الوقائع المصريَّة

image_pdf

تاريخ جريدة “الوقائع المصرية” هو صورة من تاريخ النهضة في مصر، ليست صورة النهضة في الصحافة وحدها، بل في إدارة شئون الدولة ونشر أوامر وإعلانات الحكومة إلى الرعية ومشاركتهم فيها ولفت نظرهم إلى الأمور الدقيقة والجديدة في الزراعة والحراثة والصناعة التي باستعمالها يتأتى الرخاء والتيسير. وفي معرفة أحوال المصريين والتغيرات التي طرأت عليهم والأخبار التي تأتي من الشام والحجاز والسودان.

مع بداية استقرار حكمه رأى محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، والذي حقق لنفسه وعائلته وبيروقراطيته الحديثة قدراً لا بأس به من الاستقلال عن الدولة العثمانية في إدارة شئون مصر، وأن أحد مقتضيات المدنية التي أرادها لقطره السعيد المستقل نسبياً، يتمثل في وجود جهاز إداري وجيش قوي، ومدارس جديدة مدنية وعسكرية توفر الكوادر لهذه الإدارة الجديدة، في جميع المجالات التي تحتاجها مصر لنهضتها وتكون على غرار النظم الأوروبية الحديثة.

وكان تأسيس مطبعة بولاق أو المطبعة الأميرية في عام 1820 ضمن جهود التحديث وتولت مهمة طبع الكتب في مختلف المجالات وطبع لوائح الحكومة ومنشوراتها. ثم عرفت مصر الصحافة عندما أنشأ محمد علي “جرنال الخديوي” في عام 1822 وكان بمثابة ملخص شهري بأخبار الأقاليم والأعمال الدائرة فيها حتى يتابعها ويقف على أسباب تقدمها أو تأخرها.  ولاحقاً وجد محمد علي أن مدة الشهر لا تسمح بمتابعة أحوال الأعمال في البلاد بالقدر الذي يسمح بإدارة شئون الدولة بالكفاءة المطلوبة وفي وقت قصير لا يسمح بالتفاقم. ثم أمر أن يصله “الجرنال” في نهاية كل أسبوع، ثم أصبحت تصدر يومياً ويطُبع منها مائة نسخة بها أخبار البلاد وأيضاً أوامر الوالي وإرشاداته للمأمورين، باللغتين العربية والتركية. ثم أمر محمد علي بأن تصدر  جريدة بالوقائع والأوامر والأخبار وتُنشر لعموم الناس حتى يروا المُثل والنتائج الطيبة لسياساته العامة الجديدة.

صدرت جريدة “الوقائع المصرية” وعبرت عن سبب صدورها هذا في افتتاحية عددها الأول، بأنها تصدر ترجمة للإرادة الصالحة لولي النعم بأن الأخبار التي ترد إلى ديوان الجرنال تنقح وينتخب منها ما هو مفيد وتنشر عموماً مع بعض الأمور التي ترد من مجلس المذاكرة السامي والأمور المنظور بها في ديوان الخديوي والأمور التي تأتي من أقطار الحجاز والسودان ومن بعض جهات أخرى وذلك ليكون كله نتيجة للحصول على الفوائد الحسنة التي هي مقصود ولي النعم. وطبعت بعون خالق البرية بمطبعة صاحب الفتوحات السنية ببولاق مصر المحمية” في 25 جمادى الأول عام 1344 هـ والذي يوافق 3 ديسمبر عام 1828.

وصدرت الوقائع في أربع صفحات ذات عمودين أحدهما باللغة التركية وعُين لتحرير هذا القسم “سامي أفندي” ابتداء من العدد الثاني ويعتبر ناظر الوقائع الأول. والعمود الآخر باللغة العربية ويحرره على الأغلب السيد شهاب الدين محمد بن إسماعيل الذي عُين لاحقاً مصححاً أول لمطبوعات مطبعة بولاق في عام 1836. 

وأغلب أخبار الوقائع في هذا العهد كان يدور حول أخبار الوالي ورجال حكومته وكانت تأتي في شيء من التفخيم، وكذا أخبار مجلس المشورة وحوادث الديوان الخديوي. وكانت تنشر أخبار المدن وبعض الأخبار الخارجية وأخبار الحوادث الداخلية الجنائية والاجتماعية تسلية للقراء، وقليل من الإعلانات.

وكانت افتتاحياتها أفضل أسلوباً من لغة الأخبار والحوادث الرسمية فيها. وشهدت الجريدة منذ صدورها عدداً من التغيرات والتعديلات لنظامها، كان أبرزها بتعيين الشيخ رفاعة الطهطاوي ناظر مدرسة الألسن، ناظراً للوقائع في 1842 بما له من علم وأفق واسع شحذته ثقافة غربية جامعة. وكسبت الوقائع تطورا جديدا من حيث الاستقلال النسبي لإدارة تحريرها. وتقديم اللغة العربية في تحرير الجريدة فأصبحت تُكتب ناحية اليمين، واللغة التركية تُكتب جهة اليسار. وقُدر ثمن العدد الواحد بقرش، والاشتراك بأربعة وعشرين قرشاً في العام، وأصبحت تصدر بانتظام في يوم الجمعة. وانتقلت في موضوعاتها من الأخبار السخيفة إلى الحوادث الهامة، ونشر رفاعة أول مقال يظهر في تاريخ الوقائع، وجاء بعنوان “تمهيد” وتحدث فيه عن نظم الحكم ورد على مزاعم الأجانب من استبداد حكام الشرق. وبدأت الجريدة في نشر بعض المقتطفات الأدبية من الكتب القديمة وبدأت بنشر مقتطفات لابن خلدون.

لكن هذا التطوير، لم يستمر طويلا، وأثار حفيظة بعض رجال الخديوي عباس الأول ما تسبب عنه إغلاق مدرسة الألسن ونفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان. ثم عادت الوقائع بعد ذلك إلى مسار التطوير والتجديد، بفضل جهود محررها الجديد الأستاذ الإمام محمد عبده في عهد الخديوي توفيق بداية من عام 1880، والذي ساهم في تطوير لغة الكتابة الصحفية ولغة النثر العربي. وبدأ محمد عبد ينشر مقالاته في الأهرام قبل تولي الوقائع والنشر فيها. ثم مع توليه لإدارة الوقائع وتحرير الأخبار فيها ثم استكتاب المثقفين وتحرير مقالاتهم ساهم في تحرير لغة الكتابة واللغة الصحفية التي كانت سائدة في هذا الوقت في الصحف، وخلصها من ثقل استخدام الصور البيانية والسجع والزوائد، إلى صورة أكثر رشاقة ودقة وعصرية في التعبير. وحتى لا نجعل الفائدة تفوت في هذا المقام نورد لك نموذج للسجع والحشو التي وجدناها فيما ما ورد في عدد يوم 5 محرم سنة 1290هـ بشأن التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة، حيث كتب المحرر: “في يوم الجمعة الماضي الذي هو افتتاح سنة 1290 الجديدة الهجرية بادر كثيرون من حضرات العلماء الأعلام والأمراء الفخام والمعتبرين الكرام الى سراية عابدين البهية، بالصفة غير الرسمية. وتشرفوا بالدخول في حضور الحضرة الكريمة والخديوية بناء على الرخصة السنية وأدوا الرسوم الحسنة في التهنئة بدخول تلك السنة ثم عادوا مسرورين، ومن تلك الحضرة الفخيمة ممنوين. أبقاه الله الى كل عام، بمزيد الإجلال والإعظام”.

وفي إطار الإصلاحات في الوقائع، تخلى محمد عبده عن التوقيع المزخرف باسمه في نهاية الجريدة، واستخدم العناوين والتقسيمات بشكل أوسع، وبعد عن المبالغة في تغطية زيارات الخديوي وانتقالاته التي كانت قد وصلت قبله لدرجة تخصيص صفحات شبه كاملة للسياحة الخديوية، فأصبحت هذه الزيارات في عهد رئاسته للوقائع أكثر إيجازا ورسمية. وقام بعمل أول اشتراك في وكالة رويترز للأنباء لتحسين جودة خدمة الأخبار الخارجية في الجريدة والارتقاء بها، فكان عهد الوقائع في زمن رئاسة الإمام محمد عبده عهداً ذهبيا. وأصبحت الوقائع منذ هذا التاريخ “جريدة رسمية تصدر في كل يوم ماعدا يوم الجمعة”، واستقلت تماماً وأصبح لها مطبعتها الخاصة غير مطبعة بولاق وشهدت  صفحاتها أقلاماً جديدة كان من أبرز أصحابها الشيوخ: عبد الكريم سلمان، سعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي.

وسوم:

اترك رد

جديدنا