فلسفة الجلد الأسود

image_pdf

كما يذكر بعضهم أنه من المعروف الآن أن بعض أعظم الفلاسفة كانت لديهم آراء عنصريَّة ضدّ السود؛ جون لوك (1632-1704م)، وديفيد هيوم (1711-1776م)، وإيمانويل كانط (1724-1804م)، وجي دبليو إف هيجل (1770-1831م)، وآخرون اعتقدوا أنهم كانوا همجًا، دونيِّين ومحتاجين للتنوير الأوروبي ليهذبهم.

لا يوجد فيلسوف جاد اليوم يحمل هذه الأفكار أو يدافع عنها مع الاستمرار في نفس الوقت على قراءة مؤلفات هؤلاء الفلاسفة والنظر إليهم على أنهم فلاسفة كبار، ربما نحتاج إلى التمييز بين العنصريَّة الفرديَّة التي قد يمارسها بعض الأشخاص وبين العنصريَّة التي تسكن الأنظمة الفلسفيَّة وكان لها أثر في السياسات الاستعماريَّة والإمبرياليَّة، لا يتردَّد أحد الآن على القول إن هيجل كان مخطئًا لكن كما يقول أحدهم هذا لا يخبرنا أي شيء عن الميتافيزيقيا التأمليَّة، فأنت عندما تقرأ هيجل في فينومينولوجيا الروح وديالكتيك التناقض التصاعدي، لا تتوقع هذه النظرة المتجرِّدة من البشريَّة منه ولذلك أقتطع جزء من مقالتي المنشورة “هيجل والدولة”: ومع ذلك فهو عندما يسلب الأفراد أي حقّ عقلاني كلي ويجعلهم كأدوات لتحقيق غاية كبرى قاصرًا  هذا العقل على الدولة فقط؛ فهو أيضا يسلب المجتمعات البدائيَّة – التي انعدمت فيها الحريَّة والمساواة – اسمَ الدولة ويجعلها شيئا خاصًّا بالعصور الحديثة؛ لأنه من العبث أن نعتقد بأن  البشر كانوا أحرارًا فيما يسمى “بحالة الطبيعة”  التي يسود فيها منطق القوة وهذه النظرة الدونيَّة للمجتمعات والثقافات الأخرى التي هي مجتمعات غير عاقلة عنده، فالأفارقة على سبيل المثال غير قادرين على التفكير العقلاني لأن إفريقيا أرض متوحشة لم تصبح الروح فيها واعية بذاتها وربما أخذ هيجل معلوماته هذه من المبشرين المسيحيين الذين اعتقدوا أنَّ الأفارقة ليسوا بشرًا لأنهم لم يسمعوا بالمسيح مطلقًا؛ وهنا لا بد أن نعترف أن معرفة هيجل بالعالم الخارجي كانت محدودة للغاية، وأن أي مجتمع لا يمكن  أن يكوِّن حياةً  دون معرفة ما هو صواب، أو خطأ، أو من غير نظام المكافأة، أو العقاب وربما  تشارلز تايلور وهو من الهيجليين الجدد كانَ هيجليا أكثر من هيجل نفسه عندما قال  نحن مدينون باحترام متساوٍ لجميع الثقافات؛ ربما تلك المؤسسات في تلك المجتمعات غير المتحضرة بسيطة جدًا، وغير  معقدة، أو  ساذجة؛ لكنها مؤسسات موجودة فعلا ولذلك يمكن لنا أن نقول إن هيجل لم يوف بشروطه النظريَّة هنا.

حقيقةً لو رجعنا إلى أصل النشأة كما جاء أن سام أبو العرب وحام أبو السودان ويافث أبو الترك وهذا لا أعتقد أن عليه دليلًا  وإن كان شاهدًا  على أن السواد كان متناسلًا من عهد آدم مع أن هناك قولًا لبعض أهل العلم أن اسم آدم مشتق من صفة الأُدْمَة، وهي السواد وجاء أن موسى كان آدمًا والذي عليه الدراسات التطوريَّة البيولوجيَّة الحديثة أن هذه الألوان تطورت تطورًا حديثًا نسبيا فوفقا لعلماء الأحياء أنه كان هناك هجرة للبشر من أفريقيا بين   100000 – 50000 عام.

فالبياض طفرة جينيَّة ويدل على هذا أنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ امْرَأَتي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وإنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ لكَ مِن إبِلٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ما أَلْوَانُهَا؟ قالَ: حُمْرٌ، قالَ: فَهلْ فِيهَا مِن أَوْرَقَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: فأنَّى هُوَ؟ قالَ: لَعَلَّهُ يا رَسولَ اللهِ، يَكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له، فَقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: وَهذا لَعَلَّهُ يَكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له.

فهذا النزوع هو رجوع إلى الأصل وهو السواد وسنتطرق في الجزء الثاني من المقالة إلى فلسفة هذه النزعة والتنكر لها.

 إنَّ ادّعاء التفوُّق على الأجناس الأخرى متجذر في افتراضات فلاسفة التنوير في آخر القرن الثامن عشر، إن فكرة التفوق فكرة قديمة جدًا قدم الوجود ولا أقول قدم البشريَّة حتى إنك تجدها في تفسير الضحك والتهكم لدى فلاسفة كثيرين فالإنسان بطبعه ذو نزعة تفوقيَّة لا يريد أن يكون أحدٌ فوقه إنه يحاول جاهدًا أن يظهر أن غيره أقل منه وليس هيجل وحده كما سبق، وأنه وغيره قد أقروا صحة الحضارة القائمة على العنصريَّة.

والعجيب أن ليوبولد سنغور” 1906-2001″ الفيلسوف والشاعر والمصنف كأحد أهم المفكرين الذين أنجبتهم أفريقيا من تنازل عن رئاسة السنغال بمحض إرادته قد أظهر في الثلاثينيات من القرن العشرين في باريس  مفهومًا جديدًا  عندما عرض عليه إيمي سيزير الفيلسوف والشاعر تحفة هيجل الفلسفيَّة ” فينومينولوجيا الروح ” ليقدما معًا مشروعًا كبيرًا هو مشروع الزنوجة Negritude  يقوم على مناصرة للفكر وعلم الجمال الأسودين في محاولة للبحث عن المعنى مستندين في ذلك على أرضيَّة صلبة من الفلسفة الديالكتيكيَّة غير متطرقين إلى العنصريَّة التي تضمنتها إنها محاولة لإبراز الجمال الأسود من خلال التناقضات والأضداديَّة التي حفلت بها إنها تركيب دياليكتي يعني العنصريَّة ضد العنصريَّة  Racisme Anti Racis إنه في رأيي تحدٍّ كبير وعمل مهم أن نعمد إلى فكرة فلسفيَّة تضمنت إقصائيَّة حادة لمجموعة ما؛ لتجد هذه المجموعة البشريَّة مكانها من خلال تلك البنيَّة الفلسفيَّة؛ إنها ثورة ضد قاموس الأبيض الأوروبي من نحو: بدائي، وبربري، غير حضاري، متخلف، وتابولا راسا الذي حفلت به الصورة النمطيَّة للحضارة الأوروبيَّة ضد العرق الأسود ليجد صداه عند علماء الإثنولوجيا التقدميين مثل ليفي شتراوس وموريس ديلافوس الذين أظهروا تعاطفًا أكثر مع مسألة الزنوجة إنها بالفعل إعادة كتابة التاريخ الأسود الذي زيفه الغرب وما نتج عنه من استلاب ثقافي وروحي خلال قرون طويلة بالعودة إلى القيم الإفريقيَّة الأصيلة.

وإذا نظرت إلى الكاتب الأمريكي الزنجي ستانلي عرف الزنوجة بطريقة ديالكتيكيَّة كما سبق وتعني العنصريَّة ضد العنصريَّة باستعادة الثقة المفقودة في نفسه في محاولة للخروج من نطاق الذات إلى الموضوع وتعني صبغ العالم بالمكون الزنجي لا على أنه ثانوي بل أولي في الثقافة والتاريخ العالمي، ويرى الفيلسوف جان بول سارتر أن الزنوجة في الشعر الإفريقي هي عنصريَّة ضد العنصريَّة إنها قوة السلبيَّة كرد فعل ضد دعوى السيادة البيضاء إنها مراحل من التناقض في تسلسل فلسفي عام يؤدي في النهاية إلى بشريَّة عامة خالية من العنصريَّة، وما أريد أن أقرره أن عمل الأنبياء لم ينتهِ؛ فالفيلسوف والمفكر عندما يقوم بتشريح المجتمعات والأفكار وتفكيك الكلمات والنصوص، فهو يحاول أن يجد غائبًا مبخوسًا يريد أن يظهره للوجود ويسلط عليه الضوء ويعطيه مكانًا أفضل وأحقيه أجدر، إن كل هذا يدخل تحت قيمة عظيمة وهي العدالة “Justice ” بل إن كل القضايا الإنسانيَّة العادلة تدخل تحت مفهوم التوحيد لا إله إلا الله فالوجود مليء بالأفكار غير العادلة التي قد تكون في صورة عالم شرعي أو مفكر معتل لنكون بعد ذلك مع هيجل في النقد. واسمحوا لي أن أقتطع جزءًا من مقالي ” النقد في القانون والشريعة والفلسفة هيجل نموذجا “: إن فينومينولوجيا الروح المطلق ( الله) في الفلسفة بين هيجل واسبينوزا، يجرنا إلى مباحث عميقة جدًا هل ننطلق من المتعين إلى اللامتعين او من اللامتعين إلى المتعين فعلى الأول سبينوزا وعلى الثاني هيجل، حيث يرى سبينوزا أن كل إيجاب يقتضي سلبا، فإذا قلت سقراط فيلسوف فأنت تنفي عنه أنه ذكر، يوناني،  أبيض وقد أخذ هذا المبدأ هيجل إلا أنه عكسه وقال بأن سلب الشيء يعني إيجابه غير الإيجاب الأصلي الذي تم نفيه والوجود عنده لا يتحقق إلا من اللاوجود أي من اللامتعين إلى المتعين، فمبدأ الأمر عند اسبينوزا هي الطبيعة إذ  أن العقل لا يمكن أن يؤمن بشيء غير قابل للتحديد، أي أن اللاوجود يتحقق من الوجود أي من المتعين إلى اللامتعين،  فالطبيعة شيء متعين وبالتالي  لها حد سنصل إليه حتما من خلال البحث يجعلنا نبحث فيما وراءها وهو اللامتعين أو اللانهائي، أما هيجل فينطلق من الروح بمراتبها الثلاثة حتى يصل للروح المطلقة والسعادة النهائيَّة وهذه العمليَّة الديالكتيكيَّة والرؤية الفلسفيَّة الجوهريَّة تنظر إلى كل شكل من أشكال الوجود على أنه شكل عقلي (روح)، فالروح عنده مفكرة تتنقل في صيرورة دائمة وميكانيزما وجوديَّة تعرض صورًا حيَّة ممتلئة فياضة انطلاقا من الروح الذاتيَّة الواعية لنفسها من داخلها إلى أن تصل للمستوى الثاني وهو الروح الموضوعي ( فلسفة الطبيعة) عندما تخرج الذات من نفسها لتخلق عالما موضوعيا عاما وشاملا كالتنظيمات والمؤسسات التي هي روحيَّة في الأصل إلى أن نصل للمرحلة الثالثة وهي أرقى الدرجات ( السعادة الأبديَّة )، وهي الخلاص الأزلي حسب التعبير المسيحي والجنة والنار حسب التعبير الإسلامي وهذه النهج التصاعدي للإنسانويَّة  في عمليَّة تضاديَّة بين السلب والإيجاب حتى  الوصول إلى الروح المطلق (الله) كما قال المتنبي ( وبضدها تتبين الأشياء) وهو تضاد ثري ومنسجم يضرب له هيجل مثلا بكم الزهرة كيف أنه يختفي حالما تتفتح أوراق الزهرة ويخيل إلينا أن بين الكم والزهرة شيئا من التضاد ثم تجيء الثمرة بعدئذ، فتعلن بوجودها أن الزهرة صورة  زائفة من صور وجود النبات وتستمر مراحل تعاقب الأفكار في تضاديَّة متسلسلة، وإن كانت تجمعها وحدة معرفيَّة واحدة، تقتضي أن كل إثبات يتضمَّن نفيا وكل نفي يتضمَّن إثباتا ضمن ثلاثيَّة ( العقل (الروح)، التاريخ، الحريَّة) حتى نصل لآخر المراحل، والوجود عند هيجل في حقيقته روح  لذلك  جاء الحديث (الأرواح جنود مجندة) ليلغي حقيقة الجسد كما جاءت الإشارة النبويَّة لجبل أحد والجذع الحنان إلى حقيقة أن الموجودات أراوح خالصة، لذلك كان الكلام هنا عن النقد المباح كفكرة وروح في أحد شقيه سلبًا يقتضي إيجابا مغايرًا للإيجاب الأصلي وهكذا في دائرة متتابعة، تجعلنا ندخل في عمليَّة كبيرة جدًا وكأننا في آلة  كبيرة جدا تدور بنا وتأخذنا إلى حتميَّة كبرى فهناك حركة للفكر (النقد) وحركة للوجود، فلا بد أن يلتقيا معا نحو محصلة واحدة لنشهد جميعا ذلك المحتوم، فالأفكار بكل ما تتعرض له من نقد أو مراجعة لابد أن يطرأ عليها هذا التغير، لذلك القول بعصمة معينة لا يكون إلا في حدود الضرورة القصوى، وهذا ما يجعلنا نتكلم عن الثابت والمتحرك فلا ثابت إلا الله لا أعني بالثابت ما يضاد مقتضى حديث التنزل الإلهي وإنما الثابت الذي لا يتحول ويكون تاما كاملا فما سوى الله متحرك باحث عن الحقيقة النهائيَّة حتى الأنبياء، لذلك قال النبي في حديث (إلا أن يتغمدني الله برحمته) فلا أحد بلغ حالة الانطباق التام مع مقتضى الله أو ما يستحقه سبحانه، إلا أننا نؤمن أن الأنبياء أكمل المخلوقات لكن القول بالعصمة التي يفهم منها شبهيّتها للتنزه عن الخطأ كما هو عند الله يكون من خلال تفسير مدلولها  بمقتضى  الاشتراك اللفظي الذي تختلف صورته في حق الله عن صورته في حق غيره، وإن كان ابن تيميَّة يفضل استعمال المتواطئ لا الاشتراك اللفظي، لهذا لا بد أن تكون هذه العصمة  في نطاق محدود، ويؤيده أن عصمة الأنبياء المتفق عليها هي في التبليغ فقط، ومن هذا المنطلق فإن الحركة الكونيَّة والفكريَّة تقتضي البحث والتحول في سلسلة تركيبيَّة متجه إلى الله -الذي بدأ منه كل شيء وإليه يعود،كما حددت الآيتان(هو الأول والآخر)، ( كما بدأنا أول خلق نعيده)- لتتعرف عليه أو لتلقاه في مصيرها المحتوم وعليه كانت القطعيات محدودة  والاجتهاد يدخل في قطاع كبير من مسائل الدين كلها للحفاظ على هذه الحركيَّة الدائبة، ومن هذا كان إقفال باب النقد إقفال وإعدام لهذه الحركة وضد الفطرة الكونيَّة التي أسس عليها الكون وحرمان للبشر من سعادتهم  التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم.

فالنقد والتفكيك والتشريح والمراجعات الفكريَّة وتصحيح الاعتلالات منهج فكري قويم تجده في الفكر الإسلامي كما تجده عند فيلسوف كهيجل من خلال الديالكتيَّة الجدليَّة، فنحن نرد على هيجل بهيجل ونصحح بمنهجه الفينومينولوجي نظرته العنصريَّة لأفريقيا والعالم الأسود.

جديدنا