التعليم.. فلسفة الرؤية المتكاملة

image_pdf

المعضلة الحضاريَّة للمسلمين اليوم، كما كانت ماضياً، من القرن الثامن عشر، هي غابريَّة الأنساق والقوالب والأطر الفكريَّة في اللاشعور من عقل المسلم التي تفسِّر الأمور تارة بأصالة الهويَّة، وتارة أخرى بالتغرّب، وانعكاس كل ذلك على دوّامة النظم التربويَّة والتعليميَّة للمسلمين.

 
مقاربة التربية والتدريب الدينيّين هي تاريخيَّة أكثر مما هي منهجيَّة، لذا كان التأثير على ذهنيَّة التفكير الديني هامشيّاً. وإذا تفحّصنا بجد ما هو موجود في أغلب النظم التعليميَّة، والدينيَّة خصوصاً، نراها بحقّ متاحف لإسلام القرون الوسطى المحنّطة في داخلها مفاهيم وأفكار أناس عاشوا لزمانٍ آخر. وقد حاول محمد عبده وغيره، إعادة اكتشاف الحداثة داخل إطار الفكر الإسلامي التقليدي وكان ذلك بمثابة حجر الأساس لأفكارهم الإصلاحيَّة في التعليم، لكنّه لم يوفّق وذلك لمقاومة التيّار الأكبر الذي اعتقد أنَّ الإصلاح سينسف الإسلام، بينما حقيقة الأمر تمثّلت بخشيتهم من أنَّ الإصلاح سينسف فهمهم للإسلام.

تعاد الكرّة اليوم برفع شعارات “الإصلاح” و”التجديد” وغيرهما في المعرفة والتعليم مع الحفاظ على القوالب الفكريَّة والأطر المفاهيميَّة والأنساق الثقافيَّة النابعة من ذات الذهنيَّة القروسطيَّة القديمة.

انطلاقة المنبر عام 1994 كانت لاعتقادنا أساساً أنَّ ذهنيَّة المسلم مطلوب مراجعتها وتشذيب طرق تفكيرها وقد مثّلت فاعليَّة مرحلته الأولى الفكريَّة والمتجسِّدة في المرجعيَّة القرآنيَّة والحضاريَّة والعلميَّة، وكذا الحال، كمدرسة تفكير متميِّزة، ووجدت طريقها في التعليم والتدريب عند انتقاله للمرحلة الثانية من نشاطه.

التعدّديَّة والتلاقي بين الحضارات، من أهمّ الأسباب الجوهريَّة في شموخ المعرفة الإنسانيَّة، كما ينصّ القرآن على ذلك بوضوح لا غبار عليه. واعتقاد المنبر بأنَّ أهمّيَّة المفاهيم ذات الصلة في التبادل الثقافي والتعدّديَّة والتنوّع وتوسيع آفاق المعرفة لا تتمّ إلا بتعميق العلاقة مع الآخر، وتعزيز دور الحوار كمرتكز لأي تحوّل بنّاء في العمليَّة التعليميَّة. إذ لا يحدث الرقي من استيعاب ثقافة واحدة أو النظر إلى الآخر من خلال عدسات التغريب أو أسلمة المعرفة والجامعات، بل تكامل المعرفة لأفضل ما موجود في كل ثقافة وحضارة لبلوغ هدف القرآن، الوحدة في التنوّع.

تتميَّز بيداغوجيا أي مشروع تعليمي في منحه القدرة على اقتناء الطالب لكتلة من المعارف وتحدّي تفكير البعد الواحد ومقاومة التكيّف والتعصّب والانحياز، أو كما يسمّيها فرانسس بيكون، فيلسوف ورجل الدولة الإنكليزي وصاحب مقولة “المعرفة قوّة” بــ “أصنام العقل البشري” وإتمام ذلك بالخبرة المباشرة والمعرفة العمليَّة والتجريب لمنع العقل من تشويه الطبيعة الحقيقيَّة للأشياء. لذا فثمَّة حاجة ماسّة لحشد الأدلَّة والبراهين وتقديم الاستفسارات وطرح الأسئلة الباحثة والحوار العميق والجدل في تدريب العقل على الانفتاح وارتقاء الوعي، والأهمّ من كل ذلك مقاومة التلقين، مرتع التعصّب والتطرّف، والانحدار بالعقل إلى الانغلاق الذي لا قدرة له في رؤية النفق، ناهيك عن الضوء في نهايته لسبر الصورة الأكبر، أو كما تضعها حنة أرندت، عالمة الاجتماع، في نقدها للتعليم المعاصر “إنّ الهدف من التعليم الشمولي ليس أبداً لغرس القناعات ولكن لتدمير القدرة على تشكيل أي منها”.

وتنبع ضرورة البيداغوجيا الحديثة في تخفيف النزعة الانقساميَّة أو الثنائيَّة “هم ونحن” في السياقات الفكريَّة والتعليميَّة والاختزال أو تعييم الأمور، فضلاً عن تجنّب ما يصوّره علم النفس لنزعة العقل البشري في الميل إلى معرفة ما يريد واعتقاد ما يريد المرء أن يصدّقه أو يراه.

التعليم والتعليم الديني يجب أن يمنح القوّة للوصول إلى رؤية عالميَّة في الامتياز والتي تشمل الحقيقة، المعنى، الهدف والغرض عن ماذا يعني بأن يكون المرء إنساناً متكاملاً في الذات والآخر. وتفحّص القرآن كما يعبِّر، جيرمي هانزل توماس، عنها من خلال تركيزه على المجموعة الكاملة “للملكات البشريَّة- المادّيَّة والحسّيَّة والمعرفيَّة، الإدراك، الخيال، الوجدانيَّة والأخلاقيَّة والروحيَّة- وإذ تضع في الاعتبار من المنظور الروحي بأنّ كل هذه القوى والملكات هي الهبة” حيث “ليس هناك سلطة ولا قوّة إلا بالله وحده”.

فلسفة الرؤية المتكاملة لملكات الإنسان في التعليم الإسلامي يتوجّب أن لا تفصل بين القوى العقلانيَّة من الخبرة المباشرة أو العمليَّة، والتقييم الأخلاقي والوعي الروحي. فالمعلّم الناجح ليس الناقل للمعلومات والصاقل للمعرفة والوارف للثقافة فحسب، بل المربي للنفوس والمطوّر للأخلاق والنافع لشخصيَّة المسلم حتى يكون عنصراً نافعاً في المجتمع والحياة والعالم. نرمي الأحجار ف بالمياه حتى لا تحدث اهتزازات أو تتّسع مدارات فحسب، وإنما لعمل الرواج وأزيز الأمواج.

جديدنا