سرديَّة نقديَّة للأغنية المصريَّة؛ كيف شكَّل الحلم والإبداع والسياسة الفن؟

image_pdf

بالرغم من ظهور حركة نقدية فنية في مصر مبكرة، إلا أنني فوجئت بكتاب يخرج عن كل سياقات النقد الفني في مصر، مستخدما التحليل الفني متواكبا مع التاريخ وانثربولوجيا المجتمع المصري، هذه المنهجية الصعبة تطلبت باحثة من طراز فريد اكتشفتها لأول مرة عبر صفحات كتاب ( كل دا كان ليه.. سردية نقدية عن الأغنية والصدارة ) الصادر عن ديوان، وهو من تأليف فيروز كراوية، وهي فنانة وباحثة في الانثروبولوجيا الثقافية، أتاح لها الجانبين قدرات في التناول غير مسبوقة، لدرجة أستطيع معها أن أقول إن هذا الكتاب هو أهم كتاب صدر في هذا المجال في مصر إلى الآن.

الكتاب يدور حول قدرة الأغنية عن التعبير عن المجتمع والاستجابة للمتغيرات وترسيخ القيم، فهي حاضرة في حياة المصريين كالاحتفاء بالزواج ومن منا لا يتذكر أغاني عايدة الشاعر التي لم يكن أي فرح يتم في مصر إلا بصوتها، أو أغاني شادية عن دبلة الخطوبة أو ابن العم الحبيب ( غاب القمر ) أو أحمد عدوية الذي عبر عن الفوضى وفقدان القيم في أغنيته الاحتجاجية ( زحمة يا دنيا زحمة )، أو ما عبرت عنه فرقة رضا من صعود الطبقة الوسطي في مصر واعتبار الفن رسالة حقيقة تعبر عن التعددية الثقافية والاتجاه نحة الأداء الجماعي.

ترصد فيروز كراوية أنه مع دخول العوالم وكبار المطربين والملحنين عالم التسجيلات بدأت الطقطوقة بتقديم لغة تتفاعل مع جمهور أكبر وتنشغل بقضايا مثارة في ساحة الرأي العام، كان موضوع الطقطوقة الحديثة بشكل يتنوع بين الغناء الغرامي عن الألم والسعادة في الحب أو الغناء الذي يتبني موضوعات ساخرة واجتماعية وسياسية كما في أعمال سيد درويش، من حيث اللغة، استخدمت بعض الطقاطيق اللغة الكلاسيكية التي كونت قاموس الأدوار والمواويل، وسميت بالطقطوقة الراقية، وأخرى بدت لغتها أكثر اقترابا للعامية المدينية والألفاظ الشعبية وصياغاتها التي صنعت خصوصية النوع المصرية وهي تعرف بالطقطوقة الخفيفة، كانت الطقطوقة الخفيفة تتميز بمساحاتها المكرسة بشكل واضح للتعبير الجنسي. في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، تحولت الطقطوقة إلى معبر فني أكثر حساسية للغة الاجتماعية، بالنظر لموقع العوالم المتقاطع مع جمهور أساسي من الرجال بات احتكاك النساء واطلاعهن في رأي فيروز كراوية على أنماط الحياة الغربية مقلقا له.

هنا نرى فيروز كراوية تحلل لتصل بنا إلى أم كلثوم صاحبة المعادلة السحرية التي قلبت موازين الغناء، لتصل مع الشاعر أحمد رامي إلى التحول من التعبير الحار عن أشواق جنسية ومغازلات صريحة لصورة المحبين المنزهة في لوعتها وشكواها وحبها، وكان يراهن على تطوير شكل يستفيد من مقبولية الطقطوقة وانتشارها بسبب عامية تراكيبها وهيكلها السلس، ولكنه يرتقي نحو غرضه باستخدام الألفاظ الكلاسكية والفصحي من تراث الشعر، بهذا المعنى كانت محاولته في اتجاه قاموسي وشكلي معا، بحيث صنع من العربية المتوسطة، بين فصحاها وعاميتها، لغة تقف حدها لتميز النوع الغنائي، أصبحت أغنيته في قالبها المستحدث مفهومه لكل من يتحدث العربية لأنها ذات ألفاظ فصيحة في معظمها لكنها منسقة في شكل يبدو عاميا.

كانت رؤية أحمد رامي من حيث الشكل والمضمون نهجا سينجح في تحقيق ما تمنته أم كلثوم، ويصوغ لها صورة المطربة التي تتكلم لغة جديدة عن الحب والعواطف، تبذل نفسها من أجل محبوب وتتعذب في حبها وتعاني من الهجر والأسية، كأنها تمنح النساء مساحة جديدة يصبح التعاطي فيها مع علاقات الحب ممكنا، تقودنا فيروز كراوية إلى التناقض في صورة أم كلثوم، الفتاة القوية التي تبوأت مكانتها كنجمة الشرق الأولي خلال عقد من سكنها العاصمة، ولكنها تفرض سياجا حديديا حول علاقاتها العاطفية وحياتها الخاصة، تري المؤلفة أن بين أم كلثوم ومستميعيها خيط سحري يصلها بالمكبوت ولا يقربها لدرجة البوح بالممنوع، تقدم إحالات رمزية تعكس كوامن الحوار الداخلي في مجتمع الطبقة الوسطي المأزوم والمتطلع، وتنفذ كذلك للطبقات الشعبية بأسلوبها الأدائي المحلي والمطور، تبدو المطربة وكأنها صوت القدر الذي لا جنس له، تدخل إليه الكلمات والألحان فلا تحتاج لتمييز الأنثي فيه عن الذكر، يدفعها صراعها للتكيف داخل عالم الموسيقي الذي يملك الرجال مفاتيحه، والتكيف مع التقاليد الاجتماعية المحافظة، لأن يكون فنها موضع تحررها الأقصى.

تقودنا فيروز كراوية إلى انتقاد أنصار الطرب القديم أسلوب عبد الوهاب الغنائي الذي امتاز بعد الافراط في الزخارف الصوتية وأناقة الاختيار وهي ذات الاناقة التي ميزت اختيار أم كلثوم لمواقع الحليات الصوتية والتصرفات التي يصنع المطرب منها مسافات بينها بحيث تأتي في قفلات ومواضع تبرزها، ولا يطفيء تكرارها عدة مرات في جملة لحنية واحدة أثرها ووقعها على السمع. هذا التغيير والانتقاء منح غنائهما معني مختلف، أصبح الالقاء ووضوح الكلمة فيه أكثر أهمية، لمحت المؤلفة ذلك الاختلاف في هذا الغناء على مسامع الأجيال الجديدة في ذلك الوقت.

ترى فيروز كراوية أن كل ما يجمع تلك التقاطعات شحنة ومفهوم التجديد الذي تمركز في قلب مشروع محمد عبد الوهاب الفني وهي تراع نافذة لفهم ما كان يحدث في بدايات القرن العشرين وبين الحربين العالميتين، فبينما تظهر الأسطوانة المسجلة تليها الإذاعة والسينما لتعيد صياغة أفكار الموسيقيين والمطربين في عصر الوسائط / الجماهير، أدرك عبدالوهاب في ذلك الوقت أن ميراث الماضي لا يكفي وحده لاستيعاب الطاقة الصاعدة لسوق موسيقي تدخل فيه جماهير أوسع، تحول محمد عبد الوهاب من نجم إلى صانع اتجاه ونزعة ثقافية، تبديا في ملابسه وصورته السينمائية كما في ألحانه واستعانته بموارد متعددة من حيث التوزيع للألات أو التوزيع مستعينا بموزعين محترفين ودارسين، كان صعوده أشبه بوسيلة مواصلات بين الطبقات الاجتماعية، فقد أتى من طبقة فقيرة إلى طبقة النخبة.

إن قدرة فيرزو كراوية على السرد والتحليل أعطت الأغنية المصرية نكهة مغلفة بروح الفهم العميق، هذا ما يجعل عرض هذا الكتاب صعبا ولا يغني كل ما سبق عن قراءة نص الكتاب الذي اعتبره ملمحا مهما في تاريخ الكتاب المصري.
_______
دكتور خالد عزب

جديدنا