صناعة الأخطاء؛ قراءة سوسيولوجيَّة في الخطأ البيداغوجي

image_pdf

  لا يمكن أن ننكر الدور الذي يلعبه المجتمع في تكوين وتهيئة الفرد ليصبح كائنًا اجتماعيًّا، معنى ذلك أن يكون الفرد متشربا لمجموعة من الأنماط الفكريَّة الجاهزة والمعتقدات والقناعات السائدة داخل مجتمع معين، إنه إذن منتوج اجتماعي، ومرآة تعكس صورة المجتمع بأكمله.

ومن هذا المنظور نستطيع أن نفهم الخطأ من زاوية اجتماعيَّة تمنح لهذا الفعل المذموم أفقا يصفح عن الفرد ويتوجه للمجتمع باعتباره مصنع الأخطاء وورشة لتجهيز الأغلاط اللغويَّة حيث تتبدى فيها بوضوح الفوارق الاجتماعيَّة، فالخطأ في مرمى السوسيولوجيا في آخر المطاف يرتد إلى عوالم داخليَّة مطمورة تتجذر في المجتمع، وبما أن المتعلِّم قبل أن يلج المدرسة قد كان تحت ذمة أسرته، فمن الطبيعي أن يحمل هذا المتعلِّم معه كل ما تربى عليه من أخلاق أو لغة أو أفعال، وتضطلع المدرسة بدور تعزيز هذه التربية أو تشذيبها أو عقد نوع من الانسجام.

 لذلك سيكون مثار حديثنا في  البعد السوسيولوجي أعم قليلا عن الأبعاد الأخرى، وسنخوض فيه تجربة الحفر في الأعماق وتقصي المتعلِّم في مرحلتين أساسيتين في نشأة تاريخه الشخصي، مرحلة ما قبل الخطأ أو كما يفضّل تسميتها بمرحلة صناعة الأخطاء والتي تتم داخل ردهة الأسرة، وصولا إلى مرحلة ظهور الخطأ، هذه المرحلة  ترتبط بالحجرة الدراسيَّة، ساعين إلى الإجابة عن سؤال إشكالي صارخ، يتعلق بالصلة الجامعة بين الأسرة كمجتمع ثقافي والمدرسة كمجتمع معرفي؟ وكيف يتمزَّق المتعلِّم حين يتجاذبه الطرفان؟ وإنا نعتبرها السبيل الوحيد لبلوغ درجة التفهم عبر الفهم العلمي لما يروج ويجول داخل هذه الدائرة الواسعة التي نسميها مجتمعا.

  فالمرحلة الأولى هي التي يكون فيها المتعلِّم في حضن المجتمع، يتشبع فيه بمختلف التمثلات والمعتقدات والآراء والقيم والمعايير… هذا الإطار النظري لا يمكن أن يفهم إلا باستقاء أمثلة في الواقع نسوقها انطلاقا من الوسط الاجتماعي الذي ترعرع فيه المتعلم واكتسب منه تلك المكونات التي عرضناها، حيث إنَّ القانون الاجتماعي علميًّا يقرُّ بوجود فروقات اجتماعيَّة صارخة تحتويها المدرسة وتحاول أن تخمد شرارتها، فالمتعلِّم الذي ينحدر من وسط قروي ليس هو نفسه الذي ينحدر من وسط حضري، فالأول لم يحتك مع مظاهر التحضر، أما الثاني فقد عاين هذه المظاهر عن كثب، فضلا عن الخلفيَّة الأسريَّة التي ينتمي إليها كل واحد منهم، فالأسرة التي تتمتع بمستوى معرفي وثقافي معين  من الطبيعي أن تعادي أبناءها بمستواها، والعكس ينطبق على الأسرة التي تفتقد ذلك المستوى.

إذن فالأطفال الذين ينشأون في مهادات اجتماعيَّة مختلفة يطورون في مراحل مبكرة من حياتهم رموزا مختلفة أو أشكالا من الكلام تترك آثارا على تجربتهم المدرسيَّة اللاحقة. هذه الرموز لا تعني المفردات أو المهارات الشفويَّة، بل الفوارق في صيغ التعبير وأساليب استخدام اللغة في أوساط الأطفال الفقراء مقابل الأطفال الأغنياء.

إن حديث أطفال الطبقة الكادحة تمثل” رموزا مقيدة “، أي وجوها لاستخدام اللغة تنطوي على افتراضات غير معلنة يتوقع المتحدثون من الآخرين أن يكونوا على علم بها، على سبيل المثال : إذا رسم الأستاذ ” طماطم ” على السبورة وسأل تلامذته عن اسمها فسنجد نوعين من التلاميذ : الأول سيقول إنها ” مطيشة “، والثاني سيقول إنها ” طماطم “، في الحقيقة كلتا الإجابتين صحيحتين، لكن الأستاذ سيعتبر الأولى خاطئة، وقد تدفع صاحبها إلى التعرض للسخريَّة أو للعتاب. لماذا ؟ لأن الخطأ ليس معرفيًّا بل هو سوسيولوجيًّا، لأنه خطأ قبلي مرتبط بالمكتسبات الاجتماعيَّة، فإذا تصرف الأستاذ بنوع من الذكاء فسيقول للأول : هذه إجابة صحيحة ولكن في اللغة الدارجة، أما في الفصحى فالصحيح هو الطماطم، في المقابل يعزز إجابة الثاني. ومن خلال تحليلنا لهذه الوضعيَّة نذهب إلى أن المتعلمين من الطبقة الفقيرة يتطبعون ب”رموز مقيدة”، في حين أن المتعلمين من الطبقة المتوسطة يتمتعون بـ ” رموز مفصلة “، أي أسلوب الحديث الذي تتحدد فيه معاني الكلمات المستخدمة لتطابق الوضع في تلك اللحظة.

 وخلافا لما يقوم به أفراد الطبقة  العاملة حينما يوقعون العقاب أو الثواب مباشرة دونما شرح للأسباب والبواعث، فإن الأهل من الطبقة الوسطى يسهبون في حالة مماثلة في تعداد المبررات والمسوغات لتصرفاتهم تجاه أطفالهم. فالأطفال الذين يكتسبون الرموز المفصلة يكونون الأقدر على التعامل مع متطلبات التعليم من نظرائهم الذين تلقنوا الرموز المقيدة مما ييسر دخول أبناء الطبقة الوسطى وتعايشهم مع بيئة المدرسة.

  ولكي ننتقل من الفهم العلمي إلى التفهم الانساني أقترح مجموعة من المحددات التي يرتبط فيها استخدام الرموز المقيدة بالحد من فرص التعليم التعليميَّة :

1 ) ربما يتلقى الطفل استجابة محدودة على ما يثيره في البيت من تساؤلات، مما يضيق من مداركه المعرفيَّة، ويكبح فضوله لمعرفة ما يدور في العالم الخارجي .

2 ) سيكون من الصعب على الطفل أن يستجيب لعبارات اللغة المجردة وغير المشحونة بالعاطفة أو التجاوب مع التعليمات التي تدعو إلى الالتزام بالانضباط  المدرسي.

3 ) سيعاني الطفل أو المتعلم بعض الصعوبة في تعلم الأفكار المجردة والتمييز بين المفاهيم المختلفة القابلة للتعميم من خلال التمارين والتدريبات التي يشارك فيها في المدرسة، وسبق وأن أشرنا إلى هذه الصعوبة في الشق السيكولوجي، وهي تنطبق أساسا على المواد التي تعتمد الدقة والمنطق والتجريد كالفلسفة والرياضيات .

4 ) قد يكون ما يتحدث به المدرسون أمرا غير مفهوم لدى الطفل، لأنهم لا يستخدمون لغة غير مألوفة لم يعتد عليها. من هنا، فإن الطفل قد يفسر عبارات المدرسين بالطريقة التي تحلو له، ويجانب فيها الصواب، وقد تكون مخالفة لما قصده المدرس، من هذا المنطلق نعرج عن الخطأ الذي يرتبط بالمتعلم بمختلف أبعاده نحو الخطأ الناجم عن الديداكتيك الذي يستعمله المدرس، فقد يكون هذا الأخير مثلا يستعمل التشبيهات والاستعارات وكل ما يماثل اللغة المبهمة أو المبدعة احيانا الغارقة في الخيال المسروح والأسلوب الرهف في الحديث، صحيح أن ذلك له أثر في نفوس المتعلمين لكنه ينسف بقدرتهم على الفهم والاستيعاب. لنضيف على ذلك أن المدرس قد يطرح أسئلة غامضة أو مركبة ومعقدة تستعسر على المتعلم الإجابة عليها. لذلك يجب أن نتفهم هذه الأمور، هذا التفهم الذي لا يمكن أن يتحقق، ونؤكد على ذلك، إلا بالفهم المتبصر.

___________
*إبراهيم ماين: طالب باحث في سلك الإجازة تخصص الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط ، حاصل على شهادة الدراسات العامة في شعبة علم الاجتماع.

جديدنا