بين النقد والتفكيك

image_pdf

«إذا ما أردنا أن نجازف بتعيين معين للتفكيك سيكون: أكثر من لغة».   

                                                                   جاك دريدا

«علينا أنْ نفسح المجال لفكر يتخلى عن الذاتية الحمقاء ليتمسك بالاختلاف».

                                                                  عبد الكبيرالخطيبي

منذ الاستقلال السياسي عندنا، منذ الستينات من القرن الماضي تقريبا، إلى وقت ليس بعيد، إلى اليوم حتى، والأنتيلجانسيا العربية، لا تنفك عن دعوتنا إلى تبني فكر نقدي أو ممارسة النقد؛ باختلاف أنواعه وضروبه وأشكاله: سواء اتخذ شكلاً إيديولوجياً كما هو شأن النقد الإيديولوجي، أو شكلاً فلسفياً: النقد العقلاني- من عقلانية أفلاطون إلى عقلانية كانط- أو إبيستيمولوجياً كما هو أمر النقد الإبيستيمولوجي، أو أدبياً كما النقد الأدبي، أو سوسيولوجياً كما هو حال النقد السوسيولوجي.. فإنه يشكل نفس الخطاب. لمجاوزة حالة القصور الذي يتنفسه العالم العربي كيفما كان توصيفه: التأخر التاريخي بالنسبة لعبد الله العروي مثلاً، والانسحاب كما نجد لدى عبد الكبير الخطيبي، أو التخلف الحضاري، الاختلاف الثقافي.. عند غيرهما. وغيرها من التوصيفات التي تعبر عن نفس اللحظة التاريخية وكيانات المعمور. إلى وقت ليس بعيد، وربما لا زال، شكّل النقد أنّى كان شكله مشروعاً فكرياً أو لنقل موضة à la mode معرفية لمجاوزة الوجود العربي لذاته. لكن سرعان ما قُذِفَ به في مزبلة التاريخ أو بلغة العصر démodé، وضع في خانة اللاّ موضة، مفسحاً المجال لخطاب مختلف ومغاير، لحركة أخرى مختلفة تماماً: التفكيك La déconstruction.

في مقابل خطاب النقد ثمة التفكيك بما هو تفكيكاً للنقد نفسه، مجاوزة له. لكن دون أن يعني ذلك قطعاً أو فصلاً نهائياً وضعانياً للثاني مع الأول، أو نوعا من التضاد كما هو الشأن بالنسبة للثنائيات الميتافيزيقية، إنه انفصال لا يفتأ يتم. ويبقى السؤال: هل لا زال اليوم مقبولاً التفكير بالنقد، المعهود والسائد عندنا، أو التسليم بجدوائيته وإجرائيته في تشخيص وفحص أنطولوجيا الكائن العربي والكائن عموما؟ ماذا عن التفكيك؟ هل للتفكيك أن يتجاوز سلطة النقد من ناحية ويُمكّننا من خلخلة وجودنا من ناحية أخرى؟ 

لم يعد اليوم مقبولاً الحديث عن النقد بمعناه المعهود باعتباره حركة سلبية، أي كرفض، نفي، معارضة… لم يعد كافيا القول بـ “اللا”، خاصة أمام تسارع التاريخ الذي تتنفسه المعاصرة، سواء تعلق الأمر بالنقد الإيديولوجي، الفلسفي، الأدبي، الإبستيمولوجي منه والسوسيولوجي حتى. لهذا يجب إعادة النظر في مفهوم النقد السائد، خاصة فيما يقوم عليه من أسس ميتافيزيقية، إنْ لم نقل سلطوية (الحكم المعرفي– الإيديولوجي). لا يتعلق الأمر ها هنا بممارسة ما يسمى في الأدب بنقد النقد، بل يتعلق الأمر بتفكيك النقد أو على الأقل تطعيم النقد بالتفكيك، والتعامل معه كمفكر فيه- لا مفكراً فيه- هو ذاته على الدوام.

عادة ما يتم الخلط في سياقنا العربي بين التفكيك والهدم démolition أو التدمير destruction  أو التحطيم كما قدمته وتقدمه مجمل الترجمات العربية. ليس التفكيك في نظر مفكر الاختلاف حركة سلبية أو إيجابية حتى، بل هو فعالية إثباتية وتأكيدية affirmatif. إن التفكيك هو تفكيك للبنيات؛ بنيات الميتافيزيقا والوجود الكلاسيكي. ليس تحليلاً نظرياً فحسب، وإنما هو كتابة ثانية لمسألة الوجود أو المعنى. هو أيضا طريقة في كتابة وتقديم نص آخر. ليس مسحاً للطاولة tabula  rasa بالمعنى الديكارتي للعبارة. بهذا يميز جاك دريدا التفكيك عن النقد.

 فالنقد حسب مفكرنا يعمل دائما حسب ما سيتخذه من قرارات بعدية أو هو يعمل عن طريق محاكمة وحكم. أما التفكيك فلا يعتبر أن سلطة المحاكمة أو التقويم النقدي هي أعلى سلطة. إن التفكيك أساسا هو تفكيك للنقد. وهذا لايعني في نظره، أي حط من قيمة نقد ما أو نزعة نقدية معينة. لكن يكفي أن نستحضر ما عنته سلطة النقط خلال التاريخ؛ بالمعنى الكانطي(العقلانية النقدية) على سبيل المثال لا الحصر. إن التفكيك بالتالي حسب دريدا ليس نقداً. لكن يحق لنا أنْ نتساءل: أيّ نقد لا يكونه التفكيك؟ فهل النقد المعني هنا يطال النقد بكل أشكاله، أم يطال شكلاً بعينه، لا سيما وأنه يحيل هنا إلى نموذجيْن من النقد الفلسفي الشك الديكارتي والنقد الكانطي؟ ماذا لو كان هناك مفهوماً مغايراً للنقد، منسياً، أو نقد آخر في النقد نفسه، ينفلت من قوة الخلخلة والتفكيك؟  لنترك هذه الأسئلة مفتوحة إلى حين.

إذا أردنا أن نبحث عن مفهوم مختلف للنقد عندنا سيقفز إلى العين مباشرة ذلك المعنى الذي صكّه مفكر الهامش؛ عبد الكبير الخطيبي. فمفهوم النقد كما صاغه الخطيبي، لا يختلف كثيراً عن مضمون التفكيك كما نجده عند دريدا. إذ لا يتوقف عند معناه السائد: أي كنقد إيديولوجي وصراع بين موقفين أو إيديولوجيتين متضادتين، بقدر ما يعني القيام داخل الموقف، بالانسلال من فجواته، لتفجيره وتقويضه. إنه بمثابة استراتيجية تفكيكية. بهذا المعنى نكون أمام مفهوم مغاير للنقد ينفلت من التفكيك الدريدي، لأنه هو الآخر بمثابة تفكيك والتفكيك لا يفكك التفكيك عينه، وإنما يفكك البنيات. فالنقد في هذا السياق لا يتأسس على أية محاكمة إيديولوجية وميتافيزيقية، وإنما يتأسس على التفكيك نفسه. ذلك التفكيك الذي يجعل من مراميه المولدة له: مجاوزة الميتافيزيقا. نعم، هو تفكيك بالمعنى الذي صاغه مفكر الاختلاف جاك دريدا وكل من نحى وينحو نحوه، من مفكري الاختلاف. غير أن النقد هنا بما هو نقد مزدوج؛ لا يتوقف عند هذا البعد، بل يتجاوزه إلى حدود أن يقف في نفس الآن، عند الثقافة العربية وأنْ يفكك ثوابتها الموهومة التي تجعل من الهوية تطابق ووحدة لا اختلاف وتعدد. إن النقد المزدوج هو أساساً، بمثابة استراتيجية تفكيكية؛ تفكيك مزدوج. إنه بمثابة سيرورة تفكيك مزدوجة. تفكيك ماذا؟ تفكيك الميتافيزيقا الغربية وفي نفس اللحظة للميتافيزيقا والتيولوجيا العربييْن.

ما هو النقد الممكن اليوم؟ إن النقد اليوم، من حيث هو حركة مقاومة لا يمكن أن يكون إلا بوصفه: كشفاً عن “اللَّا” في كل قول يتجلى ك “نعم” ورصداً ل “النَّعم ” في كل قول يقدم نفسه ك “لا”. هكذا، يمكن للنقد بهذا المعنى أن يعلنها مقاومة بين النَّعم واللَّا، لا نفتأ تهدئ من روع حركتها اللّانهائية.

إذن، لا يتعلق الأمر بموضة التفكيك استعاضت عن تقادم النقد ولا موضته، أو بتطور خطي من النقد إلى التفكيك، أو قطيعة مطلقة فيما بينها، وإنما يتعلق الأمر بسيرورة معرفية بينية؛ بحركة هامشية مزدوجة لا نهائية بين النقد والتفكيك تقوم على الاختلاف والتعدد لا التطابق والوحدة، تقيم على هامش كل موقع يقدم نفسه كمركز. إذا أردنا أن نحددها في عبارة بعينها ستكون: النقد بالتفكيك.
________
*مجلة الكلمة.

جديدنا