صرخة نذير في سبيل النهضة

image_pdf

يواصل الأستاذ والمفكِّر العربي الإسلامي القدير مهنا الحبيل، في كتابه هذا أزمة المستقبل الإسلامي كعادته الدائمة بالاشتباك مع قضايا أمّته، منطلقاً من موقف نقدي إصلاحي متقدِّم لا يحابي فيه أحداً، ويقول ما يؤمن به ويعتقده من اجتهاداته وتأمّلاته المتناثرة في سلسلته الفكريَّة، من فكر السيرة مروراً في سبيل التنوير وصولاً حتى زمن اليقظة، وهذه الثلاثيَّة تحديداً مع هذا الكتاب الجديد، من ضمن كتبه الكثيرة، يركِّز فيها الاستاذ مهنا الحبيل بشكل كبير على تقديم مقاربات فكريَّة عميقة وجريئة في نقاش المسكوت عنه من قضايا الأمة المركزيَّة، منطلقاً من قناعة راسخة بأهميَّة خوض غمار هذه النقاشات، التي هي أقرب ما تكون لعمليَّة جراحيَّة معقَّدة في قلب عالم الأفكار المسكوت عنها في عالمنا الإسلامي قديماً وحديثاً.

ففي هذا الكتاب القيِّم، طرقَ المفكر الحبيل مناطق الجدل الدائمة، محاولاً  تحرير قضاياها الإشكاليَّة محل النزاع، مقارباً لها بمنظور جديد مسكون بالبحث عن المساحات المشتركة، لإقامة بنيان ما يسميه الحبيل بالعمران الاجتماعي الإنساني، على قاعدة الأخلاق الإسلاميَّة وفلسفة التشريع، التي تضمن للناس مطلق الناس، كامل حرياتهم وحقوقهم على قاعدة الحقوق والحريات، وبعيداً عن أي وصاية أو أستاذيَّة في الطرح والنقاش، بقدر ما هو بحث دائم عن القواسم والمشتركات الكثيرة، التي نحن في أمس الحاجة  للبناء عليها اليوم أكثر من أي وقت مضى.

وانطلاقا من هذا الحرص الكبير، للأخ العزيز مهنا في بناء هذه المشتركات الفكريَّة وتوسعة دائرة النقاش والإفادة والعمل عليها،  في سبيل لحظة الاستئناف الحضاري المنتظرة  لعودة الشرق الإسلامي الكبير، مناراً كما كان عبر التاريخ، فقد شرفني  بتقديم كتابه هذا – وهو العَلم الذي لا يُعرَف  –  لجمهوره العريض من شباب هذه الأمة ومثقفيها، وما يمثله الكتاب من ذروة اشتباكاته الفكريَّة، مع أزمات العالم الإسلامي وفي القلب منها أزمة الأفكار المحكومة  بفقه الطوارئ التلفيقي، الذي ظل مسيطراً على ذهنيَّة الفقيه المسلم والفقه لإسلامي حتى اللحظة، والتي تأتي أزمة السياسة أي ضمور الفكر السياسي الإسلامي، مقابل تضخم الخطاب الوعظي الارشادي، المعطل لجوهر فلسفة السببيَّة في الإسلام في مقدمتها.

ومن هنا يطوف بنا الأستاذ مهنا منقباً ومحاوراً ومستأنفاً، لجدليات الأوائل ممن تركوا بصمات واضحة في مساحات الفكر وسجالاته الفلسفيَّة والعلميَّة والكلاميَّة والسياسيَّة، وفي القلب منها سجالات التراث الإسلامي المركزيَّة كسجالات الغزالي وابن رشد و “تهافتاتهما” الفلسفيَّة والكلاميَّة والعقائديَّة، وأين اتفقوا وأين اختلفوا وما موقع سجالاتهم تلك براهينيَّة أزمة هذه اللحظة الإسلاميَّة، وسؤال النهضة المجهضة اليوم في قلب سجالات تلك اللحظة.

ولا يتوقف الحبيل هناك كثيراً، إذ سريعاً ما يعود لنقاشات اللحظة الراهنة، مروراً بجدله الثالث بين ركام جدليات عدة، محاولاً أن يعيد بوصلة النقاش إلى سؤال اللحظة وواجب الوقت وهو سؤال الدولة في (اعتمالات) هذه اللحظة العربيَّة الإسلاميَّة، مروراً بوائل حلاق وإدوارد سعيد ومالك بن نبي والمسيري وبيجوفيتش وفرنز فانون، وغيرهم ممن أسهموا وقدموا مقارباتهم لأزمات ومشكلات عدة يعيشها إنسان اليوم شرقاً وغرباً.

بل إنَّ جل تطواف هذا الكتاب ونقاشاته تكمن في سبر أغوار معيقات النهوض في العالم الإسلامي من شرقه لغربه، وفي القلب من هذه الإعاقات ما يتعلق بأزمة الأخلاق والتي وجد منها الحبيل، فيما يطرحه  طه عبد الرحمن مساحة اتفاق كبيرة في ذروة تجليات طه عبد الرحمن الفلسفيَّة والأخلاقيَّة “الائتمانيَّة” التي يحاول من خلالها عبد الرحمن اعادة الاعتبار لمنظومة القيم الأخلاقيَّة الإسلاميَّة الحاكمة و”المغيبة”، والتي تمثل اليوم اسهاماً كبيراً منه، في مواجهة غول طوفان الحداثة الغربيَّة المتحلِّلة، عن القيم والمبادئ الإنسانيَّة والفطرة السويَّة.

يناقش الحبيل في هذا الكتاب جدليَّة الدولة المدنيَّة في الفكر الإسلامي المعاصر، في ضوء تداعيات ثورات الربيع العربي المؤسفة، التي ربما أعادت الاجتماع السياسي العربي إلى مربعه الأول، مربع الاستبداد وانهيار منظومة القيم الاخلاقيَّة قبل الاجتماع السياسي لهذه المجتمعات، التي دُفعت دفعاً لهذا المآل الصعب، حتى تكفر بكل القيم التي خرجت من أجلها، وهي قيم الحريَّة والكرامة والعدالة، في ضوء حالة الانهيارات الكبرى للدول والمجتمع والفرد في هذه اللحظة العربيَّة الفارقة.

ولهذا يعاود الحبيل فيها النقاش مجدداً، عن سؤال الدولة المدنيَّة ذات المرجعيَّة الأخلاقيَّة الإسلاميَّة في الشرق والقيم الأخلاقيَّة الإنسانيَّة، عموماً في الغرب، وإمكانيَّة المزج بينهما ضمن حدود وأطر الدولة الحديثة، بأنساقها المعرفيَّة والثقافيَّة الحاكمة ووفقا لبيئاتها المنتجة لهذه الأفكار، وأن ذلك يتطلب حواراً دائماً على قاعدة بناء الفضاءات المشتركة.

لا أكون مبالغاً إذا ما قلت أن هذا الكتاب، يمثل صرخة نذير محب لأمته، ومؤمن بممكنات نهوضها وبقدرتها على استئناف سيرها كأمة وسطى، وما يطرحه الحبيل هنا هي خلاصة أفكاره، وتأملاته فيما  يتعلق بسؤال النهضة وممكناتها في العالم الإسلامي، هذا السؤال الإشكالي الذي استوقف الكثيرين من مفكري الأمة الكبار منذ شكيب أرسلان وخير الدين التونسي  مروراً بمحمد عبده والأفغاني و رشيد رضى وصولاً حتى الشيخ أبو الحسن الندوي رحمة الله عليهم جميعاً، وسؤالهم الدائم لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم، هذا السؤال الذي يحاول هذا الكتاب معاودة النقاش حوله، في ضوء أفق جديد وأكثر اتساعاً مما سبق، محاولاً  الإجابات عنها ومتطرِّقاً لقضايا جديدة تتناسب وسجالات هذه اللحظة الكونيَّة الراهنة.

لم يتوقف مهنا الحبيل اليوم في هذا الكتاب، أمام أزمة المستقبل الإسلامي، في حدود جغرافيا الأفكار وجغرافيا العالم الإسلامي فحسب، بل تطرق إلى أزمة المسلم في عالم الغرب، فهو أي الحبيل مواطن عالمي، يرى في الإسلام رسالة عالميَّة ويحملُ في داخله، ممكنات بناء عمران اجتماعي إنساني واسع، لما يشتمل عليه الإسلام من قواعد وقواسم ومشتركات إنسانيَّة حقيقيَّة وواسعة يمكن البناء عليها.

ولهذا ذهب لمناقشة ممكنات الآخر، ومشتركاته التي يمكن الالتقاء معها في صياغة بيان إنساني عالمي للعيش المشترك، وفقاً لقيم المشترك الديني وخاصة فيما يتعلق بالأسرة وحقوقها الفطريَّة، والتي باتت اليوم مهددة بالانهيار والاندثار، تحت وطأة هوس ما بعد حداثوي مجنون يسعى أن يكون بديلاً للأديان ذاتها.

وفي هذه العجالة التي طلب مني الأخ مهنا تدبيجها، حباً وتواضعاً منه كي أكون حاضراً معه في هذا الإصدار الذي أتشرف به، لا يمكنني أن أعرج على جملة نقاشاته العديدة في ثنايا هذا السِفر العظيم من الأفكار التي عرج عليها، مناقشاً مصححاً ومفنداً وموافقاً ومعارضاً، وهي قضايا كثيرة لخصها بقوله ثنائيَّة  الروح والإنسان والمجتمع والعمران، والتي تدور حولها جل نقاشات هذا الكتاب، الذي يستكمل به الأخ مهنا مشروعه الفكري وإسهاماته، التي تصب في سبيل استنهاض ما يمكن استنهاضه من الشرق الإسلامي، ورسالته الهادية للبشريَّة جمعاء.

ولا يسعني في الختام إلا أن أشكر الأخ العزيز مهنا الحبيل، على كريم دعوته لي لأكون معه في هذا السفر المبارك، شاكراً حسن ظنه بي، داعياً المولى أن يوفقنا وإياه إلى ما يحب ويرضى، وأن يكتب الخير على يديه وأن يأجره في جهده المبارك هذا، وإسهاماته العديدة في سبيل هذه الأمة، والبحث عن مخارج لمستقبل أفضل لها من يومها الحائر هذا، والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.

اسطنبول – تركيا- ١٧ رمضان ١٤٤٦هـ-٢٧ مارس ٢٠٢٤م

———————

  • مفكر إسلامي يمني من أبرز شخصيات الفكر النهضوي بعد ثورة فبراير 2011 في اليمن.
  • من المتوقع أن يصدر كتاب أزمة المستقبل الإسلامي خلال ابريل القادم.
وسوم:

اترك رد

جديدنا