غار الشياطين

غار الشياطين
image_pdf

منذ أن أعادت جمعيَّة “Santa los romania” الإيطاليَّة سنة 2004 إعادة طباعة كتاب “La storia di Dernatinus Il Baebaro” لصاحبه الرحَّالة الإيطالي “ميشال انجلو صوديريني”، وما صاحب هذه العمليَّة من ترجمة واسعة لهذا الكتاب لمختلف لغات العالم بما في ذلك اللغة العربيَّة (عن طريق المؤلِّف المصري آدم زكي)، والجدل لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا بين الباحثين والمهتمِّين بالشأن الفلسفي الديني، فمن جهة، هذا دليل قوي على الوجود التاريخي للسيِّد المسيح، إذ إنَّ أغلب الأدلَّة السابقة تُعتبر داخليَّة (كنعانيَّة، رومانيَّة)، ما جعل أصحاب منهج التاريخانيَّة يشكِّكون في وجوده، عكس هذا الكتاب الذي يُعتبر دليلاً من خارج الدائرة، كيف لا وهو شهادة من فيلسوف بربري من نوميديا (شمال إفريقيا)، ومن جهة أخرى، يُسلّط الضوء على الفلسفة الدينيَّة الأمازيغيَّة التي لم تكن أقل شأناً من نظيرتها اليونانيَّة وإن تأثَّرت بها.

إنَّ المخطوط الأصلي لهذا الكتاب والذي يعود إلى ألف وخمسة مئة سنة مضت مكتوب باللغة اليونانيَّة، وجده الرحالة “ميشال أنجلو” في نهاية القرن التاسع عشر في أمريكا الجنوبيَّة وقام بترجمته، الكتاب تقريباً عبارة عن سيرة ذاتيَّة autobiographie لفيلسوف أمازيغي اسمه “دارناطينوس”، لم ينل شهرة فلاسفة أمازيغيّين جاؤوا من بعده مثل “أبوليوس المادوري” صاحب رواية “الحمار الذهبي”، أو “أوغستين” الذي أسَّس الفكر اللاهوتي المسيحي، لأنَّه ببساطة كان متمرِّداً على السلطة الرومانيَّة وعلى رجال الدين.

وُلد “دارناطينوس” في منتصف القرن الأول قبل الميلاد بنوميديا في عهد الملك يوبا (منطقة سعيدة حالياً بغرب الجزائر)، هو ابن لمزارع بسيط إلا أنَّ هذا لم يمنعه من متابعة دراسته وخاصَّة الفلسفة، أثناء عودته من اليونان بعدما تتلمذ بين يدي كبار الحكماء في عصره، اختار المرور على فلسطين وبالتحديد الناصرة والالتقاء بالسيد المسيح الذي انتشرت دعوته وأخباره أرجاء كل الإمبراطوريَّة الرومانيَّة ومستعمراتها انتشار النار في الهشيم، وهذا ما حدث حسب كتابه مشيراً إلى تأثّره بهذا النبي ورسالته، بل وبالاستقبال الكبير الذي ناله من ساكنة مدينته نتيجة هذا اللقاء الذي وصفه بالمبارك، تأريخ هذا اللقاء يعّد شاهداً مادياً على الوجود الحقيقي للمسيح كما قال آدم زكي في ترجمة الكتاب.

ولادة “دارناطينوس” في أسرة يهوديَّة ملتزمة لم يمنعه من التفكير، حيث منذ شبابه لم يتقبَّل الكثير من الأفكار الدينيَّة سواء المتعلقة بالحياة أو ما بعدها، يعتبر من الأوائل الذين طعنوا في عقيدة الجبر التي كانت تعتبر من المسلمات الدينيَّة، حيث رأى أنَّها لا تعكس تماماً عدالة الرب، وهكذا تكلّم في السببيَّة وأنّ الله خلق الكون بقوانينه التي لا ولن تتغيّر من أجل أحد، بل الله صانع حكيم ولهذا لن يتدخل في تغييرها وتعديلها، انتقد كثيراً خطاب رجال الدين حول الحياة بعد الموت ورآه لا يتجاوز الخرافة والوهم، وبدأ يقول إنَّ الجنَّة هي ملاقاة الرب في العالم الآخرة دون أجسادنا المليئة بالرذيلة والشهوانيَّة والنجاسة، بعث روحاني لا علاقة له بالجسد والسن والملذات، ورغم مقولاته وأفكاره ذات النزعة الربوبيَّة إلا أنَّ شرارة العداء بينه وبين رجال الدين اندلعت لما طعن في أحكام الشريعة اليهوديَّة (الناموس) ورأى أنها مجرد وسيلة بين يدي الكهنة للتسلُّط على رقاب الناس، ولهذا لم يزر المعبد سوى مرَّة واحدة في حياته لمَّا كان صغيراً، بل كان يسخر ممَّن يفعلون هذا، ومن الكهنة قائلاً: “كيف تظنون أنّ الرب الذي خلق هذا العالم الواسع أن يسكن فقط بين أربعة جدران ضيقة تحت سلطتكم، هذا ليس بيتاً للرب، إنَّه مجرَّد صندوق فارغ كغيره من المعابد”، وفي أحد المرات وصف معبدهم بـ”غار الشياطين”، وقد تطّور هذا النزاع من مجاله الفكري إلى أروقة محاكم التفتيش وحتى للاغتيالات وهذا ما وقع لأحد أصدقائه المقرَّبين، وربّما جرّاء هذا التصعيد العنيف هاجر مع زوجته عبر البحر في وجهة لا تزال تؤرِّق الباحثين حتى اليوم (البعض رأى أنه وصل لأمريكا الجنوبيَّة حيث ترك كتابه الذي وجده فيما بعد الإيطالي انجلو).

من يقرأ كتابه بعقلنا الحديث سيظهر له هذا الفيلسوف متطرِّفاً وعنصّرياً ومتعصّباً لقوميته الأمازيغيَّة، لأنّه هاجم بشدَّة الحضارات المجاورة بما في ذلك المصريَّة والرومانيَّة، زاعماً أنَّ أجداده هم أصحاب أعظم حضارة في التاريخ البشري وأصل كل العلوم والمعارف التي استفادت منها بقيَّة الشعوب والأمم، ولكن بنظرة موضوعيَّة وذلك بالنظر وفق عقل زمانه، يمكننا تفهُّم نزعته، حيث حارب بضراوة الاحتلال الروماني الذي حاول سلب الهويَّة النوميديَّة وقبله كانت أيضاً محاولات بعض الحكّام المصريين، فالرجل رأى في قلمه سيفاً يدافع به على هويّته وهويَّة قومه وكشأن أقرانه في زمانه كانت للأساطير حضور في الكتابات.

منذ أكثر من شهر ونحن نتابع أخبار الإبادة الجماعيَّة التي يطبّقها الجيش الصهيوني ضدّ المدنيِّين في قطاع غزّة، تطهير عرقي متوحِّش يمسّ الأطفال قبل الكبار يومياً، هولوكوست آخر، كيف لا وسماء غزّة لا تُمطر سوى الصواريخ الذكيَّة والغبيَّة، القنابل الفسفوريَّة والعنقوديَّة، بل وآخر الأنباء تتحدَّث عن استخدام “أم القنابل” الأمريكيَّة، كل هذا تحت تشجيع الكثير من الحاخامات وكهنة المعابد في إسرائيل التي صدق دارناتينوس بوصفها “غار الشياطين”.

_______

المصادر:

https://www.elmesmar.fr/2020/12/dernatinus-ce-philosophe-berbere-qui.html

https://www.persee.fr/doc/remmm_0035-1474_1983_num_35_1_1986

جديدنا