌ فائقٌ ومعرفةٌ فائقةٌ يدعوها ابن عربي بـ «الخيال الخالق». وهذا الأخير خيالٌ شهوديٌّ، والتعرُّف إليه تعرُّفٌ حضوريٌّ لا تشوبُه شائبةٌ ولا يمنعه حجاب. وما ذلك إلَّا لأنَّ كلَّ خيال خلَّاقٍ هو تجلٍّ وتجدُّد للخلق. ولذا، فالخلق في ميتافيزيقا الوعي الفائق، ليس إيجادًا لشيء لا وجود له، أو إبداعًا على غير مثال سابق، فذلك مستحيلٌ عقلًا وفعلًا، ولا هو فعل قام به الحقُّ في زمن مضى دفعة واحدة، ثمَّ فرغ منه، وإنما الخلق ذاتٌ أزليَّةٌ أبديَّةٌ تظهر في كلِّ آن في صور ما لا يُحصى من الموجودات كثرة. فإذا ما اختفت فيه صورةٌ تجلّى في غيرها في الَّلحظة التي تليها. ما يعني أنَّ فعليَّة الخلق هي حركة التجلّي المتجدِّد، والمخلوقات هي تلك الصور المتغيّرةُ الفانيةُ التي لا قوام لها في ذاتها، وإنَّما قوامُها بالحقِّ الذي يوجدها بمقتضى علمه، ويحفظ وجودها على النحو الذي يشاء، بمقتضى قدرته وإرادته. فـ: «إذا قلت القديم ففي المحدث، وإذا قلت الله ففي العالم، واذا أخليت العالم من حفظ الله، لم يكن للعالم وجود، وإذا سرى حفظ الله في العالم بقي العالم موجودًا، فبظهورهِ وتجلّيهِ يكون العالم باقيًا… وهكذا يكون الخلق عند ابن عربي هو عينَ التجلّي؛ يعني بذلك، إخراجَ ما له وجودٌ في حضرةٍ من حضرات الوجود إلى حضرةٍ أخرى، أي إخراجَه من الوجود في العلم الإلهيِّ إلى الوجودِ في العالم الخارجيِّ، أو هو إظهار الشيء في صورةٍ غير الصورة التي كان عليها من قبل. بيانُ الأمر أنَّ العالم من حيث بطونه في العلم الإلهيِّ، هو حقيقةٌ أزليَّةٌ دائمةٌ لا تفنى، ولا تتبدَّل، ولا تتغيَّر إلَّا من حيث صورها، أمَّا حقيقةُ ذاتها وجوهرها فلا تخضع للكون والفساد، وإنَّما تخضع لهما صورها المتكثِّرة، ومظاهرها المتعدِّدة. ذلك هو أفهوم الخلق في تنظير ابن عربي: تجلٍّ إلهيٌّ دائمٌ في ما لا يحصى عددُه من صور الموجودات، وتغيُّرٌ دائمٌ في ما لا يُحصى من صور الموجودات، وتحوُّلٌ مستمرٌّ في الصور في كلِّ آن، وهو ما يطلق عليه اسم (الخلق الجديد). فالله هو الوجود المطلق، وكلُّ موجودٍ من الموجودات صورةٌ من صورِهِ، والصورةُ إن أُخِذت في جزئيَّتها ليست هـي الله فـي إطلاقـه، إنَّمـا هـي مجلـى مـن مجاليــه. .[أبو العلا عفيفي- التعليقات على فصوص الحكم – الجزء الثاني- مصدر سبق ذكره – ص 213.]

يلامس العارف ذو الوعي الفائق – ومن خلال معراجهِ المعرفيِّ واختباراته المعنويَّة – سرَّ الوجودِ في ذاته. وبهذه الملامسةِ التي يقترن فيها الذوقُ اللطيفُ بالعقل الشاهد، يذوي الجدل الذي شهده تاريخ الفلسفة ودار حول معضلة فهم التعارض بين خلق العالم من العدم أو خلقه من شيء كان قبله. فهذا تعارضٌ تنحجبُ بسببه معرفةُ الخاصّيَّةِ المعرفيَّةِ الفريدةِ التي ابتكرها ابن عربي حيال التعرُّف على ماهيَّةِ الموجود الأوَّل وأطلق عليه مسمَّى «الحقُّ المخلوق به». ولأنَّه بهذه الصفة، فهو مخلوقٌ متفرِّدٌ بذاته، فاعلٌ بالخلق من جهة الواقع، منفعلٌ بالحقِّ الأعلى من جهة الغيب. وهو لذلك حظي بمنزلة الخلق الأوَّل المتجلِّي بالكلمة الإلهيَّة البدئيَّة «كُن». فهذه الكلمة يمثِّلها ابن عربي بـ «النفس الإلهيّ»، وهي تعني الانبلاج كما ينبلج الفجر. بهذا يغدو الخلقُ أساسَ كشف الذات الإلهيَّة لنفسها، ولذا، فلا مجال هنا للخلق من عدم لئلَّا تنشأ هوَّةٌ لا يمكن لأيِّ فكرٍ عقلانيٍّ أن يمدَّ فوقها جسرًا، لأنَّ تلك الهوَّةَ نفسَها وبطابعها التمييزيِّ قائمةٌ على المعارضة والإبعاد بين الأشياء. فالتنفُّسُ الإلهيُّ يُخرِجُ – ما يمسيه ابن عربي- نَفَسًا رحمانيًّا، وهذا النَفَسُ هو الذي يمنح الوجود والحياة لكلِّ الأجسام «الَّلطيفة» التي تشكِّل الوجود الأوليَّ والتي تحمل اسم العماء.. إلى هذا الأمر يشيرُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ هنري كوربان بذكره الحديث المنسوبَ إلى النبيِّ(ص) لمَّا سُئل أين كان ربُّنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجاب: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء. يرى كوربان أنَّ هذا العماء الذي يصدر عنه والذي فيه يوجد أزلًا الكيانُ الإلهيُّ، هو نفسه الذي يقوم في الآن ذاته بتلقّي الأشكال كلِّها، ويمنح للمخلوقات أشكالَها: إنَّه نشطٌ وسكونيٌّ، متلقٍّ ومحقِّقٌ، وبه يتمُّ التمييز داخل حقيقة الوجود باعتبارها الحقَّ في ذاته. إنَّه من حيث هو كذلك الخيال المطلق واللَّامشروط. وعمليَّة التجلّي الإلهيِّ الأصليَّةُ التي من خلالها «يظهر» الوجود لنفسه بالتميُّز في وجوده الخفيِّ، أي بإظهاره لذاته ممكنات أسمائه وصفاته والأعيان الثابتة، هذه العمليَّةُ تعتبر خيالًا فاعلًا وخلَّاقًا وتجلّيًا. العماء بهذه الدلالة هو الخيال المطلق أو التجلّي الإلهيُّ أو الرَّحمة الموجِدة، تلكمُ هي بعض المفاهيم المترادفة التي تُعبِّر عن الواقع الأصل نفسه، أي الحقَّ المخلوقَ به كلُّ شيء، وهو ما يعني أيضًا «الخالق المخلوق». فالعماء هو الخالق، بما أنَّه النفيس الذي يصدر عنه لأنَّه مخبوءٌ فيه: وهو من حيث هو كذلك اللَّامرئيُّ و«الباطن». والعماء هو المخلوق باعتباره ظرفًا ظاهرًا. فالخالق المخلوق يعني أنَّ الوجود الإلهيَّ هو المحجوب والمكشوف، أو أنَّه هو الأوَّل والآخر.[هنري كوربان- الخيال الخالق عند إبن عربي].

IV

الوعي الفائق لفينومينولوجيا الغيب

لنا هنا سؤالٌ جوهريّ:

ما نوع الوعي الذي نعي به الظهورَ الغيبيَّ، وهل من إدراكٍ لهذا الظهورِ يُستدلُّ عليه بالعقل، وما طبيعةُ ومكانةُ هذا العقل الذي يتولَّى هذه المهمَّة؟..

نجد في ما بذلته الحكمةُ المتعاليةُ الصدرائيَّةُ ما يستظهر معرفة الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) بوصفهما فينومينولوجيا وعيٍ فائق. فالكونُ الطبيعيُّ- وفقًا للنظريَّة الصدرائيَّة – منحكمٌ إلى التدبير الرحمانيِّ، ومجيبٌ لنداءات الأمر والوحي من غير سؤالٍ أو تردُّد. والكائنُ الإنسانيُّ منحكمٌ  في معرفته إلى الفيض المقدَّس الذي منه يتنزَّل العلم الهادي على العقول والقلوب. فإنَّ طبيعة الإدراكات والأفهام المتعلِّقة بالكون هي ذات صلةٍ وطيدةٍ بمدى سعة الوجود الإنسانيِّ، بحيث يستطيع الإنسانُ التعرُّفَ على الموجودات بمقدار سعته العقليَّةِ والنفسيَّة. فالكون اللَّامتناهي له مراتبٌ وأطوارٌ يمكن لكلِّ إنسانٍ أن يتعرَّفها بمدى قابليَّته للمعرفة. وقد عبَّر مُلَّاصدرا عن ذلك ببيانه أنَّ الظواهر المادّيَّةَ المحسوسةً تحكي الحقيقة الغيبيَّة وإن لابَسَها الضعف بسبب كثافتها والحواجب المحيطة بها. لكنَّ الأشياء التي فوق مرتبة المادَّة- سواء كانت برزخيَّةُ أم عقليَّة- فإنَّ لها حكايتَها الأقوى قياسًا إلى الأشياء المحسوسة. تعتقد الحكمة المتعالية أنَّ الإنسان، وبقدر سعته الوجوديَّة، يصل إلى متن الواقع ويتوسَّع في دائرة المعاني الموجودة لديه، وعلى أساس هذا الوصول، يصير العلمُ بالعلَّة منتجًا للعلم بالمعلول، وتبعًا لهذه القاعدة المنطقيَّة الفائقة، يتعلَّم الإنسان حقائق الأشياء بعد الفناء في الله، ولكن لا كإفاضة صورة من الشيء في قلب الإنسان العالِم، ولا كالنظر إلى الشيء المعلوم في مرآة الحقِّ، بل كالنظر إلى حقيقة الشيء في الموطن الخاصِّ به. وعليه، تذهب نفس العالِم نحو المعلوم، وتدرك حقيقته كما هي. وعلى أساس هذا التفسير يحدث شهود الأشياء في مواطنها الخاصَّة بها من خلال شهود علّتها. فمع أنَّ لكلِّ شيء في موطن الطبيعة، وفوق ذلك في موطن البرزخ، وفوقهما في الخزائن الإلهيَّة، بل إلى ذلك كلِّه في علم الحقِّ الذاتيِّ، وجودًا بسيطًا جامعًا إلهيًّا، وأنَّ جميع هذه الموجودات في مواطنها أمرٌ واحدٌ ومشكِّكٌ ( متراتب).. إلَّا أنَّ مفهومها وماهيَّتها واحدةٌ متشابهةٌ تعرضها الكثرة بالعرض وبتبع الوجود. (جوادي آملي (ص 269- 279).

يبقى التساؤل ضروريًّا أيضًا، عمَّا لو كان من سبيلٍ لاستكشاف إمكانات العقل في إدراك ظهورات الغيب؟..

الكلام على العقل في هذا المقام ينحو نحوًا غير مألوفٍ في سياق الجهد المبذول لوعي الرابطة الامتداديَّة بين أطواره المعرفيَّة المتعدِّدة. ففي مسرى التعرُّف على الموجودات كمظاهرَ إلهيَّةٍ يرى جمعٌ ممَّن جاوزوا العقلانيَّةَ الصلبةَ التي أوقفت نفسها على ظاهر الشيء، أنَّ من شأن التوصُّل إلى ما يمكن إدراكُه بشهود العقل، عبر ما ليس عقلانيًّا أن يفضي إلى زيادة التصوُّر العقلانيِّ عمقًا عن الغيب. لكن هذا التحويل الذي يجريه الوعي المجاوِز لجهة توحيد العقلانيِّ واللَّاعقلانيِّ، سوف يفتح أفقًا مفارقًا في ميتافيزيقا الوعي. من مزايا هذا الأفق المفارق، الوصل المنهجيُّ بين فاعليَّة الغيب في الواقع، ومؤثِّرات هذه الفاعليَّة في تنشيط قابليَّات العقل واستعداده للامتداد إلى ما وراء عالم الحسّ. هذا الأمر يتيحُ للإيمان بالغيب حضورًا بيَّنا في الواقع يفترضه الترابط العميق بين معرفة الطبيعة (المعرفة العلميَّة)، ومعرفة ما فوق الطبيعة (المعرفة الفلسفيَّة)، ومعرفة الغيب في ظهوره، أي (المعرفة الإلهيَّة). وفق هذه الترابطيَّة، تأخذ العناصر الأساسيَّة لعلم ظهور الغيب بالتشكُّل ليكون لدينا خاصّيَّةٌ أبستمولوجيَّةٌ توحِّد العقلانيَّ واللَّاعقلانيّ على أساس «ديالكتيكيَّة متعالية» يجمع الأضداد ويحقِّق التناغم في ما بينها.

هذا يفترض منطقيَّا، الأخذ بالمناهج العقليَّة كتمهيداتٍ ضروريَّةٍ من أجل الوصول إلى فهم ما يستتر وراء عالم الخلق فهمًا عقليًّا ومعرفةً حضوريَّة. أمَّا النتيجةُ التي يؤول إليها هذا التناغم فهي مشاهدة فعل الحقِّ المتجلِّي بالخلق بالشهود العقليّ. من مفارقات هذا الطور الشهوديِّ أنَّه وهو يدأب على استكشاف الحقائق العليا المحتجبة، لا ينفكُّ عن الاعتناء بالمراتب الموجودات البادية للعيان كلٍّ بمقدار سِعَتِها. وهذا العقل الذي سمَّاه الحكماء بـ»العقل القدسيِّ» هو إيَّاه العقل الشهوديُّ الذي ينطوي في ذاته على العقل المبتدئ، إلَّا أنَّه يفوقه في درجات التعالي. ويشير ابن سينا إلى مكانته المحوريَّة في فهم حقائق الموجودات التي لا يمكن فهمُها وتعقُّلها عن طريق العقل المقيَّد بعالم الحسّ.

خلاصةُ القول أنَّ ما يُشاهدُ من قِبَلِ الخواصِّ يُنقَل إلى غيرهم من أتباعهم ذلك بأنَّ هذا العقل – حسب ابن سينا- هو سرَيانُه في أزمنة الناس. [ابن سينا، كتاب الشفاء، المقالة الرابعة- ص 169- 182.] فالعقلُ الشهوديُّ هو الذي تُعرَف به النماذجُ المطلوبةُ للحياة وفي مقدّمها نموذجُ التدبير السياسيّ. وهو ما يتجلَّى في عقل النبيِّ والوليِّ وسائر المصلحين من العرفاء. وهذا العقل بهذه الصفة الفعليَّة هو نفسُه ما يسمّيه العرفاء العقل الوحيانيَّ الذي يتولَّى مهمَّة توثيق ما لم يستطع عليه العقل الفلسفيُّ صبرًا وتدبُّرًا. ذلك بأنَّه عقلٌ فائقٌ يدرك الحقائق الكليَّة المطلقة بالكشف، ولا يشقُّ عليه إدراك الظواهر الجزئيَّة وماهيَّتها.

V

النومينولوجيا: أو السبيل إلى وعي الشيء في ذاته

على خلاف ما هو عليه الفهم الآمن في «فينومينولوجيا الغيب»، لا تأتينا الفينومينولوجيا الدنيويَّةُ إلَّا بأفهام مكتظَّةٍ بالتشاؤم. ولمَّا أنْ جعلت السؤال المريب شرطًا وحيدًا للمعرفة، تبدَّدت إمكانات الحصول على الأجوبة الآمنة. فالإنسان والكون- في معارف هذه الأخيرة – يشكِّلان معًا كينونةً متشظّيةً ومقذوفًا بها في التيه. وكما أعرب أغلب فينومينولوجيّي التجربة الحديثة – فإنَّ الكينونةَ متروكةٌ بلا راعٍ ولا حافظٍ ولا صائنٍ لها من العدم. بذلك اقترف فينومينولوجيّو الحداثة خطأً أنطولوجيًّا فادحًا لمَّا سألوا عن ماهيَّة الأشياء من دون أن تكون لديهم فكرة صحيحة عن طبيعتها، إذ لا يمكن معرفة الماهيَّة من دون معرفة الوجود. ولأنَّ الفلاسفة أهملوا الوجود، فقد تعذَّر عليهم الوصول إلى فهم ماهيَّته. وبالتالي، لن يكون مستهجنًا القول أنَّ إهمال الماهيَّة والوجود هو سمة متأصِّلة في الميتافيزيقا الأرضانيَّة كما عرضها المشَّاؤون وأتباعُهم من المتقدِّمين والمتأخِّرين.

لم تفلح فينومينولوجيا العقل الأدنى بفهم حقيقة مبدأ الأمر، أي «المخلوق الأول»، وكانت النتيجة أن أعرضت عنه احتسابًا ليقين بدا لها مستحيلًا. بدلًا من ذلك، راحت تدور دورتها الأبديَّة حول أسئلة تتسلسل إلى ما لا نهاية، ثمَّ لم تنفلت من براثنه قط[محمود حيدر- «أصالة النومينولوجيا عرضيَّة الفينومينولوجيا» – فصليَّة الاستغراب- العدد 27]. ربما علينا لكي يستوي الكلام حول أطروحة فينومينولوجيا الغيب على نشأةٍ سويَّةٍ، أن نؤسِّس لحلقات تفكير تقوم على مراجعةٍ ميتافيزيقيَّةٍ تعيد الاعتبار إلى الأصل الذي منه وبه ابتدأ العالمُ كظاهرة.

منشأُ المعضلة في ظاهراتيَّات الحداثة، يعود إلى سوء الفهم الميتافيزيقيِّ لأوَّل ظاهرةٍ وجوديَّةٍ، أي إلى ظاهرة نشوء الكون الذي اتّفقت الفينومينولوجيا اليونانيَّةُ والحديثةُ معًا على أنَّه هو الشّيء الذي يظهر من تلقاء ذاته. وبالتالي، هو نفسُه الشّيء الممتنع ذاتًا عن المعرفة، والذي ينبغي تعليق الحكم عليه. النتيجة التي ترتَّبت على هذه «المسلَّمة» جاءت على خلاف ما تقتضيه البراءة العلميَّة، ومؤدَّاها تقييد العقل وتعطيل إمكاناته إلى حدِّ إنكار العلّة المُظهِّرة لهذا الشيء. وما ذاك إلَّا لأنَّ العقل الفينومينولوجيَّ الدنيويَّ منذ بداياته التأسيسيَّة قرَّر النّظر إلى»النومين» كعلّة تامَّةٍ نشأت من ذاتها بذاتها ولذاتها، ولا حاجة لها إلى علَّةٍ خارجيّةٍ تدفعها إلى الظهور. وبالتالي، سيضطرُّ الناظر إليها لأن يتَّخذ هذه المسلَّمة دُرْبةً له، كقاعدةٍ ضروريَّةٍ لوصف ما هي عليه ظواهر الموجودات في الواقع.

في الميتافيزيقا الحديثة، دارت الأفهامُ حول النومين مداراتٍ شتَّى من الجدل، إلَّا أنَّها في خواتيمها لم تفارق ما تداوَله حكماءُ اليونان وفلاسفتُهم. هو حينًا نفسُ الأمر المكمونِ في الشيء، وهو عصيٌّ على الإدراك، ولا يُعرف إلَّا حين يبدو لنا في الواقع العينيّ.. ذلك ما كان أشار إليه هايدغر لمَّا بيَّن أنَّ الحداثة أخفقت في ابتكار تعريفٍ للكلّيَّات يوازي أو يجاوز ما وضعه الإغريق. وإنَّ فلاسفة اليونان مذ حدَّدوا المعالمَ الأساسيَّةَ لمبادئ فهم الوجود لم تتحقَّق خطوةٌ جديدةٌ من خارج الحقل الذي ولجوه أوَّل مرَّة.

نَدَر أن سُئِلت الفلسفةُ عن الدَّوافع التي جعلتها تميلُ إلى الاعتناء بظواهر الموجودات والإعراض عن الأصل الذي هو علّةُ إظهارها. الراجحُ أنَّ سبب ذلك يعود في الغالب إلى أنَّ الفينومينولوجيا لم تكن سوى مُركَّبٍ ميتافيزيقيٍّ اتّخذ مكانةً حاكمةً في تاريخ الميتافيزيقا. ابتدأت الملحمة مع السوفسطائيَّةِ وما تلاها، ثمَّ مع الانعطافةِ الأرسطيّةِ عبر المقولات العشر، ثمَّ امتدَّت إلى عهود الحداثة بأطوارها المتعاقبة. ولقد تخالفت التنظيراتُ أو تقاطعت، بصدد ماهيَّة الفينومينولوجيا، وهوّيَّتها المعرفيَّة، وطرائقها في التعرُّف إلى موضوعاتها. ولسوف نرى كيف امتلأ المعجمُ الفلسفيُّ الحديث بما لا حصْرَ له من التعاريف. منها من مضى إلى أنَّ المعنى البَدئيَّ لكلمة ظاهرة (Phainomenon) مشتقٌّ من فعل (Phainesthai) بمعنى «ظهر». ومنها من رأى أنَّ الظاهرة هي ما يظهر من تلقاء ذاته، أو ما هو بادٍ للعيان، بقطع النَّظر عن السبب الكامن وراء إبدائه.

لا نتريَّب القول أنَّ مسعانا إلى تأصيل المعرفة بالموجود الأوَّل، ينبغي أن يكون محمولًا على رهانٍ معرفيٍّ يسترجع ما قوَّضه النسيان في تاريخ الميتافيزيقا الكلاسيكيَّة التي تحوَّلت إلى فينومينولوجيا مقطَّعة الأوصال. وحين يكون سمْتُ العلم بالشيء في ذاته وغايته استشكافَ المنسيِّ والمغفولِ عنه من الوجود، فممَّا لا ريب فيه حالئذٍ، أنَّنا بإزاءِ مهمّةٍ عظمى تستلزم أوَّل ما تستلزم، همَّةَ إيجاد المنهج الموصِل إليه. ولكونه علمًا ينشد التعرُّف على المظهر الأوَّل، أي على الموجود البَدئيِّ وسرِّ ظهوره، والكيفيَّة التي ظهرت منه الكثرة، تُعيدُ النومينولوجيا، أو ما يسمَّى «علم النومين»، الاعتبارَ لكلامٍ متجدِّدٍ حول فينومينولوجيا الوجود المتعيِّن على نحوٍ يجاوز الثنائيَّاتِ المؤسِّسةَ للمعضلة الميتافيزيقيَّة في القول الفلسفيِّ الحديث. ولذا، فإنَّ المهمَّة التأسيسيَّة لعلم «النومينولوجيا» هي إذًا، استكشافُ حقيقةِ موجودٍ فُطِرَت موجوديَّتُه على وحدة البساطة والتركيب. وبالتالي، إدراكُ حقيقةِ هذا الجوهر الوجوديِّ الذي حظيت ذاتُه بفرادةِ جمع الوحدة إلى الكثرة، هو الشيءُ الوحيدُ الذي تقوم طبيعتُه التكوينيَّة على الثراء والفقر في آن، أي الاحتياج إلى موجده وخالقه وكونه مبدأ مؤسِّسًا لعالم الممكنات.

حين وقفت المدارسُ الفينومينولوجيَّةُ الحديثةُ بانذهالٍ أمام «النومين» (الجوهر في ذاته)، دأبت على تعريفه بالَّلا مشعور به، أو بالشيء المصموتِ عنه والمغفولِ عن سيرته. غير أنَّ هذا «التسقيط المفهوميَّ» لـ«الشيء في ذاته» كمظهرٍ أوَّلَ لم يكن بداعي النّظر إليه كأمرٍ بديهيٍّ، وإنَّما لكونه السرَّ الذي اسْتَتَر عن النّظر، وعزَّ فهمُه على طبائع العقول المشغولة بدنيا المظاهر. ولمَّا تنبَّه إدموند هوسرل إلى مشكلة تقديم الفينومينولوجيا كعلمٍ ومنهجٍ بينما هي مفصولةٌ عن أصلها، طَفَقَ يرتِّب نظامًا لتفكيرٍ مفارقٍ يُقصدُ منه إخراجُ مشروعه الفلسفيِّ ممَّا ينطوي عليــه من إغماضٍ، وما قد يُسفر عنه من عثراتٍ فـي بنيتــه التكوينيّـَـة. لذا، سيطلــقُ شعارَه الأثيرَ بضرورة «الرجوع إلى الأشياء ذاتها» (To The Things Themselves). أمَّا ديناميَّاتُ الرُّجوعِ إلى الأشياء في ذاتها واستبطانِ ماهيَّاتها، فهذا ما لم نشهد له بيِّنةً لدى هوسرل. حصل ذلك رغم تميُّزه عمَّا ذهب إليه الإغريق حين استعملوا مصطلح «الأبوخي» للإشارة إلى استحالة معرفة الشيء في ذاته. لكن هوسرل أراد تأويل هذا المصطلح في إطار منهجيَّته الجديدة التي تقول بالتقييد لا «الاستحالة»، أي بلزوم التعليق المؤقَّت للحكم على طبيعة الموجود الأوَّل وسرِّه المكمون، وذلك من أجل التوجُّه نحو مقامٍ متعالٍ (ترانسندنتاليٍّ) تُدرَكُ فيه الصورُ العقليَّةُ الحقيقيَّةُ للأشياء تبعًا لتلازُم «القصديَّة» و«الشعور»، الَّلذين يشكِّلان جوهر منهجه الفينومينولوجيّ. الفينومينولوجيّون من نظرائه، وكذلك الذين جاؤوا من بعده، سيواجهون هذه المعضلة، فضلًا عن معضلة التوفيق بين توصيف الظواهر وتعليق الحكم عليها. بسببٍ من هذا التعقيد المعرفيِّ، سوف تنمو التباينات وتتضاعف حيال تعريف ماهيَّة وهوّيَّة ومهمَّة المنهج الفينومينولوجيِّ ومقاصده. من أبرز تداعيات هذه القضيَّة أنَّ جمعًا من هؤلاء ذهبوا شوطًا أبعدَ ليقرِّروا أنَّ الفينومينولوجيا هي علم الماهيَّات الذي يُدرَكُ بوساطة الحدس، بوصفه المرحلة القصوى من إدراك معنى الظواهر. والحدس – كما يقرِّر المشتغلون بعلم الشيء في ذاته – هو المقدرةُ على التوغُّل عبر الحاجز الفاصل بين الوعي والوعي الباطنيِّ (الَّلاوعي). ولأنَّ هذا الأخير متّصلٌ بالوعي الكلّيِّ، فإنَّه يستطيع العثور على مَنفذٍ إلى مصدر لمعرفةٍ مفارقةٍ لأعراض الأشياء ومظاهرها.

المُحقَّقُ عن هوسرل أنَّه حاول فهم الشّيء في حضوره الأوّليِّ البَدئيِّ في العالم. وأنَّ هذا الشّيء سيكون عنده موضوع الإدراك الحسّيِّ، والجوهر الحامل للمقولات، واستطرادًا، هو ما يُقابل الذات العارفة على مستوى نظريَّة المعرفة. لكنَّ مشكلة فهم حقيقة الأشياء لدى رائد التنظير الفينومينولوجيِّ المستحدث، هي تلك التي ستظهر بصيغة الاستفهام الذي يحتاج إلى جواب: كيف يمكن لذات واحدة، من دون أن تتعرَّف إلى تاريخ الفكر البشريِّ، أن تعود إلى العلاقة الأوّليَّة مع الأشياء المحضة، لتعيد تحديد حقيقتها من جديد؟

حيال هذا الاستفهام، دأب هوسرل في مسعاهُ المنهجيِّ على عدم الفصل بين «النومين» و«الفينومين»، بل جعلهما كينونةً واحدةً، يُمكن التعرُّف إليها حضوريًّا من دون توسُّط المفاهيم. وهو في هذا التصعيد المعرفيِّ يكون قد اقترب بصورة ملحوظة ممَّا ذهبت إليه فينومينولوجيا الغيب من دون أن يتمكَّن من النفاذ إلى فضائها المتعالي. فلقد اعتَقَدَ أنَّ ذات الأشياء (النومين) هي نفسها التي تحضر، فيُدركها الفاعل المعرفيُّ -أي الإنسان- حيث يحصل التطابق بين الذهن والعين من بعد أن كانا منفصلين. وهذا الاعتقاد جاء نتيجة فرضيَّته التي تقول إنَّ ذات الأشياء هي ماهيَّتها. أي هي نفسها الخصائص التي تميّزها والعناصر التي تكوِّنها وتبدو من خلالها للعيان. سوى أنَّ هذه التأويليَّةَ المتقدّمةَ حيال الظاهراتيّة لدى هوسرل، لم تجد الأفق الذي يفتح على تحقيق حُلمه الكبير في إخراج العلوم الأوروبيَّة من مأزقها الأنطولوجيّ. وما ذاك إلَّا لإصراره على جعل الفينومينولوجيا علمًا قائمًا بذاته ومستقلًّا عن كلِّ المسلَّمات الميتافيزيقيَّة. وهذا هو الأمر الذي سيؤدّي به – وبسبب «التقويس» أو «تعليق الحكم»- إلى المكوث مجدَّدًا في دنيا الإغريق.

من بعد هوسرل، سنشهد على انعطافاتٍ غير محمودة النتائج في مساعي هايدغر وتنظيراته. فقد حَصَر الأخير فينومينولوجيا الوجود بفهم ما قد يسفر عنه العطاء المتبادل بين الكينونة والإنسان المتعرِّف «الدازاين». أي أنّه سيُعيد نقل المعضلة إلى الإنسان كموجودٍ محوريٍّ في فهم الوجود الذي يواجهه. إلَّا أنَّه في دراسته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟»، يعود هايدغر القهقرى إلى دائرة التعطيل ليُصرِّح بأنَّنا لا نستطيع أن نصل إلى معرفة نفس الأمر وواقع الأشياء، وإنَّما نتعاطى مع ظهوراتها فقط». لكنَّ هذا الإقرار بالعجز عن معرفة الشيء في ذاته، بدا أنَّه يُناقض مكوِّنًا أساسيًّا في منظومته الفلسفيَّة حين احتجَّ على تاريخ الميتافيزيقا منذ الإغريق إلى ما بعد الحداثة على أنَّه تاريخٌ مطبوعٌ على «نسيان الكينونة». الثّابت أنَّ هايدغر أخذ مسلكه الظاهراتيَّ عن أستاذه هوسرل، ولاسيَّما لناحية قوله بالوحدة بين ذات الشيء وظهوره العينيِّ، إلَّا أنَّه سيخالفه الرؤية في ما بعد. وفيما كان هوسرل يقول بأصالة الماهيَّة والظهور في آن، انبرى هايدغر إلى القول بأصالة الظهور، حيث يظهر الوجود من خلال وعي الدازاين له. ولذلك، فإنَّ أصالة ظهور الوجود بوساطة «الدازاين» لا تعني قربًا أو تمثُّلًا لأصالة الوجود، كما نظَّرت لها الحكمة المتعالية في الفضاء الإسلاميّ، ذلك لأنَّ رؤية هايدغر للكينونة لم تنفذ إلى الماوراء والَّلامتناهي، بل طفقت حبيسة دنيا المقولات الأرسطيَّة ولم تغادرها قطّ. لذلك، يصرِّح هايدغر باستحالة قدرة الدازاين على تجاوز الكينونة لكي يتحقَّق بإدراكاتٍ أعلى من فضاءاتها المتاحة. فالمعنى عنده هو أنَّ «الدازاين» (الإنسان) حين يتواجه مع الكينونة بانفتاحٍ ووعيٍ، ويرمي نفسه في لجَّتها، تظهر له حقيقة الوجود بقدر وعيه واستعداده. وعليه، تُصبح الموجودات ذات معنى حين تصير تحت مرأى وعي «الدازاين» لها.

VI

دُرْبة الاقتراب من فينومينولوجيا الغيب

في حقبةٍ تاليةٍ من تطوُّره الفكريِّ سوف يستأنفُ هايدغر ما توقَّف عنده أستاذه هوسرل، أي وجوب تفعيل نظريَّة فهم الأصل الذي نشأت منه الظواهر. لقد كان من البيِّن لديه أنَّ الفشل الأساسيَّ للتفكير الميتافيزيقيِّ، هو أنَّه تصوَّر الكينونة كأرضيَّة أبديَّة ثابتة وغير متغيِّرة، أي أنَّها السبب الأوَّل causa sui، أو «المحرِّك غير المتحرِّك».. أو بما هي «حضور دائم»standige Anwesenheit, stetes Vorhandensein، «قائم الآن» nunc stans.ّ [An Introduction to Metaphysics, trans. Ralph Manheim (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1959), pp. I8o-82, 193]. لكنَّ الكينونة – حسب تصوُّره الَّلاحق- ليست سببًا أو أرضيَّة أبديَّة بل إنَّها حدثٌ Ereignis – «يمنح» أو «يعطي» أكثر من أيِّ سبب أو أرضيَّة. ولأنَّها حدث، فستصبح «أكثر غموضًا من أيِّ شيء غامض، وأبسط من البسيط، وأقرب من القريب، بل وأبعد من البعيد، الذي فيه نحن البشر نعيش حياتنا الزمنيَّة». لكن، أيُّ نوع من الحدث هي هذه الكينونَّة؟ يجيب هايدغر بأنَّها حدث الوحي أو الانكشاف Unverborgenhei، وبالتالي فهي ليست شيئًا، «كائنًا» يمكن الكشف عنه في حدِّ ذاته. بل هي حدث «الإضاءة»، الفسحةLichtung ، الذي ينير الكائنات بما في ذلك الإنسان. على هذا النحو، تبقى الكينونة غير مرئيَّة، بل «الأكثر خفاء من الخفيّ». وأمَّا كشف الكائنات فيعني جعلها تتفتَّح، و«تحريرها»، والسَّماح لها بأن تظهر على أنَّها ما هي عليه. ومن ثمَّ فإنَّ حدث الوجود هو حدث كشف الحقيقة. وباعتبارها حدثًا يؤسِّس العالم، فإنَّ الكينونة هي في الأساس ذات طابع زمانيٍّ. بل إنَّها في جوهرها هي الزمان نفسه. وفقًا لغادامير، استطاع هايدغر أن يحطِّم «المخطَّط الترنسندنتاليَّ» للفلسفة ما بعد الديكارتيَّة والكانطيَّة، والذي يكون الزمان بموجبه وظيفةً للوعي الذاتيِّ، والشكلَ البديهيِّ الخالص للحدس الذي يتمُّ بوساطته اختبار العالم.

كفَّت الميتافيزيقا التي عهدناها مع قدماء الإغريق عن أن تكون العلم بإلهيّات ما بعد الطبيعة. جرى هذا من بعد أنسها المتمادي بالمفاهيم، حتى لقد أخلدت إلى دنيا الطبيعة، ودارت مدارها، ولم تكن في مجمل أحوالها ومشاغلها سوى مكوثٍ مديدٍ على ضفاف الكون المرئيّ. لقد انسحرت الفلسفة الأولى بالبادي الأوَّل حتى أشركته مُبديه وبارئه، ثمَّ راحت تخلع عليه ما لا حصر له من ظنون الأسماء: المحرِّك الأوَّل غير المتحرِّك، «النومين أو الشيء في ذاته»، «العلَّة الأولى» و«المادة الأولى أو الهيولى»، وأخيرًا وليس آخرًا «القديم والأزلي».. وجريًا على هذه الحكاية ستنتهي إلى نعته بالموجود الذي أوجد ذاته بذاته من عدم، ولمَّا أن وُجِدَ لم يكن له من حاجة إلى تلقّي الرعاية من سواه. هو بحسب «ميتافيزيقاهم» كائنٌ مكتفٍ بذاته، ناشطٌ من تلقاء ذاته، ومتروكٌ لأمر ذاته.

الفلسفة الحديثة – حتى وهي في ذروة دهشتها بذاتها – لم تَبرح هذه المعضلة الموروثة عن السّلَف الإغريقيّ. مبدأُها المنبسطُ على ثنائيَّة «النومين» و«الفينومين» ظلَّ ملازمًا لها كما هو في نشأته الأولى. وبسببٍ من هذه الملازَمَة تجدَّدت ألوانُ المعضلة وتكثَّرت أنواعُها، واستدام الاختصامُ والفرقةُ بين جناحَيْ الثنائيَّة. ولمَّا لم يكن لهذا المبدأ أن يبلغ مقام الجمع بين الجناحين، أفضت الإثنينيَّةُ في غُلُوِّها الإنشطاريِّ إلى وثنيّةٍ صارخةٍ حلَّت ورسخت في قلب الميتافيزيقا، قديمِها ومستحدَثِها. من هذا النحو، لم يُفلح النّظامُ الفلسفيُّ الكلاسيكيُّ في مجاوزة معضلته الكبرى المتمثِّلة بالقطيعة الأنطولوجيَّة بين الله والعالم. وهو حين تصدّى لمقولة الوجود بذاته، أخفق في إدراك حقيقته، ثمَّ أعرض عنها وأخلد إلى الاستدلال المنطقيِّ والتجربة الحسِّيَّة. لهذا ظلَّ الموجود الأوَّل في هندسة العقل المقيَّد بالمقولات العشر لغزًا يدور مدار الظنِّ، ولمَّا يبلغ اليقين. وبسببٍ من قيديَّته سَرَت ظنونُهُ إلى سائر الموجودات ليصير الشكُّ سيّدَ التفلسُف منذ اليونان إلى ما بعد الحداثة. من أجل ذلك، سنرى كيف سيُخفقُ التاريخُ الغربيُّ رغم احتمائه بهندسات العقل الذكيِّ، في إحداث مسيرة حضاريَّة مظفَّرة نحو النور والسعادة. فلقد تخلَّل ذلك التاريخ انحدار عميق إلى دوَّامة المفاهيم والاستغراق مليًّا في أعراض المرئيَّات الفانية. النتيجة أنَّه كلَّما ازدادت محاولة الإنسان فهم دنياهُ وعالمِهِ الواقعيِّ ازداد نسيانُه ما هو جوهريّ. والنُّظَّار الذين قالوا بهذا لا يحصرون أحكامهم بتاريخ الحداثة، بل يُرجعِونها إلى مؤثِّرات الإغريق، حيث وُلِدت الإرهاصاتُ الأولى لتأوُّلات العقل الأدنى. وهو العقل إيَّاه الذي سترثه الفلسفات اللَّاحقة، لتصبح العقلانيَّةُ العلميَّةُ معها حَكَمًا لا ينازِعُه منازعٌ في فهم الوجود وحقائقه المستترة. وكحصيلة لمسارات العقل الأدنى ستأخذ الثورة التقنيَّة صورتها الجليِّة، لِتَفْتتِحَ أفقًا تفكيريًّا سيعمِّقُ القطيعةَ مع أصل التكوين وحقيقة الوجود.

لم تهمل الميتافيزيقيا التقليديَّة (القبليَّة) حقيقة الوجود فحسب، بل أهملت أيضًا حقيقة الحقيقة. أي أنَّها جاوزت في إهمالها حقيقة الشيء في ذاته ثمَّ لتهمل حقيقة موجدِ هذا الشيء. إنَّ ما يؤخذ على المنطق الأرسطيِّ أنَّه يظهر عاجزًا عن إدراك المعرفة التصوُّريَّة، وكذلك في إدراك المعرفة التصديقيَّة. بيانُ ذلك أنَّ المعرفة التصوُّريَّة لا تستقيم في هذا المنطق، وهذا عائدٌ إلى أنَّ تعريف أيَّة ماهيَّةٍ يوجبُ استخدام الأجناس والفصول، ولأنَّ الأجناسَ العاليةَ بسيطةٌ، والحدَّ غير ممكن حيالها، فسيكون متعذِّرًا تعريفُ أيٍّ من الأجناس والأنواع التالية عليها أو الواقعة تحت سمائها.

سوف يؤدّي هذا الخلل في الاسم الأنطولوجيِّ للميتافيزيقا إلى صدعٍ في المبدأ المؤسِّس للموجود الأوَّل كظاهرةٍ بَدئيَّةٍ، الأمر الذي سيكشف عن مُشكلٍ بديهيٍّ سَهَا عنه القول الفلسفيُّ الإغريقيُّ فضلًا عن لواحقه المستحدثة: فإذا كانت مهمَّة الميتافيزيقا البحث في الوجود بما هو موجودٌ، فإنَّ مبتدأها ومنتهاها تمثَّل بحصر معرفتها بالموجود في ظهوره العيانيِّ وعدم الاكتراث بما هو عليه في خفائه وكُمُونه. فإذا كانت الفينومينولوجيا تدلُّ على الشيء كما يتبدَّى في العلن، فإنَّ هذا «المتبدِّي»(النومين) ما كان له أن يتبدَّى ويظهر لولا اتّصاله بمصدره الأوَّل، الذي هو علَّته الفاعلة وماهيَّته وحقيقته الواقعيَّة. وفي مجمل القول،ثمَّة من الاختلالات التكوينيَّة في بنية التفكير الفينومينولوجيِّ المحض ما يفضي إلى صرفها عن أن تؤدّي وظيفتَها المنهجيَّةَ في استقراء الوجود المتعيِّن، على نحوٍ يقيمها في مقام العلم التامِّ القوام. في رأس قائمة الاختلالات هو الانفصال عن المبدأ المؤسِّس لكلِّ ظاهرة، ووقوفُها على التوصيف البحت لعلاماتها الظاهريَّة ولدلالاتها الرمزيَّة على أبعد تقدير، وبالتالي افتقارُها إلى نظريَّةٍ كاملةٍ وراسخةٍ في التبرير والتسويغ، وبقاءُ مفاهيمها الجوهريَّة والأساسيَّة عامَّة وغامضة.

VII

مستخلص

نحن إذًا، تلقاء ضربين من علم ظواهرالوجود:

الأوَّل، ذاك الذي أخلد إلى أرض المرئيَّات، ولم يرَ إليها إلَّا تبعًا لأحكام المقولات العشر ومبادئها الفيزيائيَّة. بسببٍ من ذلك، فإنَّ النظام الفينومينولوجيَّ الحديث سيعود القهقرَى ليستعين بالمبدأ المؤسِّس للعقلانيَّة الإغريقيَّة المثلومة… أي إلى المبدأ الذي يقيِّد المعرفة الفلسفيَّة بـمقولة «الموجود بما هو موجود»، ثمَّ ينظر إلى هذه «المسلَّمة» كأيقونة مقدَّسة لا مِراء فيها. نتيجة هذا الاعتقاد كانت الجهرَ باستحالة معرفة الهوّيَّة الحقيقيَّة للشيء في ذاته. ثمَّ لتؤولَ النتائجُ المترتِّبةُ على هذه الرؤية إلى نشوء ميتافيزيقا معتلَّةِ الأركان، لا تفقه من الموجودات سوى ظاهرها المكتظِّ بالَّلايقين.

الثاني: ذاك الذي جاوز القشرة الفيزيائيَّة للوجود الظاهريِّ، وأقام تبصُّراتِه على توحيد الوجود وتعامله مع كثَرَاته كنفسٍ واحدة. فعلى أساس هذا العلم لن نرى من شِقاقٍ بين ما يتبدَّى للعيان، وما يختزنه المتبدّي من حقائقَ مستترة. وعليه، يستوي القول أنَّ «الشيء في ذاته» هو في كُمُونهِ عينُ ظهورهِ في العلن. فإنَّما هو في حقيقته ليس تجريدًا ذهنيًّا يمكن النظر إليه بمعزل عمَّا يبدو فيه، فهو في خفائه عين البدَاء والظهور.

ومن أجل أن نتصوَّر نظريَّة معرفة لمثل هذه الصيرورة نقترح ما نسمّيه بـ «وحدة الأفق». تلك التي تتكامل فيها مراتب التعرُّف على الموجودات بغية التوصُّل إلى إدراك ما يتخفَّى منها. و«وحدة الأفق» كنظريَّةِ معرفةٍ هي ما تأخذ به فينومينولوجيا الغيب كمنهجِ تعرُّفٍ على ماهيَّة الشيء وهوّيَّته الظاهرة. وهو منهجٌ يتأسَّس على مسلَّمتين متلازمتين لا تقبلان الإنفصال والتناقض: مسلَّمة العقل ومسلَّمة الوحي. عن طريق الوصل الواعي بين هاتين المسلَّمتين تنبسط وحدة الأفق لوعيِ فعلِ الغيب على ضربين متناغمين من المعرفة الشهوديَّة: أ-شهود الحقيقة الدنيا بوساطة العقل في امتداداته إلى ما وراء المظاهر. ب-شهود الحقيقة العليا بالقلب المؤيَّد بمعارف الوحي.

استكمالًا لهذه السيرورة التكامليَّة تأخذ فينومينولوجيا الغيب دُرْبتها الفريدة في معرفة الوجود والموجود. فالشهودُ الحضوريُّ لذوات الأشياء يسري عبر سلسلة طوليَّة مترابطة ومتداخلة تنتهي بشهود الفؤاد كإعرابٍ عن الوعي الفائق بظواهر الغيب. فإذا كان العقل يشهد على الأشياء كظهورٍ حقيقيٍّ وفقًا لمبدأ الاستدلال والبرهان والتجربة، كذلك يشهد الوحي على ما فوق ذلك. وبالشهود العقليِّ المتَّحد بالشهود الفؤاديِّ، تُدرَكُ حقائقُ الأشياء بما هي حقائقٌ واقعيَّةٌ عينيَّة. فما يوجد ويُرى في القضايا الوحيانيَّة، له بعدٌ إحساسيٌّ واقعيٌّ كما في رؤية الأنبياء(ما كذب الفؤاد ما رأى)، وكذلك في ما يراه الأولياء والعرفاء من كرامات بوصفها واقعًا مشهودًا. ومع أنَّ الكشف له حجِّيَّته الذاتيَّة للمكشوف له، إلَّا أنَّه لا يمكن نقله للآخرين إلَّا من خلال ترجمة الآثار الناجمة عنه. ولعلَّ أهمَّ الفضائل التي يقدِّمها الكشف في معرض الاستدلال والبرهان، هو تقديم تصوُّر صائب للعقل حيال القضايا التي تقع فوق مشاغله الحسّيَّة وقدرته الإستدلاليَّة، ذلك بأنَّ المزيَّة الجوهريَّة للعقل المستنير بإضاءات الكشف والشهود، هي وضوح القضيَّة ومعرفة ماهيَّتها. فالتصوُّر الصحيح لأيِّ قضيَّة يفوق التصديق بها أهميَّة، باعتبار أنَّ الاستدلال على مسألة ما يفترض تصوُّرها بشكلٍ صائب، أي كما هي موجودة في الواقع. (يزدان بناه – فلسفة الفلسفة – ص 365). ولأنَّ ذوات الأسباب لا تُعرف إلَّا بأسبابها» كما تبيّن الحكمة المتعالية، فذاك يعني أنَّ العلم بالمسبِّب إذا حصل عن طريق السبب فقد لامس طورًا علميًّا فائقًا. ما يعني أيضًا أنَّ الوصول إلى ذوات الأسباب هو أمرٌ متعلِّقٌ بالكشف والشهود ومنحصرٌ فيه. وعلى هذا الأساس، فإنَّ شهود حقيقة الموجود هو مرحلةٌ عقليَّةٌ عليا لتحقِّق اليقين، ومن ثمَّ فإنَّ الحكمة الحاصلة عن طريق الكشف والشهود تكون أعلى من الحكمة العقليَّة، وتكون المعرفةُ الشهوديَّةُ للوجود حكمةً حقَّة.

غايةُ المعرفةِ إذن، كشفُ المكمون الذي هو مبدأ الموجودات. وهذا ما يتأتَّى ثَمَرُه بمجاهدات العقل والكشف. أمَّا العلم بسرِّه فهو أمرٌ ممكنٌ فقط عن طريق العلم الحضوريِّ الفعليِّ والمباشر. في حين أنَّ التفكُّر الحقيقيَّ بهذه المنزلة المعرفيَّة، هو بالسير الجوهريِّ من الظاهر إلى الباطن ومن الكثرة إلى الوحدة، والسير من الظاهر إلى الباطن يشمل السير من ظاهر الكلام إلى باطنه، ومن ظواهر الأمور إلى ماهيَّاتها، ومن الماهيَّات إلى الوجود.. وبالتالي السير من الأسماء إلى الذات، وانتهاءً بالسير من الحقِّ إلى الخلق.

لم يكن الكلام على «فينومينولوجيا الغيب» سوى دفعٍ باتجاه «تفلسُفٍ» مُفارقٍ ينظر إلى هيئة البَدء الأوَّل بوصف كونه ظهورًا واقعيًّا قابلًا للفهم. الغايةُ من ذلك، التمهيدُ لأفقٍ ميتا- فينومينولوجيٍّ يستجلي المخبوء في علم الوجود، ويستظهرُ ما يختزنه الشيء في ذاته من قابليَّاتٍ مؤسِّسةٍ لفتوحاتٍ معرفيَّةٍ متجدِّدةٍ في عالم الميتافيزيقا…

*     *     *

*.  افتتاحية العدد السابع من مجلة (علم المبدأ).
**د. محمود حيدر/مفكر وباحث في الفلسفة والإلهيات ـ لبنان.

وسوم:

اترك رد

جديدنا