النظام التأديبي المدرسي وحقوق الطفل: أيَّة علاقة؟

image_pdf

مقدِّمة:

يتبوَّأ الطفل في المدرسة موقعا خاصّا، فالمدرسة وجدت بالأساس للأطفال، وهي على رأي بعض كبار التربويين من أمثال جون ديويJ.Dewey لا تعدّ للحياة بل هي الحياة نفسها. بمعنى أن الاهتمام بحقوق الطفل في المؤسَّسة التربوية مكوّن أساسي لكلّ عمليّة إصلاح تربوي. وهذا الاهتمام يبدو مطلبا ملحّا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العلاقة الوطيدة التي تربطه بما يسمَّى بالنظام التأديبي المدرسي. ومن هذا المنطلق فإن هذه الورقة تروم البحث في إشكاليّة علاقة حقوق الطفل في المدرسة بالنظام التأديبي. أي أنها تنشد البحث في علاقةٍ كثيرا ما ظلَّت غائبة لا عن البحوث التربويّة فحسب، وإنما أيضا عن الاهتمام من قبل الفاعلين التربويّين بالمؤسَّسة التربوية، وكأنَّ الحديث عن حقوق الطفل التي كفلها له القانون لا يعدو أن يكون درسا نظريا لا غير، وكأن النظام التأديبي مسألة لا تثار إلا عند الضرورة (عند معاقبة تلميذ). بقي أن نشير في مقدِّمة هذه الورقة إلى ما سنعرضه هو حصيلة عمل ميداني سعينا من خلاله إلى تبيُّن مدى تطابق أو تنافر الممارسة “التأديبية” في المدرسة الإعدادية التونسية مع حقوق الطفل، انطلاقا من عينة من التلاميذ والمدرسين بمدرستين إعداديتين تقعان بجهة بنزرت[1].

الإشكالية:

إنَّ حرص المنظومة التربويّة التونسيّة على جعل التلميذ محور العمليّة التربويّة[2] وعلى تكوين الإنسان المواطن المتوازن في أبعاده المعرفية والوجدانية والمهارية، يفرض التساؤل عن مدى الترابط بين ما تتضمّنه النصوص القانونية من حقوق الطفل وواقع ممارسة تلك الحقوق بالمدرسة، وعلى وجه الخصوص ما يعتمد في الممارسات الفصلية، لا سيّما مسألة العقوبات داخل المؤسّسة التربويّة والتي تعكس مدى تمثّل حقوق الطفل في الممارسة التربوية اليومية وبالتحديد في ممارسات الأساتذة في القسم في مختلف مكوّناتها سواء ما تعلّق منها بالممارسات التعليمية-التعلّمية أو تلك التي تعمل على فرض النظام داخله.

يأخذ الاهتمام بالنظام التأديبي نسقا تصاعديّا نتيجة ما تعرفه المدرسة اليوم من مظاهر العنف، وهو الأمر الذي يفرض إعادة النظر في مفهوم السلطة والعقوبة التي يبدو أن الوقت قد حان لمراجعتهما، لا بهدف إلغائهما وإنما لدراسة جدواهما، وخاصة لتبيُّن علاقتهما بمسألة حقوق الطفل، وبتعبير مغاير في ظلِّ ما تعرفه المؤسَّسة التربوية من انتشار مختلف أنواع السلوك المحفوفة بالمخاطر، لابد أن تكون للنظام التأديبي دلالة، ولا بد أن يكون له معنى لدى الطفل وهو ما لا يتمّ إلا بمناقشة مسألة التأديب مع التلاميذ نقاشا مستفيضا يفضي إلى فهم مغزاها. فبمثل هذا النقاش وتبادل وجهات النظر مع الأطفال، تتمّ مراعاة حقوق الطفل من ناحية وتطلُّعات المجتمع التونسي إلى بناء أفراد ملتزمين بحقوق الإنسان في سلوكهم اليومي من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى إن سعي المجتمع التونسي إلى ترسيخ الديمقراطيّة أسلوبا في الحياة يمرُّ عبر تجذير حقوق الإنسان ومنطلقها حقوق الطفل من أجل تأهيل جيل مسالم، متسامح ومفاوض وقادر على حلِّ الخلافات دون اعتماد أساليب عنيفة. وبذلك تطرح الأسئلة التالية:

  • هل يحتوي القانون التأديبي التونسي على الحماية اللاّزمة للطفولة في المدرسة؟ وهل يتطابق ذلك مع الممارسات الفعليّة في الفضاء المدرسي المؤتمن على ضمان الحق في التعليم وضمان حق الحماية للطفل في المدرسة ومراعاة المصلحة الفضلى للطفل في إطارها في الآن ذاته؟
  • هل تراعي المدرسة التونسيّة وأساسا المدرسة الإعداديّة حاجيات الطفل في مرحلة المراهقة؟ خاصة وأن المرحلة الإعدادية تمثل الحلقة الأخيرة من التعليم الأساسي والتي يرتفع في صفوفها عدد المنقطعين عن التعليم في سنّ يقر فيها القانون بإلزامية التعليم الأساسي إلى سن السادسة عشرة.
  • هل تأخذ المدرسة بعين الاعتبار حاجيات هذها لفئة باعتبارها تعيشمرحل ةمفصلية وتحتاج إلى التأطير والإشراف والاهتمام؟

الفرضيات:

  • كلّما غابت حقوق الطفل في القسم إلا وكان العقاب المدرسي تعسّفيا ينمُّ عن الإهانة واللامساواة بين التلاميذ.
  • كلما تمَّ احترام حقوق الطفل –المتعلِّم كلما كان اللجوء إلى العقاب أمرا استثنائيا.

 

المنهج:

تعمل هذه الورقة على رصد ظاهرة التأديب والعقاب في المدرسة من وجهة نظر الفاعلين في القسم من أساتذة وتلاميذ ومدى تلاؤمها مع منظومة حقوق الطفل على مستوى النص والواقع. وسيكون بذلك بحثا كيفيا حاولنا خلاله استنطاق الواقع الفردي والاجتماعي والعلمي من خلال مواقف الفاعلين المعنيّين بالأمر وتجربتهم الذاتية والتي تساعدنا على فهم الواقع معتمدين في ذلك من ناحية على تقنية المجموعات البؤرية وإجراء محادثات ومقابلات مع مجموعات من التلاميذ والأساتذة. فقد اخترنا مجموعتين من الأساتذة وثلاث مجموعات من التلاميذ من مدرستين إعداديتين بولاية بنزرت ومن ناحية أخرى اعتماد تحليل المضمون للنظام التأديبي المدرسي لرصد المسألة التأديبيّة. محاولين في مرحلة أولى إبراز حقوق الطفل في تونس وفقا للنصوص القانونيّة التونسيّة وفي مرحلة ثانية تحديد مفهوم النظام التأديبي المدرسي ومدى حضور حقوق الطفل فيه وفي مرحلة ثالثة وأخيرة تبين مدى حضورها في واقع المدرسة اليوم وبالتحديد في القسم وفي علاقة التلميذ بالمربي عند التأديب أو العقاب وذلك للتعرف على مدى التلاؤم بين منظومة العقاب في المدرسة مع منظومة حقوق الطفل في الواقع الاجتماعي، هل تقوم على التكامل بين المنظومتين أو التناقض بينهما؟

السياق المجتمعي وحقوق الطفل عامَّة:

ينظر علم الاجتماع الدور كايمي إلى الطفل باعتباره إنسانا لم يكتمل النمو بعد وأنَّه قابل للتشكُّل ويحتاج إلى الحماية. وبذلك لم تدرس الطفولة في بادئ الأمر كظاهرة اجتماعية مستقلَّة بذاتها ولكن درست من خلال أشكال الاهتمام والرعاية الاجتماعيّة والمؤسَّساتية مثل العائلة والمدرسة إلى أن جاء عالم الاجتماع البلجيكي كلود جافو لينظر إلى الطفولة باعتبارها مجموعة اجتماعيّة قائمة بذاتها لها ثقافتها وخصوصيتها وأصبحت للطفل مكانة في التحليل العلمي باعتباره فاعلا اجتماعيا يساهم في دينامية المجتمع وحركيته وفي التبادلات التي تحدث وفي الممارسات الاستهلاكية وفي المخيال الاجتماعي. واليوم تنظر الكتابات السوسيو – انتروبولوجية الطفولة على أنها بناء اجتماعي وبناء سوسيو- ثقافي يتطوَّر تاريخيا ويختلف من مجتمع لآخر[3]. فلا يمكن فهم الطفولة والطفل إلا بالنظر إلى السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي يتواجد فيها والتي تؤثّر فيه وفي تحديد كيفية التعامل أو التفاعل معه، إذ أن مكانة الطفل في المجتمعات الانسانية تتغيَّر من زمن لآخر وتتأثَّر بتحولات مجتمعيّة عديدة فلا يمكن الحديث عن طفولة واحدة بل “تنقسم الطفولات الراهنة انقساما عميقا بالقيم، بالغنى أو الفقر، بالفوضى السياسية أو الاستقرار النسبي. فمكانة الطفل وفقا لعوامل مختلفة تعود أساسا إلى تطوُّر الإطار القانوني وتطوُّر حقوق الطفل سواء أكان ذلك على المستوى التشريعي الدولي بصدور الاتِّفاقية الدولية لحقوق الطفل[4] أو التشريعات في الدول المعنية في الآن نفسه.

ومع إقرار تعميم التعليم وإجباريته تزايد عدد الأطفال الوافدين على المدرسة كما أنَّ التطوُّر الذي عرفته مختلف المجتمعات ساهم في انخفاض نسبة وفيات الأطفال وقد رافق ذلك ما عرفته البشرية من تحوّلات اجتماعية على مستوى تركيبة العائلة والعلاقات فيها وانخفاض عدد الأطفال في العائلة الواحدة أو انخفاض نسبة الولادات بخروج المرأة للعمل وارتفاع عدد النساء العاملات والذي أثَّر في وجود مؤسَّسات الحضانة أو تطوّر مؤسَّسات التنشئة الاجتماعية. كل هذه العوامل ساهمت في تغيير النظرة إلى الطفولة والأطفال فلم يعد ينظر إليهم مقارنة بالكبار باعتبارهم أفرادا مستقلِّين بذواتهم يمتلكون قدرات وكفايات، ولهم رؤية خاصَّة للأمور. وبذلك فرضت هذه التحولات تغييرا في النظرة إلى الطفل و”بروز شخصية تتميَّز بالاستقلالية والمبادرة والإبداع والتي تبنى منذ الطفولة الأولى من خلال عملية التنشئة العائليّة والمدرسيّة” [5]. وأصبحت اليوم حقوق الطفل ظاهرة تتردَّد باستمرار في الخطابات السياسيّة والتربويّة والإعلامية ومعطى مهمّا يؤخذ بعين الاعتبار في السياسات التنموية، حتى وإن كانت تمارس تحت رقابة الكبار والآباء والمربِّين، وحتى إن تأثَّرت بالسياق الاجتماعي الضيِّق ففكرة أن للطفل الحقّ في النموّ الكامل لذاته لا يمكن أن تتحقَّق دون نمو اقتصادي واجتماعي للبلد الذي يعيش فيه، ودون ضمانات فعليّة تحمي تلك الحقوق. والتوصيات الدولية الخاصَّة بحقوق الطفل لا يمكن أن تتحوَّل إلى واقع في دول يكون فيها تشغيل الأطفال إجراء من اجراءات ضمان البقاء أو العيش، أو أين نجد النزاعات المسلَّحة التي لا يتردَّد قادتها في تجنيد الصغار أو أين نجد الأطفال يُستغلّون في الاتجار والهجرة أو الاستغلال الجنسي أو في ظروف الصراعات العائلية أو المدرسية (أي أطفال الشوارع)، في هذا الإطار تتنزّل إشكالية بحثنا، أي ما منزلة حقوق الطفل من الإصلاح المرتقب؟ ذلك أنَّه لا يمكن الحديث اليوم عن إصلاح تربوي إلا بتغيير النظرة إلى الطفل ليتمّ القطع مع صورة الطفل المتقبّل والمطيع فقط وبناء صورة مغايرة يكون فيها الطفل فاعلا له خصوصيته وله مطالبه ومصالحه، التي على جميع المهتمِّين بالشأن التربوي مراعاتها والاهتمام بها في ظلِّ ما يعرفه المجتمع من تغيّرات. فالتربية اليوم لا تقتصر على نقل جملة من المعارف والقيم بل هي مساعدة الطفل على بناء ذاته المستقِلَّة.

 

التوصيات الدولية الخاصَّة بحقوق الطفل لا يمكن أن تتحوَّل إلى واقع في دول يكون فيها تشغيل الأطفال إجراء من اجراءات ضمان البقاء أو العيش، أو أين نجد النزاعات المسلَّحة التي لا يتردَّد قادتها في تجنيد الصغار أو أين نجد الأطفال يُستغلّون في الاتجار والهجرة أو الاستغلال الجنسي أو في ظروف الصراعات العائلية أو المدرسية (أي أطفال الشوارع).

حقّ الطفل التونسي في التعليم وفي الحماية بين النصوص القانونيّة والواقع؟

أولت الدولة التونسية منذ الاستقلال للطفولة مكانة خاصَّة تجلَّت في حرصها على ضمان الحقِّ في التعليم ومساندتها لما جاء في الاعلان العالمي لحقوق الإنسان[6]. وتأكيد ذلك في قوانينها سواء أكان ذلك في الدستور[7]، أو القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي (2002)، ولم يقتصر ذلك على الحقّ في التعليم بل شمل حقَّه في الرعاية والحماية سواء أكان ذلك من خلال الدستور[8] أو في إطار مجلَّة حماية الطفل[9] أو من خلال القانون التوجيهي للتربية والتعليم الذي يتضمَّن بابا كاملا لتحديد حقوق المتعلِّم وواجباته[10].

كما أكَّدت ذات النصوص على ضمان حقِّ الأطفال وأساسا المراهقين في حرّية التعبير عن آرائهم وتوفير فرص الحصول على المعلومات من مصادر شتَّى حتَّى تتوفَّر لهم القدرة على النموّ، و”بناء ثقتهم بأنفسهم واكتساب المعارف والمهارات المتعلِّقة بحلِّ الصراعات واتِّخاذ القرارات، والتواصل مع الآخرين، ومواجهة تحدِّيات الحياة. واحترام حقّ الأطفال بمن فيهم المراهقون في التعبير عن أنفسهم بحرّية، وتعزيز هذا الحقّ بأخذ وجهات نظرهم بعين الاعتبار في جميع المسائل التي تخصّهم عن طريق إعطاء آرائهم ما تستحقّ من اهتمام، إضافة إلى العمل على تغذية طاقات الأطفال والشباب وتنمية قدرتهم الإبداعية حتى يتمكَّنوا من المشاركة الفعَّالة في تشكيل بيئتهم ومجتمعاتهم والعالم الذي سيرثونه. ويحتاج الأطفال المحرومون والمهمَّشون، بمن فيهم المراهقون بالخصوص، أمسّ الحاجة إلى اهتمام ودعم خاصّين للحصول على خدمات أساسية وبناء الثقة بالنفس والاستعداد للاضطلاع بالمسؤولية عن حياتهم.[11] علما وأن ضمان هذه الحقوق يخضع لمبادئ لابد أن تتوفَّر في طليعتها مراعاة مصلحة الطفل الفضلى[12] في كل الفضاءات أو المؤسَّسات وبذلك ضرورة توفير فرص الاستماع لرأيه عبر هيئات إدارية أو قضائية[13].

صحيح أنَّ حقَّ الطفل في التعليم في تونس قد عرف تطوّرا ملحوظا تعكسه نسب الملتحقين بمقاعد الدراسة والذي يناهز اليوم تقريبا عدد كل من بلغ سن التمدّرُس. كما يعكسه إدراج حقوق الطفل في البرامج الدراسية وأساسا مادة التربية المدنيّة لكن هذا التطوُّر الملحوظ لا يخفي الواقع الصعب لفئة كبيرة من أطفال تونس، إذ تسارعت نسب الانقطاع في السنوات الأخيرة وتجاوز 110 ألف تلميذ حيث تغادر نسبة مهمَّة منهم مقاعد الدراسة دون إنهائها لمراحل التعليم الأساسي وهو ما يعني انقطاع الكثيرين منهم دون حصولهم على الكفايات اللازمة في القراءة والكتابة والحساب. أضف إلى ذلك ضعف مكتسبات نسبة مهمَّة من التلاميذ والتي أبانت عنها مشاركة تلاميذنا في التقييمات الدولية مثل PISA، حيث بدا الضعف الفادح في الرياضيات والعلوم واللغات واضحا.

إنَّ النصوص والتشريعات مهمَّة ولكنَّها تظلّ غير كافية طالما لم تكن مصحوبة بمجهودات واضحة تهدف إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان عامَّة وحقوق الطفل خاصَّة. فكل هذه النصوص تعمل على ضمان كرامة الطفل والحرص على نموّه المتوازن بدنيا وذهنيا ونفسيا، الالتزام بمصلحته الفضلى في اتِّخاذ القرارات التي تعنيه باعتباره جيل المستقبل الذي يضمن استمرارية وتقدم المجتمع. لكن إلى أي مدى يراعي النظام التأديبي المدرسي التونسي سواء أكان على مستوى الرّسمي أو اللارسمي هذه الحقوق؟

القانون التأديبي

القانون التأديبي المدرسي هو قانون ينظِّم سلوك المتعلِّمين في المدرسة كما يحدِّد الإجراءات التأديبيّة التي يخضع لها كل تلميذ، من تحديد العقوبات التي يمكن أن يتعرَّض لها، وكيفية اتِّخاذها، والأطراف المعنية بإقرار هذه العقوبات. فهذا القانون الذي يسعى إلى تحقيق النظام هو أداة للردع، وفي الآن نفسه إطار ينظِّم العيش المشترك داخل الفضاء المدرسي، في انسجام مع رسالة المؤسَّسة التربويّة الأساسيّة وهي إعداد المواطن الصالح وتكوينه. فوجود قانون يضبط ممارسات أطراف العمليّة التربويّة مسألةلا يمكن التخلِّي عنها في ظلِّ الحياة الجماعيّة وضمان مصالح كلّ الأطراف المكوِّنة للعملية التربوية.

فالحديث عن النظام التأديبي المدرسي، هو حديث عن العلاقات داخل الفضاء المدرسي، بمختلف مكوِّناته ومنها بالتحديد الفصل(القسم)، ووفقا لطبيعة هذا النصّ القانوني، المنظِّم للعلاقة التعليميَّة التربويَّة بين الأستاذ والتلاميذ، ووفقا لبنيته سواء كان نصّا ينظر إليه كضابط ومحدِّد لسلوك طرفي العملية التربويّة أي الأستاذ والتلميذ في الآن نفسه، أم كضابط لسلوكيات طرف واحد من طرفي العملية التربوية، أي الاقتصار على ضوابط تحدِّد سلوك التلميذ فقط في القسم. بمعنى هل الضوابط التي تحدِّد العلاقات داخل القسم تقتصر على الضوابط المكتوبة في شكل نصوص قانونية؟ أو مناشير وزارية؟ أم هي ضوابط غير مكتوبة، تتجسَّم في عادات وأعراف حكمت واقع المدرسة منذ فترة طويلة، فتعوِّد الأستاذ على ممارستها لفرض النظام في القسم وضبط سلوك المتعلّمين؟ وهل تراعي هذه الممارسات حقوق الطفل كما نصّ عليها النظام الرسمي؟ وهل تسهِّل بذلك جسور التواصل؟ أم تخلق هوّةَ وصراعا بين المتعلِّمين والأساتذة؟ وبتعبيرٍ ثان هل الممارسة التربوية في الفصل اليوم تخضع فقط لما هو رسمي أم أيضا لما صار بموجب الممارسة عادة دأب عليها المعلِّمون؟

فيما يتضمّنه التشريع التربوي في مسألة العقوبات التأديبية:

عرفت تونس حتى اليوم، ثلاثة قوانين تربوية كبرى والمتمعّن فيها لا يجد إشارة للنظام التأديبي المعتمد في المدارس التونسية ما عدا بالنسبة للقانون الأخير(الحالي) الذي خصَّص الفصول 12 و13 و14 لحقوق التلميذ وواجباته، وما يجب مراعاته من الإطار التربوي في مسألة العلاقة بينهما. في المقابل نجد مناشير وزارية صادرة عن وزارة التربية تنظِّم المدرسة وتحدِّد الإجراءات التأديبية التي يجب العمل والالتزام بها. أمَّا اليوم، فإنَّ مسألة التأديب ارتبطت بما تعاني منه المدرسة من مشاكل وما تعرفه من أزمات لا سيما منها التواصلية التي تعكس مناخا من التوتُّر في العلاقات بين الفاعلين التربويين.

بدأ العمل بالنظام التأديبي في تونس منذ حصولها على الاستقلال إثر صدور مرسوم يقرُّ بنظام حجز التلميذ يوم الأحد (يوم العطلة الأسبوعيّة)والذي توقَّف به العمل مع نهاية السنة الدراسية 1973-1974، والذي تتلخَّص إجراءاته في حجز التلميذ زمن الراحات الرسمية خلال الأسبوع، “وإن وفّق في الحدِّ من ظاهرة التسيُّب والتقصير في أداء الواجبات المدرسية من قبل التلاميذ، إلا أنه كان له أسوأ الأثر على شخصية التلميذ ووجدانه، فضلا عن كونه يحوّل المؤسَّسة التربوية إلى ما يشبه المعتقل ويصوّرها في ذهن التلميذ في أبشع صورة، فيزيد من نفوره منها وتنحرف بالتالي عن مسارها”[14]. ثم جاء منشور23 فيفري 1974 الذي جعل من المسألة التأديبية مسألة تربوية فتمَّ تعويض نظام الحجز والضغط البدني بنظام الضغط اللفظي والمؤسَّساتي، و”بعيدا عن التعسُّف والغلظة المفرطة ومنطق العصا لمن عصا دون الوقوع في التسيُّب واللامبالاة حيث يقوم نظام 1974 على الملاحظة كإجراء أولي ثم الإنذار كإجراء في مرحلة ثانية ثمَّ الرفت بثلاثة أيام ثم الإحالة على مجلس التربية.[15] والجديد في هذا القانون أنَّه نزع من الأستاذ الوسيلة الأكثر نجاعة لدعم نفوذه وسلطته على التلميذ فكانت كلّ الأطراف معبِّرة عن تأييدها للنظام الجديد ما عدا الأستاذ[16]. ثم جاء النظام التأديبي تحت منشور عدد81/91 بتاريخ 16 سبتمبر 1991 وقد صدر في سياق قانون الإصلاح التربوي عدد 65 لسنة 1991بتاريخ 29 جويلية يتعلَّق بالنظام التربوي الذي تضمَّن 36 مادَّة على الرغم من أنه لم يرد فيه صراحة ما يشير للنظام التأديبي، ولكن التطوّر الذي يعدُّ مهمّا هو ذلك الذي جاء مع قانون الاصلاح التربوي لسنة 2002 الذي حدَّد واجبات المتعلِّم[17].وعلى ضوء هذه الفصول صدر الأمر المنظِّم للحياة المدرسية على أن تتولَّى كل مؤسَّسة تربوية وضع نظامها الداخلي الذي يتضمَّن الجانب التأديبي.

 

بدأ العمل بالنظام التأديبي في تونس منذ حصولها على الاستقلال إثر صدور مرسوم يقرُّ بنظام حجز التلميذ يوم الأحد (يوم العطلة الأسبوعيّة)والذي توقَّف به العمل مع نهاية السنة الدراسية 1973-1974، والذي تتلخَّص إجراءاته في حجز التلميذ زمن الراحات الرسمية خلال الأسبوع.

يستنتج المتمعِّن في محتوى النصّ الرسمي للنظام التأديبي غياب مصطلح الطفل، والحديث عن تلميذ أو تلاميذ، فقد قمنا بجرد للعبارات الدالَّة على الطفل من خلال تحديد تواتر المصطلح في النص القانوني، فكان الغياب التامّ لعبارة طفل، وكثافة استعمال عبارة تلميذ التي تكرَّرت 39 مرَّة يذكر فيها بالمفرد، و11 مرة يذكر فيها بالجمع (تلاميذ) في حين ذكرت عبارة مواطن مرة واحدة، وعبارة ناشئة مرّتين، ومنظوريه مرتين أيضا، في حين ذكرت مفردة شباب ثلاث مرات فقط، وقد اعتبر التلميذ طرفا سلبيا في حاجة إلى التأديب والعقاب  والتربية وعلى أساس أنه متقّبل فقط.

فالطفولة غائبة في الخطاب التربوي الرسمي عموما وتحتلُّ حيِّزا ثانويا مقارنة بمواضيع أخرى مثل الامتحانات والتقييم أو الوظائف التربويّة للمدرسة، فنادرا ما يستعمل هذا المفهوم، فالطفولة حاضرة باعتبارها كيانا سلبيّا، يحتاج إلى ترويض. ففي جميع الخطابات الرسمية نجد الحديث عن العلاقة العمودية بين الأستاذ والتلميذ، حيث نجد هذا الأخير في حالة تبعية معرفية وأخلاقية للأول. بمعنى آخر لقد تعاطى القانون التأديبي والقانون التربوي عامَّة مع التلميذ باعتباره متمدّرسا وليس باعتباره طفلا متعلِّما. فالطفل مصطلح غائب، وكأنَّ حضور الطفل بالمدرسة يفقده صفة الطفل لصالح التلميذ الذي عليه استيعاب قواعد اشتغال المؤسَّسة التربوية وحسن أداء ما عبَّر عنه فيليب بيرنو Ph.Perrenoud مهنة التلميذ Le métier de l’élève[18]. وكأنَّنا بالمدرسة تفصل بين حياة الطفل بالمدرسة والتي يختزل فيها دوره في الحصول على المعارف (تعلَّم لتعرف) فيكون بذلك تلميذا فحسب عليه إتقان أداء دوره والامتثال للقواعد التي تحكم ذلك الدور، وبين حياته خارجها حيث يكون طفلا.

كما يلاحظ المتمعِّن في طبيعة هذا القانون أنه يأخذ شكل منشور وزاري، فهو صادر عن ديوان وزارة التربية والعلوم عدد93 لسنة 1991 بتاريخ 1 أكتوبر 1991 وتضمَّن القسم الرابع منه أولا نظام المذاكرة التكميليّة التي تعتبر أهم إجراء تربوي جاء في هذا القانون وتعتمد عند عدم إنجاز التمارين المنزلية أو مراجعة الدروس وتكون عشيَّة يوم السبت أو الأحد صباحا لمدة ساعتين أو أربع ساعات، وهي تهدف إلى حفز التلميذ على احترام توقيت الدرس وإنجاز عمل مدرسي تقاعس عن القيام به. وثانيا نظام المحافظة على آداب السلوك وتضمَّن هذا الجزء العقوبات التي تترتَّب عن أي سلوك خارج عن الآداب ويقوم هذا النظام على التدرُّج في العقوبات من الإنذار إلى الرفت المؤقَّت ثم الرفت النهائي. كما حدَّد العقوبات غير المسموح بها قانونيا وهي تشمل العقوبة البدنية والكلمة الجارحة والتهديد اللفظي والحطّ من العدد والإقصاء من الدرس إلا إذا أصبح وجود التلميذ يحول دون مواصلة الدرس بصفة طبيعية، ويتولَّى الأستاذ إعلام القيم العام لسحب التلميذ من قاعة الدرس، ثم يقوم قبل مغادرته المعهد بتحرير تقرير مفصَّل في هذا الصدد يسلم إلى الإدارة ويبقى هذا الإجراء استثنائيا. ومن واجبات المتعلِّم وفقا لهذا القانون مراجعة الدروس واحترام توقيت الدرس والمحافظة على آداب السلوك وعدم تعطيل سير الدرس أو المؤسَّسة واحترام المؤسَّسة بما تشمله من مربّين وعملة وإدارة وتجهيزات ومباني وعدم الغشّ في الامتحانات حتى لا يعرض نفسه للعقاب. أما دور الأستاذ فيتمثّل في اتّخاذ إجراء تربوي يتجَّسم في المذاكرة التكميلية يكون في شكل مقترح يقدَّم إلى مدير المؤسسة الذي له صلاحية القرار أو اقتراح إنذار أو الرفت المؤقت مع تحديد الأسباب كتابيا، والذي في الآن نفسه يتولَّى إعلام الولي بها عن طريق رسالة مضمونة الوصول، ويتمّ تسجيلها ببطاقة السيرة وبالملفّ المدرسي. ويعلم مجلس التربية بعقوبات الرفت التي أسندها. ولا ينصّ القانون على تسجيل عقوبة الإقصاء من القسم في دفتر التلميذ. وقد يكون هذا الإجراء هو الذي يجعل التلميذ يفضل الإقصاء من القسم على الحصول على إنذار. وأن هذه العقوبات تخصُّ أساسا التلاميذ دون سواهم فهذا القانون خاصّ بالتلاميذ فقط.

وإذا كان هذا القانون فوقيا يخضع للسلم التراتبي الإداري ويجعل الأستاذ في مرتبة سفلى من التنظيم الإداري، يتولَّى مسؤولية تطبيق القانون دون تجاوزه، فهو يعبِّر في الآن نفسه عن طابعه الفوقي والتسلّطي، فإن بنية هذا النظام تجعل الأستاذ موظّفا عموميا بعيدا عن كل المبادرات الفردية أو الاجتهاد. ولكن على المستوى الواقعي لا يعرف أغلب الأساتذة ما يتضمّنه القانون، وبذلك لا يحترمونه سواء أكانت على مستوى العقوبات أو على مستوى إجراءات تنفيذها، ولذلك يتجاهلونها بسبب روتينية إجراءات التأديب وتفاصيلها الدقيقة التي تتطلَّب حيِّزا زمنيا من حصَّة الدرس، والتي تفرض إعلام الإدارة وإرسال التلميذ رئيس القسم إليها ليعود مرفقا بالقيم العامَّة لإخراج التلميذ من القسم، ثم كتابة تقرير مفصّل حول أسباب الإقصاء. كما نصَّ القانون التأديبي على أن هذه الإجراءات احتياطية يلتجئ إليه الأستاذ عند استحالة مواصلة الدرس، ولكن أمام حالة عدم الانضباط السائدة في القسم اليوم أصبح يعتمد النظام الاحتياطي كل يوم وفي كل حصّة.

تضمَّن كل من القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي لسنة 2002 والأمر المنظَّم للحياة المدرسية 2004   قسما خاصا بحقوق المتعلم وواجباته وإن كانت مختصرة في ثلاثة فصول من جملة 70 فصلا (الباب الثاني في حقوق التلميذ وواجباته، الفصول 11و12 و13 من القانون التوجيهي) وفي فصلين من الأمر المنظِّم للحياة المدرسية(الفصل الثاني للحقوق والفصل الثالث للواجبات)، وتميّز النصّان بكونهما موجّهين لكلِّ الأطراف من أعوان الدولة إداريّين وأساتذة وكذلك تلاميذ وبكونهما يقومان على ثنائية الحقّ والواجب وذلك على خلاف كل من النظام التأديبي والنظام الداخلي للمؤسَّسة اللذين اقتصرا على تحديد الواجبات دون ذكر الحقوق(بالنسبة للمدرستين المعنيّتين بالبحث).بمعنى أنهما أحاديا الجانب وموجّهان للتلاميذ دون سواهم ويلزمانهم بواجبات دون ذكر الحقوق. وعن رأي الأساتذة المشاركين في البحث فهم يرون ضرورة مراجعة هذا النظام حتى يواكب ما عرفته المدرسة من تحوّلات رغم أن البلاد التونسية عرفت إصلاحا تربويا في 23 جويلية 2002 تضمَّن تحديدا لحقوق المتعلِّم وواجباته ولكن في المقابل لم يتغيَّر القانون التأديبي وبقي على ما هو عليه، وفي كثير من الحالات فقد طابعه التربوي على الأقل في نظر التلاميذ.

مدى تواتر العقوبات في المدرستين:

إنَّ جميع المشاركين في البحثقد أسندوا عقوبات خلال السنة الدراسية 2015/2016 وهذا يبيِّن أنَّ العقوبات ظاهرة تتميَّز بالشمولية فهي لا تستثني أحدا من الأساتذة فالكل يلتجئ إليها. وهم جميعا يعتمدونها بقطع النظر عن اختصاصهم أو سنوات الأقدمية أو جنسهم، وسواء أكانت عقوبة قانونية أو غير قانونية. إذ يمثِّل كل من الإقصاء من القسم والطرد المؤقَّت الممارسات الأكثر انتشارا وتطبيقا في المدارس اليوم وهو ما يعكس ردَّة فعل المربِّين عن الفوضى والعنف اللذين تصاعدت وتيرتهما بالمؤسَّسة التربوية. فمن مجموع 465 تلميذا موزّعين على 16 قسما نجد 816 إقصاء في المدرسة الأولى في حين نجد من مجموع 459 تلميذا موزعين على 16 قسما نجد 2548 إقصاء في المدرسة الثانية[19]، ويعبِّر هذا عن كثافة الإقصاءات من القسم. وصرَّح عدد من الأساتذة بأن هنالك من التلاميذ من يفتعل التشويش وتعطيل سير الدرس للخروج والبقاء أمام المدرسة والهروب من الدرس. فنجد بعض التلاميذ كثيري العقوبات حيث تصل الإقصاءات التي يتحصَّلون عليها خلال السنة الدراسية إلى أكثر من 20 إقصاء تضاف إليها الساعات الموالية التي لا يستطيعون فيها الحصول على بطاقة دخول والتي تصنَّف ضمن الغيابات.

أمَّا بالنسبة لعقوبة الرفض المؤقَّت دون الإحالة على مجلس التربية فقد قدَّرت بـ ــــــ133 رفتا من جملة تلاميذ المدرسة الأولى (703) ويحتلّ تلاميذ السنة السابعة المرتبة الأولى في حصولهم على هذه العقوبة ويليهم تلاميذ السنة الثامنة في حين تنخفض هذه العقوبة كثيرا في السنة التاسعة. أمَّا بالنسبة لعقوبة الرفض المؤقَّت بعد الإحالة على المجلس فتوزّع على النحو التالي: في المدرسة الأولى8 تلاميذ من مجموع التلاميذ بالمدرسة تحصَّلوا على عقوبة الرفض بعد الإحالة على مجلس التربية، في حين بالمدرسة الثانية بلغ عدد الذين عوقبوا بالرفض 14 حالة. وفي كلتا المدرستين كانت جلّ الحالات من السنة السابعة من التعليم الأساسي، وهذا في حدَّ ذاته يطرح إشكاليات عديدة لعلَّ من أهمّها معنى العقوبة لدى تلاميذ السنة السابعة أساسي. وبلغ عدد المرفوضين نهائيا من المدرسة الأولى تلميذا واحدا وفي المدرسة الثانية ستة تلاميذ وكلهم من الذكور. كما أن التفاوت بين المدرستين على مستوى العقوبات يكشف عن أن محيط المدرسة ومكان وجودها والمناخ العام فيها كلها عوامل تؤثر في سلوك التلاميذ ومدى احترامهم للقواعد المدرسية.

وعن أسباب هذه العقوبات نجد أنها تتمثَّل في سوء السلوك تجاه الأستاذ أو تجاه العملة والعنف تجاه أصدقائه في المدرسة. وهي سلوكيات منافية لقواعد الحياة المدرسية وتعبِّر عن طابعٍ لامعياري للسلوك بالفضاء التربوي، فهي أصبحت مزمنة ومتكرِّرة أفقدت القاعدة معناها وأصبح غير معترف بها. وقد تمكَّنا من تصنيف أسباب إسناد العقوبات حسب رأي كل من الأساتذة والتلاميذ إلى أسباب تعود أولا إلى المسِّ من القواعد المنظِّمة للحياة المدرسية، وثانيا إلى عوائق العيش المشترك وثالثا إلى عوائق التعلُّم.

ويجمع الأساتذة المشاركون على أنَّ أغلب التلاميذ يفتقدون لقواعد الآداب وللانضباط ولا يأبهون للقواعد المنظِّمة للحياة المدرسية ويعيبون عليهم عدم اكتسابها من المرحلة الابتدائية. والمتمعِّن في أسباب العقاب يلاحظ أنَّ السلوك ذاته قد يؤدِّي في بعض الأحيان إلى الرفض المؤقَّت وفي أحيان أخرى إلى الرفض النهائي وفي أحيان ثالثة إلى الإقصاء من القسم فقط. فمثلا قد ينتج عن التطاول على الأستاذ العقاب بالرفض المؤقَّت وفي بعض الأحيان الرفض النهائي، وفي أحيان أخرى حضور الولي والاعتذار من الأستاذ. كما أن عقوبة الغش قد ينجر عنها الرفت المؤقت وفي أحيان أخرى عدم تسليط العقوبة وقد يعود ذلك إلى قناعة الأستاذ وخوفه من الإضرار بالتلميذ وحرمانه من الإسعاف في آخر السنة الدراسية إذ تقول إحدى الأستاذات، (28 سنة أقدمية) “في بعض الأحيان يصمت الأستاذ على الخطأ ولا يعاقب وربما هذا يشجِّع التلميذ على مواصلة الفعل، فأنا مثلا تفطَّنت إلى محاولتي غش في الامتحان النهائي لهذه السنة، ولكن على الرغم من ذلك طلبت من التلميذين إعادة الامتحان لأنَّهما قد يحرمان من الإسعاف ويتسبَّب ذلك في رسوبهما”. ويلاحظ المتمعِّن في النصِّ القانوني أنَّهُ يتَّسِم بعدم الوضوح في حدِّ ذاته إذ لم يدخل في تفاصيل السلوك المنافي لقواعد الحياة المدرسية، فيكون بذلك العقاب رهين قناعات الأستاذ ومزاجه وما يؤكِّد ذلك ما قاله أحد الأساتذة ( 25 أقدمية):”الأقصى هو الذي يقدِّمه النظام التأديبي كإجراء أمَّا بالنسبة إليّ لا أعتمده أحرص على أن أكون متسامحا ويقدِّمُ مثالا: لو جاء التلميذ دون ميدعة لا أطرده من القسم وأحرمه من الدرس بل أحذّره ولا أصدمه وفي المرَّة القادمة إذا جاء دون ميدعة اضطرَّ إلى طرده أيّ وجود تدرُّج في العقاب”. وفي حالات كثيرة يقرِّر الأستاذ إسناد العقاب عندما يكون غاضبا ثمَّ يتراجع عن ذلك من الغد ويلغيه. كما لا يكتفي الأستاذ بهذه العقوبات التي أقرَّها القانون التأديبي سواء أكانت الإنذارات أو الرفض المؤقَّت بل يعتمد عقوبات أخرى لم ينص عليها القانون باعتبارها ممنوعة يحّر على الإطار التربوي اعتمادها وهي متداولة، وتمسُّ من ذات التلميذ وحقوقه وتتمثَّل في العنف اللفظي والمادّي. فقد أشار الأساتذة إلى اعتماد التوبيخ واستدعاء الولي والزجر والصفع والتهكُّم والسخرية والتجريح والتنقيص من العدد و”تلصيق العلكة في الشعر” وتغيير مكان التلميذ في القسم. إذ يقول أستاذ آخر(24 سنة أقدمية)“رغم تحصُّل التلميذ على عقاب بالطرد بثلاثة أيام، إلا أنَّه واصل التشويش واللعب في القسم فعاقبته بوضعه في المكان الأوَّل أمامي وتقول أستاذة أخرى “أنا أمنع عليهم العلكة وأنبّههم بأنّي أقوم بوضعها على شعر التلميذ إذا تجرَّأ أحدهم على وضعها في فمه “وتضيف مربيَّة أخرى(19 سنة أقدميَّة) “عندما أعاقب فيعني كل الطرق الأخرى نفدت ولكني أعتمد وسائل أخرى مثل أن أصفعه ولكن لن أطرده من القسم”، وتقول إحدى الأستاذات(31 أقدميَّة) ” طبعا أضربهم أنا أفعل ما لا تتصورونه. قد أهين وقد أضرب وأخلع حذائي وأضرب به والتلميذ لا يحتجّ لأنَّه يعرف أنني أبحث عن مصلحته، فأنا أتصرَّف معهم كأمّهم في القسم. فأنا أفعل ذلك ليس شماتة فيهم، أنا أرى أن الضرب يعطي نتيجة وقد استعملته مع أبنائي. الضرب الذي أمارسه لا يضرُّ ولا يقتل وأنا عموما ليست لي مشاكل مع التلاميذ”. فالعنف موجود في الممارسات العقابية في المدرسة التونسية ويعرف علم الاجتماع العنف بأنه” مجموعة من الأنماط السلوكية التي تصدر عن الفرد أو الجماعة، وتؤدِّي إلى تصرّفات غير اجتماعية وغير تربوية خطيرة، تتعارض مع القوانين والمواثيق “[20]وكل هذه الممارسات تحيلنا إلى أنَّ القاعدة القانونية لا تقوم على الدقَّة والوضوح الكافيين اللذين يساهمان في احترامها والعمل بها، وأنَّ هذه القاعدة لم تكتسب المشروعية الاجتماعية اللازمة لضمان إلزاميتها. وهذا ما يؤكِّد على ضرورة توفّر سياق مجتمعي يحث على احترام القوانين والعمل بها ويمنع مظاهر الإفلات من العقاب.” ولذلك لابدّ أن تترافق العقوبة القانونية مع تفاعلات المجتمع برمّته وخاصَّة فاعليه الاجتماعيين من نقابات وأحزاب وجمعيات ونخب مستقلَّة. فالقانون وحده لا يردع إن لم يترافق عمليا مع ما يمكن أن نسمِّيه نظرية الردع الاجتماعي.[21]ومن بين المؤسَّسات التي تقوم بهذا الدور أساسا في موضوعنا هذا، مؤسَّسة العائلة وحتى المؤسَّسات الثقافية والإعلامية التي أصبحت بدورها تساهم في عملية ترسيخ قيم وقواعد العيش المشترك وتحقيق اجتماعية الفرد. فالقاعدة القانونية في حاجة لسياق مجتمعي يقوم على احترام القوانين ويضمن مشروعيتها حتى لا يبني المتعلِّم مواقف سلبية تجاهها نلمسها من خلال وعي التلاميذ المشاركين بأنَّ هذه العقوبات تمسُّ من حقوقهم إذ يقولأحد التلاميذ (تلميذ بالسنة التاسعة أساسي، (14 سنة معدل السنوي12.73):”حرمان التلميذ من حقِّه في التعليم يشكِّل الحقد والكراهية ويصبح يستفزّ الأستاذ من أجل إقلاقه، العقاب يتحوَّل الى عقابين؛ عقوبة الأستاذ وعقوبة الولي ممَّا يؤدِّي إلى كره التعليم”. ويرى تلميذ آخر أنَّ”أخطر عقوبة هي الطرد من القسم؛ لأنَّ التلميذ سيبقى في الشارع وعند العودة إلى المنزل سيجد عقوبة أخرى هي الضرب والبخس، وبذلك يفضِّل البقاء في الشارع حيث سيتعرَّف على أصحاب السوء ويضيع “يهمل“.” ويقولتلميذ ثالث: العقاب لا فائدة منه لأنَّ التلميذ عندما يطرد من القسم يذهب إلى قاعة الألعاب ويبتعد أكثر عن الدراسة أو يبقى في الشارع وينحرف. في المقابل يقول تلميذ آخر“أفضّل الطرد لأنِّي لا أحبّ من يمسّ كرامتي و”يحطّ من قدري” وقد أردّ الفعل...”ويضيف زميل له” أنا تعاقبني الأستاذة بالبقاء واقفا وراء الباب لمدة ساعة، ويضيف” أنا أفضِّل هذه العقوبة على أن أطرد من القسم وأبقى في الشارعكما يشعر التلاميذ بعدم المساواة إذ يرون أنَّ الأساتذة يميِّزون بينهم في تسليط العقاب أولا، على مستوى الجنس، حيث هنالك حسب رأيهم أساتذة يفضِّلون الإناث وأساتذة آخرون يفضِّلون الذكور، وثانيا على مستوى النتائج الدراسية إذ يفضِّل الأساتذة حسب رأيهم التلميذ المتميِّز، وثالثا على مستوى الوسط الاجتماعي ورابعا على مستوى القرابة العائليّة.

 

يجمع الأساتذة المشاركون على أنَّ أغلب التلاميذ يفتقدون لقواعد الآداب وللانضباط ولا يأبهون للقواعد المنظِّمة للحياة المدرسية ويعيبون عليهم عدم اكتسابها من المرحلة الابتدائية.

وتبيِّن الأقوال أنَّ أغلب التلاميذ المشاركين يقرُّون بهذا التمييز، ويعتبرونه نوعا من العداء والكراهية للتلاميذ ولكن التحليل السوسيولوجي يفسِّر ذلك بالوظائف التي تقوم بها المدرسة “فإذا كانت الوظيفة الأولى هي تحقيق التجانس، فإنَّ الوظيفة الثانية للمدرسة هي تحقيق التباين بين الأفراد. وهذا يعني تصنيف الأفراد في طبقات وفئات اجتماعية، لأنَّ المدرسة توجد التباين والاختلاف بين التلاميذ بصورة رمزية تتمثَّل في المنح والدرجات والعلاقات المدرسية، وفي مستويات النجاح والرسوب.”[22]فهي، أي المدرسة، حسب دوركايم في كتابه “التربية الأخلاقية” تميِّز بين أعضائها على أساس الطبقة والجنس والعمر والانتماء ومستوى الدخل ومستوى الذكاء، ففي الوقت الذي تقوم فيه المدرسة بتحقيق التجانس الثقافي بين هؤلاء الذين ينتمون إليها، تعمل من جهة أخرى على التمييز والاصطفاء فيما بينهم، وهي تؤدِّي الوظيفة المزدوجة بوصفها وسطا اجتماعيا أخلاقيا منظّما[23]. كما يرى بورديو أنَّ “بنية النظام المدرسي ووظيفته يعملان على ترجمة اللامساواة من مستواها الاجتماعي بشكلٍ مستمرّ ووفقا لرموز متعدِّدة، إلى اللامساواة في المستوى المدرسي…وليس للمدرسة من مهمَّة سوى تعزيز قيم الطبقة الاجتماعية السائدة والعمل على إعادة إنتاج العلاقات الطبقية القائمة، ثمَّ إعطائها طابع الشرعية في آنٍ واحد”[24]فالمدرسة تدعّم ثقافة المجتمع ذلك أن الأستاذ يمارس هذه الأفعال بصفة قصدية. فمن ناحية يمارس الضرب إيمانا منه بنجاعة هذا الأسلوب في التربية  وهذا ما نلاحظه من خلال أقوال بعض الأستاذات خاصة، فهنَّ يمارسن الضرب أيضا مع أبنائهن، وهذا ما يؤكِّد ما توصَّلت إليه دراسة المركز الوطني للتجديد البيداغوجي من أن”الأولياء التونسيين مازالوا في غالبيتهم يؤمنون بنجاعة الطرق التقليدية في التربية من ضرب وتخويف والتي أثبتت جدواها في نظرهم وهو ما تؤكِّده أيضا نتائج الدراسة الميدانية للتنشئة داخل الأسرة التونسية التي أشارت إلى أن الضرب مازال معمولا به ومعتمدا من قبل الأولياء وأنَّ الأمّهات أكثر استعمالا له من الآباء.”[25] ومن ناحية ثانية، هنالك صلة وثيقة بين إهانة التلميذ وتمثّلات الأساتذة لكفاءات التلاميذ المدرسية وتحصيلهم الدراسي، فالإهانة تكون موجَّهة أساسا للتلاميذ ضعيفي النتائج وكأنّ النجاح الدراسي ينمِّي احترام الأستاذ للتلميذ في حين يكون ضعف النتائج الدراسية مبرّر اللإهانة، التي تصبح نتاجا لإيديولوجيا المدرسة. ولكن بيار مارل[26] يقول: يصعب حصر الإهانة في إيديولوجية المدرسة وإعادة إنتاج التراتبية في المجتمع. ولا يمكن القول أيضا إنَّ الأستاذ يحقِّق أغراضا نفسية ذاتية عندما يمارس الإهانة فعند سؤالنا عن مدى إنصاف الأستاذ للتلميذ عند العقوبة كانت إجابة إحدى الأستاذات ” أنصفت نفسي أشعر بضرورة معاقبته حيث أكون في حالة نفسية وعصبية سيئة. أشعر بضرورة معاقبته وبطريقة قاسية من أجل أن” أهدأ” وأرتاح”. ويفسِّر بيار مارل الإهانة بأنها نتيجة لفقدان النظام التأديبي المدرسي نجاعته، فعند سؤالنا: هل العقوبات المسندة للتلاميذ ذات جدوى؟ يقولأستاذ25(سنة أقدمية)حسب اعتقادي لا؛ لأنَّ تقريبا 90% من العقوبات لا تنفع فالتلميذ الذي يتحصَّل على إنذارٍ مؤهَّل للحصول على إنذار آخر والتلميذ الذي طُرِدَ ثلاثة أيَّام سيتحصَّل على العقاب مرَّة أخرى”. فعلى الرغم من الفصل بين دور الأستاذ المعرفي ودوره في فرض النظام في القسم، يصبح الأستاذ عاجزا في ظل الفوضى والتشويش عن القيام بنشاطه، ويتسبَّب ذلك في ضغط كبير وإزعاج له ويتحوَّل دور الأستاذ إلى مهمَّة وحيدة، هي فرض النظام وضبط التلاميذ، ويرجع علم الاجتماع هذه المسألة إلى السلطة، فبعد أن أكد دوركايم على الترابط بين العقاب والنظام مركزا على الأفعال التي يقوم بها الأستاذ ليوقظ روح الانضباط وتعزيز استيعاب القواعد والأخلاق جاء فيبر ليؤكِّد على مشروعية القواعد وممارسة الهيمنة العقلانية المشروعة التي تقوم عليها المؤسَّسات بما في ذلك المدرسة.

لم تعد هذه الطرق للإخضاع ناجعة اليوم في ظل ظهور العنف في صفوف التلاميذ والغيابات المتتالية… وعدم فاعلية القوانين والقواعد المدرسية الأمر الذي جعل الأستاذ يبحث عن طرق وبدائل أخرى لفرض النظام منها التفاوض في القسم. فيسعى الأستاذ إلى خلق نوع من الاتفاق يقوم على تحديد الأدوار والمهام، ولكن هذا التفاوض لا يكون متاحا في أغلب الأحيان. فيضطر الأستاذ إلى اعتماد الهيمنة والإهانة التي هي في نظره صنفا من أصناف العقاب، فهي تقصي رمزيا التلميذ عن بقية التلاميذ لتبين أنه مختلف عنهم. فهي نوع من الوصم stigmatisation فمثلا تقول تلميذة “أنا في بعض الأحيان أعاقب بالجلوس بمفردي وأشعر بالذلّ فلا أحبّ النظرة السيئة لأصدقائي تجاهي”. ويدعم زميلها رأيها بالقول: “أخطر عقوبة هي العنف لأنها تحط من قيمة التلميذ أمام أصدقائه. “ويقول تلميذ ثالث: “الأستاذ يبخسك عند الإجابة الخاطئة فيضحك بقية التلاميذ ويلومك الأستاذ.” فهذه العقوبة الاستثنائية التي تضع حدّا بين الذين ينتمون لمجموعة القسم والذين يقصون من مجموعة القسم تقوم على ثنائية الإقصاء والإدماج فهي تزيح صفة أو وضعية التلميذ وفي بعض الأحيان صفة الشخص الإنسان والأستاذ ينزع عن نفسه الهيمنة العقلانية القانونية ليتولَّى هيمنة ذاتية لفرض النظام بطريقته، فهي نوع من التعسُّف من الأستاذ، فيسعى لممارسة دور السيد، ولكن في المقابل تصبح سلطة الأستاذ دون حصانة وقابلة للنقض من قبل السلطات الإدارية العليا التي تمنع الممارسات اللانظاميَّة أو اللاقانونيَّة، ومن قبل العائلة فقد يحتجّ الأولياء على ذلك، ومن قبل التلميذ في حدِّ ذاته الذي تكون في بعض الأحيان ردَّة فعله عنيفة وتزيد من حدة التوتُّر والصراع في العلاقة التربوية. يقول أحد التلاميذ، (15 سنة، راسب): أهانني الأستاذ بالضرب المتواصل وبصفعي لأنَّه اعتقد أني رميت عليه الحلوى رغم أني لم أفعل ذلك وكانت ردّة فعلي عنيفة. قرَّر طردي طردا نهائيا وتدخّلت أمِّي وطلبت العفو من الأستاذ. ويواصل قائلا “الضرب ممنوع وعندما عنَّفني الأستاذ أنا فكرت مباشرة في الطرد النهائي والأستاذ لا يفهم التلميذ “. فعلى الرغم من أن خصوصيَّة أفعال الأستاذ التسلّطية كانت نتاجا لسياق يتواجد فيه ويفرض عليه هذا التسلُّط وهذه الهيمنة وهو سياق الفوضى وعدم نجاعة القوانين، فالإهانة التي يعتمدها الأستاذ هي نوع من الاستراتيجية لفرض النظام في القسم وليخف الجميع فتقول أستاذة (31 سنة أقدمية)،” أنا التلميذ يخافني ويهابني إلى درجة عندما أقترب منه يعتقد أنني سأضربه”. صحيح أن الأستاذ يعتمد هذه الاستراتيجية أساسا مع التلاميذ المشوشّين وضعيفي النتائج ولكن في أحيان أخرى يستعملها مع التلاميذ الخجولين ومتوسّطي النتائج الذين يخلق في ذواتهم الخوف والرعب والارتباكـ. فالإهانة إجراء وقائي ليمتنع التلميذ عن التشويش. ولكن هذه الاستراتيجية يمكن نعتها بأنَّها استراتيجية ضعيفة إذ تكون نتائجها وقتية في فرض النظام ولا تتجاوز حدود الحصَّة الواحدة أو بعض الحصص تزيد العلاقة التربوية توتّرا وتزيد من تمرُّد التلميذ وكرهه للدراسة والابتعاد عنها شيئا فشيئا، كما أنها تعطيه فرص لوضع استراتيجيات مضادَّة من أجل الدفاع عن مصالحه وحرّياته وحمايتها في ضوء متطلّبات المدرسة عامَّة ومتطلّبات الأساتذة أساسا، إذ أن التحليل الاستراتيجي يقوم على فكرة أن كل طرف في المدرسة له استراتيجيا فإذا كان الأستاذ يعتمد استراتيجية الإهانة، فإنَّ التلميذ أيضا يضع استراتيجيات قد تكونموضوعة وفقا للقواعد والقوانين أو وفقا لقدرته كفاعل على التحكُّم في هامش الحرية المتاح لديه وقدرته على التحكُّم في القوانين والتلاعب بها أو خرقها.

وفي إطار مقابلاتنا مع مجموعات التلاميذ تفطَّنا إلى هذه الاستراتيجيات التي تتميَّز بأنها فقيرة ويعود ذلك أساسا إلى إقصاء التلميذ من كل المجالس التي تتَّخذ فيها القرارات. فيضطرّ التلاميذ إلى اتِّباع استراتيجيات دفاعية تقوم أساسا على التلاعب بالقواعد المدرسية وقانونها الداخلي[27]. وقد تحدَّث المشاركون عن تجاربهم، فأحد التلاميذ الذين شاركوا في المجموعات البؤرية (تلميذ بالسنة الثامنة، 14سنة)، قام بتزوير بطاقة الدخول حتى يستطيع حضور حصَّة العربية ولكن تفطَّنت الأستاذة لذلك وعرض على مجلس التأديب على إثرها تحصل على عقوبة طرد بأربعة أيَّام. ويمكن للتلميذ أيضا أن يعتمد استراتيجيا إيجابية كأن يطلب الاعتذار من الأستاذ أو الإدارة لإلغاء العقوبة.

في خصوصية العقاب المدرسي:

أصبحت القناعة اليوم مؤكَّدة، أنَّه حتى ندرِّب الطفل على المواطنة، وعلى ممارسة دور الإنسان الحرّ والمتمتّعِ بحقوقه وفي الآن نفسه المسؤول والملتزم بواجباته، لابد من الاعتراف بالخصوصية التربوية للنظام التأديبي المدرّسي فالوظيفة المتواصلة للمدرسة هي التربية وبذلك التأكيد على البعد التربوي للنظام التأديبي وليس البعد التأديبي بالمعنى العقابي. ولذلك فإن خرق التلميذ للقانون التأديبي والحرص على تطبيق العقاب لا يمكن مقارنته بنظام العقوبات الجزائية الذي يطبَّق على الراشدين في المجتمع. فكما يقول عالم الاجتماع إريك بريرا بخصوصية العقاب المدرسي وانفراد المدرسة باعتبارها فضاء للتربية والتنشئة فهي فضاء وسيط يدرب الطفل حتى يصبح كبيرا[28]. يمكن في إطار الترابط بين القانون التأديبي والقانون الجزائي اتّباع مبادئ القانون الجزائي وأسسه لتدريب المراهق والشباب على احترام القوانين وتأهيله للعيش المشترك. يرى إريك بريرا في هذا المجال أنَّهُ لا بد أن ترتكز العقوبة على مبادئ أربعة أساسية تتمثَّل في مبدأ مشروعية العقوبات التأديبية وإجراءاتها ومبدأ المواجهة أو المحاربة مبدأ التدرُّج في العقاب وأخيرا مبدأ فردية العقوبة[29].

 

أصبحت القناعة اليوم مؤكَّدة، أنَّه حتى ندرِّب الطفل على المواطنة، وعلى ممارسة دور الإنسان الحرّ والمتمتّعِ بحقوقه وفي الآن نفسه المسؤول والملتزم بواجباته، لابد من الاعتراف بالخصوصية التربوية للنظام التأديبي المدرّسي فالوظيفة المتواصلة للمدرسة هي التربية وبذلك التأكيد على البعد التربوي للنظام التأديبي وليس البعد التأديبي بالمعنى العقابي.

يسعى النظام التربوي إلى تحقيق جملة من الرهانات أولها [30] تسعى العقوبات إلى تحقيق علوية القانون على سلطة الأستاذ وليس هيمنة الكبار على الصغار عامَّة، ويدرِّب العقاب على الوعي بوجود نظام يتجسَّم في القوانين والقواعد، ولا يهدف إلى إبراز أنَّ الكبير يمارس سلطة على الصغير بقدر ما يهدف إلى تحقيق نوع من الإجماع أي نوع من الترابط بين أنا وأنت وبذلك نحن. ونهدف من العقاب إلى التوعية بوجود قانون أعلى يخضع له الجميع ويضمن نوعا من الإجماع والترابط والانسجام والتقليص من مظاهر الهيمنة والتسلُّط حتى نتمكَّن من العيش سويا. ثانيا تتأثر العقوبات بالمواقف والاتِّجاهات والتمثُّلات الاجتماعية، فإذا كان للتلاميذ مواقف إيجابية تجاه العقوبات لأنَّها متأتِّية من سلطة مشروعة أو شرعية معترف بها فإنه يمكن القول إن سلوكهم ومواقفهم في المدرسة ستكون أقل عدوانية وأقل عنفا منه إذا كانوا يعتقدون في لا شرعيتها وأنها عشوائية وغير عادلة. وأنَّ هذه المواقف هي نتاج لتمثُّلات اجتماعية. و”تشير التمثلات إلى الرموز والأفكار والأدوار التي تحمل معانٍ وتأويلات مشتركة لدى جميع أعضاء الجماعة، وهي تمثِّل تأليفات وتركيبات متعالية على الأفراد ومخترقة لحواجز المكان والزمان، ولكن عند تفاعلها مع المجموعات البشرية تنتج وتفرز أو بالأحرى تتفرَّع إلى تصوّرات عديدة متباينة في أهدافها واستراتيجياتها ومصالحها الاجتماعية”[31]وإنَّ دراسة المواقف تمكّننا من الوصول إلى أهداف، فالغاية من تحديدها قد تكون من أجل تواصل أفضل مع المجموعة التي تحمل تمثُّلات معينة، كما يمكن دراستها من أجل فهم وضعية اجتماعية يظهر فيها اتِّخاذ مواقف أو إصدار أحكام أو تصرّفات. أو لكي نقارن بين جماعات معيَّنة ونبرز تطوّر المواقف فيها. وثالثا أن دراسة ما هو متّفق عليه(الاجماع) أو ما هو مختلف عليه بين الشركاء في القسم أو تنظيم ما(الاختلافات)، يبقى وسيلة من وسائل التدخُّل المفضَّلة لتحليل الصراعات الموجودة وتقديم اقتراحات للتواصل من أجل دعم ثقافة ومرجعية مشتركة بين الشركاء المعنيين.[32]

خاتمة:

من مفارقات منظومة التربية في تونس أنها تشتغل وفق منطقين يكادان يكونان متناقضين. فهذه المنظومة التربوية التي تجد لها جذورا في النصوص الضامنة لحقوق الإنسان من قبيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948، والاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان (1989)، ومجلَّة حماية الطفل (1995)…الخ، تجد نفسها في الممارسة اليومية خاضعة لاستراتيجيات فاعلين مختلفين، غايتهم ليست بالضرورة توطين فكرة ارتباط الحقّ بالمسؤولية، بل ترسيخ فكرة ضمنية لدى الكثيرين ممَّن يشتغلون في الحقل التربوي، ومفادها أنَّ النجاح يرتبط باستيعاب مهنة التلميذ. ومن هذا المنطلق تظهر خطورة المفارقة، فلا الحقوق تجاوزت البعد النظري، ولا العقوبة أفضت إلى مناخ تربوي سليم. وإنَّ التحوُّل الذي يعيش على وقعه المجتمع التونسي اليوم، يفرض إيلاء حقوق الإنسان منزلة خاصَّة، وتحديدا حقوق الطفل. ومن ثمَّة لا مناص من أن يكون الإصلاح التربوي المرتقب متضمّنا لرؤية جديدة لمسألة “التأديب” بحيث تكون مراعية أولا للمقاربة التشاركية التي هي عنوان الديمقراطية، وثانيا لحقوق الطفل، بمعنى أن وجود الطفل –المتعلِّم في المدرسة يتأتَّى في ممارسة الحق، لا في أداء واجب. ولكن ككل حقّ فهو ملتصق بالمسؤولية.

 

المراجع بالعربية

  • بالراشد (محمد)، الكناني (نادرة) “دليل حقوق الطفل” المركز الوطني لتكوين المكونين، 2015
  • بن ناصري (توفيق)، وآخرين. «النظام التأديبي وظاهرة عدم الانضباط بمؤسسات التعليم الثانوي». المجلة التونسية لعلوم التربية، عدد 20-1992-عدد 21-1993.
  • خواجة (أحمد)،” تصورات للعائلة التقليدية والعائلة الحديثة من خلال القصص المصورة للأطفال، مجلة عرفان نموذجا. الهياكل العائلية والأدوار الاجتماعية، سراس للنشر والمعهد الأعلى للتربية، 1994.
  • محجوب (عبد الوهاب) وبمشاركة مجموعة من الباحثين، العنف في المدرسة، المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية، وزارة التربية والتكوين.
  • وطفة (علي أسعد) والشهاب (علي جاسم)، علم الاجتماع المدرسي: بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها الاجتماعية، بيروت، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2004
  • وناس (المنصف)، الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر،2011.

القوانين

  • القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 المؤرخ في 23 جويلية 2002 المتعلق بالتربية والتعليم المدرسي، الفصل الثاني” التلميذ محور العملية التربوية.
  • الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل 20 نوفمبر 1989.

المراجع الأجنبية

  • Boukraa )Ridha( ,Comprendre la mondialisation, Etudes sociologiques, Centre de Publication Universitaire,2005.
  • Bourdieu (Pierre),(J.C)Passeron, La reproduction,Paris,Minuit,1970.
  • Chabchoub (Ahmed), «Les représentations du système disciplinaire chez les deux partenaires scolaires», Revue Tunisienne des Sciences L’éducation ,N° 18-1990/N° 19- 1991
  • James et Prout 1990 in SIROTA R., Education et Sociétés- Revue internationale de sociologie de l’éducation-Sociologie de l’enfance, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1998.
  • Perrenoud (Ph), Métier d’élève et sens du travail scolaire, Paris, ESF 1995.
  • Prairat (Eirick), La sanction en éducation, PUF ,2011.
  • Prairat (Eirick), «Réflexions sur la sanction dans le champ de l’éducation», La lettre de l’enfance et de l’adolescence, 2004.
  • Pithon (Gérard)et Barrandon Xavier «Représentations par les professeurs et les élèves des objectifs et des principes qui régissent les sanctions dans un lycée: dissensus et consensus révélateurs de leurs difficultés à communiquer»,Tréma;2007.
  • Merle (Pierre), «L’humiliation des élèves dans l’institution scolaire:contribution à une sociologie des relations maître-élèves». In:Revue française de pédagogie, Vol 139, 2002.
  • Langanay (Jean-Yves) «le règlement intérieur: nouveaux enjeux pour l’école», Journal du droit des jeunes 2002/4 (n°214).

 

 المدرستان الإعداديتان هما: المدرسة الإعدادية صلاح الدين الأيوبي برأس الجبل والمدرسة الإعدادية برأس الجبل.[1]

[2]القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 المؤرخ في 23 جويلية 2002 المتعلق بالتربية والتعليم المدرسي، الفصل الثاني” التلميذ محور العملية التربوية.”

[3] James et Prout 1990 in SIROTA R., Education et Sociétés- Revue internationale de sociologie de l’éducation-Sociologie de l’enfance I, De Boeck Université, Paris, Bruxelles, 1998, p21.

[4] الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل 20 نوفمبر 1989.

[5]Ridha Boukraa ,Comprendre la mondialisation, Etudes sociologiques, Centre de Publication Universitaire p,74, 2005.

6 نص الإعلان العالمي بوضوح في مادته عدد26 على أن “لكلِّ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا. ويكون التعليمُ الفنِّي والمهني متاحًا للعموم. ويكون التعليمُ العالي متاحا للجميع تبعا لكفاءتهم.”

[7]الدستور التونسي الفصل 39، المطبعة الرسمية،2014.

[8]المرجع نفسه، فصل 11.

[9]مجلة حماية الطفل، الفصل 2،

، الباب الثاني” في حقوق التلميذ وواجباته”، الفصل 11-12، 2002. القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي[10]

[11]الأمم المتحدة؛ عالم صالح للأطفال، A/S-27/19/Rev.1 ، ص.12

[12]مجلة حماية الطفل، الفصل 4.

[13] نفس المرجع، الفصل 10.

[14] توفيق بن ناصري، سمير مراد، محمد نجيب الجبنياني. «النظام التأديبي وظاهرة عدم الانضباط بمؤسسات التعليم الثانوي». المجلة التونسية لعلوم التربية. عدد 20-1992، عدد 21-1993 ص 45.

[15]المرجع السابق، ص 46-47.

[16] Ahmed Chabchoub, «Les représentations du système disciplinaire chez les deux partenaires scolaires», Revue Tunisienne des Sciences L’éducation, N° 18-1990/N° 19- 1991, p38.

[17] القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي، الفصل 13-14.

[18] Perrenoud, Ph. Métier d’élève et sens du travail scolaire, Paris, ESF éditeur, 1994.

[19] لتحديد حالات الإقصاء من القسم خلال السنة الدراسية 2015/2016 في المدرستين المعنيتين بالدراسة وفي جميع المستويات اعتمدنا على جداول المناداة وتابعناها خلال سنة دراسية كاملة، وذلك لأن هذه الحالات لا يقع تسجيلها في دفاتر التلاميذ، إضافة إلى أن الأساتذة لا يرفعون تقارير مفصلة توضح  أسباب الإقصاءات وإنما تتم مطالبة التلميذ بالذهاب إلى الإدارة ويكون مصحوبا برئيس القسم في بعض الحالات الذي تسلم له  نصف ورقة تحمل عنوان الرفت من القسم يكتب فيها اسم التلميذ وساعة الرفت والمادة الدراسية واسم الأستاذ وسبب الرفت والعقوبة المقترحة التي تكون في الغالب إنذارا أو استدعاء الولي.

[20] محمد بالراشد، نادرة الكناني “دليل حقوق الطفل” المركز الوطني لتكوين المكونين، 2015

[21] المنصف وناس، الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، ص 155-156،2011.

[22] علي أسعد وطفة،علي جاسم شهاب، علم الاجتماع المدرسي: بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها الاجتماعية، بيروت مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشروالتوزيع، ص80 ، 2004.

 علي أسعد وطفة، المرجع نفسه، ص 181.[23]

[24] Pierre Bourdieu,(J.C)Passeron, La reproduction,Paris,Minuit,1970,p246.

[25] عبد الوهاب محجوب وبمشاركة مجموعة من الباحثين، مرجع سابق، ص98.

[26] Pierre Merle «. L’humiliation des élèves dans l’institution scolaire:contribution à une sociologie des relations maître-élèves».In:Revue française de pédagogie, volume 139, 2002. Dispositifs, pratiques, interactions pédagogiques: approches sociologiques.pp. 31-51

 

[27] Perrenoud, Ph, Métier d’élève et sens du travail scolaire, Paris, ESF, 1995, Chapitre 5, pp. 99-114.

[28]EirickPrairat, La sanction en éducation, puf,2011, p120.

[29] Jean-Yves Langanay «le règlement intérieur: nouveaux enjeux pour l’école», Journal du droit des jeunes 2002/4 (n°214) p20-25.

[30]EirickPrairat, «Réflexions sur la sanction dans le champ de l’éducation», La lettre de l’enfance et de l’adolescence 2004/3 (no 57), p. 31-44.DOI 10.3917/lett.057.0031

[31]  أحمد خواجة،” تصورات للعائلة التقليدية والعائلة الحديثة من خلال القصص المصورة للأطفال، مجلة عرفان نموذجا. جماعي الهياكل العائلية والأدوار الاجتماعية سراس للنشر والمعهد الأعلى للتربية، 1994.

[32] Gérard Pithon et Xavier Barrandon «Représentations par les professeurs et les élèves des objectifs et des principes qui régissent les sanctions dans un lycée: dissensus et consensus révélateurs de leurs difficultés à communiquer»,Tréma;2007; mis en ligne le 04 octobre2010, consulté le 24 avril 2016.

جديدنا