قلق فقدان الهوية و تضارب صور الذات

image_pdf

إن تواجد الأفراد ضمن جماعة تربطهم في إطارها علاقات اتصال وتفاعل متعددة الأوجه ومتنوعة المظاهر، يولد لدى هؤلاء الأفراد من حيث هم كذلك، مشاعر فردية شعورية أو لاشعورية، إيجابية كالنزعة إلى الانتماء والاحتماء، أو التوحد والتقمص، أو التضامن والتزاوج، وذلك في محاولة لتأكيد الذات الفردية والاجتماعية.

كذلك مشاعر مناقضة سلبية مثل مشاعر الخوف والقلق والغيرة، الشيء الذي يعبر حسب ” ماكس باجيس” بصراع الآراء والأفكار، ومظاهر التوتر والعدوان المتبادل، هذا الخوف الأخوي الفردي في طابعه الاجتماعي في نشأته وشروط ظهوره وتولده، تنتج عنه ظاهرة جماعية المظهر، مشتركة بين جميع الأفراد أعضاء الجماعة سماها ” باجيس”: القلق المشترك، وهكذا فتواجد الأفراد مع بعضهم على شكل مجموعات متجانسة تجمعهم الاهتمامات والهموم المشتركة، وتوحدهم المشاكل والمتاعب، وتؤلفهم الآمال والآلام، فتواجدهم هذا يجعل أحاسيسهم متجانسة أحيانا ومتقاطعا أحيانا أخرى في حيز رمزي، قد يكونُ نموذج سلطة أو مصدر قلق وتهديد أو مثير خوف واضطهاد حيث تتوحد الذات الجماعية على شكل “نحن” أو “أنا جماعي” وينجمُ عن ذلك أن الشعور بالأنا يصبح الشعور بنحن، حيث يدخل الجماعي المؤسسي في التكوين الجوهري لما هو فردي ذاتي، ولا يعني هذا استلاب الذات الفردية أو انحسارها وتلاشيها، بقدر ما تنتظمُ الذوات انتظام الذرر في العقد، أو الحلقات في السلسلة المتشابكة، تكون الخيوط الرابطة بينها دوافع البناء والمحبة وأحيانا أخرى دوافع عدوان وكراهية، مشكلة بذلك عاطفة جماعية موحدة، وفي هذا الصدد يقولُ “ماكس باجيس” ” إن الوحدة العاطفية للجماعة…ليست وحدة التحام وذوبان، إذ هي تنوع التجارب الفردية…”

فرغم أن كل جماعة تربوية أو مهنية أو مؤسسية، تشكلُ جماعة مرجعية بالنسبة للأفراد، تمكنهم من تحقيق ذواتهم، وإرضاء حاجاتهم في التوحد أو التقمص أو التماهي، أو الاسقاط والتصعيد والتعويض…لتجاوز مظاهر العجز الفردي، والقصور الذاتي لدى الانسان المفرد، رغم هذا فإن الجماعة قد تشكل قوة ضاغطة وإلزامية، تمارسُ على الفرد تغييرات تتجلى في سلوكه وردود أفعاله، لأن هناك روح جماعية ناجمة عن تآلف الأفراد رغم اختلافهم، حيثُ يكونون مثل خلايا الجسم في تآلفها، والتي تشكل باجتماعها كائنا جديدا يبدي خصائص جد مختلفة عن تلك التي تتوافر عليها كل خلية من هذه الخلايا.

وقد يوجد الفرد في علاقة ضمن مجموعة مؤسسية، يمكنه من السيطرة على نزواته ورغباته، لكن ذلك قد يخلق لديه قلقا جديدا، يهدف به إلى مكافحة قلق الهوى والنزوة، وبذلك فهو يتداوى من القلق بقلق مماثل،خصوصا وأن النزوات والرغبات اللاشعورية المناقضة لطبيعة الحياة الجماعية، تبقى ظامئة ومتعطشة للإرتواء والظهور، وقد يتأتى لها ذلك بصور مختلفة وملتوية، كالاعلاء والتصعيد والتكوين العكسي…

قلق التربية هذا يمارسُ نوعا من التربية يعيدُ بواسطتها انتاج نفسه، ويجدد زخمهُ في أنفس المدرسين بتربية قلق جديد لديهم، وذلك بأن يصبح سلوكهم مطبوعا بالخوف والخضوع، وقلق الانتظار، وانتظار القلق…

إن علاقة القهر التي تدخلُ في بناء الذات المربية مثلا، تعاش على أنها علاقة مشروعة وعقلانية، لأنها تنتظم بقوانين وتشريعات مؤسس، من جهة ولأنها تكتسي مغزى ومعنى النموذج السلطوي الذي تم تمثله…في لاشعور المربين من جهة ثانية، لذلك تعاش هذه العلاقة في الغالب على أساس من تبخيس واستصغار الذات، على شكل انجراح نرجسي أو فقدان إنسانية الذات بحكم كون العلاقة السلطوية القهرية تقوم على الاستعلاء والدمج بإلغاء ذات الأدنى وتحقير الذات لديه إلى درجة ينظرُ إلى المدرس معها وكأنه شيء، وإلى هذا يشيرُ الدكتور “مصطفى حجازي” بقوله بدل علاقة أنا /أنت، التي تتضمن المساواة. والاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر وحقه في الوجود…بدل هذه العلاقة تقوم علاقة من نوع أنا/ذاكَ، ذاك هو الشيء هو الكائن الذي لااعتراف به…علاقة الدونية والشعور بنقص الانسانية وقصور الذات، يحمل المدرسين، يدركون ذواتهم كذوات منبوذة أو مهجورة، الشيء يولد لديهم قلق النبذ والهجر، وقد أشار الدكتور”ألفريد آدلر” إلى ذلك بقوله رابطاً بين الشعور بالنقص الذاتي والتقدير الاجتماعي أو بين النقص النفسي والانتماء الاجتماعي. ”        

كل حياة نفسية تصرف إلى الميادين التي يجد فيها الفرد مكانهُ أمام وإلى جانب الآخرين.

فالشعور الاجتماعي يعطي لكل واحد شعورا بالأمن، الذي يمثل بالنسبة له السند الرئيسي للحياة، لذلك فإن إحساس المربين بعدم التقدير الاجتماعي، ونقص في الانتماء والكراهية سيذكي لديهم مشاعر النقص والحيف، وأمام هذه الوضعية المقلقة، يسعىون إلى تجاوز حاجز القلق، والخروج من حمأة الصراع، أحيانا بطرق إيجابية كالاحتجاج، والسعي بكافة الطرق المعقولة والمنظمة” لتأكيد الذات، واعتبار إنسانيتهم وكرامتهم، إلا أنهم في الغالب يسلكون سبلا فجة أو آليات دفاعية ملتوية كتقمص الشخص ” السيد” الواقعي أو الخيالي، كنموذج أبوي مؤسسي واقعي، أو صورة مثالية للأب الخيالي…، الشيء الذي يولد لديهم موقفا مأساويا إزاء الذات، أو موقفا اعتياديا لدى الآخر.

غير أنه في كثير من المواقف ما يكون قلق الشعور بالذات هذا في الموقف التربوي حافز بحث المدرسين على تجاوزه، بتحدي العوامل الملدة له، وكانت “كارين هورني” قد أشارت إلى وجود ثلاثة احتمالات أو إمكانيات لمواجهة القلق الاجتماعي المنشأ أو العلائقي الأصل.

التطرف في العدوان، الانعزال، أوالتبعية، فالشخص العدواني يرفضُ علاقة يرى أنها علاقة استغلال، والانعزالي يجتر قلقه نتيجة شعوره بالضعف والعجز، وإذا اشتدت درجة القلق الاجتماعي، يسقطُ المرء في القلق الذي تسميه “هورني”: بالقلق الأساسي الذي يسلبُ الذات سماتها الحقيقية والأصيلة، حيث ينشأ صراع نفسي داخلي ينهشُ كيان الذات، تسميه “هورني” الصراع المركزي، وهو صراعٌ بين الذات الحقيقية، والذات المريضة القلقة، الشيء الذي يجعل المرء يسقط في دائرة كراهية الذات والعالم، حيثُ ترى “هورني” أن المرء هنا يكرهُ ذاته الحقيقية لضعفها وفشلها، ويكره ذاته لحد الشعور بالخراب والدمار في شخصيته…إن كره الشخص لنفسه، وابتعاده عن طبيعته الأصلية، وتلقائيته، يجعلُ سلوكهُ لاينبع من خصائصه وسماته، بل من قلقه ونضاله من أجل استرجاع أمنه وطمأنينته…

والمربي كشخص يدخل في علاقة اجتماعية، يدركُ أن المجتمع يقيسُ وزن ذاته انطلاقا من معايير انتاجية، أي حيب مردوديته وانتاجيته الاقتصادية، لذلك يرى” إيريك فروم” إنه في مثل هذه الحالة توجد شخصية اقتصادية تخضعُ لمتطلبات السوق التجارية “تشييء الذات” في هذه الحالة، فإن المربي لايكونُ “مفهوم الذات” أو صورة “الأنا” لديه انطلاقا من صورة الآخر، كما يتصورها هو أو يتصورها الآخرون عنه، وفي هذا الصدد تقول الدكتورة “آدا ابراهام” “إن الصورة المهنية عن الذات تتحدد بالاعتبار الذي يمنحهُ الشخص لنفسه، وذاك الذي ينسبه إلى الآخرين إزاءهُ…فتأثيرُ الآخرينَ المنضوينَ في الشبكة الدراسية مدينٌ وخاضعٌ للذات، والطريقة التي تعيشُ بها علاقاتهم المتبادلة”.

هُنا ينشأ لدى المدرسين نوعٌ من الاستيلاب حيثُ يتخلَّوْنَ عن جزء من هويتهم ويتنازلون عن الذات الواقعية الطبيعية لصالح الذات المهنية الاجتماعية، بل يصبحون في قلق دائم بخشيتهم من الاستقلال والتحرر واتخاذ المبادرة، ويسعونَ إلى تَحْقيق المثال كما يحدّدثهُ الآخَرُونن ولايمارسونَ المهنةَ ويحققونَ الذات في مجالها كما يرغبون هم حقيقة في ذلك، وبتعبير آخر يتم إهمال الذات الأصلية بواسطة الذات المثالية، حيثُ يجدُون أنفسهم تحت تأثير الضغط المؤسسي والاجتماعي،

مضطرين إلى انتحال الأقنعة، ومحاولة الظهور بمظهر المواطن الصالح، أو النموذج أمام المتعلمين، والأقوى معرفيا، والمثال أخلاقيا…وذلك تجنبا لمواقف الاحراج والانهزام، الشيء الذي يهدد هيبته ويسقط قناعه، وينسخ ذاتهُ المثالية، التي تصبحُ تحت تأثير الضغط السلطوي، والخوف والقلق الذاتي الناجم عنه، بمتابة الطبيعة الثانية للمدرس…وكثيرا ما تتصارعُ وتتضاربُ صُورُ الذات الواقعية-والمثالية، فتتعدد نماذج الصور، الشيء الذي يؤدي إلى انفصام الشخصية في حالة تطور الحالة، وكمثال على تمزق الذات، الذي يولدُ قلقَ فقدان الهوية، نتيجةَ تَضارُب صُوَرها نوردُ مثالا لنموذج علائقي أوردتهُ “آدا ابراهام”” لنتصور شخصين يحادثان بعضهما من خلال مواجهة بينهما، الأول “أ” والثاني”ب”.

-أولا نجد “أ” كما يريد أن يبدو لـ”ب”- و”ب” كما يريد أن يظهر ل”أ”.

-ثانيا “أ” كما يبدو في الواقع والحقيقة لـ”ب”-و”ب”كما يبدو حقيقة ل”أ”.

-ثالثا نجد”أ” كما يبدو لنفسه و”ب” الحقيقي الطبيعي كما يبدو لنفسه.

-رابعا هناك طأط الحقيقي الطبيعي – وب “الحقيقي الطبيعي.

فاين هي إذن هوية الشخص الحقيقية، والعلاقة الانسانية “السليمة…؟ وقد أوضحت الدكتورة “آدا ابرهام”في اختبار الذات لدى المدرسين، الأبعاد المتعددة للعلاقات الشعورية واللاشعورية، لديهم مع أنفسهم، ومع الآخرين، فبدت لها أبعاد الذات المربية كما يلي.

1- المدرس كما يبدو لنفسه “الذات الراهنة”

2- المدرس كما يعتقد أن التلاميذ يرونه “الذات من أجل التلاميذ”.

3- المدرس كما يعتقد أن المؤطر المراقب يراه “الذات من أجل السلطة”.

4- المدرس كما يحب أن يكون “الذات المثالية”.

وبالجملة ففي حمأة صراعات إثبات الذات، ومأزق تشتتها وتعدد مظاهرها وأبعادها، يعيشُ المدرسون قلقَ استيلاب الذات العلائقي المنشأ، بأساليبَ واقعية أحياناً، وفي كثير من الأحيان يستندونَ إلى آليات دفاعية لاشعورية، تستندُ في قاعدَتها على نظام استيهامات وتصدر عنه تلك الآليات كالنقص أو الانسحاب أو الإزاحة أو التكوين العكسي، أو التبرير أوالإسقاط، أو التصعيد…وتبقى هذه الآليات هامة لأنها آليات دفاعية تتبدى في مواجهة القلق العلائقي، وقد كشفت فرضيات ” بايون” إلى مكونات القاعدة كنظام دفاعي ضد القلق العلائقي والتي قد يولدها هذا القلق نفسه وهي ثلاث فرضيات قاعدية.

1- فرضية التبعية والتعلق وتتولد عن الحاجة إلى حماية الذات والآخرين الأخطار المحدقة.

2- فرضية الهروب من الآخر. وذلك في حالة عيش العلاقة كخطر بسبب الخوف والقلق.

3- فرضية التزاوج حيثُ ينزعُ الأفراد إلى ربط علاقات ثنائية أو على شكل جماعات صغيرة، قصدَ الوصول إلى سعادة يشدهم إليها الطموح والأصل.

الذات الانسانية مشروعٌ يتحقَّقُ باستمرار، وهي ما يوجدُ في حالة سيرورة مستمرة، وديمومة متواصلة، لكن القلق يبقى القوة الدافعة للتقدم وفي ابتكار أساليب تجاوزه أحيانا، وبذلك يتداوى منهُ به.

 الهامش المصادر والمراجع                                                                                      

  1. *وسائل الاعلام في مجال التربية”لمحمد آيت علو والأستاذة خديجة قرشي”.
  2. 2-            *مجلة الوحدة، العدد 54 مارس 1989
  3. *زكي جابر- الإعلام والتنمية- مجلة الدراسات الاعلامية للسكان والتعليم-عدد27
  4. 4-            *التربية الحديثة – صالح عبد العزيز – دار المعارف.
  5. 5-            *قضايا تربوية”الشعور بالذات لدى المدرسين بين قلق التربية..”ذ. بنكريكش حسن..
  6. *د.حسام الخطيب، لغة الثقافة ولغة الإعلام، مجلة الآداب العدد1مارس 1984.
  7. *عالم المعرفة – عدد أكتوبر1985- النظام الاعلامي الجديد.
  8.  

8*Gilbert- leroy Le dialogue on education. P83

9*Carle- Rogers Liberte pour apprendre  page104

10*Ibid page 130.

11*Maris-C-Baitto  Le desir d enseigner Page 30.31

12*Jean-Vial Vers une pedagogie de la personne  page 106.

13*Michel-Labrot   La pedagogie institutionnelle   -P203

8*Patrice-pepel.se former pour enseigner.page39

9*Jean-vial.vers une pedagogie de la personne.page.106.

10*G.Gusdorf.Pourquoi des professeures § page.18.
___________
*
الأستاذ محمد آيت علو/ كاتب، شاعر وباحث، من المملكة المغربية.

جديدنا