صوفيَّة السرد في فضاء الصحراء؛ قراءة في “بدو على الحافة” لعبد العزيز الراشدي

image_pdf

رواية “بدو على الحافة” أول رواية أصيلة عاكسة للتجربة الشخصية للروائي المغربي عبد العزيز الراشدي بالنظر إلى العناية بمحيط الصحراء، هكذا تبدو الرؤية لمن تأخر في قراءتها وساقت له الصدفة رواية مطبخ الحب أو يوميات سندباد الصحراء التي تحيل على محطات التنقل والانتقال لهذا الصحراوي الذي انطلق من مراتع الصبا والمشاهد الأولى التي التصقت بالذهن حول الواحة وأهلها وحياتهم المتحركة التي لا تعرف ثباتا، المختلطة بعطش الفتوة للحب واختراق النموذج الصافي للجمال البعيد، الذي اقترب بفعل سحر الكتابة والتحول الواعد في حياته بعد ركوبه مركب البحث والمعاينة واستحضاره للماضي بكل مجهود الذاكرة والهوس بالتفاصيل، بجرعات زائدة من المفاجآت التي تتوقد كلما اختار العودة لإتمام الحديث عنها، ثم تهدأ قليلا مع وصلات الاستراحة التي طاوع فيها تدفقاته الشعورية لا محالة، حينما اختص فصولا لأحاديث القلب أو القلبين المتناغمين القريبين، قلب السارد وحبيبته بالمزج الأفقي المتراوح بين ضمير المتكلم والعاشق وضمير المخاطب الذي فرض حضوره في فضاء كان حكرا على السارد وحده، فلربما غير صورته في عينه أو جمله باقتحامه المرغوب والمطلوب ليعيد السارد تأثيثه كما ينبغي لمقامه، الحبيب الذي كان ينتظره منذ عهود ماضية فأتى أخيرا وموضع نفسه موضعه كأنه كان معدا له سلفا، لذلك عز على السارد الفراق حتى ولو ادعى في شيء من التمويه أن كل شيء كان مكانه حتى قدمت مخاطبته.

هذه المخاطبة كانت حبيبته وطبيبته التي كان يطمع في مداواتها له وحده من الألم الذي سكن قلبه أو عيونه أو عظامه، أو من التيه والجولان حتى يقر له القرار، لقد أراد أن تكون له وحده لا لغيره لأنه آنس من نفسه القدرة على مجاراة ترياقها الذي يصلح له، واحدا من بين جماعة الصحراويين الذين يفهمون لغة هذا الحب ويشفون بذلك الدواء.

كان السارد ينتشي بوجود غريب بين أهله وعشيرته اختار الانتماء إليهم عن طواعية لأنهما متوائمين مع بعضهما البعض، ففي طقوس الواحة المتلونة مصلحة الحبيبة التي تنشد الاستقرار والثبات والتقشف واحتواء كل من يحتاج إلى دفئها كي تفيده وتدثره، فهي لا تحسن الفرز أبدا وقادرة على أن تحيط كل المحبين الذين كانت الصحراء تجمعهم على اختلاف قصصهم وحكاياتهم، سواء منها الجديدة أو القديمة التي تلوك الألسن أحداثها ولا تنساها بفعل التقارب والاحتكاك، أو العابرة منها حتى.

قد تكون حبيبة السارد متخيلة قابلة للتحقق الفعلي في الصحراء-على مستوى الكتابة الرمزية طبعا- وقد تكون حقيقية وحقلا فسيحا من حقول تجارب الخيال والتخييل.

فالموسيقى وبعض ترانيمها الخاصة المحبوبة، واليباب الممتد بين أرض وسماء، الذي لا يصطدم بشيء إلا من بعض الأسوار، أو النخيل الذي يستدير حول القصور ثم تغري بالاسترخاء وهدوء البال وسكينة الروح، والحياة المنتظمة في طريقها دون مشاكل التي تعلم الإنسان كيف يمضي برحابة العيش الذي لا يحتمل كثيرا من الخلاف والاختلاف، العيش الجميل الذي لا يحاربه الإنسان الصحراوي ويسعى لقبوله دون جهد كبير لأنه يناسب شخصيته أو لأنه يعكس حقيقته في الأصل، والخيالات التي تشطح عند بوابة الذاكرة، الهدوء الذي يبعد الإنسان عن صخب الحياة أو كوابيسها قبل أن تحضر مرة أخرى وتجثم فوق صدره بثقلها فيتشوق للعود إليه، والعدول عن الفوضى والكدر والزهد فيه، ثم صدق الشعور وشفافيته الذي يبلغ بصاحبه أحيانا مبلغ التألم منه والوجد بسببه أو الخبل فيشطح عقله ولسانه معه ويبوح بما لا يفهم للناس لأنه يبقى محجوبا عنهم لا يكشف مستورا ولا يفضح أو يعرى، البحث عن الحقيقة التي يهدي إليها القلب دون الوصول إلى نتيجة تقنع من يعيش خارج هذه التجربة الفذة، كلها تساهم في تشكل ملامح تجربة المتصوف العظيمة والثقيلة بثقل المكابدة واللاثبات، التجربة الحبلى بالحيوات والتشكيلات التي تشعل نار الكتابة.

إن هذه الكتابة من وفاء السارد لأصله التكويني البدوي الذي عشش التصوف في أركانه، وبصم كل صغيرة وكبيرة فيه، في الأفراح والأقراح بإيقاع القصائد والأذكار وحكايا الأولياء والأنبياء وبِلذَّة الألحان الحزينة، يعود إليها ليرتاح مهما ابتعد أو سافر للبلاد البعيدة، ثم يختار أن يشكل قوامها ويعجنها بالمرأة –ملاذ الصوفية جميعا- ويسكب عليها صفاته الخاصة من الغنج والبياض والدلال والتمنع، وخصوصية الجنوب أيضا الذي يصبغ عنقها بالسمار بفعل شمسه، ويصبغها ببساطته أيضا.

إن العودة لهذا المكان الذي منه الأصل والمنشأ لتسليط الأضواء على عناصر الجمال فيه وبسط القول حياله، فيه شيء من فخر الانتماء-من باب مقاسمة الأهل والعشيرة الهموم، حين نثر بكل شجن ما يفسد على الصحراء الحياة ويبخس الناس أشياءهم ولا يضعهم موضعهم الذي يستحقون بين صفحات التراث الشفهي والثقافة الشعبية الحاضرة في وجدان كل مغربي وإن لم يكن منتميا لثقافة الصحراء تحديدا، المشاكل التي تلقي بظلالها القاتمة على جنوب المغرب وتجعل أهله يتجرعون مرارة الفقد والحرمان: فقد الماء أو قلته في عز الطلب وفقد المستشفيات ومعداتها وفقد الصحة، ثم السيول الجارفة والسنين الشديدة، ما يجعل شبابها يتلمسون طريق الخلاص في الهجرة إلى البلدان البعيدة.

ومع ذلك ظل السارد حريصا على تصوير صحرائه في مشاهد جميلة، يشكل هيئتها الإنسان البدوي الذي رغم همومه ظل مكابرا ومهادنا الزمن بصفات الكرم والبشاشة وحفاوة الاستقبال والقدرة على احتواء الآخر والصبر عليه ونسيان أذاه، الحريص على التجمع في كل المناسبات والأوقات ونبذ الخصام والفرقة، مبتهجا باللحظة وغير مضيعها من بين يديه، متشبثا بهذه السمات والصفات عن طريق التوارث الأمين.

ثم أن الارتباط بالتاريخ الضارب في القدم كان أمرا لا مناص منه، فالذاكرة تمتد للماضي وتُحضر شخوصا مأثرة في مسار السرد جاءت من عهود الاستعمار الفرنسي لتحكي عن مواضيع خيانة للعهد وخروج عن الجماعة وإلحاقها الأذى بها.

وهكذا ظل السارد منتقلا بين تلاوين الفصول وتعاقب الأزمنة وتنوع الأمكنة داخل الفضاء الواحد، فضاء الصحراء الذي يظل غامضا، مليئا بالأسرار والحكايا التي تتسرب خيوطها تباعا دون انقطاع، يتسامر بها أهلها في الحلقات التي تصنع الفرجة المحافظة، المعتدلة باعتدال الإنسان الصحراوي نفسه.
_________
*الدكتورةهجر شفيق:أستاذة السلك الثانوي التأهيلي بسلا/ المغرب.

جديدنا