الطرق إلى الحداثة: ما الاختلاف بين التنوير الفرنسي والبريطاني والأمريكي؟

image_pdf

أجاب كانط عن السؤال الشهير الذي وجه له من قبل قس شهير، ما التنوير؟ بأن التنوير هو أن يخرج الإنسان عن قصوره بعدم استخدامه لعقله، وكأنه كان يشير بذلك إلى ديكارت صاحب الكوجيتو والذي يعد زعيم الفلاسفة العقلانيين لأنه كان رائد التنوير الفرنسي، الذي أعطى للعقل مكانة عليا، بل وربما لم لا نقول بأنها مقدسة، من هنا نشأ التعسف تجاه بعض المفاهيم من قبل المنتمين للتنوير في نسخته الفرنسية، بل وربما أصبح فيما بعد، من الشائع بين المفكرين أن فرنسا هي مركز التنوير وبالتالي فالنسخة الفرنسية للتنوير هي المقبولة، ولا شك من قبل الدول التي كانت لها صلات بفرنسا، سواء صلة غالب بمغلوب وهي الدول التي كانت مستعمرة من قبل فرنسا، أو صلة إعجاب، غير أن الإجابة أعلاه لم يوافق عليها باقي الفلاسفة الآخرون، بل أجاب عن السؤال أعلاه كل فلاسفة بلد بما يتماشى مع طبيعة مجتمعاتهم الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، بل وأحيانا التاريخية أيضا، فهل نفس الإجابة كانت عند البريطانيين على سبيل المثال؟ ثم ماذا عن الأمريكيين؟ وماذا عن العرب أيضا، هل هم ملزمون باقتفاء أثر الفرنسيين أم البريطانيين أم يا ترى أنهم ملزمون بإيجاد حلول تناسب واقعهم الخاص، انطلاقا من ظروفهم التاريخية بداية، ثم واقعهم المختلف كليا، وبالتالي يمكن الحديث عن تنوير عربي، إن صح التعبير، لكن ماذا عمن يرون أن التنوير لا وجود له حقيقة وأنه مجرد أوهام، وهذا جانب من النقد الحاد الذي وجه لفلاسفة التنوير من قبل من سمو بفلاسفة ما بعد الحداثة؟ بعض من هذه الأسئلة قد يكون مضمنا إن تصريحا أو تلويحا في كتاب الطرق إلى الحداثة: التنوير البريطاني والتنوير الفرنسي والتنوير الأمريكي، لمؤلفته غيرترود هيملفارب، الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة سنة 2009 بترجمة محمود سيد أحمد.

التنوير البريطاني وسوسيولوجيا الفضيلة  

بداية لا بد من الإشارة إلى قضية مهمة في هذا الكتاب المميز صراحة، حيث أن الكاتبة وهي أستاذة للتاريخ حاولت مقاربة مجموعة من الإشكالات الفلسفية، والاقتصادية والاجتماعية، بأسلوب سلس ورائق، كما أن الترجمة جاءت وافية بالغرض، وبالتالي فإن القارئ لهذا الكتاب بالإضافة إلى الفائدة سيشعر لا محالة بالمتعة، وهو يبحر عبر الكتاب إلى عوالم الأنوار، سواء في فرنسا أو بريطانيا، أو أمريكا، فهذه نقطة تحسب للمؤلفة حقيقة.

ثم بما أن الكتاب جاء في الحقيقة دفاعا عن التنوير البريطاني، الذي أبخس حقه كما ترى الكاتبة، فإننا نجد قرابة ثلثي الكتاب هو في الحقيقة حديث عن التنوير البريطاني، فالكتاب وإن كان مقسما إلى ثلاثة فصول، كل فصل مخصص للحديث عن التنوير في بلد معين، إلا أن الفصل الذي كان أوفر حظا هو الفصل المخصص للحديث عن التنوير البريطاني، وتحدثت الكاتبة في هذا الفصل كما هو مبين من خلال العنوان، عن ميزة أساسية تميز بها التنوير البريطاني، وهي سوسيولوجيا الفضيلة، وبينت ذلك من خلال مجموعة من العناصر الفرعية، وهي كالآتي:

أولا: المشاعر الاجتماعية والميول الدينية: ترى الكاتبة أنه إذا كان أهم ما يميز فكرة التنوير، هو مجموعة من القضايا الأساسية التي ازداد الاهتمام بها في عصر هؤلاء الفلاسفة، من مثل العقل، الحقوق الطبيعية، الحرية، المساواة، التسامح، العلم التقدم، غير أن السمة الغالبة في التنوير الفرنسي مثلا هو العقلانية، فالعقل عندهم يترأس كل هذه الأمور، وذلك في غياب الحديث عن الفضيلة، وهي التي كان لها الأسبقية في التنوير البريطاني، ولم يكن الفلاسفة البريطانيون يتحدثون عن الفضائل الشخصية، بل تحدثوا عن الفضائل الاجتماعية، مثل الشفقة، الأريحية، التعاطف، وتقف الكاتب مع مجموعة من الفلاسفة والمصلحين، والعلماء، وتكتشف أن السمة الغالبة على فكرهم كانت هي إعطاء أهمية للفضيلة والأخلاق، وإن كان هناك اختلاف بين بعضهم، حول مصدر هذه الفضائل، هل هو العقل، أم الدين أم الغرائز والطبائع البشرية، وتقف عند أمثلة، من مثل نيوتن، جون لوك، هيوم وغيرهم كثير، فإن هؤلاء جميعهم حسب استنتاج الكاتبة كانت القضية الأخلاقية هي التي تثير اهتمامهم أكثر.

ثانيا: الاقتصاد السياسي والعواطف الأخلاقية: في هذا المحور تقف الكاتبة مع واحد من أهم المفكرين الاقتصاديين وهو آدم سميث، والذي يرى بعض المفكرين أنه لعب دورين أساسيين، ومختلفين، كما اعتقد البعض، وهما دور أخلاقي وآخر سياسي اقتصادي، غير أن هذين الدورين، كما ترى الكاتبة لم يكونا مختلفين عند سميث، بل هما ربما متكاملين، وسبب هذا الاعتقاد ربما ناتج عن قراءة الكتابين المشهورين لآدم سميث كل على حدة، والمقصود بالكتابين هما: نظرية العواطف الأخلاقية، وثروة الأمم، فقد قرئ الكتاب الثاني على أنه ناسخ للكتاب الأول، وذلك على اعتقاد أن آدم سميث أراد أن ينزع صفة الأخلاق عن الاقتصاد السياسي، أو يخلصه من أي مضمون أخلاقي، غير أن الكاتبة لا توافق على هذا الرأي، وذلك من خلال تفسيرها لكلمة أمة، التي قصدها آدم سميث بمعناها الاجتماعي وليس بمعناها السياسي، وبذلك فإن سميث كان يدافع عن مصلحة الأمة الاجتماعية في الرخاء الاقتصادي، وليس يدافع عن طبقة ضد أخرى، وبالتالي فإن كتابين يكونان متكاملين.

باقي العناصر خصصتهم الكاتبة للحديث عن واحد من أهم الفلاسفة الإيرلنديين، وهو إدموند بيرك والذي كان معجبا بالثروة الفرنسية، كما أن الكاتبة تحدثت عن بعض المحافظين الذين كانوا معارضين لأفكاره، وهم الذين أسمتهم الكاتبة الراديكاليون المنشقون، مثل بين بيرك وبريس، واللذان عارضا إدموند في مجموعة من القضايا، ولا شك أنه كان مناصرا للثورة الفرنسية، والتجارة الحرة، لأنه كان ينتمي لإيرلندا.

ثالثا: عصر الأريحية: في هذا العنصر تلخص الكاتبة مجموعة من الأفكار التي ظهرت في التنوير البريطاني، نتيجة الاهتمام بالفضائل الاجتماعية، مثل الحاسة الخلقية، العاطفة الأخلاقية، الفضائل الاجتماعية، الوجدانات الاجتماعية، فكرة الأريحية، التعاطف، المشاركة الوجدانية، فقد كانت هذه المفاهيم هي التي تشكل أفكار جميع الفلاسفة والمصلحين في بريطانيا، وقد كان لوجود هذه الأفكار تأثير في الأخلاق والطبائع والسلوكيات التي بدأت تنتشر في المجتمع، خاصة بداية القرن التاسع عشر، حتى أنه ظهر بعض المفكرين الذين ينتقدون وجود هذه الأخلاق، لأنه أصبح التسامح مع المجرمين أمر عاد، على اعتبار أنهم يفعلون ذلك بدافع إنساني، نظرا لوجود هذه الأفكار التي سادت في التنوير البريطاني، بدأت تنتشر أفكار في إقامة مستشفيات ومؤسسات خيرية، كما أنه بدأ التفكير من أجل الإصلاح الخاص بالعقوبات، وإلغاء تجارة الرقيق، كان هذا باختصار ربما هو إجابة المفكرين البريطانيين عن السؤال الموجه لديكارت ما التنوير؟.

التنوير الفرنسي: أيديولوجيا العقل

ترجع الكاتبة أن السبب في اختلاف التنوير من فرنسا إلى بريطانيا، هو مشكل سياسي في الأساس، حيث ترى أنه إذا كان في بريطانيا تعاون بين الذين يكتبون عن نظرية الحكم، وأولئك الذين يحكمون فعلا، حيث أن الكتاب كانوا يقترحون والحكام كانوا يسعون إلى تطبيق ذلك حسب ما تسمح لهم به الظروف، فإن في فرنسا كان الأمر على عكس ذلك، حيث كان بين هؤلاء انفصال، وربما هذا هو الذي دعا الفلاسفة الفرنسين إلى تجنب الحديث عن قضايا اجتماعية، كما أن الكاتبة ترجع ذلك أيضا إلى مسألة سوسيواقتصادية، وهي علاقة الطبقات داخل الأنظمة السياسية، حيث أنها كانت مختلفة، وكذلك طبيعة الكنيسة ودورها في السلطة السياسية، كما أن التجارب التاريخية لكل بلد مختلفة، خاصة أن فرنسا لم يكن سبق لها أي مبادرة إصلاح سواء في الدولة أو في الكنيسة، كل هذا جعل الفلاسفة يدركون أن تأثيرهم في السياسة أمر صعب، وبذلك فإنهم كانوا يسعون إلى التفكير والخيال، وكيف لأفكارهم أن تصبح حقيقية، أي ترى أن الحرية شرط في التنوير.

مثل أنه كانت هناك سمات معينة هيمنت على تفكير البريطانيين، فكذلك كانت هناك قضايا معينة هيمنت على تفكير الفلاسفة الفرنسيين، وذلك مثل قضية العقل والدين، كان العقل بالنسبة للفلاسفة الفرنسيين هو بمثابة دين جديد، فهو نعمة كما أن الإيمان بالمسيح نعمة أيضا، وبذلك فقد منح المكانة العقائدية المطلقة التي كانت للدين، فأصبح العقل مرادفا للدين الإلهي، وربما كان هذا التصور هو نتاج للكنيسة الكاثوليكية التي كانوا يرونها مستبدة، بل ومتواطئة مع المستبدين، غير أن هذا ربما لا يفسر تلك الهجمات التي شنوها على الدين، وتجريده من كل فضائله، كما أن من القضايا الأساسية التي اهتم بها التنوير الفرنسي هو الحرية والعقل، حيث أن الحرية كانت هي المبدأ الأساسي الذي يدفع الإنسان إلى اتباع ضميره، واستعمال عقله، وبالتالي فالحرية كانت بالنسبة لهم لها نفس المكانة التي للعقل، غير أن أكثرهم بسبب الرقابة لم يكن يستطيع الحديث عنها، صراحة حيث أن الحديث عن هكذا قضايا غالبا ما كان يؤدي إلى سراديب السجون.

من القضايا التي ناقشتها الكاتبة في سياق الحديث عن التنوير الفرنسي، هو مسألة الاستبداد المستنير والإرادة العامة، والتفرقة بين الشعب والغوغاء، ومسألة الثورة أيضا، فيما يخص القضية الأولى، فإن الفلاسفة الفرنسيين، وبسبب عدم وجود حرية كافية لممارسة التفكير، والنقد لبعض القضايا، سواء سياسية أو اجتماعية، فإنهم لجأوا إلى اسباغ صفة التنوير على بعض الملوك، وذلك بغية إيجاد طريق آمن لأفكارهم حتى تتحقق على أرض الواقع، ولهذا فمعظم الفلاسفة كانوا يتمنون حصول التنوير على يد ملك أو ملكة، كما أن قضية الشعب وظروفه لم تكن تحظى عندهم بالأهمية التي حظيت بها عند الفلاسفة الإنجليز، ولذلك فهم كانوا أشد انتقادا لمصطلحات مثل الشفقة والتعاطف.

التنوير الأمريكي علم سياسة الحرية

يعتبر التنوير الأمريكي في الحقيقة هو امتداد للتنوير البريطاني، غير أنه إذا كانت القضية الأساس التي شغلت البريطانيين هي سوسيولوجيا الفضيلة، فإن هذه القضية وإن كانت شرطا أساسيا في التنوير الأمريكي إلا أنها كانت شرطا ثانويا، والقضية الأساس التي شغلت الفلاسفة الأمريكيين هو مسألة الحرية، والمقصود كما ترى ذلك الكاتبة، الحرية السياسية بالدرجة الأولى وليس الحرية الفردية، والمؤسسات والمبادئ الملائمة للجمهورية الجديدة، هذه هي السمة المهمة التي طبعت التنوير الفرنسي، كما أن تحت اسم الحرية هاجر الكثير من الناس إلى أمريكا وخاصة الحرية الدينية، كما أن تحت اسم الحرية أيضا، أعلن الأمريكيون استقلالهم عن الإمبراطورية البريطانية، وبالتالي فالنظام الأمريكي كان في الدرجة الأولى نظاما سياسيا وليس نظاما اجتماعيا.

كما أن الكاتبة ناقشت بعض القضايا الأخرى التي كانت على علاقة وثيقة الصلة، بالقضية الأساسية التي اهتم بها التنوير الأمريكي، مثل قضية الدستور، والذي أصبح من تلك الحين هو الضامن الأساس لهذه الحرية، بالإضافة إلى تبيين طرق الحكم، ومن الأمور المهمة التي ناقشتها الكاتبة، هو مسألة الدين، فهو كما الفضيلة، حسب رأي الكاتبة، وإن كان لم يرد التنصيص عليه في الدستور إلا أنه يعتبر شرطا ضروريا مثل الفضيلة لتحقيق الحرية، وأما عن علاقة التنوير بالدين، فإنه على العكس من فرنسا، لم يكن تعارض بينهما، بل على العكس من ذلك بعض أشهر الداعين إلى التنوير كانوا في الأساس قساوسة، وذلك لأن التنوير في أمريكا اصطبغ بصبغة التنوير البريطاني وليس الفرنسي، كما أن الظروف الاجتماعية، والتاريخية لأمريكا ساهمت في ذلك.

خاتمة

طبعا أن مسألة وجود عدة تجارب مختلفة للتنوير، قد لا يتفق عليها الجميع، وخاصة المتعصبون للتجربة الفرنسية، غير أنا إذا ما وافقنا المؤلفة في هذا الطرح، والذي يبدوا إلى حد ما سليما، فإننا نجد أن هناك عدة تجارب للتنوير، صحيح أنها ركزت بشكل أساس على التنوير البريطاني، ورأينا كيف أن كلتا التجربتين تختلفان، إن في قدر الاهتمام ببعض القضايا دون الأخرى، أو فرض الصدام بين قضايا أخرى مثل العقل والدين، وإذا كان لكل بلد طريقة خاصة في ممارسة التنوير، ماذا عنا نحن العرب، هل نحن ملزمون بتجربة معينة دون أخرى؟ أم تر أننا يجب أن نفكر في تنويرنا الخاص؟ انطلاقا من تجربتنا التاريخية المختلفة بكل تأكيد، وكذلك حاجات مجتمعاتنا وأولوياتها؟ إلى أي حد كان الذي طرحه المفكر المغربي عبد الله العروي بتبني النموذج الفرنسي حلا صوابا؟ أم تر أن خصمه الجابري هو الذي كان أقرب إلى الصواب، الذي دعا إلى إيجاد الحل من داخل التجربة الإسلامية، أم تر أن كلاهما قد ساهم في جانب فقط من الإجابة عن الإشكال، وأن على الباقين حمل المشعل وإكمال المشوار، هذه بعض من الأجوبة التي دفعني إلى تقديم قراءة في هذا الكتاب المميز.
_________
*سفيان العانمي: باحث في سلك العالمية العليا بفاس. حاصل على الإجازة في علم النفس، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس. مدون وكاتب مقالات على عدة منصات مغربية وعربية.

جديدنا