محاولة مفاهيميَّة في علم الاجتماع العربي والإسلامي

image_pdf

الكلمات المفتاحيَّة: المفاهيم، الكتب المفخَّخة، الجماعة المنقرضة، الفشل الجيلي، التفكير القضيبي.

مقدمة في مشكلة الموضوع وأهميته:

يتفق دارسو العلوم الاجتماعية سيما المختصين، على أهمية المصطلحات والمفاهيم الاجرائية، والتي تمكن الباحث من المادة التي يبحثها أو يدرسها، وفق طريقة علمية، هي في آخر الأمر من متطلبات المنهج العلمي.

وقد زخرت معاجم العلوم الاجتماعية في هذا الصدد، بكثير من هذه المصطلحات والمفاهيم، وصارت مراجع لا يمكن أن يستغني عنها باحث كفء في أي حقل من حقول العلوم، سواء النفسية منها، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو الفلسفية، فضلا عن التاريخية. وهذه الأخيرة شديدة الصلة بكل منها على السواء.

ترتبط نشأة المفهوم وتطوره في علم الاجتماع عادة بالنظريات والدراسات الميدانية (الامبيريقية) التي تتطلب مفاهيم جديدة لفهم نتائجها(1) كما إن هناك ضرورة إلى إعادة الصياغات المفاهيمية بما يخدم المادة المراد بحثها/درسها، كي تناسب المطلوب وصفه، أو تفسيره، للشروع في مقدمات، وتحليلات ونتائج، ناجعة تكون مخرجات تؤهل نجاح البحث/الدراسة. إضافة إلى نحت المصطلحات والمفاهيم إن تطلب الأمر. آخذين بنظر الاعتبار العلمية والموضوعية كشرط أساس في هذه المهمة. وليس هذا فحسب!، بل ربما يصل الباحث إلى انغلاقات منهجية تعسر عليه الإسهاب في معالجة مادة معينة ما لم يتم توليفها أو تعديلها إجرائيا، أو إضافة إسهامات علمية أخرى تعضد التماسك المنهجي من دون الإخلال في بنية البحث.

ولأن هذه العملية في تطور مستمر، يعكس دينامية العلوم الإنسانية بشكل عام، والعلوم الاجتماعية بشكل خاص، فإن لمسات العلماء والباحثين لن تقف إلى حد، وهذه ميزة النشاط في الوسط العلمي الهادف. والذي يراقب وينقد أدواته ووسائله للارتقاء المنهجي، كي يتلاءم ومستوى التعقيد الذي وصلته المدنيات في عالم اليوم. نتيجة ضغط العولمة الثقافي، وانفتاح فضاء التواصل الاجتماعي، على بلدان العام النامي، مما يشكل تحديا في فهم الواقع المحلي والعالمي، وموضعة الإشكاليات بشكل يقترب من الوقائع، في تشخيص ومعالجة الحالات والظواهر الاجتماعية من دون قسر، أو تمييع.

إن  ما جعل كاتب السطور يرصد بعض المتغيرات التي يجدها بحاجة إلى وضع المجهر (الميكروي Micro) سواء في نحت أو توليف مفاهيم تخدم النشاط البحثي. والتي لم يجد لها مساحة مشخصة -حتى اليوم-، على الرغم من وجود ما يقترب منها في بعض المراجع.

بداية، يعترف أغلب مختصي العلوم الاجتماعية أن الكثير مما جاء في المعاجم الأجنبية، لا يتوافق ” تطبيقيا ” على واقع البيئة الاجتماعية العربية أو الاسلامية؛ سيما وأنهما ينتميان إلى العالم النامي. بخلاف ذلك العالم الصناعي/التكنولوجي المتقدم. فهناك إذن حاجة ملحة إلى سك مفاهيم إجرائية تنبثق من هذه البيئات، كي تعكس بشكل منضبط التوصيفات العلمية.

أضع هنا بعض المفاهيم الجديدة، وأخرى فيها توليف واجتهاد علمي يجد الكاتب أنها تنطبق على حالات معينة دون غيرها، سيسلط عليها الضوء خلال هذه المقالة، انطلاقا من ثقافة عالم عربي وإسلامي هجين، وأقصد بالهجين أنه يحمل قيمه وأفكاره المحلية، مع قيم وأفكار أخرى وافدة إليه عبر الفضاء العولمي، وهنا تكمن المشكلة بين الخصوصية والعالمية في تشكيل هوية، قد يصدق عليها وصف ” سيّالة ” حيث أدرك (زيجمونت باومان) أن تفسير ما يحدث من ظواهر مسـتجدة فـي المجتمعـات المعاصـرة، بشـبكة مفاهيـم قديمـة، هـو مـا زاد الأمـر تعقيـدا، فـإذا أردنـا قـراءة جديـدة وواضحـة للاحـداث، علينـا إبـداع مفاهيـم جديـدة تواكـب الراهـن(2).

عقل مفخخ (Masked Mind)

هو كل شخص يتحدث أو يكتب، أو له خطاب يبدو عليه العلمية أو الموضوعية، إلا أنه ملغوم، لأغراض غالبا دينية، أو طائفية. إن دوافع هذا الشخص تستبطن تحيزاً تجاه فكرة، رواية، عقيدة، أو حتى سوء تفسير، تجاه من يستهدفهم. فهو يبث متبنياته في أذهان المتلقين بشكل مباشر حينا، وغير مباشر حينا آخر. لا تبدو عليه دائما علامات “غسيل الدماغ Brainwashing “. يصعب اكتشافه من الناس ذوي الثقافة المحدودة، سيما الذين ينحدرون من محيطه الاجتماعي، أو الثقافي. أحيانا تدل هيأته على دخائله، وغالبا لا تدل. بل يبدو ذو هيبة واعتبار. وهذا النوع من الجانب العملي ربما أكثر الأفراد حاجة لإختبارات السلامة الفكرية، والنفسية.

وقد تم استبعاد مفاهيم أخرى قد تقترب أو تبتعد من هذا التشخيص، كالعقل الايديولوجي، أو المتطرف، أو المنغلق ..الخ، لإن الأساس في هذا النحت هو التركيز على الصبغة الدينية، والتي لا تظهر نواياها بشكل كامل كالتطرف. بل تبقى ضبابية لا تكشف عن نفسها.

الكتب المفخخة (Trojan Books)

هي تلك الكتب التي تبدو منظمة وفيها علم ومعرفة، إلا أنها ملغومة بأفكار دينية أو طائفية. أو تخفي تحيزاتها وراء النصوص المقدسة. تهدف إلى الاقناع على حساب العلمية أو الموضوعية. مؤلفوها ينتمون إلى أصحاب العقول المفخخة. هكذا كتب تعجب أهل الطائفة أو الوسط الثقافي الذي ظهر فيه. أحيانا تنكشف عيوبها عندما تشتد فيها النزعة التعبوية، وعادة ما لا يكشفها إلا المختصون من ذوي الرصانة والإنصاف العلميين.

ولقد استُبعد من هذه الكتب، تلك التي تشابهها الدعائية منها، أو الشعبوية، التي تلعب على الأهواء والنزعات، كالقومية أو الإثنية؛ لأن الصبغة هنا دينية أو طائفية في الدرجة الأساس. ولم نقصد منها المفضوحة وإنما التي تبدو في ظاهرها قيمة.

الجماعة المنقرضة (Intellectually extinct group)

هي كل طائفة، أو جماعة دينية، تحمل أفكاراً وقيماً غير بناءة، أو لا تتناسب وتطور الحياة. تطبق نصوصا ومأثورات فكرية تنتفي علميا، وبعيدة موضوعيا، تسيء تفسير النصوص المقدسة لإغراضها الضيقة. تأتي عادة من الماضي وتبشر احيانا بالمستقبل. وتفرض غالبا متبنياتها بالإكراه أو القوة. خطابها مغرض، يحتكر الحق والحقيقة، ويستحيل أو يصعب دمجها في المجتمع.


يعيش في عالم اليوم كثير من الجماعات الفرعية، كالأقليات الجنسية، والأقليات الاثنية، واللغوية، وحتى الايديولوجية التي تتخذ من رمز قومي زعيما لها. إلا أن الجماعات المنقرضة التي نقصدها هنا، تستبطن متبنيات دينية، تسقطها على الواقع، فتحكم بالنجاة لمن أيدها، وبالضلال لمن عارضها. هي ليست كجماعات القاعدة وداعش، سريعة التشخيص. وإنما تعيش بين الناس في البلاد العربية والإسلامية ، وتظهر في المواقف أو الازمات الاجتماعية أو السياسية. وقد تصل عن طريق الانتخابات إلى مواقع السلطة. مثلما حصل في العراق مع التيار الصدري، وحزب الفضيلة، وقد لا تشارك في الانتخابات كما في الحركة الصرخية(3)، أو الشيرازية.

الفشل الجيلي (Generational failure)

قرأنا عن صراع الأجيال، واختلاف الأجيال، وتقاطع الأجيال. أما المتغيرات اليوم في عصر العولمة، والتأثير الرقمي، فإنهما تبرزان مؤشرًا جديدًا. إن السرعة التي تنضج بها الأفكار، وتتلاقح بها الثقافات ربما لا يمكن وصف تأثيرهما اليوم بشكل وافٍ. سيما على الشباب. فقد حدد المحلل الاجتماعي والديمغرافي الاسترالي مارك ماكريندل Mark McCrindle  جيل (الفا Alpha) الجديد ما بين 2010-2024. (4)

أما (الفشل الجيلي) فهو ممارسة فكرية أو عاطفية تتم من قبل شخص/مؤسسة، تنتمي إلى الأجيال السابقة، فشلت في التطبيق حينذاك. فتتم محاولة اعادة تصديرها في عقول أبناء الجيل الجديد. إن تصدير الفشل للجيل الجديد يعني أن المصدّر لم يقم أساسا بنقد منطلقاته ومتبنياته الفكرية والقيمية، ولم يواكب الحداثة والتطور الرقمي، وأصر مع ذلك على القفز عليها غير عابئ بالواقع المتغير.

التفكير القضيبي والتفكير الأمومي (وجهة نظر فرويدية)

ينطلق الباحث من مصادرة تقول: إن الفرد يبدأ نموه (بيولوجيا) خلال حقبة الطفولة إلى ما قبل المراهقة، ثم حقبة المراهقة وما بعدها يسميها الحقبة (الاجتماعية)، وصولا إلى حقبة (المعرفة). هي أطوار يمر بها كل منا. ففي الحقبة البيولوجية والاجتماعية يكون دور الفرد سلبي، وعادة ما يتم تنميطه وفق التنشئة الاجتماعية. أما حقبة المعرفة، فهي التي يبدأ عملها عندما يأخذ التعليم الجيد، والثقافة، دورها في عقل وأفكار الفرد. حيث تنشأ له هوية، وشخصية، تستقل به تدريجيا عن حقبة الموروث المجتمعي في السابق. فيصبح من ثم كائناً معرفياً.

وعليه فإن التفكير القضيبي والأمومي ينتميان عادة إلى الحقبة الاجتماعية السابقة على المعرفة. والتي هي كذلك حقبة عدم الانعتاق من مرحلة الطفولة والتنميط الاجتماعي. وقد تم الاستفادة من مقاربة (سيغموند فرويد)(5)، في اضاءة نمط التفكير عند الرجال والنساء في حقبة ما قبل المعرفة. وتبرير ذلك أن سوء التعليم، ورداءة الوقائع الاجتماعية، قد عطلت لديهم ملكة التفكير العلمي الناضج.

فنقصد بالتفكير القضيبي: تفكير يخص عالم الذكور، ويميل إلى القوة، ومهمته في النقاشات محاولة السيطرة أو اخضاع المقابل، يرافقها في كثير من الاحيان ضعف الحجة أو السطحية في التفكير/الاستدلال، والبعد عن الرصانة العلمية.  فالخطاب شعبوي، وانفعالي، يفتقر النقد.

أما التفكير الأمومي: تفكير يخص عالم النساء، يبرز بشكل عاطفي، وشدة ارتباط هذه العاطفة بالفكرة/القناعة. والملاحظ في النقاشات الميل الحاد إلى الدفاع عن هذه الافكار او القناعات، وكذلك مع ضعف واضح في الحجة أو البساطة في التفكير، وشح الرصانة العلمية ايضا.

إن هذين النمطين أعلاه يعتمدان أساسا على الغرائز، ونقص في المعرفة العلمية، والتحيز النوعي (ذكورة وانوثة) في تفسير القضايا، فضلا عن تفاوت التجارب والخبرات نتيجة التنشئة الاجتماعية. فضلا عن التركيز هنا على النقاش والحوار والذي يعكس نمط التفكير بشكل أكثر دقة من المكتوب.

الخاتمة

يُظهر التفكير المفصل حول المفاهيم المقدمة، مثل “العقل المفخخ”، و”الكتب المفخخة”، و”الجماعات المنقرضة”، و”الفشل الجيلي”، بالإضافة إلى “التفكير القضيبي والأمومي”، أن هذه الظواهر تمتلك تأثيرات هامة على المجتمعات والأفراد.

في عالم مليء بالتحولات والتقلبات، تبرز الحاجة الملحة لتوجيه الضوء نحو (العقل المفخخ) وتداول الأفكار بشكل نقدي.  والسعى للتفاهم المتبادل والتسامح، مع مراعاة التنوع وتقبل الآراء المختلفة.

كما يدعو البحث إلى توسيع الوعي بخطورة (الكتب المفخخة) و(الجماعات المنقرضة)، حيث يكمن التحدي في التمييز بين المعرفة العلمية والتأثير الضار للأفكار المشوبة بالتحيزات الدينية والطائفية.

من جهة أخرى، يُسلط الضوء على (الفشل الجيلي) كظاهرة تحتاج إلى إعادة تقييم وإعادة تصوير لتلافي تكرار الأخطاء السابقة. يُشدد على أهمية تقديم أفكار حديثة ومتطورة للأجيال الجديدة بما يساهم في تشكيل مستقبل يعكس التطور والتقدم.

 أما فيما يتعلق (بالتفكير القضيبي والأمومي)، فإن التحلي بالتوازن بين العقلانية والعاطفة يعزز الحوار ويقوي الفهم المتبادل. يتعين في هذا الصدد التخلص من القوالب القديمة وتعزيز ثقافة البحث عن الحقيقة والتنوع الفكري.

في النهاية، يؤكد هذا البحث على أهمية تعزيز الوعي والتفكير النقدي كأدوات منهجية أساسية للتصدي للتحديات الفكرية والاجتماعية، وبناء مجتمع مدني، يستند إلى قيم العدالة والتعايش.

الهوامش


(1) انتوني غيدنز وفيليب صاتن، مفاهيم اساسية في علم الاجتماع، ترجمة محمود الذوادي، ط1، (الدوحة: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص10.

(2)د.اليزيد بوعروري، تحولات المفاهيم في السوسيولوجيا المعاصرة: زيجمونت باومان وتجديد المفاهيم، مجلة الاداب والعلوم الاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر، 2023، ص10.

(3) مرتضى محمد، العقيدة السياسية لجماعات الخلاص الديني، دراسة انثروبولوجية في مدينة بغداد،  اطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد، كلية الاداب، قسم علم الاجتماع، 2021.

(4)Mark McCrindle،Generation alpha، Hachette Uk، 2021/4/28.   
(5)  يتمثل الجهاز النفسي عند فرويد بثلاث أركان اولا بالهو ID وهو قطب الشخصية النزوي، لا واعي، وراثي فطري في جزء منه، ومكبوت مكتسب في الجزء الاخر. وثانيا الانا Ego حيث يخضع لمطالب الهو ولاوامر الانا الاعلى ولمتطلبات الواقع في آن، واستقلاله نسبي. وثالثا الانا الاعلى Super Ego  اذ يتمثل دوره القاضي او الرقيب تجاه الانا فيراه فرويد ضميرا خلقيا. جان لابلانش وجان برتراند بونتاليس،  معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة وتقديم د.مصطفى حجازي، ط1، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011). ص926، ص177-178، ص203.


ناظم علي: باحث عراقي مختص بالعلوم الاجتماعيَّة.

جديدنا