في نقد الاغتراب عند جاك بيدي

image_pdf

قام جاك بيدي Jacques Bidet بانتقاد تصور لوي ألتوسير Louis Althusser بخصوص قراءته لفكر كارل ماركس Karl Marx، حيث لاحظ في هذا الإطار أن ألتوسير قد عمل على حذف مفهوم مركزي في فكر ماركس. يرى بيدي أن من نتائج القراءة الألتوسيرية لكتاب الرأسمال، تتمثل في استبعاد مفهوم الاغتراب. ومن المبررات التي يدرجها ألتوسير في باب استبعاد هذا المفهوم، بكونه يحيل للتقليد الهيغيلي وللمقاربة التأملية التي كانت مهيمنة على فكر ماركس الشاب. وقد عمل ألتوسير على تطبيق مفهوم القطيعة الابستيمولوجية في قراءته لماركس، والذي رام من ورائه تبرير تخلي ماركس عن مفهوم الاغتراب منذ سنة 1845، بحيث أقر أن هذه الفترة تميزت بظهور حقل مفاهيمي جديد، سمح بتشكيل نظريةمتميزة، والتي كانموضوعهاالخاصهو دراسة نمط الإنتاج الرأسمالي. وينطوي تحليل ألتوسير على إقصاء الفلسفة في قدرتها على فهم نمط الإنتاج الرأسمالي، وخصوصا عندما تكتفي باستخدام جهاز مفاهيمي تأملي، وعلى سبيل المثال مفهوم الاغتراب. ومكنت القطيعة الابستيمولوجية إزاء الفلسفة التأملية من اكتشاف قارة جديدة وهي قارة التاريخ؛ كما أدت هذه القطيعة إلى بناء صورة مبتكرة وأصيلة عن المعرفة والعلم في الإنتاج النظري لماركس. ودفعت هذه القراءة المتفردة في دراسة ماركس إلى اتخاذ مسافة إزاء مفهوم الاغتراب، نظرا لانطوائه على مضامين أنثروبولوجية وميتافيزيقية صرفة.

وعلى العكس من ذلك، لاحظ بيدي أن مفهوم الاغتراب يحتل مكانة مهمة في تفكير جيل جديد من الفلاسفة، والذين استلهموا هذا المفهوم من ماركس وعملوا على تطبيقه في مختلف مناحي الحياة المعاصرة، وبالتالي قاموا بتجاوز نتائج تحليلات ألتوسير في هذا المضمار. ويتعلق الأمر هنا بأبحاث مختلفة ومتنوعة، لكنها تتفق حول أهمية مفهوم الاغتراب وضرورة استرجاعه وإعادة توظيفه في تشريح جملة من الظواهر. ومن بين الباحثين الذين انخرطوا في مهمة تحليل مظاهر الاغتراب، نذكر على وجه الخصوص ستيفان هابير  Stéphane Haber، وإمانويل رونو Emmanuel Renault وفرانك فيشباخ Franck Fischbach، بحيث توجوا عملهم النظري بنشر إصدار يحمل عنوانا له دلالة خاصة على حضور موضوع الاغتراب في صلب اهتماماتهم النظرية: الاغترابات الجديدة  Nouvellesaliénations. وقد رام موضوع هذا الكتاب حسب رونو إخضاع مفهوم الاغتراب لمحك الاختبار، من أجل قياس أهميته الإجرائية في تحليل شروط العمل والبطالة التي يخضع لها الأفراد في ظل النظام الرأسمالي، وذلك عبر عقد صلة وصل بين استعمال ماركس لهذا المفهوم مع الأبحاث الحالية في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي. 

وفي هذا المستوى، يرى بيدي أنه يجب الانطلاق من الافتراض المتعلق باستمرار حضور مفهوم الاغتراب في أعمال ماركس الناضجة، وبالتالي الدفاع عن مكانته المركزية في هذه المرحلة. والغاية المرجوة من هذا الافتراض الذي يبديه جاك بيدي، لهي محاولة للخروج من التأثير الذي مارسه ألتوسير على كيفية قراءة فكر ماركس، وبالتالي فتح أفق جديد من شأنه تغذية النظرية الماركسية بمعطيات مختلفة. ورغم ذلك، يمكن القول حسب بيدي، بأن هناك اختلافا جوهريا بين دلالة هذا المفهوم في صيغته المبكرة التي نجدها مبثوثة داخل المخطوطات الاقتصادية والفلسفية المنشورة سنة 1844، وكذا دلالته التي اتخذها في الصيغة المتأخرة داخل مصنف الرأسمال. ومما يثير الانتباه، ذلك الزخم الذي خلقه تأويل ألتوسير بمعية رفاقه، حيث تضمن هذا التأويل المتعلق بمصنف الرأسمال لماركس، محاولة تخطي البعد الفلسفي لمفهوم الاغتراب، وبناء تصور جديد حوله، وذلك على ضوء «نقد الاقتصاد السياسي والمجتمع الرأسمالي».[1] ويمكن القول بأن هذه المحاولة لتخطي الفلسفة، لا تنزع إلى «التخلي عن الفلسفة. لأنه لا يجب أن ينفلت عنا أيضا ميلاد نظام نظري جديد، حدد للفلسفة موضوعات ورهانات جديدة».[2]

نشير بأن المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لسنة 1844 قد اقتصرت على معالجة المواضيع الاجتماعية من خلال اللجوء إلى خطاب فلسفي وأنثربولوجي محض. ومن المؤاخذات التي يبديها كل من هابر ورونو تتعلق باقتصار هذا النص فقط على اغتراب العامل لوحده، دون الالتفات إلى أشكال الاغتراب الأخرى التي تخترق كافة مناحي الحياة الخاصة بالمجتمع الرأسمالي. ويتبين أن هناك فرقا بين عمومية الخطاب الأنثربولوجي الثابت في المخطوطات، وخصوصية الحقبة التاريخية التي يبحث فيها ماركس في الرأسمال، بحيث سعى إلى إنتاج نظرية «خاصة» بهذه الحقبة التاريخية، وذلك وفق منظور ثوري. إذن، بماذا تميز مفهوم الاغتراب كما هو مبثوث في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لسنة 1844، والذي تأسس على الأنثربولوجية والفلسفة المحضة، عن المفهوم ذاته الذي جرى استعماله داخل إطار جديد وضمن مفاهيم خاصة بنظرية المجتمع الرأسمالي الحديث؟

نلاحظ بأن مفهوم الاغتراب قد خضع داخل مصنف الرأسمال إلى استعمالين، مما يعني وجود مستويين مختلفين يهمان وظيفة هذا المفهوم؛ ويميز ماركس بشكل ضمني بخصوص مفهوم الاغتراب بين مستوى يتعلق بالتجارة، ومستوى آخر يتعلق بالرأسمالية. فعندما نتصفح بداية الرأسمال، نجد في القسم الأول المتعلق بتحليل وضع فيتيشية البضاعة، نرى بأنه يعالج المُنتِج التجاري. وينبغي التنبيه إلى كون موضوع هذا القسم يتعلق أساسا بالمُنتِج. ومن هذه الزاوية، اعتبر بيدي بأن هذا القسم، وعلى خلاف ما كرسته التأويلات السائدة للرأسمال، غير قائم على تفسير «التبادل التجاري، ولا السوق باعتباره صورة للتبادل، ولا النقود كوسيلة للتبادل، بل منطق الإنتاج التجاري كما هو موجود».[3] ويسلط هذا القسم الضوء على تحليل الوجود الاجتماعي التجاري، من خلال التعرض إلى الشروط المميزة لتكوينه، ويعتمد كذلك على وصف طبيعة العلاقة التجارية الخاصة بالإنتاج. 

إن دلالة الاغتراب في هذا المستوى، لا تتخذ معنى انفلات إنتاج العمل من العامل لكي يصبح في ملكية شخص آخر، مثلما نجد ذلك واردا داخل المخطوطات الاقتصادية والفلسفية، بل يرتبط الاغتراب الحاصل هنا «بعقلنا الاجتماعي، ملكتنا في ربط أعمالنا برباط اجتماعي، وبتقسيم العمل الاجتماعي فيما بيننا بطريقة عقلانية ومعقولة، الذي يتبدى تحت صورة نظام متعال، كقانون طبيعي، قانون طبيعتنا الاجتماعية، حيث تصير العقلانية التجارية متأسسة على الملكية الخاصة والسوق».[4] أوضح ماركس بأن هذا القانون، والذي يظهر كما لو أنه طبيعي وقدر محتوم، لهو مجرد وهم ولا تجمعه أي صلة بطبيعتنا الاجتماعية، فهو مرتبط في هذا الباب بالسوق، والذي يمارس على الأفراد سلطة خفية؛ وتتمثل سطوته في فرض العزلة على الأفراد وجعلهم في حالة نأي وتباعد عن بعضهم البعض. إن الشيء المنفلت والضائع من المنتج التجاري في سيرورة الإنتاج هو العقل، بحيث يحيل هذا العقل على الطابع الاجتماعي، لأنه يمتلك في ذاته القدرة على خلق روابط اجتماعية مشتركة، نظرا لكونه في الأصل عقل اجتماعي، ومن ثمة يمكنه تجاوز منطق التشرذم الذي يصنعه السوق وسط الأفراد.

*

يرى بيدي أن ماركس يقترح نظرية اقتصادية في الرأسمال، نظرية تسعى لتأسيس علم اجتماعي يستوعب في تحليله الوقائع الاقتصادية التي ترتبط بالنظام الاجتماعي، والقانوني والسياسي وتندمج معه. وحاول بيدي بلورة نظرية اجتماعية عن المجتمع الحديث، وتنطلق من تفسير الرأسمال وإعادة تشكيله، بغية إبراز عبقرية ماركس. وفي هذا الإطار نلاحظ أن ماركس قد قام باكتشاف علمي، وتتجلى أبعاده على المستويات الاقتصادية والسياسية. فعندما نتفحص مفاهيم القيمة وفائض القيمة، فإننا نلفي أمامنا مضمونها الاقتصادي والقانوني- السياسي جليا، والذي يحمل في طياته دلالات التأسيس لنظرية اجتماعية. وقد سعى بيدي لتطوير نظرية ماركس، من خلال التركيز على طابعها الإجرائي، وبالتالي توخا إدماجها بالأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية.

ورمى بيدي إلى الانتقال من نظرية ماركس، باعتبارها نظرية خاصة، إلى التأسيس لنظرية عامة تسهم في تشريح الحداثة. ويتعلق الأمر هنا باستعراض لثلاث تصورات، ومفاد ذلك إبراز لثلاث صور اجتماعية وواقعية؛ أولا، «بنية الطبقة القائمة في كل الدول-الأمم. ثانيا، النظام-العالمي، الذي يشكل الكلية الاقتصادية-السياسية العالمية، والذي يتخذ شكل المراكز والأطراف. ثالثا، الدولة-العالمية، التي تنسج أفق الحداثة»،[5] بالنظر إلى علاقتها الجدلية مع هذه الكلية (الاقتصادية- السياسية العالمية).  


[1] Jacques Bidet, Fécondité et ambiguïté du concept d’aliénation : Le Capital après Althusser,  in Jean-Claude Bourdin (coordination), Althusser, une lecture de Marx, PUF, 2008, p. 60- 61.

[2] Jacques Bidet, Fécondité et ambiguïté du concept d’aliénation, Ibid., p. 61.

[3] Jacques Bidet, Fécondité et ambiguïté du concept d’aliénation,  Ibid., p. 64.

[4] Jacques Bidet, Fécondité et ambiguïté du concept d’aliénation,  Ibid., p. 65.

[5] Jacques Bidet, au-delà de Marx : une altermondialisation, Cahiers Parisiens, Parisiens Papers, N 4, 2008, p. 2.

جديدنا