الإحاطة الناعمة؛ سعي الصين لربط العالم والفوز بالمستقبل

image_pdf

الحرير الرقمي:

يشهد القرن الحادي والعشرون تطورًا سريعًا للتكنولوجيا، وهذه الحقيقة لم تعد خبرًا، ولم تعد المستجدات والمستحدثات التكنولوجية تلفت انتباهًا لغير المعنيين باستخداماتها مباشرة. ولكن عندما بدأ الحديث عن طريق الحرير الرقمي تكاثرت الكتابات والمراجعات. وربما تأتت أهمية هذا الحدث من مدخلين متلازمين؛ أولهما، أن الصين بعض من روابطه السياسية والاقتصادية والتقنية؛ وثانيهما، أن ذلك يجعل لمشروع “الحزام والطريق” الضخم بُعْدًا ثالثًا لا يقل أهمية عن سابقيه، إن لم يكن يتفوق عليهما عمقًا وسعةً. ومن أثار انتباهتهم الباكرة لهذا التطور هودونغ جي، الذي كتب في عام 2018، “خطوات نحو طريق الحرير الرقمي”، وتبعه صن بنغكن في عام 2019، عن “طريق الحرير الرقمي وأهداف التنمية المستدامة”، وكتب وليش قو في عام 2019، ” نحو تنمية عادلة ومستدامة، وتبعه إل واي بورا في عام 2020 عن “التحدي والمنظور لطريق الحرير الرقمي، إدارة الأعمال المقنعة”، ثم لحق بهم برودريك وأليسون وتريدو، في ذات العام 2020، والذين كانوا أكثر إفصاحًا عندما كتبوا عن ” طريق الحرير الرقمي: توسيع البصمة الرقمية للصين”، ولم يتخلف جوناثان إي هيلمان كثيرًا  ليظهر كتابه “طريق الحرير الرقمي: سعي الصين لربط العالم والفوز بالمستقبل“، في 19 أكتوبر 2021، عن دار نشر هاربر كولينز. وفي هذا الكتاب، يقدم هيلمان، الذي يعتبر خبيرًا في توسع البنية التحتية العالمية في الصين نظرة عاجلة إلى معركة الاتصال والتحكم في شبكات الغد.

إن طريق الحرير الرقمي يتتبع صعود الصين كقوة رقمية عظمى ويقدم تحليلًا واقعيًا لتحديها للقيادة التكنولوجية الأمريكية والقدرة التنافسية الاقتصادية والأمن القومي. يوضح جوناثان هيلمان كيف مكنت ريادة الأعمال الخاصة والدعم الحكومي بلدًا متخلفًا تقنيًا لاكتساب قدرات اتصالات رائدة يُعتقد منذ فترة طويلة أنها حكرًا حصريًا على الديمقراطيات الغنية. لقد أضاف التقدم التكنولوجي والتقدم الاقتصادي للصين بعدًا جديدًا إلى الساحة الجيوسياسية. وما كتاب جوناثان هيلمان إلا رسم تخطيطي لتأثير الصين في العالم الرقمي وسعيها للسيطرة على المجال التكنولوجي. إذ هو يأخذ قرائه في رحلة من البصمات الرقمية على الشبكات العالمية، ويكشف عن الروابط بين العالمين المادي والرقمي والصراع بين القوى العظمى، التي تتنافس للسيطرة عليها. لذلك، جاء الكتاب ليناقش موضوع المنافسة التكنولوجية المستمرة بين الغرب والصين، خاصة قضية شركة Huawei الصينية وعملاق التكنولوجيا الكندي السابق نورتل. وفي هذا السياق، يركز المؤلف على مشروع Huawei-Nortel المشترك لعام 2006، الذي يقدم نطاقًا عريضًا عالي السرعة استمر أربعة أشهر فقط بعد إعلانه. ويذكر الكتاب كيف كانت هواوي تدور حول نورتل “أولاً كحمامة، ثم كصقر، وأخيراً كنسر”، خلال السنوات الأخيرة من عملها كعملاق تقني. وفي عام 2007، تجاوزت Huawei بالفعل الإيرادات السنوية لشركة Nortel، وفي النهاية، تقدمت الشركة الكندية بطلب الإفلاس في عام 2009.

هزيمة الجشع:

لقد بات معلومًا أن الصين إذا أصبحت المشغل الرئيس للشبكات في العالم، فقد تجني مكاسب تجارية واستراتيجية غير متوقعة، بما في ذلك العديد من المزايا، التي تتمتع بها الولايات المتحدة حاليًا. وللمضي قدمًا، ومقاربة هذه الحقيقة، يكشف الكتاب أن الصعود التكنولوجي للصين كان أيضًا نتيجة جشع الشركات الغربية في الاستيلاء على أسواق أكبر وأكثر ثراءً، مما أدى إلى فجوة رقمية عالمية. ويشدد هيلمان على أن بناء شبكات الاتصالات فتح طرقًا للصين لمراكمة قوتها الناعمة وممارستها. وحولت الصين خطوط الصدع هذه إلى فرصة وأصبحت مصدرًا أقوى وأكثر موثوقية لشراء تقنيات الاتصال من قبل البلدان المتقدمة والنامية. ويحدد هيلمان أيضًا الأخطاء، التي ارتكبها الغرب، والتي مهدت الطريق للشركات الصينية للوصول إلى الأسواق الغربية، وبالتالي السيطرة على العالم الرقمي. على سبيل المثال، يجادل هيلمان بأن الشركات الغربية كانت حريصة على الوصول إلى السوق الصينية وسمحت عن غير قصد بنسخ تقنيتها والسيطرة عليها من قبل الشركات الصينية. ويشير كذلك إلى أنه بحلول عام 2017، استحوذت Hikvision الصينية بالفعل على 12٪ من سوق أمريكا الشمالية، وبحلول عام 2019 أنتجت ما يقرب من ربع كاميرات المراقبة في العالم. وينتقد المؤلف الولايات المتحدة، ويلاحظ أنه على الرغم من أن مساهمة الولايات المتحدة في التقدم التكنولوجي للصين ضخمة، تستمر واشنطن ووادي السيليكون في لوم الصين على الغش في طريقها إلى القمة بدلاً من الاعتراف بفشلها.

لهذا، عند تقديم وصف مفصل لتكنولوجيا المراقبة العالمية، يشير هيلمان إلى أن الصين تتمتع بإمكانية الوصول إلى الأسواق في آسيا وإفريقيا. على سبيل المثال، ستصبح الكابلات البحرية الصينية، التي تربط باكستان بجيبوتي أقصر رابط إنترنت بين آسيا وإفريقيا – وهما المنطقتان اللتان نما فيهما النطاق الترددي الدولي بشكل أسرع في السنوات الأخيرة. ويمكن أن تعيد تشكيل التدفقات العالمية للبيانات والتمويل والاتصالات لتعكس اهتماماتها، وأن تمتلك فهماً لا مثيل له لتحركات السوق، ومداولات المنافسين الأجانب، وحياة عدد لا يحصى من الأفراد المتورطين في شبكاتها. ومع ذلك، فإن الهيمنة الرقمية للصين ليست مؤكدة بعد، إذ لا تزال بكين ضعيفة في عدة أبعاد رئيسة، والولايات المتحدة وحلفاؤها لديهم فرصة لتقديم بدائل أفضل، ويكون لها صوت في بقية أنحاء العالم. لكن الفوز في معركة شبكات الغد سيتطلب من الولايات المتحدة أن تبتكر وتتحمل مخاطر أكبر في الأسواق الناشئة، الشبكات تخلق فائزين كبار، وهذه مسابقة لا يمكن لأمريكا أن تخسرها.

إشكالية الحرية:

بيد أن هيلمان يرفض فكرة أن التكنولوجيا تزدهر فقط بالحرية، إذ لاحظ، بدلاً من ذلك، أن الاستبداد الرقمي في تطور متسارع. على سبيل المثال، أشار إلى أن بكين استثمرت واستخدمت التقنيات الناشئة في تعزيز أمن الاتصالات، مثل أنظمة التعرف على الوجه القائمة على الذكاء الاصطناعي، وهي تحد من حرية المجتمع والمجتمعات الصينية، التي تغلغلت في الصين. وأشار المؤلف إلى إمكانية أن تصبح الصين مشغل الشبكة الرائد في العالم، وتجني المزيد من الفوائد التجارية والاستراتيجية. ويؤكد أن الصين أصبحت أكبر مزود في العالم لتكنولوجيا الاتصالات، حيث تعمل في أكثر من 170 دولة. وتنتج شركتان صينيتان Hikvision وDahua حوالي 40٪ من كاميرات المراقبة في العالم. وبذكر هذه الحقائق، شدد المؤلف على أنه إذا سُمح للصين بالاستمرار في التأثير بشكل كبير على المجال التقني، فيمكن أن يمنح بكين القوة لوضع معايير للأجهزة والبرمجيات للمعدات المستقبلية وتوسيع شبكتها بشكل أكبر. ومع ذلك، يجادل المؤلف بأن التفوق الرقمي للصين لا يزال غير مضمون لأنه لا يزال ضعيفًا في مجالات رئيسية مختلفة. ويظل الابتكار مصدر قوة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة، مما يمنحه فرصة لتقديم بدائل أفضل للعالم. ويصر هيلمان على أن الولايات المتحدة يجب أن تدفع نحو البلدان ذات الدخل المنخفض، وأن توفر مساحة تنافسية للشركات الجديدة لتزدهر وتعلم وتجذب الجيل القادم من المبتكرين وتحمي خصوصية المواطنين وأمنهم.

لكل هذا، يقدم هيلمان تحليلًا مدروسًا جيدًا للمزايا الاستراتيجية والاقتصادية، التي اكتسبتها الصين من خلال طريق الحرير الرقمي. ومع ذلك، فإنه يركز بشكل أكبر على الجوانب الأمنية، بدلاً من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، لهذا الطريق، بما في ذلك تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. وبالتالي، فإن اختيار المؤلف لتجذير التحليل في الاعتبارات القائمة على الأمن حصريًا، يترك القارئ غير مدرك للعديد من المزايا الاجتماعية والاقتصادية، التي يقدمها الطريق الرقمي. لذلك، يقترح المؤلف تحالفًا من الديمقراطيات لموازنة حجم عمليات الصين العالمية، ويشجع الديمقراطيات الكبرى على الاستثمار في البحث والتطوير، وتسويق أبحاثهم وبيعها على نطاق واسع، وتطوير المعايير الفنية والمعايير الأخلاقية من أجل تعزيز مصالحهم المشتركة وتعزيز مجتمعات أكثر حرية. ويلفت الانتباه إلى أن تم الآن دمج مبادرة الحزام والطريق (BRI) في خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، التي من خلالها، تمكنت الصين من تسخير التنمية المستدامة من خلال الحد من عدم المساواة، وتحفيز النمو الريفي ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في البلدان النامية. غير أن ما يتجاهله المؤلف أكثر في الكتاب هو أن مشروع مبادرة الحزام والطريق، وخاصة طريق الحرير الرقمي، قد وسّع التحولات الاقتصادية وعزز التكامل الإقليمي، لصالح الاستقرار السياسي وتقوية التعددية العالمية. وقد ساعدت هذه التطورات بشكل كبير في ربط الدول اقتصاديًا وجغرافيًا واجتماعيًا.

التحدي:

لهذا، فإن تصور الآفاق الأساسية، التي حددها المؤلف التكنولوجيا الصينية على أنها تهديد للهيمنة الغربية، يناقضها تقليله من أهمية فوائد التكنولوجيا الصينية. رغم أنه اعترف أن طريق الحرير الرقمي الصيني مكن من توفير التكنولوجيا وإمكانية الوصول والابتكار بتكلفة أرخص للعالم، وخاصة البلدان النامية، التي كانت في الماضي تعتمد فقط على البدائل النادرة والمكلفة للغرب. وتساعد الشركات الرقمية الصينية في بناء مشاريع المدن الذكية، وتنفيذ الحوكمة الإلكترونية والتعليم الذكي والزراعة الذكية ومشاريع الصحة الرقمية. ويمكن ملاحظة ذلك خلال أزمة وباء “كورونا”، حيث تمكنت الشركات الصينية من تطوير نظام تشخيص للوباء مدعوم بالذكاء الاصطناعي، الذي ساعد المستشفيات، مثل تلك الموجودة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. علاوة على ذلك، فإن إمكانية الوصول إلى البيانات الضخمة، تساعد البلدان النامية على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وعلى المستويين الجزئي والمتوسط​​، ساعد طريق الحرير الرقمي في تعزيز الاتصال بين الشركات وبين الشركات والمستهلكين. والأهم من ذلك، ونظرًا لأن هذا الطريق الرقمي ديناميكي بطبيعته حاليًا، فمن المهم أن نفهم كيف سيشكل مساره هيكل السياسة العالمية. وهل سيؤدي إلى تحول نحو القطبية الثنائية، أم أن النظام الدولي سيبقى أحادي القطب؟ فقد يبدو الكتاب نظرة فاحصة على سعي الصين للسيطرة على المجال التكنولوجي، وفي ذلك تحذير مقنع بأن الغرب لديه الكثير من العمل ليقوم به إذا كان يريد احتواء التوسع الصيني في الفضاء الإلكتروني.

إننا نجد أن حجج المؤلف في جميع أنحاء الكتاب تدور حول التحدي، الذي تشكله الصين للغرب. ويقول إن احتمالات أن تصبح الصين قوة مهيمنة في صناعة التكنولوجيا يمكن أن تضع المعايير التكنولوجية الصينية كمعيار للمستقبل. ويحذر هيلمان من التراخي والاستخفاف بالطموحات التكنولوجية للصين، وكتاباته واضحة ودقيقة، وتحذيره من أن أمريكا بحاجة إلى الاستيقاظ جاء في الوقت المناسب ومقنع للقارئ الغربي. ومع ذلك، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الاقتصاد الرقمي في الوقت الحاضر يسير على طريق التطور. لذلك، فإن أي استنتاجات محددة مثل افتراض المؤلف أن “صعود الصين قد عكس تمامًا السهم السببي، الذي وجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة” قد يقوض النظرية، التي تحتكم لمعايير العلوم الاجتماعية التجريبية والمنهجية حيث لا يوجد شيء دائم في السياسة. ففي أفضل الأحوال، يجب على الأكاديميين متابعة الاتجاهات الناشئة في العالم الرقمي بدقة وتقييم كيفية تشكيل هيكل التكنولوجيا العالمية.

خاتمة:

يدحض هيلمان فكرة أن الاتصال بالإنترنت يأتي بمزيد من الحرية، ومع ذلك، فإن كتابه يُعد مساهمة مناسبة التوقيت في مجال العلوم السياسية، ونرى أنه مفيد جدًا للباحثين الناشئين، وكذلك الممارسين السياسيين، إذ يجادل بأن الصعود التكنولوجي للصين يتحدى هيمنة الغرب على النظام الرقمي العالمي. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه من أجل منظور متوازن، يلزم البحث في المستقبل لتقديم رؤى حول الفرص، التي يوفرها طريق الحرير الرقمي للعالم النامي في مجالات مثل البيئة والصحة والتعليم. ويجب إضافة أن الكتاب يسلط الضوء على جوانب في الاقتصاد السياسي الدولي يعززها هذا الطريق الرقمي، مثل الاتصال العالمي. لذلك، ينبغي أن تظل الدراسات المقارنة الإضافية للبلدان النامية والمتقدمة أولوية، مما يسمح بإجراء مزيد من الدراسة للخيارات، التي تتخذها هذه الدول عند اختيار الصين، أو الولايات المتحدة. ويجب أن يكون هذا الكتاب المهم مطلوبًا للقراءة من قبل صانعي السياسة وقادة الصناعة من قاع المحيط إلى الفضاء الخارجي، لأن طريق الحرير الرقمي الصيني يهدف لكيفية تشكيل الصين للكون الرقمي، وإعادة رسم الروابط، التي تنقل البيانات من قاع المحيط إلى الفضاء الخارجي، وتسخير الوسائل، التي ستتم من خلالها التجارة والحرب بشكل متزايد، في إطار قرن محدد التنافس على السيطرة. فالقراءة الأساسية لفهم أحد أكبر التحديات الجيوستراتيجية في عصرنا هي معرفة أبعاد الصعود التكنولوجي للصين والدفع العالمي للسيطرة على الأنظمة الحيوية، التي تعتمد عليها الجيوش والأسواق والمجتمعات الحديثة.

*الدكتور الصادق الفقيه: دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن

الاثنين، 10 يوليو 2023

صقاريا، تركيا

جديدنا