مهارات التمثيل ومهارات التأويل

image_pdf

اختلف الفقهاء في حكم التمثيل… قد يصعبُ على فئة من الناس استيعاب ذلك، لكن الجدل الفقهي في الموضوع موجود منذ تربُع هذا الفن على عرش الفنون الحديثة.

لكننا لن نناقش هذه المسألة فقهيا، وبدل أن يحكم الفقيه على الممثلين، فلنُعطِ الفرصة للممثل ليحكم على الفقهاء.

يقول الممثلYue  Kurt  في دوراته التعليمية للممثلين، أنه تم تدريبه لمدة يومين أو ثلاثة أيام على مهارات حمل الأسلحة الحقيقية وطرق استعمالها أثناء بروفات الفيلم العالمي Black Widow من إنتاج Marvel وبطولة Scarlett Johansson، رغم أن Kurt الذي يؤدي دور حارس أمن بسيط ضمن فريق من ستة حراس، لا يظهر سوى بضع دقائق في فيلم يتجاوز طوله الساعتين، بل ولا يشتمل دوره على إطلاق نار أبدا.

الأداءُ مهم جدا، وفي الكثير من الأحيان لا تكفي فيه الموهبة، بل يُصقل بالتدريب والتوجيه من الخبراء في مجاله حتى يكون في أعلى درجات الانسجام مع الدور والعمل ككل. وبالتالي فإن الأمر يتطلب استثمارا إضافيا ومجهودا فكريا وميولا إبداعيا لا مجرد حركات متكلّفة يُقصد بها إقناع المتلقي.

من قواعد التمثيل التي أتذكرها من دروس المسرح في طفولتي المبكرة، أن العبرة بالتواصل الصحيح بين الممثل في تجسيده للشخصية والجمهور، وليس المقصود استظهار نص الدور. وكلما زادت خبرة الممثل وإتقانه، تسامحت معه الجهة المنتجة إذا تصرّف في النص عمدا أو سهواـ فليس النص بالنسبة للممثل عبارة عن كلمات يحفظها ويرددها، ثم يتكلف تحريك بعض جوارحه بها، بل هو عالَمٌ له تاريخه وجغرافيته وأحاسيسه وأوضاعه وظروفه الخاصة، وأحوالٌ يجب أن يستنطقها الممثل بالبحث الجاد عن إمكانيات أدائه بطرق مختلفة، وكل ذلك يستدعي من الممثل إعمال فِكر جديد عند كل تمرين مع النص.

إلا أن الأمر في الغالب مختلف في مجال الدعوة وحالة رجل الدين، فالنص بالنسبة إليه كلمات محفوظة لا مجال معها للتفكير ولا للإبداع إلا بما يتفق مع ضوابط منظومته، لأن قدسية النص حسب المنظومة الدينية الكلاسيكية مضادة للفلسفة والخيال. أما الأداءُ فهو صنعة و”شطارة”، أو مجرد “وسيلة”.

إن قيمة الأداء عند رجل الدين في المنظومة السائدة تقاسُ بمدى مطابقتها لفقهه، فإذا استُعمِل التمثيل في إلقاء خطبة جمعة أثيب عليه، وإذا استعمل شخصٌ آخر تلك المهارات الأدائية نفسها في مناقشة مضمون تلك الخطبة، كان في “تمثيله” نظر، بينما يحرم التمثيل إذا استعملته امرأة… ربما بسبب مشاكل تقنية مع صوتها “العورة” فكيف إذا استعمل في كوميديا دينية؟

تكتظ المساجد بالمصلين في شتى بقاع العالم يوم الجمعة، ويبدو أن جل الحضور يكتفون بالإصغاء إلى النص، وربما حرص البعض منهم على التحقق من صحته النقلية، أو سلامة أدائه النطقية، ولكن هل يوجد من ينتابه الفضول حول العوامل المؤثرة في إيصال النص إلى الجمهور؟ هل يفكر بعض المصلين أثناء أداء تلك الشعيرة في مطالعة ملامح الخطيب والتمعن قليلا في أدائه أثناء الاستماع إلى حديثه؟ هل وظف الخطيب شيئا من المهارات التي ذكرتها سابقا، والتي قد تشبه التمثيل من بعض الوجوه؟

أتذكر يوما أنني حضرتُ خطبة جمعة حول موضوع الشهرة بمسجد في إحدى العواصم الأوروبية، وبعد أن استظهر الشيخُ محفوظاته الغزيرة من النصوص الدينية التي تؤطر الموضوع، راح يحذر من الشهرة “التي باتت همّ الشباب عبر التطبيقات المختلفة”، كما حذر “الشباب المسلم من تقليد المشاهير كالممثلين والرياضيين…” ملمحا إلى خطورة الأمر إذا كانت تلك القدوات “كافرة”. وفي سياق المقارنة والترغيب استحضر الخطيبُ قصصا لمشاهير من الشرق والغرب تركوا شهرة التمثيل والغناء… ليشتهروا بعد ذلك “بالتقرب إلى الله”.

كان أداءُ الشيخ الفاضل أحسن بكثير من مضمون خطبته، فقد أجاد توظيف لغته البليغة، وتلاعبَ بطبقات صوته الخطابي الفخم، وتفاعل بجسده المفعم بالحركة، ولفت الانتباه بإشارات يديه وتقاسيم وجهه، هذا بالإضافة إلى زيّه الأزهري المهيب، أو ما قد يعتبره البعض – على فكرة – لباسَ شُهرة في بلد أوروبي يعتبر التدين تجربة شخصية، يشملها ما يشمل غيرها من تجارب الإنسان في الحياة، وبالتالي فهي عُرضة للتحليل الموضوعي، وكذلك للنقد والسخرية، إلى حد عرض الكتب المقدسة في بعض المكتبات على رفوف “الفانتازيا”.

باعتبار التخصص، يظل رجل الدين (الفقيه، الإمام، الشيخ، الداعية، القارئ…) أحسنَ من قد يفهم النص الديني “تقنيا”، ومع ذلك، فقد ينتابُ الباحثَ والمراقب شكٌ في كون رجل الدين الآن أفضلَ من يقدم الدين للمتعطشين روحيا.

يمتلك رجل الدين المتخصص الآليات المعرفية التقليدية ليفكك عبارات النص الديني ويفهم لغته ويحدد درجة الحكم فيه على سلّم التكليف، مِن طلب فعل وكفٍّ، ولكن نظره مع ذلك قد يقصُر عن إدراك النص الديني في صورة متكاملة، باعتبار الدين جزءا من الحياة الإنسانية الواسعة، له إمكانيات ومستويات متعددة ومتغيرة، وتجليات جمالية. ذلك ببساطة، لأن المنظومة الدينية السائدة في العالم الإسلامي تدرب رجل الدين على التعامل مع النص الديني ليعرف أصحيحٌ هو أم ضعيف، وهل يفيد التحريم أم التحليل، لأن ذلك هو مبتغى الجمهور العريض في الحقيقة، الإجابة ب “نعم” و “لا” في مسائل معروفة. ورغم ذلك، فإن حسنَ أداء رجل الدين لهذا الدور الروتيني يظلُ سبيله الوحيد ليصير مرجعا معتبرا، أو ممثلا مشهورا؟

يبدو أن شهرة رجال الدين قد فتحت شهية المزيد من منافسيهم من الفنانين، رجالا ونساء، في العالم العربي وخارجه، فصارت توبة المشاهير في حد ذاتها Hall of Fame جديدا. وما المانع؟ فبالإضافة إلى أجر دنيوي راتب، فإن رجل الدين يؤمنُ بأن أجره الأخروي يرتفع بزيادة شهرته، إذ أنه كلما أبلغ ما يعتقد بأنه الحقيقة الحصرية إلى جمهور أوسع، تضاعفت حسناته، حتى وإن كان ما يقدمه لهم ضارا ومستهلَكا. المهم أن يؤديه بأسلوب مؤثر.

ثم إن انتظام التائب من الفن في سلك رجال الدين سبب آخر للاحترام في مجتمعات تعاني من بعض مظاهر الازدواجية السلوكية، فتستهلك جل أنواع الفنون الأدائية (التعبيرية) كالأفلام والموسيقى، وربما ترمي منتجيها في لحظات بلوغ النشوة الدينية بالفسق أو الخروج عن أحكام الله، خاصة إذا تعلق الأمر بممثلة أو مغنية.

يعتمدُ الخطاب الإسلامي الشعبوي على المحافظة على حرف النص ونمطية الخطاب مع الاجتهاد في تحسين الأداء. بالمقابل، تبذل مقاربات إسلامية أخرى جهودا حثيثة في التعامل مع مكنونات النص وكنوزه، مع تخيل جمالياته الرمزية واستجلاء بواطنه الروحية، لكن تلك المقاربات النوعية تفتقر إلى المهارات الأدائية والخدع البصرية أو SFX، الأمر الذي فوّت عليها فرص الإبهار والشهرة. يمكن ملاحظة ذلك بمقارنة بسيطة بين شهرة كثير من رجال الدين الكلاسيكيين، وخفاء بعض المفكرين الموسوعيين والمبدعين النخبويين.

في تلك الخطبة، ختم الشيخ بالدعاء لنا “اللهم رد شبابنا إلى دينك وسنة نبيك… آمين… وأقم الصلاة.” وبعد الخطبة، أقبل المؤمنون صفّا يسلمون على الشيخ ويقبلون يده المسلسلةَ بمِسبحة من عشرات الحلقات…

وإلى حلقة أخرى.

______
*محمد بدر الدين طشوش: دكتور في الفقه الإسلامي/ إعلامي وكاتب.

جديدنا