الاحتفال بأعياد الميلاد بين الاستلاب والانغلاق والوسطيَّة

image_pdf

لا شكّ أنَّ جدل الاحتفال بأعياد الميلاد في العالم الإسلامي يطفو على السطح كل ما اقترب رأس السنة الميلاديَّة الجديدة،  ويتجدَّد النقاش بين مختلف التيارات الفكريَّة الإسلاميَّة من سلفيَّة وهابيَّة وأشعريَّة ومدخليَّة  … وكذا بعض التيارات العلمانيَّة، حول شرعيَّة الاحتفال برأس السنة الميلاديَّة،  وهي فقط نموذج من بين مئات النماذج التي تخلق جدلًا وتخلق اختلافات تصل حدّ التكفير والتبديع والتفسيق والاتِّهام بالظلاميَّة والرجعيَّة والتخلُّف والانغلاق، حيث تتبادل التراشقات الكلاميَّة بين اتباع التيارات السالفة الذكر،حول هذه النماذج مثل الاحتفال بشعيرة عيد الأضحى، وأعياد الميلاد المسيحيَّة،  وصوم رمضان والكثير من النماذج والقضايا  التي تخلق الجدل والخلاف والاختلاف .

فبين من يرى  بالتحريم المطلق للاحتفال وإرسال التهاني  خصوصا التيارات السلفيَّة المتشدِّدة التي ترى في ذلك إقرار للكفَّار على ما هم عليه من ضلال عقدي  خاصَّة عقيدة التثليت المسيحيَّة  ومن يرى رؤية وسطيَّة معتدلة تقرّ بجواز تهنئة المسيحيّين بأعيادهم الدينيَّة ما دام  لم يعتدِ  علينا أو يهاجمنا أحدًا منهم،  خاصَّة أنَّ آيات القرآن الكريم  توصينا خيرًا بأهل الكتاب، الشىء الذي جسَّدته تدوينة الدكتور أحمد الطيب الأخيرة وهو  شيخ الأزهر برمزيّته في العالم الإسلامي ممثِّلًا للعقيدة الأشعريَّة الوسطيَّة  مهنِّئًا المسيحيّين بأعياد الميلاد  في الشرق والغرب وجميع المجامع المسكونيَّة.

وبين الرؤية المتشدِّدة والرؤية المعتدلة حول هذا النموذج الذي جعلناه مدخلا لمقالنا، يقف الشباب المسلم حائرًا،  تتقاذفه  في السنين الأخيرة  موجات شديدة من الإلحاد والإيمان والشكّ والرفض  والتشدُّد الديني  والعلمنة ومعاداة الذات والتقليد الأعمى والتكفير والغزو الفكري اليساري واليميني والمشرقي المتطرف، إلى غير ذلك من العوامل التي مزَّقت ذاتيته وكينونته وجعلته غريبًا عن عصريته،  بفعل عوامل كثيرة نبسط فيها القول بحول الله وتوفيقه بشكلٍ مختصر .

يعرف العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة تحوّلات قيميَّة خطيرة أثَّرث على تركيبته الفكريَّة التقليديَّة بفعل موجات وهبات العولمة والحداثة الآتية من الغرب الاستعماري الذي رسَّخ لتقاليده الماديَّة العنيفة  قبل الأفول عن بلادنا المسلمة مع  موجة الحداثة التي بدأت في الغرب من حوالي أربعة قرون  غيَّرت معها مناحي الحياة الفكريَّة في الغرب وقلبت مختلف النظم السياسيَّة التقليديَّة هناك، تاركة الباب مفتوحًا على مصراعيه للشباب الغربي أن يعتنق ديانة الحداثة الجديدة بقيمها المهمَّشة لمكانة الدين بصفةٍ عامَّة،  أو أن  يبقى وفيا لقيمة الكنسيَّة الدينيَّة متذبذبًا بين ما تربَّى عليه وما ورثه من قيمٍ ومثلٍ عليا مسيحيَّة جاء بها الكتاب المقدَّس التوراة والإنجيل وبين قيم الحداثة المتصادمة مع الإرث التقليدي المسيحي التي صاغها فلاسفة الغرب لدحر القيم القديمة المتحالفة مع الإقطاع ضدًّا على إرادة الشعوب الغربيَّة  الفقيرة المهمَّشة في تلك الحقبة.

فأي السبل يسلك الشباب الغربي  القروسطي  لينجو بنفسه من مهالك الصراع بين الكنيسة ورجالات فكر الأنوار.

 لا شكّ أن الثورة الثقافيَّة العلميَّة التي حدثت في الغرب قد انتصرت لصالح الحداثة وقيمها المتمثِّلة في الحريَّة والكرامة والعدالة والمساواة والإخاء وبالخصوص قيمة الحريَّة؛ الشيء الذي كان مغيّبًا في ظلِّ حكم الكنيسة وتحالفها مع الإقطاع المنتصرة  لقيام التقليد الأعمى الموروث.

ولكن هذا لا يكفي ليعتنق الشباب الغربي قيم الحداثة والأنوار  ويترك ما ألفينا عليه آباءنا  ولو كانو لايعقلون .

فقد رأى ما رأى من الظلم والطغيان والمعاناة وبيع صكوك الغفران لدخول الجنة، ورأى كل المساوئ في رجال الدين المسيحيين وهم يتلون عليه الإنجيل المحرف الذي لم يصمد أمام التيارات الفكريَّة التنويريَّة  التي تحاول تفكيك بنية  النص ومعانيه ممَّا أقنع الشباب الغربي بتناقضات هذا الكتاب وتصوراته للحياة، كتصوير بعض الرسول والأنبياء في حالة من الشذود أو السكر أو الزنا وسرد الكثير من الأساطير والخرافات من تأليف واضعيه،  ممَّا ساهم في عزوف الشباب عن هذا الكتاب المقدَّس المتناقض برأيهم أخلاقيًّا، خاصَّة وأن فكر الأنوار استطاع سحر هذا الشباب ونزع الطابع السحري عن العالم  كما يرى ماكس فييبر.

 ورغم حركة الإصلاح الديني اللوثريَّة والكلافانيَّة لإعادة صياغة الديانيَّة المسيحيَّة وأبعادها عن التصوّرات الأرثذوكسيَّة والكاثوليكيَّة المتشدِّدة لصالح رؤية بروتيستانتيَّة منفتحة تتعايش مع قيم التنوير، إلا أنها لم تغري كثيرا من الشباب باعتناقها وفضل الارتماء في أحضان مفكّري الأنوار لعلمنة قيم المجتمع الغربي وطرد رجال الكنيسة وأفكارهم من حياته التي تلاعبوا بها وجعلوها أكثر تعقيدًا من صلةٍ بين الله والعبد إلى صلةٍ بين العبد ورجل الدين بغية الوصول إلى السماء لتلمس الخلاص على أيديهم أو ما يسمى بيع صكوك الغفران؛ للخلاص من عالمٍ سيطرت عليه الكنيسة والإقطاع، وأقنعت الشباب الغربي أنَّ خلاصه هو اليوم الموعود،  والصعود للملكوت  الهيفن  heaven وليس لعيش الدنيا التي تقاسم خيراتها رجال الكنيسة مع الفيوداليين والارستوقراطيين.

غير أنَّ الشباب المسلم المعاصر- عكس الشباب الغربي القروسطي الذي حسم الأمر  بنسبة تقارب المئة في المئة لصالح قيم الحداثة والتخلِّي عن الإرث التقليدي المسيحي -لم يستطع نحو نفس النهج لأسباب كثيرة متعدِّدة متداخلة تحتاج عمقًا فكريًّا لاستجلائها  لإبراز صعوبة سلك نفس النهج، أبرزها بنية الإسلام نفسه،  الذي هو نهج وطريق حياة وسلوك يومي لا يمكن فصله عن الحياة كما يسعى لذلك العلمانيون، فهو  يجعلك تعيش لدينك ودنياك وآخرتك وليس فقط ديانة وعظيَّة حدودها المسجد وفقط كحال الكنيسة (قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين )، فالإسلام لا وساطة فيه بين الله والعبد ولا تراتبيَّة بين رجال الدين الذين هم الفقهاء والعلماء وليسوا طبقة خاصَّة تعيش طقوسًا خاصَّة بعيدة عن قضايا المجتمع .

 فتجاذبت الشباب المسلم على الأقل ثلاث رؤى: رؤية سلفيَّة متشدِّدة تعادي كل تغيير قد يحصل على صعيد البنية الفكريَّة للفرد المسلم متشبِّثة  بالأصالة  والتقليد لا غير وكأنها غير معنيَّة بالحاضر وما وفّرته قيم الحداثة الغربيَّة من تقدّمٍ لصالح البشريَّة جمعاء رغم تنفّع هذه التيارات المتشدِّدة  واستفادتها من نتائج الحداثة ماديا ومعنويا لصالحها، ورؤية معتدلة ترى في القول بالتوفيق بين قيمنا والمحافظة عليها مع ضرورة الانفتاح على قيم الآخر والأخذ منه ومن قيمه العصريَّة  بغية تطوير الذات والبحث عن نموذج جديد يدمج التناقض بين القيم الغربيَّة العلمانيَّة والقيم الإسلاميَّة الدينيَّة والأخلاقيَّة،  ولذلك يسهِّل على هذه الفئة الثانية تقبُّل قيم الحداثة ومنها مثلا الاعتراف بالآخر وتهنئته  بأعياد الميلاد مثلا باعتبار المشترك السماوي؛ كون الإسلام والمسيحيَّة واليهوديَّة ديانات سماويَّة وليست وضعيَّة.

ورؤية ثالثة لشبابٍ تائه  حائر بين العلمانيَّة والشك والإلحاد، وكأنَّه لا ينتمي إلى هذه الأمَّة، يريد القطيعة مع كل القيم الإسلاميَّة ويعتبرها تقليديَّة لات صلح للحياة المعاصرة،  وهو ما ندّعيه بالاستلاب الفكري حين يفقد أصحاب هذه الرؤية الصلة بالأمة وبقيمها ويعتنقون قيم الحداثة الغربيَّة التي لم يشاركوا في صناعتها بل قرأوا عنها فقط. 

فهذا النموذج الثالث يريد أن يسلك مسلك الشباب الغربي وفكر الأنوار ولكنه يصطدم ببنية فكريَّة دينيَّة صلبة امتزج فيها الإسلام مع تراب هذه البلاد المسلمة ممَّا يعقِّد عليهم المأموريَّة؛ مأموريَّة تأصيل الحداثة في بيئةٍ غريبةٍ عنها، ممّا يساهم في تمزُّق ذوات هؤلاء، فهم في صراعٍ فكري دائم مع الآخر ومع الذات. يريدون علمنة قيم المجتمع لكن لاسبيل لذلك بحكم تغلغل القيم الإسلاميَّة التقليديَّة في روح المجتمع، وهل فعلا لديهم من الآليات الفكريَّة والذهنيَّة ما يجعلهم قادرين على تقرير الصواب والخطأ وما يصلح لهذا الشعب المسلم وما لا يصلح له.

إذن، خلاصة القول إننا مازلنا بحاجة لفهم ذواتنا أولا قبل فهم الآخر الغربي لتقريب وجهات النظر بين أفراد المجتمع المسلم، فالتشدّد الإسلاموي منبوذ  لأنّه يعيش خارج العصر الحاضر،  يعيش غربة عن الواقع وانفصام شخصيَّة.

والتشدُّد العلماني اللاديني منبوذ أيضا، لأنه يعيش أيضا غربة  عن الواقع وانفصام  شخصيَّة؛ باعتبار الإسلام عنصر محوري في بنية هذه التربة لا يمكن تجاوز قيمه الأخلاقيَّة الفاضلة في ظلِّ اندحار قيم الحداثة الغربيَّة عالميا وكونيا.

وتبقى الرؤية الإسلاميَّة  الأشعريَّة المعتدلة الأقرب إلى التحقُّق على أرض الواقع كونها تقرّ حقّ الآخر في الوجود وتقرّه على ممارسة شعائره الدينيَّة باعتباره من أهل الديانات السماويَّة الأخرى، وكذلك على اعتبار أن هذه الرؤية الأخيرة تريد الانفكاك كذلك من براثن التخلُّف وتحرير الدين الإسلامي من  التشدُّد الذي علق به وتطوير سبل ومناهج الحياة مزاوجة بين رؤية دينيَّة معتدلة ورؤية دنيويَّة منفتحة على معطيات العصر الحاضر.

_____
*الأستاذ محمد بن خالي.

**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.

جديدنا