إعادة بناء علم العمران ..مدخل

image_pdf

إنَّ العديد من الدلائل القادمة إلينا عبر تراثنا تشير بوضوح إلى نموٍّ مطّرد للمعرفة وفلسفتها في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، لكن هناك هوَّة حدثت لدى دارسي العلوم الإنسانيَّة في الوطن العربي، نتيجة للتأثّر بالمدارس الغربيَّة، وهو تأثير طبيعي نتيجة للتقدُّم العلمي الذي أحرزه الغرب وباتت أكله تأتي ثمارها مع القرن الثامن عشر بصورة واضحة، ثم بصورة جليَّة في القرن التاسع عشر إلى الآن.

لكن الفرق بيننا وبين الغرب هو قطيعته مع العلوم الوسطى، وهو قطيعة طبيعيَّة نتيجة لأنَّ تقدّمه جاء مبنيّاً على هذه القطيعة، بينما كان إدراكنا للمعرفة وأهميتها ونموّها لا يتطلَّب ذلك في حضارتنا، هنا أقود القارئ إلى موضوع دراستي، فالمدن التراثيَّة العربيَّة الإسلاميَّة، ما زالت حيَّة بيننا شاهدةً على معطيات معرفيَّة وفلسفة بنيت على أسسها، ويتَّفق الأثريون على أن هذه المدن تتكوَّن من شوارع وبنايات لها خصائصها وعلاقاتها ببعضها البعض، لكن دون فهم النظريَّة التي صاغت هذه الشوارع وهذه البنايات، يصبح فهمها صعب المنال، لذا بدت الدراسات الآثاريَّة في القرنيين التاسع عشر والعشرين للمدن الإسلاميَّة منفصلة عن النظريَّة التي صاغتها وأسبغت عليها ملامحها، فظلَّت المدرسة الوصفيَّة هي السائدة، وأبرز أعلامها كريزويل الباحث الإنجليزي، وجاستون فيت الباحث الفرنسي، وماكس فان برشم الباحث السويسري، وأرنست كونل الباحث الألماني، وغيرهم كثير.

لكن كل هؤلاء درسوا هذا التراث المعماري خارج سياقه المعرفي، فتحوَّل إلى حجر أو جدران غير ناطقة، في حين أن هناك لكل منشأ معماري لغة معماريَّة يعبر عنها، تستند إلى تفاعلات الواقع مع المعطيات الثقافيَّة سواء الموروثة التي تميِّز كل مجتمع إسلامي عن الآخر، أو عبر البناء المعرفي للقيم الإسلاميَّة.

هنا نؤكِّد أنَّ مسيرة المعرفة لهذا النوع من الدراسات لا تتضمَّن فقط الإدراك، وإنما نفوذ وقوَّة القرار في الإطار الثقافي، والسؤال: هل هذه هي المعرفة والتي تكمن في القرار البناء المترتِّب عليه في الإطار الثقافي؟

يرى الفلاسفة أنَّ المعرفة ليست هي الاعتقاد الحقيقي، وإنما مبرّرات هذا الاعتقاد الحقيقي، وبالطبع هنا ينتقل النقاش من مجرَّد الإقرار بوجود عمران وعمارة في المجتمعات الإسلاميَّة إلى البحث عن ما وراء هذا العمران وهذه المعرفة من معطيات صاغت البيئة العمرانيَّة والعمارة، هنا أستطيع أن أستدعي رؤية جون سورال في كتاب “The construction of social venality”،للاتِّجاه نحو واقعيَّة المعرفة التي تلامس الحقائق الاجتماعيَّة وغيرها مع هذا العالم الذي يتكوَّن من جزيئات فيزيائيَّة.

 

لذا فإنَّ العودة إلى أسس نظريَّة المعرفة التي هي وراء منظومة فقه العمران في الحضارة الإسلاميَّة، تقودنا إلى البحث عن مفهوم العمران عند المسلمين، الذي يرتكز في واقع الأمر على بُعدين:

الأول: القوَّة، هذه صفة من صفات الإسلام، فكل عمل يقوم به المسلم ينبغي أن يكون متقنًا، والقوَّة أساس الإتقان، هذا أتى من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم :”رحم الله من عمل عملاً وأتقنه” و قوله “إنَّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، والقوَّة شرط في البناء لأنها أساس حفظ الأرواح، إذ لو أن البناء يتداعى لضعف في بنائه لفقدنا أرواحًا التي حثَّ ديننا على الحفاظ عليها. أدَّت القوَّة إلى وجوب وضع معايير لمواد البناء والبناء، وهي المسمَّاة في عصرنا معايير الجودة، ومواصفات دقيقة لها، تعرف في عصرنا بالمواصفات القياسيَّة، ثم إلى ظهور الرقابة على هذه الجودة وعلى دقّة المواصفات، وكلاهما كان من طرفين، إمَّا المحتسب الذي يمارس الرقيب أو من قبل أرباب الخبرة الذين تستعين بهم المحاكم الشرعيَّة الإسلاميَّة لحسم الخلافات وفق تقارير تقدّم لها.

الثاني: الجمال، فيفترض في المسلم أن يهتمّ بمظهره وملبسه، لأنَّ الإسلام دين جمال، ودين طهارة، فالمسلم يعبد إلهًا واحدًا، ويدلّ على ما سبق أن الجمال مطلوب في البناء والعمران، كما هو مطلوب في الثياب وغيرها، وجمال البناء في تناسقه وترتيبه حسب عُرف الزمان والمكان مادام أنه محمود في ذاته وغاياته.

 

لكن ما هي الأطر الفكريَّة التي تحدِّد نظريَّة المعرفة في فقه العمران، أو بمعنى آخر ما هي مصادر المعرفة لبناء نظريَّة لفقه العمران في الحضارة الإسلاميَّة؟

الإطار الأول: هو السياسة الشرعيَّة، وهي السياسة التي يتبعها الحاكم في المجال العمراني، سواء كانت تتعلَّق بالأمور السياسيَّة العامَّة أو بالعمران مباشرة، وكلاهما يترك أثره على العمارة. هذا الإطار ذو بعدين؛ إطار عام يجدِّد مسئوليات الحاكم وحدودها، وإطار تخصّصي يحدِّد وظائف الحاكم في المجال العمراني، كلاهما بينته العديد من مؤلّفات السياسة الشرعيَّة.

لكن هذا الإطار له بُعد لا بد من تحديده، وهو مفهوم السياسة وأبعادها، فالسياسة تقوم على الفاعليَّة الحركيَّة للحاكم، والتي يسعى من خلالها إلى تحقيق مصالح المحكومين، تنبّه فقهاء السياسة الشرعيَّة إلى ذلك، فذكروا بأن “للسلطان سلوك سياسيَّة، وهي الحزم عندنا، ولا تقف على ما نطق به الشرع”، ويعرف ابن نجيم الحنفي السياسة في البحر الرائق” وظاهر كلامهم هنا أنَّ السياسة فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، و إن لم يرد بها دليل جزئي” .

الإطار الثاني: هو فقه العمارة والمقصود به مجموعةالقواعد التي ترتَّبت عليها حركيَّة العمران نتيجة للاحتكاك بين الأفراد ورغبتهم في العمارة، وما ينتج عن ذلك من تساؤلات يجيب عليها الفقهاء مستنبطين أحكامًا فقهيَّة من خلال علم أصول الفقه وقواعده وتراكم الخبرات.

هذان الإطاران يقودان إلى أنَّ هناك تراكم معرفي بدأ في المدينة المنوَّرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ازداد مع مرور الزمن وتراكم الخبرات، وتنوّع مع التنوّع البيئي للعالم الإسلامي الممتدّ من الصين إلى الأندلس، لكن هل هذا يعني أن كلا الإطارين ليس لهما مقاربات مع الأسس المعاصرة التي تسود حالياً في المجال العمراني العام؟ في حقيقة الأمر هناك مقاربة ولو نسبيَّة:-

فالإطار الأول: يتقارب بصورة أو بأخرى مع الدستور بالمفهوم المعاصر.

أما الإطار الثاني: فهو أقرب إلى قوانين التخطيط العمراني والبناء في عصرنا.

 

لكن المفارقات بينهما تنتج من طبيعة المعرفة وفلسفتها، فالدولة المعاصرة المركزيَّة، تختلف في خلفيتها المعرفيَّة والفلسفيَّة عن الدولة الإسلاميَّة، هذا يجعلنا نستدعي من الخبرة الإسلاميَّة طبيعة ممارسة السلطة في الدولة الإسلاميَّة التي تنقسم إلى:-

– سلطة الدولة: التي نراها في حفظ الأمن بإقامة الأسوار والقلاع وأبراج المراقبة، ومراقبة الحرف والصناعات، وشقّ الطرق الرئيسيَّة وجلب المياه.

– سلطة المجتمع: التي حدّدتها الممارسات المتراكمة، حتى إنَّ العديد من الوظائف قام بها المجتمع مثل التعليم والرعاية الصحيَّة والرعاية الاجتماعيَّة.

– سلطة الفرد: هذه السلطة تحدّدها سلطة المجتمع، لكنها تقوم على احترام حريَّة الفرد المرتبطة بقيم المجتمع، والمبنيَّة على الترابط الاجتماعي سواء عبر الأسرة الممتدَّة أو عبر روابط الحرف والصناعات.

 

انعكس هذا كله على المجال العمراني مثل تراتبيَّةالشوارع:

-الشارع العام: الذي تقع مسئوليَّة صيانته ورعايته مناصفة بين الساكنين فيه والدولة التي تكفل حقّ المرور للمجتمع في هذا الشارع.

-الشارع العام الخاصّ: الذي تزداد مسئوليَّة ساكنيه على غيرهم وتصبح تبعًا لذلك حقوقهم فيه أعلى، مع حفظ حقّ المرور منه لمن يكون طريقه لهدف يقصده.

-الشارع الخاصّ: الذي كانت بوابات الحارات علامة عليه، هنا تقف حدود سلطة الدولة، لتكون سلطة الفرد والمجتمع هي المهيمنة.

 

ولأنَّ الخصوصيَّة في الشارع الخاصّ وحريَّة الفرد في الحركة أعلى، فإنه على عكس المدن المعاصرة، كان الأثرياء وأرباب السلطة يفضِّلون سكنى الشوارع الخاصَّة دون غيرها، هذا كله على عكس مدننا المعاصرة التي تعد الشوارع الرئيسيَّة هي المرغوبة في السكن، دون تحليل وفهم أهميَّة الخصوصيَّة والحريَّة في السكن كبعد معرفي في عمران المجتمعات الإسلاميَّة يصبح من الصعب تفسير سبب سكن الحرفيين في الشوارع الرئيسيَّة، بينما سكن جمال الدين الذهبي شيخ بندر تجار مصر في العصر العثماني في شارع أكثر خصوصيَّة.

جديدنا