الحريَّة في صيرورتها فعلًا عموميًّا

image_pdf

درج الكلام عن الحرية بأنها إما رفع الموانع وإما القيود عن الإنسان في أن يمارس فعله ويحقق غرضه؛ مثل حالات القمع والاستبداد والقهر التي تمنع أيَّ فرد من ممارسة اختياراته. وإما برفع أي إكراه خارجي في أن يفعل أمراً لا يريده ولا يندرج ضمن مقاصده الذاتية، من قبيل أن يكون مملوكاً أو رقاً أو أسيراً وسجيناً. تكون بالتالي مسألة الحرية الإنسانية متعلقة برفع المعوقات والإكراهات الخارجية التي تحول دون مطابقة إرادة الإنسان ومقصده الداخلي (النية) مع فعله الخارجي.

طابع هذه التحديدات خارجي، وهي تعريفات تقوم على السلب لا الإيجاب، أي لا تُعرِّف معنى وحقيقة الفعل الحر بذاته إنما تتكلم عما يعوقه. فلو فرضنا أن الإنسان ليس رقاً ولا توجد حالات قمع أو إكراه، فلا يعني أن كل فعل إنساني هو فعل حر، أو أن الإنسان يمارس حريته بنحو مطلق. بالتالي يبقى السؤال حول معنى الفعل الحر عند الإنسان. وقد ربط اليونان الحرية بفعل الخير أو “فعل ما هو أفضل”. أي أن فعل الحرية هو الفعل الذي يطابق قيمةً ومعياراً أخلاقياً يمثل معنى الخير. وهذا يتطلب معرفة الخير أو الفعل الأفضل؛ ما جعل الحرية بنظر اليونان فعل معرفة، أي نشاطاً عقلياً في معرفة الفعل الحق واتخاذ القرار الصائب حوله. بالتالي يكون الإنسان الحر هو العارف بالخير والقادر على ممارسته بأن يفعل كل ما يقتضيه تحقيق الخير، سواء أكان ذلك ببذل الجهد في الخارج أم بمجاهدة النفس وضبط أهوائها وغرائزها.

هذا أدى إلى ربط الفعل بالفضيلة، وبشروط تحققها الباطنية والخارجية. ولما كان تحديد الخصال الأخلاقية يتحدد بمعايير من خارج الذات الإنسانية، إما بصفتها قيماً نابعة من اللوغوس الكوني أو البناءات الاجتماعية الراسخة، فإن هذا يجعل الفعل الأخلاقي عبارة عن انصياع وخضوع لمبدأ خارجي يملى على الإنسان. وهو تفكير تسرب إلى التفكير الديني، بخاصة الأديان التوحيدية الثلاث، الذي اعتبر أن الفعل الإنساني مرهون بالطاعة والانصياع للإرادة الإلهية. وهذا يكون عبر الوحي الذي ترجم نفسه عبارات لفظية ونصوصاً لغوية يمكن من خلالها معرفة مراد الله. بدأ التحول عن هذا الفهم، مع ظهور الوعي بالذات المنتجة التي تتملك ما تنتجه وما تجنيه من تجارة. هذا انعكس وعياً بالذات الفردية بصفتها حقيقة جوهرية قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها. لتتغير وجهة الفعل الإنساني وغاياته، من امتثال لقيمة خارجية تفرض نفسها عليه من الخارج، إلى اعتبار الذات الفردية محور وغاية الفعل، أخلاقياً كان أم سياسياً، لتتحول السعادة بذلك، من التماهي مع قيمة خارجية، إلى سعادة الإشباع الذاتي للفرد.  بالتالي باتت غرض الحرية الإنسانية تسخير معطيات الطبيعة وكل ما يقع في طريق الفرد لتلبية حاجاته ورغباته. فلا يعود الإنسان خاضعاً لأية قيمة من خارجه، وإنما يستجيب لما تمليه ذاته عليه، أي يطيع نفسه في كل التزاماته الخارجية وعلاقته مع الآخرين. وهو ما تم التعبير عنه بالعقد الاجتماعي، الذي هو عبارة عن توافق إرادات فردية لتحقيق الرفاه العمومي الذي تتوزع منافعه على الجميع بالتساوي. 

هذا الأمر انعكس في الفلسفة باستبطان الذات الفردية وما تتضمنه من مسبقات عقلية ونشاطات فكرية ومسبقات أخلاقية كامنة بداخلها. فكانت الأنا الديكارتية، التي جعلت من الأنا المفكرة مدخلاً لإثبات الوجود، ومن فكرة اللامتناهي الحاضرة في تكوين الذات الإنسانية أساساً لإثبات وجود الله. ووصل ذلك إلى ذروته مع إيمانويل كانط، الذي اعتبر أن حقائق العالم ونظمه هي نتاج الجهاز العقلي الحاضر في تكوين كل كائن فردي عاقل، ليكون العالم، بحسب كانط، هو الذي يدور من حولي لا أنا الذي أدور حوله.

أهم منجز في الفردية، هو أن الإنسان بات يطيع نفسه، أي أن بواعث فعله ذاتية، بعيداً عن أي إملاء خارجي، دينياً كان أم كونياً. بيد أن الحرية الفردية مغلقة على نفسها تحصر نفسها في مسائل جزئية وآنية ومحدودة تقتصر على خصوصية كل فرد. ما يعني أنها حرية ضيقة ذات مدى محدود ومتحول واستنسابي، هذا فضلاً عن أن إطلاق هذه الحرية إلى مداها الأقصى سيتسبب في تضخم الأنوية وحصول تعارض وتنافس؛ بل صراع بين الإرادات الحرة المتعددة، الأمر الذي يهدد الحرية الفردية نفسها ويجعلها رهينة ومأسورة لمعطيات القوة والإكراه الخارجيَّين وتكديس الثروات وفوضى الأنانيات وتحكمات السوق. ما يجعل الحرية الفردية في حالة إطلاقها تحمل بذور فنائها بداخلها. هذه المشكلة تصدى لها كانط وهيغل، كل بحسب مبناه الفلسفي الخاص، لكنهما اتفقا لا على إلغاء الحرية الفردية وتقييدها؛ بل على صياغة فهم مختلف للحرية الإنسانية، بحيث لا يعود الفعل الإنساني مدفوعاً برغبات وميول شخصية، بل يكون أساسه القاعدة الكلية؛ أي الفعل الذي يتعدى الفرد ويتجاوزه من دون أن يحطمه ويلغيه. اعتبر كانط أن الحرية الإنسانية محكومة للقانون الأخلاقي والمنشأ الذاتي عند كل فرد عاقل، وبواعثه مبدأ الواجب الذي يتخذ طبيعة الإلزام الذي تفرضه الإرادة الإنسانية على نفسها. ما يجعل أي فعل أخلاقي فعلاً حراً بالكامل.  فالحرية الإنسانية تشرع قانونها الأخلاقي لنفسها وتلزم نفسها به.  إلا أن كانط أضاف محددَين آخرَين للفعل الإنساني؛ كي يكون أخلاقياً، بل كي يكون أي فعل فعلاً حراً. الأول أن يكون على قاعدة كلية؛ أي فعل يشمل كل الحالات ويتسم بالديمومة، أي الشمول والضرورة.  فلا يعود الفعل أخلاقياً إلا حين تدركه كل العقول الفردية لا التي تحددها النزوات والرغبات الشخصية. الثاني أن تكون الإنسانية غاية لا وسيلة. ما يجعل مساحة الفعل الإنساني في غاياته ومقاصده تتسع لتشمل البشرية كلها. كأن داخل كل إنسان دوافع ذاتية تقتصر على مساحة تواجده الشخصية، وبواعث كلية عابرة لشخصه تلتقي وتتقاطع بل تتطابق مع كل كائن فردي عقلي. وهذا ما بات يعرف لاحقاً بالفضاء الخاص Private Sphere والفضاء العمومي Public Sphere. هذا يجعل فعل الحرية فعلاً عقلياً يتسم بالضرورة والشمول من جهة، وفعلاً عمومياً Public من جهة أخرى؛ كونه محل توافق وتسليم طوعي لا إكراهي عند جميع البشر. لهذا ربط كانط كل منتجات التفكير الإنساني، لا التي تكون يمارسها الفرد لوحده، بل التي يمارسها مع الآخرين، وهو ما يمكن تسميته بالمجال العام. فاستخدام المرء عقله استخداماً عمومياً، يقول كانط هو الطريقة التي تُسهم في إشاعة التنوير بين الناس، بحكم أن الفرد يحتاج إلى نضج معين ليستعمل عقله بطريقة كلية ويستخدمه استخداماً عمومياً، ويميز بينه وبين ما تمليه عليه الرغبة. بالتالي فإن الحرية الفردية لا تكتشف قانونها الأخلاقي منعزلة؛ بل تكتشفها مع حرية الآخرين وعبرها. ولعل هذا يكون بنظر كانط إخراجاً للفرد من عزلته بصفته ذاتاً اقتصادية منتجة، ليصبح ذاتاً عامة بصيرورتها ذاتاً أخلاقية ذات طابع كلي، ولتكون حرية كل فرد تعبيراً وتجسيداً لحرية كل الأفراد الآخرين؛ أي حرية البشرية بأسرها.  

أما هيغل فقد رأى أننا لا نولد أحراراً؛ بل نصير أحراراً، وهذا يكون من خلال وعينا بتاريخنا بوصفنا كائنات اجتماعية. هنالك طابع مزدوج للإرادة الإنسانية، قوامه الاستقطاب الأساسي بين عنصرَي الجزئي والكلي. أي أن الإرادة وحدة تجمع بين وجهَين مختلفَين: الأول هو الفعل الذي يختار فيه الفرد شرطاً أو وضعاً عينياً ويؤكد وجوده بوصفه أنا جزئياً محدوداً. هذه الحرية التي يرغب فيها هذا الأنا هي حرية سلبية؛ لأنها سلبٌ دائم للكل. الثاني هو قدرة الفرد على التجرد من أي شرط أو وضع محدد والعودة بعد نفيه إلى التحرر المطلق للأنا الخالص.  وهذا هو الوجه الكلي والإيجابي للإرادة؛ لأن الأنا فيها بتجرده الدائم من كل وضع متعين وسلبه الدائم له يؤكد فيه هويته الكلية التي هي بمثابة الوجه الآخر لحقيقته الجوهرية في مقابل تنوع حالاته الجزئية. 

هذا يعني أن الأنا الفردي عند هيغل هو أيضاً كلي حقيقي يستطيع التجرد من كل وضع جزئي ويعلو عليه ويظل في وحدة مع ذاته. وهذا يكون بتجرد الفرد من مجال مصلحته الشخصية الذي هو أشبه بمجال الذرة الروحية المقفلة على ذاتها، واستقراره في ماهية الإرادة التي لا تهدف إلى غاية خاصة معينة؛ بل تستهدف الحرية بما هي كذلك، بحيث تصبح الإرادة مع الحرية إرادة عامة أو كلية. 

عندها فقط تتغلب الإرادة الحرة على الانفصام بين عالمها الخارجي؛ أي الموضوعي من جهة، وعالمها الداخلي؛ أي الروحي أو الفكري من جهة أخرى، فيصير الجزئي متحققاً في الكلي، والكلي متمثلاً في الجزئي، ويصير الفردي متحققاً في العام، والعام مشتملاً على الفردي هذا يتحقق موضوعياً وواقعياً، حين تظهر الدولة بصفتها التحقق النهائي للتاريخ من جهة، والقائمة على الحرية وليس على القسر من جهة أخرى. فلا تستند مقدرة الدولة إلى القوة وإنما إلى قابليتها على تنظيم الحقوق والحرية والرفاه في كُلٍّ منسجم يخدم الحرية؛ لأنه غير مسوق بالمصلحة. فالدولة “مقولة أخلاقية لأنها توفق بين تناحر أفراد المجتمع المدني وتغطي المشاغل الكلية للبشر” تصبح الدولة البيئة الأخلاقية اللازمة التي يجد فيها الفرد حريته في ارتباط واع بالآخرين، لتكون الدولة ميدان الخيارات الواعية التي يتعالى فيها الفرد على المصادفة البيولوجية للعائلة وعلى اعتبار المصلحة الذاتية داخل المجتمع المدني؛ حيث تتيح كلية الدولة ضمان حرية الكيان الشخصي والذاتية الأخلاقية والحياة العائلية والفعل الاجتماعي.   

ماهية الدولة الحديثة، يقول هيغل: “هي اتحاد الكلي بالحرية الكاملة للجزئي وبمصلحة الأفراد”. بالتالي ينتفي معنى الحديث عن حرية خالصة؛ بل يتخذ معناه بالحديث عن حرية داخل الدولة، فلا يعود بإمكان الفرد أن يكون حراً إلا بوصفه كائناً سياسياً. مع هيغل باتت الدولةُ حقيقةً عقليةً والحريةُ حقيقةً سياسيةً، لتكون الحرية خارج الدولة بداوة، والدولة من دون حريات سياسية سلطة غلبة وقوة استبداد وتكوين بدائي قائمة على الغرائز والرغبات اللاواعية. باتت الحرية الجوهرية للإنسان عند هيغل، هي أن يعيش الأفراد حياة كلية بصفتهم أعضاء في دولة. فالدولة هي المساحة التي يتجاوز فيها الإنسان ذاتيته وخصوصيته الذاتية، ويحقق الوحدة بين كونه فرداً ذا إرادة جزئية وحاجات خاصة من جهة، وكونه فرداً ينتمي إلى الدولة؛ تكون فيها إرادته إرادةً كليةً ويكون تفكيره تفكيراً كلياً من جهة أخرى. مع كانط باتت الحريةُ في كمال تحققها فعلاً أخلاقياً كلياً، ومع هيغل مرحلة وعي عقلي صيَّر نفسه نشاطاً سياسياً.
____________
*وجيه قانصو: أكاديمي وباحث لبناني في الفلسفة.

**المصدر: مجتمع للدراسات الثقافية والتاريخية.

وسوم:

اترك رد

جديدنا