الشيخ حمزة شكّور؛ سيد الإنشاد الصوفي

image_pdf

*ترجمة: صفيَّة مسعود

 

في الرابع من فبراير/شباط 2009 توفي في دمشق عن خمسة وستين عاماً الشيخ حمزة شكَور، أحد أشهر المنشدين الصوفيين في الموسيقى العربيَّة. سليمان توفيق يحتفي بالمطرب المتوفى ويتوقَّف أمام أهم محطّات حياته.

لحظات أخّاذة عندما كان الشيخ حمزة شكّور يبدأ إنشاده، وعبر الإنشاد يُدخل الناس في حالة شبيهة بالوجد الإلهي. لم يكن يتمتَّع بموهبة في الإنشاد فحسب، بل كان يملك صوتاً قوياً عذباً عريضاً جعل بمقدوره أن يمثِّل مقابلاً لفرقة أوركسترا كاملة، وأن يملأ المكان كله بصوته.

كان يستمدّ فطرته الموسيقيَّة من الطاقة الروحيَّة التي كانت تجذب المستمعين إلى تراث الصوفيَّة الزاهد. أما صوته العريض القوي والعذب للغاية فقد جعله واحداً من أشهر المنشدين في العالم العربي.

ولد حمزة شكور عام 1944 في دمشق. مبكراً حصل الصبي على تدريب أساسي متعمِّق في فن الغناء وترتيل القرآن وتجويده وفق التراث الشعبي في سوريا. كان والده مؤذِّن المسجد في الحي الذي يعيش فيه، وكان هو الذي علّم ابنه بنفسه أسس الإنشاد الديني. وفي عمر العاشرة خلف حمزة والده في هذا المجال.

 

حتى نهاية حياته لم يكن بمقدور شكّور أن يقرأ النوتات الموسيقيَّة. لكنه كان يستطيع أن يؤدِّي آلاف من الأناشيد التي كانت نصوصها وأنغامها محفورة في ذاكرته حفراً. في دائرة المتصوِّفة بدأ حمزة شكور الاهتمام بأداء أناشيد الحبّ الصوفي التي ما زالت تتمتَّع في العالم العربي بمكانة عالية. تعمَّق الشيخ شكّور في دراسة التراث الموسيقى الروحي في الإسلام، وسرعان ما أصبح مطرباً معروفاً يتسابق الناس على سماعه، كما ذاعت شهرته عندما قام بتسجيل عدد كبير من الأناشيد الدينيَّة للإذاعة.

بعد ذلك تولى قيادة رابطة المنشدين في الجامع الأموي الكبير بدمشق، أحد أهم الأماكن المقدّسة في البلاد الإسلاميَّة، وكان يقود فرقته في المناسبات الدينيَّة الرسميَّة وهو ما جعل شهرته تترسَّخ في سوريا.

 

طائفة المولويَّة

كان شكور عضواً في مدرسة الإنشاد الشعبيَّة في دمشق. وكان يشعر بالقرب من طائفة المولويَّة، أو “الدراويش الراقصين”. كان شكور يسعى إلى الحفاظ على تراثهم ومواصلته. وقد اشتهرت هذه الجماعة برقصاتها الدينيَّة التي تُعتبر رمز التصوّف الشرقي، وفيها يدور الراقصون حول أنفسهم بمصاحبة الموسيقى والأناشيد العربيَّة القديمة، مرتدين أزياءهم البيضاء وتنوراتهم الواسعة الشبيهة بالناقوس، وعلى الرأس طرابيش في لون شعر الجمال.

ويعتقد المتصوّفون أن الحياة كلها ما هي إلا حركات دائريَّة لا نهائيَّة، منها ينبثق كل شيء، وفيها يفنى كل شيء. عبر رقصات طقسيَّة يرمزون إلى هذا الينبوع الروحي للموسيقى الصوفيَّة. فإذا دخل الراقص في حالة نشوة ووجد، فإنه يعتقد أنه بذلك رُفع إلى العشق الإلهي، وأنه قد أمسى جزءاً من الحركة الإلهيَّة الأبديَّة.

وقد وصف الصوفي العظيم ابن تيميَّة في القرن الثالث عشر هذا النوع من الرقص على النحو التالي: عندما يقفز الفؤاد بهجةً، وعندما تكون النشوة عظيمة ويصل الوجد إلى ذروته، تفقد الأشكال هيئتها. ليس هذا رقصاً، ولا هو متعة جسديَّة. إنه تفتح للروح.

 

الوجد والتأمل عبر الإنشاد

هذه الفرق الصوفيَّة تتقابل في أماكن معينة يُطلق عليها “زاوية”، وتعمل على الحفاظ على تراث الأناشيد الأصليَّة، وهم يقسِّمون الأناشيد إلى وصلات ومقامات وإيقاعات مختلفة. ويمتلك الجامع الأموي الكبير في دمشق أرشيفاً غنائياً خاصّاً، وفيه تُحفظ الوصلات الدينيَّة التي يُطلق عليها “نوبات”، وهو مصطلح كان يستخدم في الأصل للأغاني الدنيويَّة التي نشأت في الأندلس وعُرفت فيما بعد باسم موشحات.

كان المطرب الشيخ حمزة شكور يختار من التراث الديني أناشيد الذكر وأغاني مولد النبي وينشدها في المعتاد بصحبة جوقة موسيقيَّة. كان إنشاده مؤثراً في النفس تأثيراً عظيماً. كان استخدامه للإيقاعات الموسيقيَّة يتم بتفشف كامل. وهكذا كان ينجح في نقل جمهور المستمعين حوله شيئاً فشيئاً إلى حالة الوجد والوله أو يجعلهم يغرقون في تأمل عميق.

 

مدّ الجسور نحو الغرب

في عام 1983 أسَّس حمزة شكور مع الفرنسي جوليان فايس فرقة “الكندي”، وعبرها نجح في نقل هذا النوع من الموسيقى إلى أوروبا وأمريكا. تخصَّصت الفرقة في الموسيقى الشعبيَّة من منطقة الأندلس العربيَّة، ومن تراثها قدم أغنيات تتناول موضوعات دينيَّة ودنيويَّة على حد سواء. وكان شكور يعتمد طريقة تقليديَّة في الأداء، أما فايس فقد زوّد الفرقة بتخت عربي، ضمَّ آلات عربيَّة أصيلة مثل العود والناي والقانون إلى جانب آلات إيقاع مختلفة.

اختار فايس أغنيات ذات إيقاعات وأنغام ثريَّة متعدِّدة كانت تتيح لحمزة شكور أن يبرز من خلالها قدرته على الارتجال الموسيقى. واهتمَّت الفرقة على نحو خاص بإبراز الوحدة الموسيقيَّة للأغاني الشعبيَّة.

 

تقريب الروح البشريَّة من الله

كان الشيخ حمزة شكور رجلاً ورعاً يحمل لقباً دينياً. رغم ذلك لم يقتصر في فنه على الأناشيد الدينيَّة، بل قدم العديد من الأغاني الدنيويَّة. في هذه النقطة كان الشيخ يتبع تقاليد فرق الصوفيَّة التي تعتبر الموسيقي جزءاً لا يتجزّأ من الطقوس الدينيَّة، وتنظر إليها باعتبارها وسيطاً تستطيع الروح عن طريقه التقرّب إلى الجوهر الإلهي.

وكان الشيخ يفضِّل على نحو خاص الارتجال في الموشّحات والمواويل والليالي. كان واحداً من قلائل يتقنون قواعد الطرب العربي الأصيل، وكان يستطيع بحدسه الموسيقي تقديم أغنيات تتلاءم مع الحالة الوجدانيَّة التي يعيشها جمهوره، وبذلك كان يلهب حماس الجمهور وينتزعه من دنياه انتزاعاً.

______

 

  • قنطرة/ الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.

جديدنا