الماء في الحضارة الإسلاميَّة؛ استعادة المنجز الحضاري

image_pdf

صدر ضمن سلسلة كتاب المجلة العربيَّة التي تصدر من الرياض كتاب (الماء في الحضارة الإسلاميَّة) وهو من تأليف الدكتور خالد عزب عالم الآثار المختص بفقه العمران.

الكتاب ينطلق من معالجة مشكلة ندرة المياه حتى أوقفت الأوقاف لتوفير المياه في المدن والقرى، يذهب المؤلف إلى أن العرب رزقوا منذ قديم الدهر فراسة حاذقة يعرفون بها مكامن المياه في باطن الأرض ببعض الأمارات الدالة على وجوده محددين بعده وقربه، بشم التراب أو برائحة بعض النباتات فيه، أو بحركة حيوان مخصوص، وقد سمى العلماء معرفتهم هذه علم الريافة، تطورت هذه المعرفة الفطريَّة عند العرب مع تفجر ينابيع العلم في الإسلام وتبحر العلماء المسلمين فيه، فصارت بجهود علماء الرياضيات والطبيعيات علما محررا ومدونا، وفنا تطبيقيا بالغ الدقة، ارتقى به بعضهم إلى اختراع موازين يزن بها ارتفاعات الأرض على النحو الدقيق الذي اهتدى إليه وشرح صفته المهندس الرياضي الكرجي.

ذهب العرب إلى الانتفاع بكافة الموارد المائيَّة، كما حددوا كيفيَّة استثمار المياه، كان العرف قبل الإسلام هو المنظم لحقوق استثمار المياه. فقد كانت القبائل المتنقلة في أراضي شبه الجزيرة العربيَّة تستقر في مواقع خلال الترحال، في هذه المواقع ترسم مناطق على الأرض تسمى “الحريم” تحدد القبيلة مجال حق الانتفاع بالموارد المائيَّة السطحيَّة والجوفيَّة القريبة إلى المضارب والواقعة ضمن نطاقها وذلك مع مراعاة حقوق باقي القبائل من المناطق المجاورة. كان هناك مفهوم آخر هو “الحمى” يعبر عن استعداد القبيلة للدفاع عن حقوقها، وهو مكون من عنصرين: 

العنصر الأول يحدد خط الدفاع الفعلي المرسوم على الأرض. والعنصر الثاني يتضمن الاعتبارات المعنويَّة والحقوقيَّة لكيان القبيلة،وكان انتهاك أي من هذين العنصرين يدعو القبيلة للنهوض والذود عن الحمى.

لما جاء الإسلام بوصفة قوة مصلحة ومجددة، وافق على الأعراف السائدة، لكنه ألغى كل المفاهيم التي تكرس الملكيَّة الفرديَّة للمياه والحقوق المطلقة للانتفاع بها. فالماء في الأصل ككل شي ملك الله ويجب أن يكون متاحا لكل الناس، واصبح الماء ملكيَّة للناس لا يجوز احتكاره أو امتلاكه أو بيعة، كما جاء في الحديث الشريف ” الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار” الذي يبيِّن عدم شرعيَّة امتلاك الأشياء الثلاثة السابقة امتلاكا فرديا، ولذلك لا يجوز بيع الماء. “عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن عمر عن عائشة رضى الله عنهم قالت:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الماء. قال أبو يوسف: وتفسير هذا عندنا والله اعلم أنه نهى عن بيعه قبل أن يحرز والإحراز لا يكون إلا في الأوعية والآنية، فأما الآبار والأحواض فلا “، فالحديث ينهى عن بيع الماء، لكن القاضي  أبا يوسف يرى في اجتهاده إمكانيَّة البيع حين يبذل الإنسان جهدا في جمع هذا الماء وحفظة في أوان.

وفى حديث آخر،عن جابر بن عبد الله قال:” نهى رسول الله صل الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء “، وفي شرح الإمام النووي على هذا الحديث “أما النهى عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة… وفيها ماء فاضل عن حاجته ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء ألا هذه، فلا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض، لأنه إذا منع بذله منع الماء من رعى ذلك الكلأ، خوفا على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعة الماء مانعا من رعى الكلأ فالمانع حسب الحديث والشرح يكون مانعا لشيئين من الممتلكات العامة:الماء والكلأ والتحريم في ذلك واضح.ثم تطور مفهوم الحريم والحمى الذي كان يعبر عن نزعة قبليَّة في تملك حقوق واستثمار المياه والدفاع عنها، ليأخذ شكلا عمليا بموجب أحكام الإسلام، فهو يعالج الحرم حسب نوع المصادر المائيَّة كالينابيع والآبار والأفلاج فقد حددت لكل منها حريم يختلف باختلاف نوع هذا المصدر المائي، وأهميته من حيث الغزارة. والهدف من تحديد هذا الحريم تحقيق العدالة في توزيع هذه المياه من خلال الاجتهاد تبعا لوضع المياه في جوف الأرض وآليَّة حركتها.

حرص فقهاء المسلمين على جعل الترتفاق بالمياه حقا عاما تحميه الدولة.بل وألزموا الدولة بتطهير الأنهار العامة وصيانة جسورها، أما إذا كان مورد المياه يخص طائفة بعينها فعليهم صيانتها.وللإمام أبي يوسف رحمه الله فتوى مفيدة في كيفيَّة تحمل هؤلاء عبء العمل، قال:وسألت يا أمير المؤمنين:عن نهر بين قوم خاصة يأخذ من دجلة أو الفرات أرادوا أن يكروه أو يحفروه،فكيف الحفر عليهم؟ فإنهم يجتمعون جميعا فيكرونه من أعلاه إلى أسفله، فكلما جازوا أرض رجل رفع عنه الكري، وأكري بقيتهم كذلك حتى ينتهي إلى أسفله.وقد قال بعض الفقهاء:يكري النهر من أعلاه إلى أسفله، فإذا فرغ من ذلك حسب أجر جميع حفر ذلك النهر على جميع من يشرب منه من الأرض، فلزم كل إنسان من أهله، بقدر ماله، فخذ يا أمير المؤمنين بأي القولين أحببت.ثم قال: وإذا خاف أهل هذا النهر أن ينشق عليهم، فأرادوا تحصينه من ذلك، فامتنع بعض أهله من الدخول معهم فيه، فإن كان في ذلك ضرر عام أخبرهم جميعا على أن يحصنوه بالحصص، وإن لم يكن فيه ضرر عام لم يجبروا على ذلك، وأمرت كل إنسان أن يحصن نصيب نفسه.

لكن يبرز هنا سؤال مهم هو: كيف واجه  مشكلة ندرة المياه؟

ليعود بنا خالد عزب بالذاكرة إلى العصور الإسلاميَّة الأولى، ففي الربذة تم الكشف عن منشآت مائيَّة متنوعة منها برك المياه الكبيرة، كانت تستخدم لحفظ مياه الأمطار والسيول. كذلك وجد بها نظام دقيق لحفظ المياه داخل المنازل السكنيَّة في خزانات أرضيَّة حفرت وبنيت بطريقة هندسيَّة بارعة تحت مستوى أرضيات الغرف والساحات السكنيَّة[1].

عانت جدة من ندرة المياه كثيرا، فحينما زارها المقدسي وصفها بأنها عامرة، أهلها أهل تجارات ويسار..وأهلها في تعب من الماء، وفي منتصف القرن الخامس الهجري قدم ناصرو خسرو وشاهد جدة ووصفها وأفاد بعد وجود الأشجار والزرع رغم ازدهارها العمراني، وسبب ذلك قلة الماء. عني السلطان قانصوه الغوري عندما كان حاكما للحجاز في العصر المملوكي بأزمة المياه وتحويل مياه الشرب إلى الصهاريج التي تجمع بها مياه السيول والأمطار فجلبت المياه من المناطق الغربيَّة من جدة، من وادي قوس الواقع شمال الرغامة التي تبعد عن جدة حوالي 12 كيلو متر.

لقد حرص الخلفاء العباسيون على توفير المياه لعاصمتهم بغداد فأقيمت في عهد المنصور قناة تأخذ مياهها من كرخايا ـ أحد روافد الفرات ـ وتجري في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالأجر من أعلاها، تنفذ فى شوارع بغداد صيفا وشتاء، وقد صممت على أن تكون دائمة الجريان طوال أيام السنه، وتتابع اهتمام خلفاء بنى العباس فى شق الأنهار والقنوات إلى بغداد وضواحيها لتوفير المياه عصب أيَّة مدينة .

 الأفلاج

يذكر خالد عزب أنه انتشرت في العالم الإسلامي تقنيات متعددة لاستنباط المياه ففي الإمارات العربيَّة المتحدة وعمان استخدمت الأفلاجيقول المؤرخ العماني بدر العميريبأن الفلج هو الماء الجاري عبر قناة صناعيَّة مشقوقة في الأرض، ومصدره الأساسي المياه الجوفيَّة الباقية من مياه الأمطار التي تمكث في طبقات الأرض يكون مصدرها المرتفعات الجبليَّة التي تعتبر بمثابة خزانات ينفق مخزونها بطريقة منتظمة من خلال قنوات تنساب فيها المياه إلى المناطق التي يراد بها زراعتها، اتجه السكان القدامى لاستخراج هذه المياه وإبرازها على سطح الأرض للانتفاع بها، فقاموا ببناء هندسي كلفهم الجهد والوقت والمال ونجحوا في عملهم الذي يوحي بأنهم كانوا مهرة في هندستها.

طريقة بناء الفلج تتم عن طريق استغلال أعلى قمة توجد بها المياه حيث توجد الفتحة التي يتم سحب المياه منها، ثم يبدأ سريان المياه في قناة تتجه نحو القرية أو المدينة، حتى يصل الفلج للمنطقة المزروعة ثم يليها المنطقة السكنيَّة والتي يقدم لها تسهيلات هي ماء الشرب ثم أحواض الاستحمام وأخيرا مغاسل الموتى ولا يسمح بتحويل الفلج في المناطق السكنيَّة ولا يسمح بتحويل الفلج في المناطق المسكونة للأغراض الخاصة، ولا يمر تحت المباني، ولكنه يمر تحت المساجد حيث تستخدم مياه الفلج للوضوء، ويتضح لنا من خلال هذا الوصف الموجز أن الفلج تعتبر ملكيته ملكيَّة عامة، لا حقوق للأفراد فيها ولهذا السبب توجد بعض الآبار في المناطق السكنيَّة لزيادة كميات الماء للاستخدام الداخلي.

يتكون الفلج من عدة قنوات مصممة لسد احتياجات الماء في أماكن معينة، وبجداول زمنيَّة محددة، بينما يتحمل منظمو الفلج مسؤوليَّة التأكد من عمل هذه القنوات بكفاءة فهم ليسو مسؤولين عما يحدث للماء داخل الحدائق، والعمل الأساسي لقنوات الفلج الصغيرة محدد، ومنفصل عن شبكة توزيع الماء وهى التي يمكن أن تختلف طبقا لما يريده المالكون.

ـ قوانين المياه:-

تطورت قوانين المياه سريعا في التشريع الإسلامي حتى أصبحنا نردد مصطلحات فقهيه خاصة بالمياه دون غيرها،مثل حق جريان المياه أو حق إجراء الماءوحق الشرببل أصبحت كتب فقه العمارة  لا تخلو من أبواب تتعلق بقضايا المياه بل إن قضايا المياه في الحضارة الإسلاميَّة  تجاوزت هذا بكثير بحيث اصبح لدينا الان من واقع سجلات المحاكم الشرعيَّة قضايا تتعلق بنزاعات أو أوقاف خاصة بالمياه .

تطورت الأحكام المتناثرة للمياه في كتابات الفقهاء أو في المحاكم الشرعيَّة، لنرى الفقهاء وخبراء المياه يجمعون أحكام المياه في أبواب متكاملة تعكس مدى ما وصلت إليه أحكام المياه من تقدم ومدى ما وصل إليه المسلمين من تقدم في حل مشكلات المياه. ومن أبرز هذه المؤلفات (كتاب القسمة أصول الأرضيين ) وهو من تأليف أبو العباس أحمد بن محمد بن بكر الفرسطانى النفوسى، وهو من علماء القرن الخامس الهجري في تونس.

احتوى كتاب “القسمة أصول الأرضيين” قانون المياه الذي صاغه أبو العباس، ويمكن اعتباره أقدم قانون للمياه مكتوب بإفريقيا.

السواني

قدم لنا خالد عزب عددًا من الابتكارت التي انتشرت في العالم الإسلامي ومنها،السانيَّة أو السوانى آلة ابتكرها الإنسان في وسط شبة الجزيرة العربيَّة لرفع الماء من الآبار إلى مجاري ري المزروعات، كان صانع هذه السواني وهو الساني يقوم بمجهود فكري لتصنيع وتركيب كل أجزاء السواني من قوائم خشبيَّة ورشاء ( حبال) وغروب ( دلاء) ومفردها غرب، وتدريب الحيوانات المستعملة لرفع المياه من مصدرها، حيث أن الحيوان يقوم بالمشي لمسافة محددة تطول قد تصل إلى ثلاثين مترا لرفع الماء بجر الحبال لرفع الدلاء بالماء.

تتباين السواني من حيث التركيب من منطقة لأخرى، لكنها تتألف عادة من قوائم خشبيَّة تنصب فوق البئر أو على حافته، ورشاء، وغروب، أكتاف تثبت على أكتاف الحيوانات من أجل سحب الماء من مصدره، وغيرها. أقامت إدارة مهرجان الجنادريَّة الثقافي في الرياض أحد هذه الأجهزة الذي يسحب الماء باستخدام الجمال في ساحة الجنادريَّة.

 الطواحين المائيَّة

يدهش خالد عزب قراء كتاب الماء في الحضارة الإسلاميَّة بتدفق معلومات الكتاب وطرحه فهو يقودنا إلى أن الحضارة الإسلاميَّة عرفت  قوة جريان المياه كطاقة متجددة فيذكر القزوينى: ” أن أهل الموصل انتفعوا بدجلة انتفاعا كثيرا مثل شق القناة منها،ونصب النواعير على الماء يديرها الماء نفسه، ونصب العربات أي الطواحين التي يديرها الماء فى وسط دجلة فى سفينة وتنقل من موضع إلى موضع  يشير هذا النص إلى استغلال الماء الجارى في الأنهار والقنوات المتفرعة منها في إدارة الطواحين التي تعمل بالماء كطاقة حركيَّة مفيدة، انتشرت هذه الظاهرة فى المدن التى أمكن عملها على أنهارها ولعل أشهرها فاس التى يذكر الحميرى عنها ما يلي:

 ” وفيها أرحاء للماء نحو ثلاثمائة وستين رحى يضمها السور

 ” وعندما تهبط مستويات الأنهار فى فصل الجفاف ويضعف دفقها، تفقد عجلات الدفع السفلي بعضا من طاقتها، وخاصة إذا كانت مثبتة بضفاف الأنهار، حيث لا تعود مغاديفها تصل إلى الماء. وأحد حلول هذه المسألة تجلى برفع العجلات المائيَّة على دعامات الجسور للاستفادة من زيادة التدفق عندها.  ومن الحلول الأخرى التى استخدمها المسلمون، كان استعمال السفينة -الطاحونة التى كانت تديرها عجلات دفع سفلي ترفع على جانبي السفن الرأسيَّة عند منتصف المجرى، كما كانت الحال مثلا أثناء القرن 4هـ/10م فى نهري دجلة والفرات، حيث كانت توجد سفن -طواحين ضخمة مصنوعة من الخشب الصلب والحديد،كانت تنتج عشرة أطنان من طحين الذرة كل أربع وعشرين ساعة.

كان سحق الذرة والحبوب الأخرى للحصول الجريش من أهم وظائف الطواحين.إلا أنها كانت تستعمل كذلك لغايات صناعيَّة أخرى مثل تنظيف الثياب، وسق الخامات المعدنيَّة،وتقشير الأرز، وصناعة الورق، وانتزاع لب قصب السكر. كانت الطريقة المألوفة فى إعداد العجلات المائيَّة لهذه الأعمال هى إطالة محورها وتزويدها بالحدبات التى تؤدى إلى رفع المطارق ثم إسقاطها فوق المادة المراد سحقها .

كانت ابتكارات المسلمين فى مجال الطواحين التى تدار بقوة دفع المياه متعددة، غير إننا سنتوقف عند ابتكارات أبي القاسم بن عبد الغنى الاسفوني، الذي عاش فى الفترة من 574-649هـ/1178-1251م. صنع الاسفوني على نهر العاصي فى حماة طاحونة، وعلى حجر من أحجارها نقش صورة الأسد بارز القسمات، وحجز المياه بحواجز، كي يرشد أصحاب الطواحين إلى إيقاف طواحينهم فى حالة فيض النهر،وتدويرها فى حالة نقصه، فعندما تغمر مياه نهر العاصي فى وقت الفيضان صورة الأسد، يجب إيقاف الطواحين، وعندما تنحسر المياه عن صورة الأسد، يمكن للطواحين أن تدور. وموضع طاحونة الأسفونى الآن، هو طاحونة الغزالة على نهر العاصي وسط مدينة حماة، وقد انطمست الآن صورة الأسد.

الكتاب يأخذك إلى المنشآت المائيَّة كالسقايات التي عرفتها بغداد منذ العصر العباسي وأحواض سقي الدواب التي انتشرت لتوفر الماء للحيوانات. في الكتاب تفاصيل كثيرة تجعل قراءته متعه تغوص بالقارئ قديما ليستحضر تراثا نحن في أمسّ الحاجة له اليوم.


 

جديدنا