الشرّ بين فطرة الخلق وكسب الإنسان في العالم؛ قراءة في محاضرات هيغل

image_pdf

 المقدمة:

يقول الفيلسوف الألماني الأشهر جورج فيلهلم فريدريش هيغل إن “الشر يكمن في النظرة، التي ترى الشر في كل مكان”.[1] وتُعتبر محاضراته عن فلسفة الدين واحدة من أهم الموارد الفكرية والفلسفية في القرن التاسع عشر، التي تناولت موضوع الخلق والإنسان و”الشر” في ثنايا علم اللاهوت، لأنها عالجت قضايا إشكالية أساسية ومعضلات عميقة تواجه الحداثة، وما بعد الحداثة، وكل ما حملته من تحديات أخلاقية في العالم. وقد نُشرت نسخة نقدية من هذه المحاضرات في الثمانينيات، مما جعل من الممكن دراسة النص على مستوى عالٍ من الدقة والتمحيص، الذي لم يكن حتى ذلك الوقت قابلاً للتحقيق.[2] كما نُشرت رسائله في عام 1984، ووفرت هي الأخرى قراءات شارحة لبعض أفكاره الفلسفية حول الخلق والإنسان و”الشر”.[3] فقد شغلت هذه القضايا العقل الفلسفي، منذ أفلاطون وأرسطو وغيرهما، وظلت جدلية اللاهوت والناسوت، أو الذات الإلهية والطبيعة البشرية، وتبادلية الحياة والموت، ومسألة الوجود والأزل، وصراع “الخير” و”الشر”، ما هي الا تجليات لأهم القضايا، التي استرعت انتباه المفكرين، وشغلت عقول الفلاسفة، وتداعى لها الحكماء، وكانت مثار بحث ودراسة ونظر من المختصين على مر العصور، ورافقت حواراتها المجامع العلمية منذ الأزل، وستبقى كقضايا مهمة وملحة تؤرق الفكر الإنساني إلى الأبد. ولأن معضلة “الشر” قد مثلت هماً مقيماً للإنسانية منذ فجر التاريخ، فإننا سنمضي في صُحبَة كوكبة من المفكرين والفلاسفة؛ نستطلع معهم آراء هيغل حول هذه المعضلة الشائكة، وعلاقتها الجدلية بـ”الخير”، ونستعرض مساهماتهم هم حول هذه الآراء؛ جرحاً وتعديلاً. وإذا كان هيغل قد ابتدع “الديالكتيك” فهو خير من نستجلي معه حقيقة التناقض الراسخ بين “الخير” و”الشر”، وما بينهما من علائق، تفحصها هو من منطلقات لاهوتية، ومنطق فلسفي تاريخي.

إن المتفق عليه هو أن هيغل فيلسوف كبير ملأ الدنيا وشغل الناس، منذ قرنين من الزمان، ولا يزال، والفكر الغربي الحديث مدين له بالكثير، كله متأثر به، إن لم نقل ناتج عنه بشكل من الأشكال. فقد استطاع هذا الفيلسوف العبقري أن يطور نظاماً فلسفياً متكاملاً؛ إذ درس الدين والأخلاق والسياسة والقانون والدولة والمجتمع، وغيرها من الموضوعات الكثير، ولم يترك شيئاً إلا وتحدث عنه، وربما كان آخر فيلسوف شمولي في التاريخ.[4] إنه، وكما يُلَقَّبُ بحق، هو أرسطو العصور الحديثة. وبما أن المعلم الأول أرسطو كان قد تحدث عن الفيزيقا والميتافيزيقا والمنطق والبلاغة والشعر والسياسة والأخلاق والدين … الخ،[5] فإن هيغل فعل الشيء ذاته، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولذلك اعتبره البعض بأنه ذروة الفلسفة المثالية الألمانية بلا منازع. وفي هذا يقول ستيفن هولغيت مؤلف كتاب “مدخل إلى هيغل”: “لقد تأثر هيغل بإيمانويل كانط من دون شك،[6] لأن كانط كان أستاذاً لكل مثقفي ألمانيا في ذلك الزمان،[7] ولكنه حاول أن يتجاوز أستاذه، والحق يُقال إنه قد تجاوزه بحق في أشياء عديدة، ومن هنا تتجلى عظمة هيغل.”[8] وأما الأحداث الأساسية، التي أثرت على فكر هيغل وفلسفته في التاريخ هي الثورة الفرنسية، التي اندلعت وعمره تسعة عشر عاماً، ثم شخصية البطل نابليون بونابرت،[9] الذي غزا ألمانيا، ورآه لأول مرة على حصان، ثم الثورة الصناعية الانجليزية، التي غيرت وجه العالم.[10] وفي عام 1817، نشر هيغل كتابه “موسوعة العلوم الفلسفية”، الذي أحدث ثورة في الحوار الفلسفي. وعندما مات الفيلسوف يوهان فيخته،[11] الذي كان يحتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين حل هيغل محله، عام 1818، ووجد متسعاً للترويج لأفكاره بين طلابه، وراجع بعض محاضراته القديمة حول اللاهوت والخلق و”الخير” و”الشر”. وكان ذلك أكبر موقع يمكن أن يحلم به فيلسوف في ذلك الزمان. وعندئذ ازدادت شهرته وأصبحت عالمية تقريباً. ولكن البعض أخذوا عليه موقفه السياسي المحافظ واعتبروه بمثابة المفكر الرسمي للنظام الملكي البروسي. وهكذا هاجمه التقدميون والليبراليون معاً. ولكن بعد فترة من الزمن راح النظام نفسه يشتبه به، وأصبح عندئذ يتلقى الضربات من كلا الطرفين. وفي عام 1821 نشر هيغل كتابه “مبادئ فلسفة القانون”، وسافر، في عام 1827، إلى منطقة فايمار حيث استقبله غوته،[12] ثم سافر بعدئذ إلى باريس حيث رحب به فيكتور كوزات، وبعض المثقفين الفرنسيين الآخرين.[13] مات هيغل بمرض الكوليرا، عام 1831، وعمره واحداً وستون عاماً فقط. وبالتالي، فإن محاضراته، وكتبه عن الجماليات، وفلسفة الدين، واللاهوت، وفلسفة التاريخ، لم تنشر إلا بعد موته. الأمر الذي جعل من مهمة تلخيص انتاجه الفلسفي الضخم أمر صعب جداً، وحتى فيما اخترناه من موضوع لهذه المقالة، تتملكنا الخشية أن لا نُعطي فكره ما يستحقه من عرض وتعليق. فقد كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية والأهواء البشرية المتعارضة والهائجة هو الفكر، أو الروح؛ أي العقلانية العميقة.[14] فالتاريخ عقلاني على الرغم من إنه يبدو لنا فوضوياً، مليئاً بالحروب والظلم والقهر و”الشر”. وذلك لأن العقل، بحسب النظرة المتفائلة لهيغل،[15] هو الذي يحكم العالم والتاريخ.[16] لذلك، فإن أحد أهم التعهدات الفلسفية لهيغل هي أن “الشر” يوجد في العالم ويمكن فهمه، والتصالح معه، والخلاص منه. وفي هذه الحالة يكون هيغل قد اهتم بشكل أساس بكفاءة الفلسفة فيما يتعلق بتزويدنا بشروحات لوقوع الأحداث الجائرة؛ مع ما يصحبها من العواقب على مدار التاريخ؛ مع التبرير، أو على الأقل التسليم، بفكرة التصالح مع مثل هذه الأفعال، التي يعتبر كل منها في حد ذاته عيب شنيع في لوائح الإجراءات البشرية.

في المنهج:

إن الهدف المركزي لهذه المقالة هو تحديد العناصر الأساسية لمفهوم هيغل عن “الشر”، من خلال محاضراته ودراساته المتعمقة للاهوت المسيحي، ومراجعات تلاميذه ومعاصريه من المفكرين والفلاسفة، ومقاربات ومقارنات وملاحظات بعض من تناولوه بالدراسة والتعليق في العصر الحديث. فقد ثبت للجميع أن هيغل يفهم “الشر”، في المقام الأول، على أنه ظاهرة أخلاقية، وذلك من خلال محاضراته ودراساته المستفيضة، التي ركزت على اللاهوت المسيحي استثناءً؛ ولم يأت على الأديان الأخرى إلا عرضاً، في إشاراته للديانات الهندوسية والصينية، وحصره لغيرها في جملة “اليهودية والأديان الإبراهيمية الأخرى”. فقد حصر موضوعه فيما يُحْسِن، وترك لنا تحديد تقديراتنا، إذ هو يعرّف “الشر”، على وجه الخصوص، على أنه خصيصة بشرية خبيثة، ونفاق يقوض الظروف الاجتماعية والمؤسسية للفعل الأخلاقي. وتُشير القراءة المناسبة لمفهومه عن “الشر” إلى مركزية الثقة في الأخلاق الدينية، وهذا محل اتفاق، لم نُخضعه في هذه المقالة لمحاكمات قيمية من أديان ومدارس فكرية أخرى؛ وما إيرادنا لبضع آيات من القرآن الكريم، وأحاديث إلا مجرد إيضاحٍ لمعنىً محدود، وغاية مُغْلَقَة عليه. وهذا يحيلنا إلى سؤال واسع جداً: هل هناك فليسوف معين يمكن أن نفكر فيه أكثر شمولية من هيغل في النظر إلى معضلة “الشر” بهذا الفهم، الذي يطرحه علينا؟ ربما قد لا نجد إجابة حصرية على هذا السؤال، حتى عند هيغل نفسه، لأن هيغل يصنف موضوع “الخير” و”الشر” بشكل مباشر، أو واسع أحياناً، مثل العديد من أسلافه، لا سيما في علم اللاهوت. ومع ذلك، إذا أخذ المرء بهذا السؤال المحوري على أساس المقاييس الأخلاقية، فيمكن اعتبار فلسفته بأكملها، وعلى وجه الخصوص فلسفة الروح، على أنها أكثر محاولة جادة لمعالجة هذه المعضلة. لهذا، نود أن نُلقي نظرة خاصة، في هذا المقال، على جدلية “الخير” و”الشر” عند هيغل، والذي، في رأي العديد من المفكرين، يحتوي على نقد للنظام الأخلاقي الكانطي في شكل تناقض بين “الضمير الشرير”، الذي يرمز للانحراف، و”الروح الجميلة”، التي ترمز للخير. ونتقصد أن نفحص بأعين دَارِسِيه، وباختصار شديد، ما يمثل الموقف الأخلاقي عند هيغل، الذي يُمَكِّن المرء أن يتصرف بطريقة “جيدة”، بإرادة حرة مستقلة، إلى حد كبير من خلال تجنب الدوافع الأنانية. ومن ثم، يمكننا أن نتساءل: هل يرى هيغل؛ بحكم دراسته للاهوت المسيحي والخظيئة، أن هناك استحالة لتجنب “الشر” في الواقع؟ فقد يُعلم الجواب لهذا السؤال من خلال الجانب الآخر من التناقض، بين “الروح الجميلة”، التي تُعادل “الخير”، وبين “الضمير الشرير”، الذي يُعادل الانحراف، ويعترف بالضرورة الأساسية للأنانية. وبالتالي، يتصرف الإنسان من دون اعتبار للنقاء الأخلاقي، ويعتبر هيغل أن أية ادعاءات لأصحاب هذا “الضمير الشرير”، غالباً ما تكون عديمة الجدوى بشكل أساس، أو تحمل في طياتها بذرة النفاق. من هنا، يحاول هيغل معالجة مشكلة “الشر” من خلال تقديم دعم فلسفي لفكرة أن التاريخ هو عملية تطور تتحرك نحو نتيجة جيدة. وهكذا، فهو يخفف من بعض صفات كمال الله، جاعلاً هذا المقام الإلهي في العالم ليس متسامياً على خَلْقِهِ؛ ليس تقليلاً من رفعة شأنه، لكن بفعله هذا، فإن الله يفسح المجال للأمل، ويوسع دائرة “الخير”.

لقد توافقت نظرتنا، في هذا المقال، مع كثيرين من من االمفكرين والفلاسفة، الذين دَرَسُوا وعَلَّقُوا على محاضراته ومؤلفاته. إن فهم هيغل لـ”الشر”، من خلال هذه المحاضرات والمؤلفات، يُعَدُّ تعميقاً للقيم الأخلاقية، فيما رأى فيه بعض المتأخرين تشويهاً للمعرفة، رغم أن طرحه يُعَدُّ جذرياً بما فيه الكفاية، لأهميته في فهم الطبيعة البشرية. لهذا، فـ”الشر” هو سؤال يتمحور حوله الموضوع، الذي اخترناه للبحث هنا،[17] في ظل القناعة الراسخة بأن إرادة “الخير” غالبة، ولكن كل شيء في الحياة له ما يناقضه تماماً، وفقاً لرؤية هيغل في الديالكتيك. ومثلما سعت الفلسفة والأديان لتعظيم قيمة “الخير”، شكلت مسألة “الشر” محوراً مهماً في التفكير الإنساني، وكانت الإشكالية الأهم في تاريخ الفلسفة القديمة والحديثة على حد سواء. فقد اجتهد المفكر جوزيف مكارني، في كتابه “هيغل في التاريخ”، في استدعاء واستجلاء دور هيغل في فلسفة التاريخ وعلاقتها بالدراسات اللاهوتية.[18] وكذلك فعلت المساهمات القيمة، التي قدمها إتش إس هاريس، في مراجعاته لـ”نهاية التاريخ عند هيغل”، والتي أبانت الأفكار الباكرة لأحاديث الفلاسفة اللحقين عن بداية التاريخ ونهايته.[19] رغم أن ما عرفناه عن هيغل هو أنه قام بـ”تتويج للتاريخ”،[20] وليس وضع نهاية له، وما قدمه يمكن أن يُحسب أيضاً على أنه تمييزٌ رائع لما بين “النهاية” و”التتويج”، مع مقاربة ومفارقة ضرورية لإدراك غايته. ففي ختام أطروحته الفلسفية عن التاريخ، نَلْحَظُ أنه يقول إن “هذه هي النقطة، التي بلغها الوعي”،[21] وكأنه يُريد مِنَّا أن نردد معه قوله: “لقد قطعنا هذا الحد، ومن هنا يمكننا أن نستعرض الماضي ونفهم كيف ولماذا نحن وصلنا هنا”. لهذا، نقول إن من الأمور الأساسية، التي يجب مراعاتها عند قراءة منهج هيغل الفينومينولوجي، عدم إصدار وصفات حول الكيفية، التي ينبغي أن يكون عليها العالم. فقد صرح هيغل بذلك صراحة في فلسفة الحق، بقوله: إن هناك “كلمة أخرى حول موضوع إصدار تعليمات حول الكيفية، التي يجب أن يكون عليها العالم: الفلسفة، على أي حال، تأتي دائماً متأخرة جداً لأداء هذه الوظيفة.”[22] بالطبع، حتى هذا التصريح عن “ذروة” التاريخ، أو “نهايته”، أو حتى مجرد “تتويجه”، يبدو صادماً للغاية بالنسبة لمشاعر الداعين لحقبة ما بعد الحداثة.

إن هذا شبيه بما واجه فرانسيس فوكوياما، عندما تجرأ على نشر مقالته حول “نهاية التاريخ: والرجل الأخير”، التي طورها لكتاب فيما بعد.[23] ففي الواقع، لا فائدة من محاولة الدفاع عن هيغل ضد الادعاءات الميتافيزيقية بالمطلق، لكن دعونا نكون واضحين بشأن ما لا يقترحه هيغل في هذا الصدد. إذ إنه لم يلمح إلى أنه شهد نهاية التاريخ، فقط أشار إلى “اللحظة التاريخية”، التي وصلت فيها الحرية أخيراً إلى أوجها؛ ونتذكر تعريفه لتاريخ العالم بأنه “تقدم وعي الحرية”.[24] ولتجديد التواصل الفكري مع هيغل، صدر حديثاً، أي في عام 2005، كتابان، لهما من الأهمية ما يستحقان معها تكرار النظر لهما في دراستنا هذه حول رؤية هيغل للخلق والإنسان و”الشر”. وهما: كتاب ستيفن هولجيت “مدخل إلى هيغل”،[25] وكتاب بيتر هودجسون “هيغل واللاهوت المسيحي: قراءة المحاضرات حول فلسفة الدين”،[26] اللذان يوفران إضافة نوعية ممتازة لموضوعهما، خاصة وأنهما يأتيان من قبل محررين ومترجمين للنسخة النقدية، التي فيها إعادة البناء التخميني للاهوت المسيحي، الذي أنجزته محاضرات هيغل، ويوفران قراءة قريبة للنص ككل. وقد جرى نشر هذين الكتابين، بالتزامن مع إعادة إصدار مطبعة جامعة أكسفورد لمحاضرات فلسفة الدين، التي يحدثنا فيها هيغل، أن الله يخلق من خلال “تحرير” الآخر، الذي هو جوهري في الحياة الإلهية، ويخرجه إلى الوجود الفعلي والمستقل، ويجعل منه العالم في مواجهة الله. ويرى، بهذا الفهم، أن العالم ينقسم إلى عالمي الطبيعة والروح المحدودة “الإنسانية”. ويعتقد هيغل أن حكمة الله تعمل في كلا العالمين، لكن العلاقة الحرة والواعية بالله ممكنة فقط في الأخير، أي الإنسان، وأن الخطيئة والتأمين الذاتي و”الشر” هي شرط إمكانية العلاقات الحرة. وبالتالي، فإن نظرة هيغل للطبيعة البشرية تأخذ جانباً مأساوياً، كما يتضح من تفسيره لقصة السقوط في سِفْر التكوين.

فكرة الخلق:

مثلت قضية الخلق إشكالية فلسفية بالغة الأهمية لكل الفكر الإنساني، الذي حاول التصدي لتفسيرها. وقد أدرك الفلاسفة أن مسألة جوهرية الخلق هي قطعاً ليست بالسهولة، التي يمكن تغليف الإجابة عليها داخل جملة واحدة؛ من قَبِيل أن هذا الجوهر الوجودي “حدث في يوم مجهول من أيام الماضي”. ومثلما دار الجدل بين الفلاسفة حول قضية الخلق، وميقات حدوثه، وجدنا أن هذا الجدل يتطور من دين لآخر، وتم ربطه في العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهو هنا يختلف عن الفلسفة في مفهومي الكلية والجزئية؛ كما هو الحال في الديانة الصينية والهندوسية. إذ إنهم في الهندوسية، على سبيل المثال، يرون أنه لكي يتحد الإنسان مع الله عليه أن يفرغ نفسه من كل مضمون، وهم يرون أن الله تجريدٌ خالص، والإتحاد به يتطلب من بني البشر؛ وهو الأساس لديهم في مفهوم العبادة، إمتلاك المشابهة لذلك التجريد الخالص.[27] غير أن هيغل، في تعريفه العام للدين وللخلق، يقول: “إن الدين عبارة عن تجل للمطلق في إطار الفكر التصوري للحظات الثلاث، والخلق حدث بالفعل في يوم مجهول من أيام الماضي”.[28] وقد نقرأ في عبارة “يوم مجهول” أنه لن يتسنى لنا كبشر تحديده، أو وسمه بتاريخ معين تتنازعه الأرقام. ولكن هيغل جعل من مفهوم الدين فكرة شاملة، على اعتبار أنه، أي الدين، حالة ضرورية للروح في ملازمة العقل ضمن تطورهما الجدلي، ويعني هذا أن وجوده ليس بالصدفة، وإنما هو عمل ضروري من أعمال العقل. وهذه الفكرة الشاملة هي فكرة هيغلية بالأساس، بالنظر للتصور السائد في السياق الثقافي الغربي، باعتبار أن مفهوم الفكرة الشمولية موجودة قبل هيغل بقرون طويلة، في مقاربة الفلسفة التوحيدية ومعرفياتها، حيث المُتَحدَى البصيري الكامن في كينونة الإنسان: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)،[29] وحيث العقل التصوري يرد  كل مُعْتَذَر عن معرفة الله: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).[30] وهي أعمال مطلوبة خلقياً ووجودياً، وما الوحي إلا تأكيد لهذه الحجة العقلية الوجودية، أي أن العقل قادر على أن يقود الإنسان إليه دون مساعدة من الوحي، وأن أشياء كثيرة في الديانات لا تؤخذ بمعانيها الحرفية فقط، لكن تؤخذ؛ وهو رأي هيغل، بمعناها الداخلي ومضمونها الفكري، تأكيداً على أن هناك مساحه فاصلة بين الإنسان وبين الخالق، أو ما أسماه هيغل بالعقل الكلي، الذي هو الله، وبين العقل الجزئي، الذي هو الإنسان. ويعمل الدين بما يحتويه من وعد ووعيد، وإصلاح وبينة، وأدراك ونقل تجارب الأوليين، على ردم تلك الهوة والعبور تجاه الخالق، أو ما يمكن أن تفسره لنا الآية الكريمة، في قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه).[31]

إن فكرة المطلق والجوهر، في الفكرة الهيغلية لمفهوم الدين، تأخذ بعداً أكثر وجدانية، إذ ينتقلون في مفهوم الله، أو “براهما”[32] إلى مفهوم الوحدة المجردة، أو الجوهر الواحد ويرون أن الله واحد لا شكل له، وأن دون ذلك مجرد أعراض ونسب وتسميات.[33] وتتلخص قصة الخلق عند هيغل، من التمايز الداخلي إلى الفناء الخارجي. ففي طرح هذه المسألة يتناول المناقشة الثانية من عناصر، أو مجالات الحياة الإلهية، أو تلك، التي هي جزء من خلق العالم، بما فيه الإنسان وسقوطه في الخطيئة، والخلاص من خلال المسيح. ويُعبَّر عنها بشكل مجازي بأنها “مملكة الإبن”.[34] إن شرط إمكانية خلق عالم متميز عن الله؛ على الرغم من أنه لا يزال مُحْتَضَنَاً في الكل الإلهي، هو التمايز الداخلي في الحياة الإلهية، الذي يجعل الله موضوعاً جامعاً، وليس منفرداً ومغلقاً بلا نوافذ. يخلق الله من خصوبة الله الداخلية، أو قوة التوليد، وليس من شيء غريب، أو خارجي عن الله. وفي فعل الخلق، يفترض الآخر منطقياً أنه فعل وجودي. والتمايز، الذي كان في “اللحظة” الأولى من الفكرة مجرد عرض “انعكاس”، أو مظهر، يأتي الآن إلى اليمين”.[35] يفعل ذلك كعرض، أو مظهر خارجي. إذ لم تعد الروح مطلقة بل منتهية؛ وبقدر ما يكون التمايز بحد ذاته شيئاً مختلفاً داخلياً في الطبيعة والروح المحدودة، يكون لدينا خلق العالم، الشكل، الذي يصبح فيه الابن الآخر بالفعل.[36] في الحركة من المظهر إلى الجوهر، يصبح الابن المثالي والأبدي؛ الذات الذاتية المتأصلة في الله، ابناً حقيقياً للدم والروح. يتمتع المظهر التاريخي بجودة إيجابية وتجريبية؛ ولكن، كما سنرى، فإن كل ما يظهر يختفي أيضاً، وبالتالي، فإن عنصر المظهر يبقى في الجوهر.

من ناحية، فقد اكتملت الفكرة المطلقة، القائمة بذاتها ولها، ومن ناحية أخرى، فهي، في جانبها “الذاتي”، ليست كاملة، لأنها ليست ملموسة بعد، ولا تنعكس في نفسها بعد، ولا يتم اعتبارها متمايزة. هذا هو العنصر الثاني، الذي يمثل المظهر.[37] وبحسب محاضرات عام 1824، هناك وجهان يمكن استيعابهما:[38] أولاً، من جانب الفكرة الإلهية، يمكننا أن نقول إن الروح في نسق الكونية تطرح نفسها في نمط الخصوصية، ولكن من خلال ذلك تظل الفكرة الأبدية: “الله هو مجمل الكل”، الذي يشمل كلاً من الكونية والخاصة؛ التمييز الداخلي والتهويل الخارجي، على حد سواء. وقد تم دمج هذه الظاهرة الخارجية في الثالوث الشامل. وبالتالي، أصبحت داخلية للحياة الإلهية، أو يمكننا أن نقول إن الابن يوحد الطريقتين: الابن يشكل الحقيقة، وكذلك الحالة المثالية للاختلاف، “ولكن في الحب، وفي الروح”، مما يعني أن الابن يبقى متطابقاً مع الفكرة في الشكل للكونية. إن طريقتي الكونية والخاصة، الهوية والاختلاف، “يجب أن يُفترض أنها متميزة – ولكن فقط للحظة، كما كانت، لأنها ليست مميزة حقاً”. بهذا يعني هيغل أن العالم الزماني المكاني ليس سوى لحظة عابرة في الخلود الإلهي. إنه التمثيل، الذي يفصل بين الجانبين في الوقت المناسب، ويتتبع تاريخ الخلق والسقوط والفداء. ويشير هذا إلى الجانب الثاني، الذي يجب أن يتم من خلاله استيعاب العنصر الثاني، أي الروح المعنوية، والتي هي “جوهرياً عملية الارتفاع” من المحدود إلى اللانهائي، من الخليقة إلى الخالق.[39]

الخلق وإطلاق الآخر:

يطور هيغل مصطلحات مميزة لوصف فعل، أو عملية الخلق. ويشير إليها من ناحية على أنها فرضية وضعية، أو كحكم، أو تقسيم أولي لهذا الحكم؛ ومن ناحية أخرى كإصدار، أو إطلاق سراح. ولدى الوضع والحكم دلالة “نحوية”[40] قانونية، مما يوحي بأن الإبداع الإلهي يمارس من خلال قول، أو مرسوم بدائي، أو دعوة إلى الوجود، أو تشكيل لفظي، أو حكم تمييزي. والخلق هنا ليس جسدياً بقدر ما هو فعل فكري: الله يخلق من خلال نطق كلمة واحدة.[41] وهكذا قرأنا في مخطوطة، عام 1821، أنها حكم مطلق،[42] أو تقسيم أولي للحكم يمنح الاستقلال لجانب الكائن الآخر؛ إنه “الخير”، الذي يمنح الفكرة ككل إلى هذا الجانب في الخطيئة “الشر”. وتمضي المخطوطة لتوحي بوجود حكمين، أو انقسامين: أحدهما داخلي للحياة الإلهية بينما الآخر يفترض وجود العالم بامتياز عن الله.[43] وفي حين أن الحكمين متماثلان ضمنياً، إلا أن التمثيل يفصل بينهما عن الحق كأفعال متميزة، لأن ابن الأب الأبدي ليس هو نفس العالم المادي والروحي؛ فالله في لحظة تمايز الذات ليس متطابقاً ببساطة مع العالم. بل إن التمايز الإلهي داخل الأرض هو الأساس لإمكانية خلق عالم من الطبيعة والروح المحدودة، التي تكون دعوتها كأن لا يكون الله هو الآخر. ومع ذلك، لا يوجد نشاطان أبديان لله، ولكن هناك نشاطان فقط. وبالتالي، فإن “التفريق بين “الكيانات الدنيوية” هذه كشيء مستقل هو مجرد لحظة سلبية صريحة من وجود كائن آخر، من كونه “خارجي” من إلى نفسه، والتي على هذا النحو ليس لها حقيقة، ولكنها مجرد لحظة؛ في الله نفسه لحظة اختفاء المظهر. بالنسبة للعالم، هي لحظة ظهور ممتدة؛ مكانياً وزمنياً، هي لحظة اختفاء الله على الفور: إنها مجرد وميض من البرق يتلاشى على الفور، صوت كلمة يتم إدراكها ويختفي في وجودها الخارجي في اللحظة، التي يتحدث بها. وتنقل هذه الصور الغامضة إحساساً بالاختلاف النوعي بين أبدية الله وزمن الخلق، فضلاً عن الاعتماد الراديكالي للعالم على الله، وعدم قابلية الفعل الخلاق للموضوعية؛ وميض نور، صوت تلاشي. من وجهة نظر الله، العالم هو لحظة اختفاء، تدعى إلى الوجود “مفترضة” بكلمة عابرة؛ من وجهة نظر العالم، يحوم الخلق على حافة اللاوجود ويدعمه فقط “الخير” الإلهي.

لقد جرى تطوير هذه الموضوعات بتركيز مختلف في محاضرات عام 1827.[44] ويقال لنا فيها إنه من دون الخلق والمظهر، ليست لنا علاقة بالله، وتبقى الفكرة لنفسه فقط. إن فعل التمايز هو مجرد حركة، أو لعبة حب مع نفسها، لا تصل إلى جدية الكائن الآخر، وإلى الانفصال والتمزق، أي أن العناصر البارزة هي نفسها، ولم يتم خلقها بعد حتى يتم تحديدها بشكل واضح. هذا هو تحديداً ما يجب أن يحدث إذا كان الآخر داخل الله؛ الابن الأبدي، هو الحصول على “حتمية الكائن الآخر، ككيان حقيقي”. الآخر هو أمر ضروري حتى يكون هناك اختلاف؛ إنه ضروري لأن المميز يجب أن يكون غير الكيان.[45] ويستمر النص ببيان نقدي: فقط الفكرة المطلقة هي، التي تحدد نفسها، وهي متأكدة من أنها حرة تماماً داخل نفسها بسبب تقرير المصير هذا. لهذا السبب، فإن فهم تقرير المصير يتضمن ترك هذا “الكيان” المحدد موجوداً كشيء حر، أو شيء طليق، أو كشيء مستقل. والحرية هي الحرية فقط؛ فقط من أجل الإنسان الحر، لأن الآخر لديه الحرية أيضاً. إنه ينتمي إلى الحرية المطلقة للفكرة، وأنه، في فعله لتقسيمه وتجزئته، يرفض الآخر ليكون موجوداً ككائن حر ومستقل. هذا الآخر، الذي صدر كشيء حر ومستقل، واستبعاد الآخرين من العمل الحر، الذي هو العالم على هذا النحو.[46]

هنا، يتم استدعاء الاستعارة الرئيسة الأخرى، التي يستخدمها هيغل لوصف فعل الخلق، أو “الإصدار”، أو “الوجود” الرافض. لاحظ سياق استخدامها: الحرية المطلقة للفكرة المطلقة (الله) هي أنها قادرة على إطلاق الآخر، الذي هو جوهري لوجوده في الوجود الفعلي والمستقل، وهو العالم مقابل الله؛ فقط الإنسان الحر يمكنه فعل ذلك. إن وجود كائن غير حر، أو حر جزئياً يقتضي التمسك بأخلاقه باعتباره ضرورياً لدستوره الذاتي. إن الله قادر على خلق العالم دون أي تهديد لحرية الله الجوهرية الخاصة به، والتي هي كاملة في ذاتها ومن أجلها، والتي تفيض دون مبرر إلى العالم، ومن دون أي نقص في الذات، لأن الله ينبوع لا ينضب، إذ يطلق خصوبته في غير الله.[47] وبهذه الطريقة تصبح لعبة الحب غير الجادة في حد ذاتها خطيرة ومميتة، وتخضع لتمزق وصراعات ومعاناة العالم المحدود. وبالتالي، لا يتضاءل الله بل يتضخم، لأن العالم؛ في غيره من الله على وجه التحديد، يبقى لحظة في الحياة الإلهية. الله لا يتخلى عن هذا العالم بل يحميه ويحفظه، وهو في الواقع يثريه ويكمله؛ لكن هذا إنجاز وجودي وليس منطقي.[48] ويجب الحفاظ على كلتا الحالتين: أن الله كامل بمعزل عن العالم، وأن الله يحقق الاكتمال من خلال العالم.

ويتابع هيغل في محاضرات عام 1827، للتأكيد على أن “حقيقة العالم ليست سوى حالة مثالية”.[49] من المؤكد أن العالم حقيقي، لكنه يفتقر إلى “الواقع الحقيقي” على حسابه الخاص. وحقيقة واقعيته هي مثاليته، مما يعني أنه “ليس شيئاً أبدياً في حد ذاته، بل شيئاً تم إنشاؤه، والذي يفترض وجوده فقط”،[50] ومصيره هو “أن يكون مجرد لحظة، إذا جاز التعبير”،[51] لإلغاء انقسامه وانفصاله عن الله، والعودة إلى أصله، والدخول في علاقة الحب والروح – وهو العنصر الثالث في الثالوث الجامع. “العنصر الثاني هو، بالتالي، عملية العالم في الحب، التي يمر بها من السقوط والانفصال إلى الخلاص”، وهذا الموضوع مذكور أيضاً في مخطوطة المحاضرة.[52] هنا يؤكد هيغل على أن مادية العالم لها وضع شيء “يفترضه” الله على أنه سلبي للمثالية. على هذا النحو، فإن العالم الطبيعي “نسبي”، و”مظهر”؛ ليس فقط بالنسبة لنا، ولكن أيضاً في حد ذاته. “هذه هي جودته، وهي التمرير، والتحرك إلى الأمام، حتى يعود إلى الفكرة النهائية.” وفي حين أنه يتحمل مؤقتاً، فإن وضعه الوجودي هو الاختفاء والرحيل؛ وكل ما يظهر يختفي أيضاً: إنه مظهر يختفي، أي “ظاهرة الزوال”. إن السؤال حول ما إذا كان الخلق والسقوط يتعارضان مع فكرة هيغل، أي سؤال: ما إذا كان الانفصال، أو التمايز عن الله ينطوي بالضرورة على الخطيئة والمقاومة، سيأتي. وفي هذه اللحظة، فإن النقطة هي أن العالم في نهايته وزواله وطوارئه ليس غاية في حد ذاته، بل يجد هدفه فقط في عودته إلى الله. ولا يجب أن يُنظر إلى هذا على أنه تشويه ترويجي لصلاح العالم المادي، بل على أنه، من وجهة نظر هيغل، إعادة صياغة لموضوع مسيحي كلاسيكي. فالعالم، على الرغم من أنه جيد، هو نسبي، ومظهر سيختفي في النهاية.[53]

لهذا السبب بالذات، فإن مواضيع الخلق والحفظ متطابقة في تفسير هيغل،[54] لأن استقلال الاكتفاء الذاتي لا يُنسب إلى العالم، لأن الحفاظ عليه يستلزم خلقاً مستمراً. وعلى العكس من ذلك، فإن إبداعه هو أيضاً في الحفاظ عليه، لأن لحظة الوجود الآخر هي نفسها لحظة ثابتة للفكرة. إذا كان الخلق يستلزم تحريراً إلهياً للعالم، فإن الحفظ يستتبع تمسكاً إلهياً بالعالم. يقال لنا أن هذا الخلق / الحفظ المستمر هو حكمة الله في الطبيعة، وهو موضوع يُفْتَقَرُ إليه في الأديان السابقة، ولكن يتم العثور عليه خاصة في اليهودية، والديانات الإبراهيمية الأخرى. يعتقد هيغل أن مهمة الإدراك الفلسفي “التعرف على هذا المفهوم [الحكمة] في الطبيعة، وفهم الطبيعة كنظام، وكمنظمة، حيث تنعكس الفكرة الإلهية”. وهذه مهمة يعالجها هيغل نفسه في الجزء الثاني من “موسوعة العلوم الفلسفية”، أو ما عُرِفَ بـ”فلسفة الطبيعة”، الذي يُنظر إليه أحياناً على أنه أضعف جزء من نظامه الفلسفي، ولكن في الواقع كان هيغل منشغلاً بالطبيعة منذ دراساته الأولى، ولعبت دوراً حاسماً في فكره. ففي مخطوطة محاضرة “فلسفة الدين”، يقدم ملخصاً موجزاً ​​للغاية للموضوع المركزي حولها، وهو أن الحياة هي أعلى معرض للفكرة في الطبيعة. لكن الحياة الطبيعية تعني “حصراً تضحية الذات – سلبية الفكرة مقابل هذا الوجود – ووجود الروح”، أي الإنسان.[55]

وهكذا، ينقسم العالم المحدود إلى العالم الطبيعي والروح المحدودة.[56] وبذاتها، لا تعرف الطبيعة شيئاً عن الله، ولا ترتبط بالله إلا من خلال الإنسانية، التي توفر لها “الجانب التابع”. إن الإنسانية هي، التي تعترف بوجود الفكرة الإلهية في الطبيعة، وترفع الطبيعة إلى حقيقتها. هذا هو مدى مناقشة هيغل للطبيعة في حد ذاتها، على الرغم من أن هذه الملاحظات الموجزة قد توسعت، إلى حد ما، في محاضرات عام 1831.[57] وما تبقى من “العنصر الثاني” مكرس لمناقشة الإنسانية، وسقوطها في الخطيئة، والخلاص في المسيح. وحسب نهج هيغل،[58] من الواضح أن الطبيعة تتمحور حول الإنسان، بمعنى أن الطبيعة ليس لها علاقة بالله باستثناء ارتباط البشرية بها، وأنها تخدم أغراض إنسانية. ومع ذلك، فإن الفكرة الإلهية موجودة في الطبيعة، حيث “تنام” في طريقة ما قبل الذات الذاتية. ويمكن تصور لاهوت الطبيعة الحساسة بيئياً على أساس هذه البصيرة، ولكن يجب مراجعة التسلسل الهرمي للروح على الطبيعة في اتجاه أكثر جدلية – وهو اتجاه يمكن القول إنه أكثر إخلاصاً لأعمق حدس هيغلي. إذ تخدم الطبيعة والروح كل منهما الآخر في الوساطة الثلاثية للفلسفة. وبالتالي، فإن الطبيعة غاية في حد ذاتها، إذ إن لديها وظيفة حاسمة للتمايز، التي بدونها لن تكون هناك عملية وحياة، وإنما فقط هوية ميتة. ربما منع هيغل شكه في المثالية الرومانسية للطبيعة من التعبير عن روحانية الطبيعة.[59] وبالطبع كان لا يزال غير مدرك للتأثير الضار لطبيعة التكنولوجيا البشرية على البيئة، التي تجسد معاناة الإنسان على الأرض اليوم.

الطبيعة البشرية:

يحتوي تعبير “الطبيعة البشرية” على غموض، إذ يمكن أن يُشير إلى ما هو ضروري، وأكثر أهمية عن الإنسانية، أو يمكن أن يُشير إلى أن البشر ينتمون إلى الطبيعة، وأن وجودهم محدود وطبيعي، وأنهم هم “إنسانية طبيعية”. وفيما يتعلق بالأخيرة، فإن أسئلة هيغل المركزية هي ما إذا كانت هذه الإنسانية الطبيعية جيدة، أو شريرة، وكيف يرفع البشر أنفسهم من حالة طبيعية إلى حالة روحية. وتختلف طريقة معالجته لهذه الأسئلة بشكل مختلف قليلاً من عام لآخر. ففي مخطوطة عام 1821، ينصب التركيز على حقيقة أن الإنسانية الطبيعية هي “تناقض لم يتم حله داخلياً”.[60] إذا البشر هم روح، وإذا كانت الروح هي في الأساس شيء يتوسط مع نفسه، فعندئذ لا يمكن للبشر أن يظلوا في حالة فورية طبيعية، فـ”الإنسانية الطبيعية لا توجد بالشكل، الذي يجب أن تكون عليه”.[61] في حالة الطبيعة، يتم تحديدها من خلال تفرد وجودها؛ إنها كائن راغب في الوجود، ولكن ليس راغباً بعد في التفكير. وهكذا، فإن الإنسان الطبيعي لا يتحرر داخل نفسه مقابل نفسه والطبيعة الخارجية.[62] إنه الإنسان؛ الممزق بين الرغبة، والوحشية، والبحث عن الذات، والتبعية، والخوف. ويستمر هيغل هنا بتصوير الشعوب البدائية المستمدة من حسابات السفر، وموضوعها هو أن “دعوة الروح لا تكمن في اتجاه هذه الطبيعة والبراءة، وهو ما يتعارض مع مفهومها”،[63] إذ تكمن حالة البراءة قبل التمييز بين “الخير” و”الشر”، وفي هذه الحالة ليس البشر بعد بشراً بالفعل.[64]

إذن ما علاقة كل هذا بـ”الشر” واللاهوت؟[65] يدعي هيغل أن له علاقة كبيرة بكليهما، ويسند في فلسفته عن التاريخ بالادعاء بأنها تعمل بمثابة ثيودسي،[66] أو وجهة نظر إلى الوراء حول “مذبحة التاريخ” تبرر تسميتها عمل الله.[67] يكتب: “إن سعينا الفكري يهدف إلى إظهار الاقتناع بأن ما قصدته الحكمة الأبدية، قد تحقق في الواقع في مجال الروح الموجودة والفاعلة، وكذلك في مجال الطبيعة المجردة.”[68] هذا الاهتمام بـ”الشر” في التاريخ، وتعريف “الشر” بحد ذاته، ليس قضية عابرة بالنسبة لهيغل، كما أنه لا يتخطى دماء التاريخ وألمه في اندفاعه لرؤية الروح تأتي إلى مكانها في العالم، فهيغل ليس هنا من الأوغسطينيين.[69] إنه يعتقد أن “الشر” ليس حرماناً لـ”الخير”، بل إنه ظاهرة حقيقية جداً تتجلى بنفس الطريقة بالنسبة له كما تظهر لنا اليوم؛ في الكوارث الطبيعية، وفي الحرب، التي لا معنى لها، وفي المرض، وفي العنف العشوائي.[70] إذن “الشر” بالنسبة لهيغل هو حدث تاريخي واضح، لأنه يقول “إنه في تاريخ العالم نواجه مجموع “الشر” الملموس.”[71] إنه لا يهتم بالتعريفات الميتافيزيقية لـ”ألشر”، بل يهتم بأنواع الأشياء التي يعتبرها الناس شريرة في حياتهم اليومية. في الوقت نفسه، يعتقد أن هذه الاحتمالات تجعل من الصعب تصور “الشر” البشري على أنه أي شيء آخر غير الصدفة الجذرية في جميع جوانب الحياة، ويتم حسابها فيما يسميه “السيادة المطلقة للعقل،[72] والحقيقة أن خسائر التاريخ يتم تعويضها في التاريخ، وعبر التاريخ.

إن تفسير “الشر” بهذه الطريقة هو بالطبع النطاق التقليدي للثيوديسي. من الناحية الفلسفية، إذ عادةً ما تقف الثيودسيات في النقطة النهائية؛ في مواجهة كارثة، أو مناسبة بالغة الأهمية، وتنشأ بسبب النظرة الإيمانية التقليدية للعناية الإلهية، التي نوقشت سابقاً. أي أنهم ينظرون إلى الوراء، ويسعون جاهدين من أجل القيمة التفسيرية في مواجهة ما يعتبر “الخير” الأساسي للعالم.[73] بالنظر إلى هذا، فإن تقديم هيغل لفلسفته للتاريخ على أنها ثيودسي يشير بالتأكيد إلى أنه يشعر أنها تخدم كنوع من الذروة اللاهوتية، أو اكتمال التاريخ، على الأقل، وإن لم تكن “خاتمة” نهائية للتاريخ في حد ذاتها. فالتمييز بين “النهاية” و”التتويج” ربما تكون صغيرة، لكنها مهمة، إذ لا توجد نهاية في اللاهوت الجوهري. ووصف هيغل في محاضراته بأنها ثيودسي هو محاولة ثابتة من جانبه للحفاظ على لاهوته الجوهري، حيث يصل الله والعالم إلى الشبع مع بعضهما البعض وداخل بعضهما البعض، أو كما يخبرنا بأن “الله بدون العالم ليس الله.”[74] وبما أن “الشر” هو مشكلة تاريخية لهيغل، فلا بد أنه مشكلة إلهية أيضاً. ومع ذلك، فإن فريدريش نيتشه، الذي يعارض هذا الفهم، هو ببساطة مخطئ عندما يتهم إله هيغل بأنه خلقه التاريخ، لأن القصة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير.[75] تتطلب فلسفة هيغل نظرة إلى الله يمكنها أن تتبنى كلاً من الموقف الطبيعي؛ أي أن “العالم مكتف ذاتياً”، والموقف التوحيدي؛ وهو أن “العالم كما صممه الله”. ويجمع هيغل بين هذه في نظرته الجوهرية عن الله، حيث، كما قال تشارلز تيلور: “فكرة هيغل هي إذن عن إله يخلق إلى الأبد الشروط لوجوده.[76] أيا كان هذا، فإنه ليس من تاريخ نيتشه اهتمام مقدر بالألوهية.[77] ومن ناحية أخرى، إذا كان هيغل سيحافظ على وجهة نظر الله في التاريخ، وفي نفس الوقت يصر على أن “الشر” مشكلة تاريخية، فسيتعين عليه التوفيق بين أفكار “الشر” والله بطريقة ما. نظراً لأن هيغل ملتزم بالإمساك بقرني المعضلة الثيودية؛ أي الحماسة الكلية والقدرة المطلقة، على الرغم من تعارض تأريخهما بشكل جذري بطريقة هيغلية فريدة، يبدو أنه من المستحيل بالنسبة له الهروب من المفارقة الثيودية للإله، الذي يعمل بالفعل بطرق غامضة، لكنه يترك بعيداً عنه الكثير من الجثث، مما يجعل النظر إليه كوحش منتقم منخلقه.

إن الصراحة تلزمنا بالاعتقاد بأن هيغل لا يستطيع الهرب من هذه المفارقة، التي تجعلنا نسائل أنفسنا: لماذا نتناول هذا الأمر؟ وهل بتناوله ندافع عن هيغل ضد التفسيرات الخاطئة لفلسفته للتاريخ فقط، ونتجاهل الهدف ذاته من ذلك التاريخ، وهو مصالحة الله مع التاريخ؟ لا نتمنى أن نجيب على هذين السؤالين، خاصة وقد إذا قارنا ثيودية هيغل مع افتقاره إلى وضع حد للتاريخ، للإشارة إلى توتر أساسي في فكره. هذا التوتر بين الصدفة والعزم: أي التوتر بين رغبته المعلنة في التغلب على الطوارئ بأي ثمن،[78] وحزمه على القيادة لإبقاء نظامه مفتوحاً في نفس المكان، الذي يتوقع المرء أن يغلق فيه. وقد يكون نيتشه على حق، بطريقة ما، في الزعم بأنه يجب على هيغل إنهاء التاريخ، لكنه فشل في ذلك. ويعرف هيغل أن نظامه يجب أن يكون بمثابة ذروة إذا كان له أن يكون كما يتصور أن يكون، لكنه في نفس الوقت يصر على أن الفلسفة لا يمكن أن تكون في مجال التنبؤ بالمستقبل، وأن هناك اتجاهات ومعاني تدور للخروج إلى المستقبل وتخريب جميع محاولات الإغلاق. وإذا كانت فلسفة الوساطة الكاملة لها حدودها، فإن هيغل لا يستطيع أن يعلن أن التاريخ قد انتهى. هذا ما قصده دريدا عندما قال إن “هيغل هو أيضاً مفكر في اختلاف غير قابل للاختزال؟”[79] فلسفة هيغل التأملية، حيث يتم تقييد جميع الأطراف السائبة، ويتم تعيين جميع الشرور بشكل صحيح في تأدية الروح المطلقة، هي أيضاً ديالكتيكية الفلسفة، التي تتطور فقط عندما يكون هناك نزاع وجدل، ولا يمكن التغلب على التوتر بين التكهنات والجدلية في فلسفة هيغل، لأنه سوف ينظر إلى هذا على أنه عيب؛ فيما يعتبره غيره قوة.

بيد أنه، ونظراً لأن هيغل أعطى العناية الإلهية صفة دنيوية تماماً، فلا يمكن أن يكون الحساب النهائي لعمل العناية الإلهية خارج التاريخ نفسه. وذلك، لأن التاريخ يمكن وسيستمر، ليس فقط عبر الأحداث، ولكن بتطور وتقدم الحرية في أشكال ملموسة، رغم أنه لا يمكن إجراء مثل هذا الحساب. وبالتالي، لا يمكن حساب “الشر” إلا مؤقتاً، وعلى كل حال، ومثل ما يبدو أن هيغل يريد التلميح به، فإن هذا هو ما نعنيه عندما ندعو إلى فهم محلي، أو ثيودوسي محدود، الذي هو، في الحقيقة، قلب كل الثيودسيين. ونستطيع أن نجزم أن لا علاقة لمثل هذه النظريات مطلقاً بالمشروع الميتافيزيقي المتمثل في إعطاء “الشر” مكانه الضروري بمعنى الكلمة، كما كان، بل بالأحرى العمل على وضع “الشر” ضمن السياق الإنساني، والمحدود، الذي وَلَّدَهُ. إذ يتجنب الثيودسي المحدود كل ادعاءات الاكتمال الميتافيزيقي، لأن الثيودسيين بجميع أشكالهم؛ وهيغل على رأسهم وبينهم في هذا الصدد، يجعلون معنى “الشر”، إما من خلال تفسيره على أنه ضروري رغم أنه بغيض، أو تفسيره من خلال مناشدة الغموض فيه، ولكن ليس الغموض بأي معنى حقيقي، بالطبع؛ الإله، الكون، العناية الإلهية، أو أي شيء يتحكم في الواقع يعرف في النهاية أسباب “الشر”. وبالتالي، فهو مسؤول في النهاية عن “الشر” في العالم؛ من حيث القدرة المطلقة، والمعرفة المسبقة، والسببية، التي لا يمكن الفصل بينها بسهولة. ولا يقول الثيودسي المحدود إن “هناك خير أعظم يُخدم”، أو “لا نستطيع أن نعرف لماذا، لكن الله يعلم”، أو حتى “هناك سبب وسنفهمه يوماً ما.” إنه لا ينظر إلى الوراء، لكنه يعلم أنه في الواقع ليس مبرراً على الإطلاق. والثيودسي المحدود يلغي “الشر” لصالح المحاسبة. إن أكمل تجربة للثيوديسي تدعي أن الله موجود في “الشر” والألم، لكن ليس هذا تبرير له. إن مثل هذا الفهم من شأنه أن يغير بشكل جذري شروط المناقشة عندما يتعلق الأمر بالثيوديسي، الذي يمثله فيلسوف بقامة هيغل، الذي يؤكد، في محاضرات عام 1824، على أن “الطبيعة” الحقيقية للبشرية هي التخلي عن إلحاحها، والتخلي عن حالتها الطبيعية.[80]

فهل يعني هذا، كما يقال غالباً، أن “البشر شر بطبيعتهم”؟ ولكن ألا يمكن أن يقال بنفس القدر أن “البشر صالحون بطبيعتهم”؟ لأن الطبيعة الحقيقية للبشرية هي أن تكون عقلانياً وروحياً، وأن تكون على صورة الله، وهذا أمر جيد بالتأكيد. لكن المشكلة هي أنه في حالة الطبيعة يكون البشر عقلانيين وروحيين بشكل ضمني فقط. هذا فقط هو النقص، “لأن الروح لا يجب أن تكون روحاً ضمنياً – إنها روح لأنها صريحة جداً”. إن حالة الطبيعة في حد ذاتها ليست شريرة، ولكنها يمكن أن تصبح كذلك عندما يختار البشر البقاء في تلك الحالة، للعيش وفقاً للطبيعة بدلاً من الروح. وبالتالي، من المضلل القول إن البشر شريرون بطبيعتهم. الأطفال ليسوا شريرين. بل هم أبرياء ويفتقرون إلى البصيرة والإرادة؛ بمعنى القدرة على اتخاذ القرارات، والمساءلة. و”يتعلق الأمر بـ”الشر” لكي يكون [الإنسان] قادراً على أن يقرر، وأن يكون لديه إرادة، لامتلاك نظرة ثاقبة لطبيعة الأفعال”، لكن الشيء نفسه يتعلق بـ”الخير”. وهكذا البشر بطبيعتهم ليسوا صالحين ولا شريرين؛ يصبحون خيراً، أو شراً عندما ينهضون من الطبيعة من خلال الانضباط والتعليم والقوانين والممارسات الثقافية، وغيرها. وفي ذلك تختلف الديانات كثيراً عن بعضها البعض.[81]

إن محاضرات 1827، تأخذ التحليل خطوة أخرى.[82] صحيح القول إن البشر صالحون ضمنياً؛ لكن “ضمنياً” هذه تعني أنهم لم يصبحوا صراحةً ما هم عليه في الحقيقة. ومصيرهم هو تجاوز ما هو ضمير الطبيعة،[83] أن يخرج كروح من الحياة الطبيعية. ويؤدي هذا التقدم إلى “الفصل” بين مفهوم الإنسانية ووجودها المباشر؛ يولد “انقسام” داخل الإنسانية. هذا الانشقاق جوهري في الروح، لأن الروح هي بالضبط انقسام الذات عن النفس لكي تصبح واعية لنفسها. كما سنرى، الانفصال، أو الانقسام، هو شرط إمكانية القطيعة بين “الخير” و”الشر”، لكنه ليس هو “الشر” نفسه بالمعنى الدقيق. إذ يحدث “الشر” بطريقتين: عندما يتحول الانقسام إلى قسمين؛ إلى: قسم يقبل وآخر يرفض، أو عندما يتراجع البشر عن الانقسام الضروري ويتواجدون فقط “وفقاً للطبيعة” في حالة فورية. والعبارة الأخيرة هي إشارة واضحة إلى عبارة “حسب الجسد”، على النقيض من إشارة “وفقاً للروح”. فالوجود حسب الجسد هو الانزلاق إلى حالة البراءة، في حين أن العيش وفقاً للروح هو تقدم في المسؤولية، أو طريق القطيعة. فقط مع مثل هذا التقدم، يصبح “الخير” و”الشر” بالمعنى الدقيق ممكناً. و”من الخطأ التساؤل عما إذا كانت الإنسانية جيدة فقط بطبيعتها، أم أنها فقط شريرة. وبنفس القدر، من السطحي أن نقول إن الإنسانية هي “الخير” و”الشر” على حد سواء”، ولا يمكن للبشر أن يظلوا في حالة الطبيعة دون الوقوع في “الشر” الطبيعي، الذي يأخذ شكل الأنانية والصراع من أجل البقاء. ولكن في الخروج من الطبيعة من خلال الوعي والإدراك، يقعون في “الشر” الروحي عن طريق تحويل الانقسام إلى اغتراب. إنهم يدركون صلاحهم، في نمط من القطيعة والتجزئة، وأن المعضلة هي أننا نحن البشر طبيعيون وروحيون، ومحدودون، ولا نهائيون. في هذه الحالة المنقسمة، يبدو أن “الشر” لا مفر منه: فهو، كما كان، وراءنا “في الطبيعة” وأمامنا “في الغطرسة”.

لا يحصر هيغل، بأي حال من الأحوال، قصة خلق البشر في الفصلين الأول والثاني من سفر التكوين، على الرغم من أنه يتحول إلى الفصل الثالث، كما رأينا وسنرى، عندما يكون اهتمامه هو تفسير السقوط في الخطيئة و”الشر”؛ فيما يتعلق بما يسمى بـ”الخطيئة الأصلية”، التي نشأ فيها البشر، إذ يلاحظ هيغل أنها تنطوي على أسطورة وضعها كـ”حالة أصلية”، أو جوهرية.[84] إنه يشك في الحجج الفلسفية، التي تصور هذه الحالة على أنها واحدة من “أعلى كمال روحي، للإنسان في وحدة مع الطبيعة، وبالتالي، كذكاء لا يتزعزع في المطلق، الذي لا يبتعد به عن الطبيعة إلى نفسه عن طريق التفكير”. إنه يضع هنا في اعتباره عمل فريدريش شليغل،[85] الذي انجذب إلى الهندوس والأساطير القديمة الأخرى، وفريدريش شيلينغ،[86] الذي قبل كحالة تاريخية مثالية من الناحية الفعلية، وأضاف إلى الكمال عناصر الشعور والحدس والذكاء قبل الانعكاسي.[87] فنسخة هيغل عن حالة الإنسانية الأصلية مختلفة تماماً، ولن يكون له علاقة بأسطورة رومانسية من الأصول. ويؤكد أن فكرة أن الإنسانية جيدة “بطبيعتها”، وهي “عقيدة العصر الحديث”، والتي ينسبها خطأ إلى كانط، بدلاً من روسو.[88] ويهتم بشكل خاص بالآثار التربوية لوجهة النظر، التي تجعل المبادئ الطبيعية مثالية، وتعتبر أن الحضارة تلوث البراءة الأصلية، ولا تدرك ضرورة الانضباط والمعرفة المكتسبة.[89]

قصة السقوط:

يصف الكتاب المقدس الانتقال من حالة البراءة إلى حالة المسؤولية والذنب بأنه “سقوط”. هذا “سقوط من الفكرة الإلهية، من صورة الله”؛[90] ولكن من المفارقات أيضاً أنه صعود إلى الفكرة الإلهية وصورة الله. من خلال الأكل من شجرة معرفة “الخير” و”الشر”، يصبح آدم وحواء “مثل الله”، لكنهما يفقدان أيضاً خلودهما ويخضعان للموت مثل جميع المخلوقات الأخرى. وفي مخطوطة عام 1821، يؤكد هيغل على “التناقضات” في هذه القصة.[91] فإذا كانت معرفة “الخير” و”الشر” تشكل “روحاً”، فلماذا يمنع الله آدم من الأكل من شجرة واحدة ترفع البشر إلى شبه آلهة؟ لماذا يجب اعتبار المعرفة على أنها “إغراء” عندما يؤكد الله أن المعرفة هي الإله في الإنسانية؟ هل يُنظر إلى الموت كعقاب على الخطيئة، أم كشرط طبيعي للنهاية؟ إن التناقضات تعكس الغموض الموجود في الوعي والمعرفة؛ ذلك الغموض، الذي لا يستطيع سوى التفكير المتضارب فهمه. إن النظر بالبصيرة العميقة لهذه القصة تنبئنا أن التاريخ الأبدي للبشرية هو، الذي يكون الوعي وارد فيه.[92] ويلاحظ هيغل أن القصة لم تُذكر مرة أخرى في الكتاب المقدس العبري، وأن المسيحيين هم، الذين طوروا العلاقة بين آدم الأول والثاني. ويمثل آدم الثاني، المسيح، شبيه الله، الذي يجب استعادته، في حين أن هذا الوعد، “الجانب اللامتناهي من المعرفة”، “نائم” في الشعب اليهودي.[93] إن انشغال هيغل بالقصة جدير بالملاحظة، وهو يمثل أكثر أعماله التفسيرية المكتوبة استدامة.

وتضيف محاضرات عامي 1824 و1827، القليل إلى التفسير الوارد في المخطوطة، إذ يلاحظ هيغل، في عام 1824، أن عقوبة العصيان هي العمل، والاضطرار للعمل من أجل لقمة العيش، ولكن مثل هذا العمل هو في نفس الوقت طابع الطبيعة الروحية العليا للبشرية.[94] تُخرج البشرية من الجنة إلى التاريخ، ومن خلال التاريخ تتقدم الروح إلى مرحلة البلوغ؛ وبدون الانضباط والعقاب، كان الجنس البشري سيظل في سن الطفولة. وتضيف محاضرات عام 1827، أن الفكرة الخاطئة للانتقال البيولوجي للخطيئة تنتج من النظر إلى البشرية على أنها تمثل حرفياً نسخة من أول إنسان.[95] وبالكاد يجد هيغل الجرأة على أنه من الضروري الإشارة إلى أن القصة يجب أن تُقرأ كخرافة، وليس تاريخاً.

المعرفة والشر:

تشير قصة السقوط إلى نظرة مأساوية للطبيعة البشرية؛ إذ إن شرط إمكانية “الخير” يشمل أيضاً إمكانية “الشر”.[96] ومن أجل الخروج من الحالة الطبيعية وتحقيق إمكاناته الروحية، يجب على الإنسان أن يخضع للانقسام، أو الانفصال، الذي ينتج عنه القلق والاغتراب، وبذل الجهود من أجل تأمين الذات، وتحصيل المعرفة، التي تجعل الإنسان يصيبها أيضاً. وهنا، يعمل هيغل فلسفياً مع المفارقات الواردة في القصة، ويلاحظ، في مخطوطة المحاضرة،[97] أن فكرة “الانتقال”[98] ما هي إلا تمثيلية، وتستتبع سرد القصة، مما يوحي بأن “هناك شرطان يتعلقان ببعضهما البعض، وليس أن الطبيعة نفسها في طابعها الفوري هي انتقال”: الشرط الأول، هو حالة رغبة طبيعية فورية. بينما الشرط الثاني، هو الوعي، والوعي يجلب معه معرفة “الخير” والكونية. وعندما يكون الوعي مرتبطاً بالرغبة، فإنه ينجذب نحو “الشر”، ورغبة الانفصال، ووضع خصوصية الفرد ضد الآخرين. “هذا “الشر” هو البحث عن الذات: إنه خيار حر يتحمله البشر، ويعرفون أنهم مسؤولون عنه”. وهكذا، فإن “الشر”، إرادة البحث عن الذات، لا يوجد إلا من خلال الوعي والإدراك. لكن المبدأ الإلهي المتمثل في التحول، والعودة إلى الذات، موجود بنفس القدر في الإدراك؛ وييسبب الجرح ويشفيه، لأن المبدأ روح وحق.

إن محاضرات عام 1824، تشرح العلاقة بين الإدراك و”الشر” بعمق أكبر، لأن الإدراك يفترض أن يكون نقيض التباين حيث يوجد “الشر”.[99] ويحدث “الشر” أولاً في مجال التمزق، أو الانقسام؛ إنه وعي أن أكون في مقابل معارضة الطبيعة الخارجية، ولكن أيضاً في معارضة [الحقيقة] الموضوعية، التي تكون شاملة داخلياً بمعنى المفهوم، أو الإرادة العقلانية. من خلال هذا الفصل؛ أنا موجود لنفسي لأول مرة، وهنا يكمن “الشر”. وباختصار، فإن كونك شريراً يعني تخصيص نفسك بطريقة تعزلك عن الكونية؛ وهي العقلانية، والقوانين، وتحديد الروح. ولكن إلى جانب هذا الفصل، ينشأ وجود “لنفس”، ولأول مرة القوانين الروحية الكونية؛ وما يجب أن يكون. إذن، ليس الأمر أن للتأمل، أو الاعتبار، علاقة خارجية بـ”الشر”: إنه بحد ذاته يحمل ما هو شرير وخَيِّر. وبقدر ما هي روح، يجب على الإنسانية أن تتقدم إلى نقيض الوجود هذا، من أجل الذات في حد ذاتها. فالروح حرة؛ والحرية لها اللحظة الأساسية لهذا الفصل داخل نفسها. وفي هذا الفصل يُفترَض وجود الذات من أجلها، ويوجد “الشر” في مكانها. وهنا مصدر كل خطأ، ولكن أيضاً النقطة، التي يكون فيها للخلاص مصدره النهائي، وهو ما يُنْتِج المرض، وهو في نفس الوقت مصدر الصحة.[100]

لهذا، نجد في هذا المقطع، الانقسام الضروري للوعي، لكونه من أجل الذات، وينجذب إلى علاقة وثيقة للغاية، إن لم يكن إلى الهوية، فهي مع “الشر”.[101] وما يمنع الذات من أن تصبح هوية محضة هي لغة مثل “تم العثور عليها في”، و”تحدث في”، و”لها مقعد في”. وإذا كان لـ”ألشر” “مقعده” في الانفصال، في الوعي، فمن المنطقي، على الأقل، أن يوجد في الإدراك، إن لم يكن بالإمكان تمييزه وجودياً عن الوعي في حد ذاته. وعندما يصبح الوعي وعياً؛ لكونك من أجل نفسك، في معارضة الحقيقة الكونية النهائية، أي عندما يحدث الوعي في “تفرد” نفسي ضد الكائنات الحية، وغيرها من الكائنات الأخرى، يحدث “الشر”. لكن مثل هذه المعارضة والفردية دائماً ما يصاحبان التقدم إلى “الذات”. وهنا يكمن العنصر المأساوي؛ وتكلفة الحرية هي إساءة استخدام الحرية. إن الخطيئة والخلاص لهما نفس المصدر: الوعي والإدراك، إذ يستلزم الخلاص إعادة توجيه الوعي بعيداً عن التركيز على الذات والفردية، إلى التركيز على الحقيقة وتكوين المجتمع.

وتستمر محاضرات عام 1827، في هذه التأملات العميقة.[102] وهنا، يعتمد هيغل على الارتباط الأصلي بين “الحكم”، أو “التقسيم”، الذي هو جوهري للإدراك على أنه “تمييز ذاتي داخل الذات”، و”الانقسام” الشرير، أو على الأقل مقعد “الشر”، لأنه أيضاً مقعد “الخير”. فالمعرفة تجلب معرفة “الخير” و”الشر”،[103] ما نتعرف عليه ليس أننا قد تجاوزنا هذه الوصية، أو تلك، ولكننا بَشَرٌ شررين وجوهريين بقدر ما نفترض الانقسامات فيما بيننا، بين البشر والعالم، وبين البشر والله. نحن موجودون في حالة تمزق، أو نقيض، تجاه كل من الله والعالم.[104] ويشرح هيغل هذه النقطة الأخيرة بطريقة غير موجودة في المحاضرات السابقة.[105] ويقول إننا في مواجهة الله، نختبر معاناة لا نهائية، معاناة الانفصال عن الله، والذوبان في أنفسنا، وفقدان “الخير”. كان هذا هو الشرط الديني لليهودية في أواخر العصور القديمة، التي تفترض إمكانية الكرب اللامحدود الإيمان بإله واحد كإله نقي وروحي، تكون أحكامه مؤكدة وعادلة. وفي مواجهة العالم، نشعر بالتعاسة، والوعي بأننا لسنا راضين عن العالم، ولا يمكن أن نجد في العالم أساساً نهائياً، وغرضاً من الحياة. وبالتالي، يتم دفعنا إلى أنفسنا، بحثاً عن السعادة في الوئام الداخلي. وكان هذا هو الوضع، الذي وصل فيه العالم الروماني في بداية العصر المشترك، حيث ظهر في شكل من الرواقية والتشكك.[106] فكل من هذه الحالات؛ الكرب والضيق، هي من جانب واحد بشكل تجريدي: فمن ناحية، يوجد نقيض غير قابل للكسر بين اللانهائي والمحدود؛ ومن ناحية أخرى، ذوبان اليأس إلى الذات عن طريق الفرار من العالم. لقد صقل مفهوم الأديان السابقة نفسه في هذا التناقض؛ وأن التناقض قد كشف وقدم نفسه على أنه حاجة موجودة بالفعل يتم التعبير عنها بالكلمات، “عندما حان الوقت بالكامل، أرسل الله ابنه”. مع هذه الملاحظة، يتم توفير انتقال إلى موضوع الخلاص، ودليل على ظهور المسيح الضروري في زمان ومكان معينين.[107] ولكن، في الواقع، فإن الكرب والتعاسة هما علامات دائمة وكونية للاغتراب الديني، وتسليم هيغل بهما هو تطبيق خاص على زمانه ومكانه. ويظهر الكرب اليهودي في العالم الحديث على شكل تقوى بروتستانتية لا تعرف شيئاً عن الله سوى بعدها عن الله. في حين يظهر عدم الرضا الروماني في شكل عقلانية التنوير، التي تقدر قيمة المحدودية، وتكون عرضة للعلمانية والإلحاد.

يقال، أحياناً، إن هيغل يسخر من مشكلة “الشر” من خلال ربطها بالمعرفة بشكل وثيق للغاية، وعدم إدراك جوانبها السخيفة وغير العقلانية. فمن وجهة نظر هيغل، ما يمنح “الشر” قوته غير العادية هو بالضبط ارتباطه بالمعرفة. إنه تشويه وانحراف لما هو أعلى في الإنسانية، وليس لما هو أدنى. وبالتالي، له فاعلية تفوق بكثير الدمار الطبيعي، وكذلك القدرة على خداع الذات، التي لا يستطيع العقل أن يتغلب عليها، والمطلوب هو خلاص العقل وليس إزاحته. ومع ذلك، صحيح أن رأي هيغل لا ينعكس كثيراً؛ على الأقل في فلسفة المحاضرات الدينية، على تعزيز وتكثيف “الشر” الشخصي في الهياكل المؤسسية والأيديولوجيات الاجتماعية، وبينما يدرك بعمق الطابع المأساوي والعنيف للتاريخ البشري، فإنه لا يتصور نوع “الشر” الراديكالي، الذي تمثله المحرقة وغيرها من أشكال الإبادة الجماعية. وما إذا كانت تجربة “الشر” في القرن العشرين تستدعي إعادة التفكير بشكل أساس هو أحد الأسئلة، التي ربما كان سيطرحها هيغل عن طريق ما بعد الحداثة.

الشر الملموس:

يتطلب استكشاف مشكلة “الشر” عند هيغل استخدام منهج التحليل الفلسفي، الذي اتبعه لمناقشة مفهوم اللاهوت المسيحي في محاضراته، وكتابه عن التاريخ، وموسوعة الفلسفة، وغيرهما من دراساته الكثيرة حول القانون والطبيعة وفلسفة الدين. فقد كان الشغل الشاغل لهيغل هو تفسير ظهور “الشر” في التاريخ، وتبرير أفعال الحقد، التي تسيء بشكل مأساوي إلى سجل الأحداث البشرية،[108] إذ يشير جوزيف مكارني[109] إلى استياء هيغل من ثيودوسية لايبنتز،[110] الذي يدعي أنه من بين جميع العوالم الممكنة، اختار الله الأفضل. رغم أنه يُشاركه الاعتقاد في جدلية العلاقة بين “الخير” و”الشر”، وإن بمستوىً مختلف من الفهم، إذ يؤكد لايبنتز أن “الشر” ليس سوى وسيلة لتحقيق “الخير”، وأن الشيطان هو الممهد لذلك. لكن هيغل يتساءل: إذا كان الشيطان هو مجرد وسيلة الله لتحقيق “الخير”، فلماذا إذن لم يختار وسيلة أخرى؟ ومن هنا يبدأ هيغل حل مشكلة “الشر” ببرنامج مصالحة، أو “خلاص”، لا يعتمد على الإرادة الشخصية، بل بالأحرى، على “ثيودسيا وحدة الوجود”، التي ترى أن “الخير” قد رسخ نفسه دائماً في العالم بدرجة لا يستطيع “الشر” أبداً أن يقف بجانبه على قدم المساواة. وسر هذه المصالحة، أو هذا “الخلاص”، هو العثور على الإيجابي في التاريخ، الذي يتقلص قبله الجانب السلبي إلى لحظة عابرة. و”في مخططه، يكون العقلاني والضروري تعبيرات عن الأرضية الأنطولوجية للكون”،[111] ويقتضي برنامج هيغل التعامل في الحال مع الجوانب التعسفية والطارئة لـ”الشر” عن طريق إزالة عامل الإرادة البشرية، وكذلك الاضطرار لشرح التصرفات الغامضة للإله. فقد انتقد معارضو هيغل فكرة المصالحة “الخلاص” على أنها استجابة غير كافية لمشكلة “الشر”؛ فبدلاً من أخذ “الشر” بجدية، ينكر هيغل وجود مأساة إنسانية، ويستبدلها بـ”الكوميديا ​​الغائية للهدف النهائي للعالم وتأكيد الفكرة.”[112] في حين أن حنا أرندت،[113] على سبيل المثال، تحدثت عن الطابع غير المُرْضِي لحل هيغل لمشكلة “الشر”، في كتابها “أيخمان في القدس”.[114] ومن خلال لوم التاريخ نفسه، تلاحظ سوزان نيمان فيما يتعلق بحجة أرنت،[115] أن هيغل قد أعفى البشر من المسؤولية الأخلاقية.[116] فـ”إذا كان التاريخ مجرد حدث معاد للسامية تلو الآخر، ألم يكن [أيخمان] حتى ترساً أصغر في آلة أكبر مما ادعى هو نفسه؟”[117]

ومع ذلك، وكما يقر مكارني، فإن قلة من الكتاب تحدثوا ببلاغة، أو بحساسية أكثر من هيغل عن وجود “الشر” في التاريخ. علاوة على ذلك، من خلال مفهومه عن الثالوث الإله، الذي مات في تقدير نيتشه، ينأى هيغل بنفسه عن اللاهوت المسيحي القياسي بالإصرار على وصمة “الشر” حتى داخل الثالوث. ولا يوجد مكان في فكر هيغل لأي تصور للحياة الآخرة قد يخفف من عواقب “الشر”. بدلاً من ذلك، بالنسبة لهيغل، يمكن العثور على مصالحة الروح اللانهائية فقط في “دورة الولادة والموت” داخل المجتمع البشري الأبدي.[118] فقد استغل هيغل الطابع الديالكتيكي لفكرة الثالوث في اللاهوت ​​المسيحي كحل لمشكلة “الشر”؛ فمن ناحية، تعترف المسيحية بالحقوق اللانهائية للفرد البشري، وهوية الفرد الاجتماعي مع الله، وتدعو إلى إلغاء العبودية عالمياً، ومن ناحية أخرى، تقبل المسيحية أهمية التعليم والتنمية في التغلب على “الشر” داخل الفرد والمجتمع. فالحركة النهائية للثالوث (الله) هي اتحاد الحب والمعرفة، كما هو مضمون في مفهوم الحرية، الذي يُعتبر المفتاح الحقيقي لمعنى التاريخ. ويتم تلخيص هذه اللحظات في الصراع الشخصي لكل فرد مع “الشر” الداخلي للنفس “الأمارة بالسوء”،(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).[119]

ووفقاً لذلك، يشرح ماكريغر، في مناقشته لقصة جنة عدن والسقوط، اقتراح هيغل أن الجهاد البشري داخل أنفسنا أكثر أهمية من عملية الفعل في خلق الفردانية. لكنه لاحظ أن العمل البشري؛ العمل الروحي والجسدي، الذي تسترشد به المعرفة، ويجسد المواجهة مع العالم الخارجي هو نفس الوسائل، التي يتم بها هزيمة “الشر”، وكأني به يُشير ما ورد في الحديث النبوي في التفريق بين الجهاد الأكبر “داخل أنفسنا”، والجهاد الأصغر المتمثل في “العمل البشري”.[120] والعمل، الذي يتم بعرق جبين المرء، أو العمل الجسدي، وعمل الروح، وهو أصعب من الاثنين، يرتبط مباشرة بمعرفة “الخير” و”الشر”. أن البشرية يجب أن تجعل نفسها على ما هي عليه، وأن تنتج الخبز وتأكله من عرق جبينها، وتنتمي إلى ما هو أكثر أهمية وتميزاً عنها، وتتوافق بالضرورة مع معرفة “الخير” و”الشر”. وهنا، يقول ديفيد ماكريغور إن تأمل سوزان نيمان الفلسفي لـ”الشر” في الفكر الحديث يقدم فهماً عميقاً لمفهوم هيغل عن “الشر”، إذ تشير إلى أن هيغل “كان أول من أعطى صياغة علمانية لمشكلة “الشر””.[121] بينما تُنبه نيمان إلى أن لايبتنز ميز بين ثلاثة أشكال من “الشر”، هي: “الشر” الطبيعي، الذي يتعلق بمجال المعاناة، وهو الألم، الذي يتحمله البشر نتيجة لوجودهم على الأرض وبدون خطأ من جانبهم، و”الشر” الأخلاقي، والذي ينتمي إلى دائرة الخطيئة، وإخطائنا ضد الله، وإرادة الإنسان لتجاهل وصايا التقوى. وأخيراً، هناك شر ميتافيزيقي، وهو نقص في جميع الكائنات الحية، حيوانياً وبشرياً، ووجود “الشر” بحكم خلقهم، وما أبلغ حديث حديث حذيفة بن اليمان، الباحث عن معرفة “الشر” لِيَتَجَنَّبُه.[122]

لقد فسر هيغل “الشر” بالفهم الميتافيزيقي للايبنتز حول كيف أن العالم، بعد كل شيء، هو ما يجب أن يكون عليه؛ أي أن “التغلب على الشرور جزء من العملية الواضحة في التاريخ نفسه”.[123] لقد قدم ديفيد ماكريغور، في محاضرته المُشار إليها، مفهوماً عن هيغل لم يحظ باهتمام كبير، وهو مفهوم “الشر الملموس”، الذي ذكره هيغل في فلسفة التاريخ.[124] إذ أعاد هيغل بناء فكرة لايبنتز عن “الشر” الميتافيزيقي، في الجانب الكوني للحياة الروحية، وأطلق عليها اسم “الشر الملموس”. على الرغم من أن هذا “الشر الملموس” هو نفسه مكون من عوارض مفاجئة وحوادث طارئة، إلا أنه جانب عالمي للحياة البشرية، ووظيفة ثابتة في كشف التاريخ البشري. وبالنسبة لهيغل. فـ”الشر الملموس”، بهذا الفهم، هو ظاهرة اجتماعية وتاريخية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتقدم الروح البشرية في التاريخ، ودور الفلسفة هو المساعدة في فهم “كل العلل في العالم، بما في ذلك وجود “الشر” حتى تتصالح روح التفكير مع الجوانب السلبية للوجود”.[125]

وعلى عكس كانط، لا يهتم هيغل أساساً بـ”الشر” كنتيجة للفسوق من جانب الأفراد – مجال الأخلاق، ولا يقول إن “مصائر الأمم، وتشنجات الدول ومصالحها، ومآزقها ومشاركاتها هي من نظام مختلف عن الأخلاق”، بدلاً من ذلك، فهو مهتم بالقوى السلبية في تاريخ البشرية، التي تميز الأقليات المهيمنة وتضر، أو ​​تدمر مجتمعات بأكملها. كما يقول هيغل، إن “العواطف والمصالح الخاصة وإشباع الدوافع الأنانية هي القوة الأكثر فعالية. ما يجعلهم أقوياء هو أنهم لا يلتفتون لأي من القيود، التي تفرضها العدالة، أو الأخلاق عليهم، وأن القوة الأساسية للعاطفة لها سيطرة مباشرة على الإنسان أكثر من الانضباط المصطنع والمكتسب بجهد من النظام والاعتدال والعدالة والأخلاق”. وبالتالي، فإن “الشر الملموس” ليس مسألة قوى هيكلية مجهولة الوجه تعمل تقريباً كقوة تشبه “الشر” بفهم لايبنتز الطبيعي، أي التغلب على مجتمع معين، أو مجموعة بشرية. إذ يشير “الشر الملموس” إلى الأفعال البشرية المتعمدة، التي تسخر مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في خدمة الحقد. ويذكرنا نيتشه بقوله إننا لا نعرف ما هو “الشر”، وهو بهذا كان يعني أننا نميل إلى تبني مفهوم أحادي البعد لهذا “الشر”؛ أي مفهوم الحقد كشيء يفعله دائماً الجانب الآخر. وفي الواقع، فإن مفهوم “الشر الملموس” الموجود في العالم ينطوي على تكثيف “الشر”، وظهور “الشر” وحشده في نقاط مهمة، أو قفزة، أو تحول ديالكتيكي يتجلى في حدوث هذا “الشر”، أو الترتيب الاجتماعي الفاسد. وفي أوقات معينة من التاريخ، يتم إبعاد “الشر”، على الرغم من أن العالم مشبع بوجود هذا “الشر”.

إن رفض هيغل تخيل نهاية للتاريخ كان يجب أن يكون مصدر إلهام لتفكيره في “الشر”. لأن هذا “الشر”، اقتباساً من محاضراته، موجود “بشكل ملموس” في التاريخ. ولا يمكن إجراء محاسبة كاملة لـ”الشر” من الناحية التاريخية حتى نتمكن من إعادة النظر في التاريخ، كما كان؛ وهذا لا يمكننا فعله أبداً، أو على الأكثر يمكننا القيام به جزئياً فقط. إن نمط المحصل الصفري، الذي يتخيله هيغل، الذي هو ليس بسبب عدم وجود خسائر حقيقية، ولكن لأن الخسائر ضرورية لتطور الروح، وبهذا يجري إغلاق الباب، الذي لا يستطيع هيغل إغلاقه. إنه لمن غير المرضي للغاية بالنسبة للكثيرين أن يتركوا “الشر” في عداد المفقودين بالمعنى النهائي، تماماً كما هو الحال مع ترك المستقبل مفتوحاً، دون سيطرة بعض القوى غير المرئية. ومع ذلك، تتطلب فلسفة هيغل أن يُترك كلاهما كأسئلة مفتوحة، حتى عندما يريد هيغل نفسه إغلاقهما. في النهاية، تفشل النظريات ليس لأنها تسعى إلى تبرير “الشر”؛ إذ إنه ليس لـ”الشر” تبرير نهائي، مثل ما يطلبه هيغل، ولكن، بأخذ المصطلح حرفياً، بأنهم يسعون إلى تبرير وجود الله – وهو مثال رئيس لما أسماه هايدجر علم الوجود، أي السماح للفلسفة لتقرر متى وأين وكيف يدخلها الإله. مثل هذا الإله زائف في حياة الدين؛ كما يقول هايدجر، هذا صنم، والسبب هو، أنه “لا يستطيع الإنسان أن يصلي ولا يضحّي لهذا الإله. فقبل السببية، لا يمكن للإنسان أن يسقط على ركبتيه في رهبة، ولا يمكنه عزف الموسيقى والرقص أمام هذا الإله”.[126] هذا هو الله، الذي دافع عنه الثيودسيون، كما دافع عنه هيغل.

الخلاصة:

في الختام، نقول إن المقال تحاشى التعريفات في المتن، ولم يبدأ بوضع شرح لغوي، أو اصطلاحي، لـ”الشر”، ولم يقبل، أو يرفض، المفاهيم السلبية، أو الإيجابية، المقدمة له كآراء في كل الدراسات، لأننا أدركنا أن هيغل كان حريصاً ومحقاً في عدم حصره بمعنى ضيق يقيد هذا النظر العميق في أبعاده المختلفة، وجدلية تواصله وتداخله مع “الخير” والأخلاق الميتافيزيقية والمادية، وصعوده وهبوطه ما بين السماء والأرض؛ كمتعلق إلهي يصارع الروح، وكمكون إنساني ينحط بالمادة إلى الدرك الأسفل. فهل “الشر” هو الحرمان، كما قال به البعض، الذي لا يمكن الحصول منه على مزيد من التبصر، ولا يمكن إحراز تقدم نحو حل لمشكلته؟ فقد علمنا أن لهذا، تعمد هيغل أن يذهب لصالح توصيف بناء، أكثر من غيره، إذ ربط “الشر” بشرط التخلي عن المسؤولية، أو التحلل من الالتزام بإملاءات الضمير، أو إغفال أفعال “الروح الجميلة”. نعم، إن “الشر”، بهذا الفهم الهيغلي، هو فعلاً فشل في الالتزام الأخلاقي، وإنكار للمسؤولية، أو القدرة على التصرف، ولكن هيغل أبقى عليه قسراً كضرورة لوجود “الخير”. وفي تقديرنا أن هذا موقف منطقي ومفهوم، يسعى لتمكين الربط بين رؤية “الشر” على أنه مادة غير مفهومة، أي غير عاطفي؛ والنظر إليه على أنه حقيقي وفعال، وهو واقعي وعقلاني. رغم أن هيغل قد اعتبر “الشر”، في أحيان كثيرة، كانحراف غير عقلاني للحقيقة الجوهرية الداخلية للعالم.

بيد أننا نجد أن نظرة هيغل إلى “الشر”، رغم كل الحجج المنطقية، وما أحاطه بها من أسوار فلسقية عالية رفيعة، أنها تفتقر إلى الكمال، وذلك ربما لانشغاله بالتأكيد على “الشر الميتافيزيقي”، باعتبار أنه شر بالمعنى الأخلاقي، أكثر من “الشر الملموس”، الذي حاولت تفسيره والدفاع عنه تيارات مدارس المادية الجدلية فيما بعد أيضاً. وقد تناولنا في استعراضنا عاليه مساهمات أسماء رئيسة في هذا التيارات؛ مثل مكارني، وماكريغر، وحتى حنا اردنت، وسوزان نيمان، الذين اجتهدوا في تجسيد “الشر” بأمثلة مادية تاريخية شاخصة في الذاكرة الإنسانية. ولكن، مما يُحمد لهيغل، في هذا الصدد، أنه لم يخلط بين الضرورة السببية والضرورة المنطقية، ولم ينف ما يمكن أن يكون بينهما من علائق معينة على فهم الظواهر، ومنها ظاهرة “الشر” المادي، الذي وقفت عنده هذه الأصوات الفكرية اليسارية، خاصة عندما يقرر أن إنكار ضرورة “الشر” هو إنكار لضرورة “الخير”، اعترافاً بأن هناك سبب ومنطق لهذه العلاقة بين هذين الضدين.

ونحن نعلم أن إحدى مساهمات هيغل المهمة جداً في الفلسفة هي مفهومه عن “الديالكتيك”، الذي وردت الإشارة إليه في متن وهوامش هذا المقال، والذي صاغه في نظرية تتخلل نظام أفكاره. وشهدنا من خلال هذا الاستعراض لرؤيته لـ”الشر”، أن الديالكتيك يأتي كلما انعكست فكرتان متضاربتان؛ كـ”الخير” و”الشر”، ويستطيع بقدرة خارقة تمييز الوحدة، أو العلاقة، التي تشمل كليهما، مما يؤدي إلى انتاج اتحاد؛ يُطلق عليه مصطلح خاص يعني الإلغاء والحفظ والتجاوز. هذا إذن هو موقع “الديالكتيك” في فكر هيغل، الذي يمكننا عن طريقه الوصول إلى معرفة ميتافيزيقية علمية عن الوجود المادي والمفهوم الأخلاقي لـ”الشر”، وذلك من خلال ملاحظة التناقضات وحركتها الداخلية الضرورية. ونجده يجادل بأن الفحص المنطقي للأفكار يخبرنا أن أي مفهوم يحتوي بالضرورة على أضداده داخله، وتتحرك هذه الأضداد وتنتقل إلى داخل بعضها منتجة حقيقة جديد عكس مكوناتها السابقة، وذلك هو وحدة الاثنين؛ “الخير” و”الشر”، هذه هي سيرورة “الديالكتيك”، وعملية التجاوز هذه حركة ديناميكية، وصيرورة حياة. وبهذا المنطق، يمكننا أن نفهم أنه، بالنسبة لهيغل، فإن “الخير” محدد عقلانياً بالمنطق الداخلي للعالم، وهذا أمر منطقي لكل حالة، أو عملية، اكتملت بالفعل؛ وأن “الشر” كباطل، هو الآخر منطقي، كأي منطق عقلاني، وأن هذا الباطل عاجز عند مواجهة الحقيقة المنطقية، ولكنها لا تنفيه من الوجود.

___________________________

 

  [1] جورج فيلهلم فريدريش هيغل، https://www.goodreads.com/quotes/288872-evil-resides-in-the-very-gaze-which-perceives-evil-all

[2] كوجيف، الكسندر. “مقدمة في محاضرة هيغل”، باريس: غاليمار، 1947. وطبع مقدمة لقراءة هيغل . عبر. جي إتش نيكولز، الابن إيثاكا: مطبعة جامعة كورنيل، 1980.

[3] إد. كلارك بتلر وكريستين سيلر ، “رسائل هيغل”، بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا، 1984.

[4] وأما عن حياته فيقول المؤلف ما معناه: لقد ولد هيغل بتاريخ 27 أغسطس من عام 1770 في عائلة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة لان والده كان موظفاً في الدولة. وبعد أن أنهى دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت دخل إلى كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين، ودرس فيها التاريخ، وفقه اللغة الألمانية، والرياضيات، بصحبة صديقه هولدرلين، الذي سيصبح شاعراً كبيراً فيما بعد. وقد نشأت بينهما علاقة صداقة حميمة وعميقة. وهناك قرأ كتب جان جاك روسو وكانط على ضوء أحداث الثورة الفرنسية. ثم التحق به شاب آخر سوف يصبح فيلسوفاً كبيراً فيما بعد هو شيلنغ. وقد حصل تنافس بينهما أدى إلى نوع من الخصومة وسوء التفاهم. وفي عام 1790 نال هيغل شهادة التبريز في الفلسفة. وبعدئذ أصبح مربي أطفال لدى عائلة غنية في مدينة بيرن بسويسرا. وقد بقي هناك حتى عام 1796.

[5] المعلم الأول هو لقب الفيلسوف والمفكر اليوناني الكبير أرسطو طاليس، وهو من مؤسسي الفلسفة الغربية، وبرز بكتاباته الشاملة في مختلف المجالات كالميتافيزيقيا، والسياسة، واللغويات، والمنطق، والبلاغة، والموسيقى، وعلم الأحياء، والحيوان، والفيزياء. تتلمذ أرسطو على يد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في الحقبة القديمة، ومن أبرز تلامذة أرسطو الإسكندر الكبير، ويشار إلى أنّه قد تأثرت به كوكبة من الفلاسفة والعلماء كابن سينا وبطليموس والفارابي وابن رشد وغيرهم الكثير.

[6] إيمانويل كانط هو فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر. عاش كل حياته في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا. كان آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وأحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية.

[7] في عام 1807 أنهى هيغل تأليف كتابه الشهير (فينومينولوجيا الروح “أو علم تجليات الفكر والروح”. ثم أصبح رئيس تحرير لإحدى الجرائد الألمانية. ولكنهم طردوه من هذا المنصب بعد سنة واحدة لأسباب سياسية. فقد كانت أفكاره ثورية، أو تقدمية أكثر من اللازم. ثم ألّف كتاباً مدرسياً في عدة أجزاء بين عامي 1812و1816، تحت عنوان “علم المنطق”).

[8] ستيفن هولغيت، “مدخل إلى هيغل”، مطبعة وايلي-بلاكويل، نيويورك، 10 أكتوبر 2005. يُعتبر الفيلسوف ستيفن هولغيت أحد المختصين بفكر هيغل والفلسفة الألمانية وهو يقدم هنا مدخلاً ممتازاً إلى فلسفة هيغل.

[9] اسمه الأصلي نابليوني دي بونابرته، هو قائد عسكري وسياسي فرنسي إيطالي الأصل، بزغ نجمه خلال أحداث الثورة الفرنسية، وقاد عدَّة حملات عسكرية ناجحة ضدَّ أعداء فرنسا خِلال حروبها الثورية.

[10] صحيفة البيان، مراجعة كتاب: “مدخل إلى هيغل”، 9 أكتوبر 2020، https://www.albayan.ae/paths/books/2005-10-10-1.983908

[11] كان يوهان گوتليب فيخته فيلسوفاً ألمانياً، وكان أحد مؤسسي الحركة الفلسفية المعروفة باسم المثالية الألمانية، وهي الحركة التي تطورت من الكتابات النظرية والأخلاقية لإمانويل كانت. أثّر على العلوم الألمانية في مجالات الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) وعلم الجمال والفكر الاجتماعي. وكثيراً ما يـُنظر إلى فيخته على أنه الشخص الذي تشكل فلسفته جسراً بين أفكار كل من كانط والمثالي الألماني هيغل. مؤخراً، بدأ الفلاسفة والباحثون في تقدير فيخته كفيلسوف هام في حد ذاته بسبب إجاباته (نظراته المعمقة) الأصيلة في طبيعة الوعي الذاتي أو الوعي بالذات. ومثل ديكارت وكانت قبله، فقد كانت مشكلتا الموضوعية والوعي المحرك الرئيس لتأملاته الفلسفية. وقد كتب فيخته أيضاً فلسفة سياسية، ويعتقد البعض أنه أبو القومية الألمانية.

[12] يوهان فولفغانغ فون غوته ‏ هو أحد أشهر أدباء ألمانيا المتميزين، والذي ترك إرثاً أدبياً وثقافياً ضخماً للمكتبة الألمانية والعالمية، وكان له بالغ الأثر في الحياة الشعرية والأدبية والفلسفية،.

[13] فيلسوف فرنسي. أستاذ جامعة باريس. مدرسة اسكتلندا المنطقية، الفلسفة المثالية الألمانية، وحاولت مواءمتها مع تقاليد الفلسفة الفرنسية. كان أيضاً رائداً في أبحاث التاريخ الفلسفي، ونشر كتباً من قبل ديكارت، باسكال وآخرون، وكتب أيضاً “محاضرة حول فلسفة العصر الحديث” (1841 – 1846.(

[14] وفقاً لهيغل، أن الناس في عصره أكثر عقلانية وأخلاقية وحرية مما كانوا عليه في الماضي. بالقطع هو لا يُجيب بلا، أو نعم، مغلقتين، ولكنه يؤشر أن الإنسانية ما عادت تقبل غير ما يتوافق مع العقلانية والأخلاق والحرية، كما تقبله الناس في السابق، بل صاروا يشجبون كل ما يتناقض مع قناعاتهم الخاصة، ولم يعد لمحاكم التفتيش عن الأفكار والقناعات مكان في العصر الحديث.

[15] إن مسار روح العالم بالنسبة لهيغل يهدف في النهاية إلى تأسيس الدولة، التي تحقق الحرية والسعادة لكل المواطنين بدون استثناء. وفي الدولة تتحقق الحرية بشكل موضوعي. وبالتالي فغاية التاريخ هي الدولة، وغاية الدولة هي الحرية.

[16] هل ينبغي أن نستنتج، أن هيغل، ونظراً لأنه أعطى العناية الإلهية صفة دنيوية تماماً، فلا يمكن أن يكون الحساب النهائي لعمل العناية الإلهية خارج التاريخ نفسه؟

[17] بيتر سي هودجسون، “هيغل واللاهوت المسيحي: قراءة المحاضرات حول فلسفة الدين”، مطبعة جامعة أكسفورد، تاريخ النشر أبريل 2005. https://www.goodreads.com/book/show/2603525-hegel-and-christian-theology

[18] مكارني، جوزيف. هيغل في التاريخ . لندن: روتليدج، 2000.

[19] إتش إس هاريس، “نهاية التاريخ عند هيغل”، في نشرة جمعية هيغل في بريطانيا العظمى 23-24 (1991): 1-14.

[20] إيفا مولدنهاور وكارل ماركوس ميشيل، محرران، “باندون ويركي”، فرانكفورت أم ماين: سوهركامب، 1970، ص 20.

[21] إيفا مولدنهاور وكارل ماركوس ميشيل، محرران، “باندون ويركي”، (12: 539).

[22] المصدر السابق، “باندون ويركي”  (7: 27-28).

[23] فرانسيس فوكوياما، “نهاية التاريخ والرجل الأخير”، نيويورك: المطبعة الحرة، 1992.

[24] هل اعتقد هيغل أن الحرية قد بلغت تمامها في حياته، وفسرتها فلسفته؟ ربما فعل. لقد اعتقد بالتأكيد أن شروط هذا الإنجاز قد وصلت، على الأقل في شكل ناشئ، وإذا كان هذا هو كل ما يعنيه المترجمون بنهاية التاريخ، فليكن. هل كان يعتقد أنه يمكن تحقيق تطورات أخرى في الحرية؟ لا أرى أي سبب يمنع ذلك، خاصة بالنظر إلى تصريحاته القليلة حول تطور التاريخ في الأمريكتين، على سبيل المثال. المصدر السابق، “باندون ويركي”  (12: 32).

[25] ستيفن هولجيت،”مدخل إلى هيغل”، الناشر: بلاك ويل بوبليشر، نيويورك، عام 2005.

[26] بيتر سي هودجسون “هيغل واللاهوت المسيحي: قراءة المحاضرات حول فلسفة الدين، أكسفورد بريطانيا، مطبعة جامعة أكسفورد، عام 2005.

[27] كما في الحضارات الصينية والهندية واليونانية والتأثير المتبادل ما بين الدين والفلسفة والفلسفة والدين حيث الإضافة والحذف والإبتكار والتقليد ولاشك وقبل الديانات الثلاث الأخيرة أن العمق الأوسع لمفهوم الله قد جلبته الديانة الزرادشتية لأن الأخلاق قد شكلت مرتكزا في هذه الديانة فأصبح الله مرادفا للخير والمحبة والسلام.

[28] “الفكرة الهيغلية لمفهوم الدين”،  https://middle-east-online.com/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9-

[29] القرآن الكريم، سورة القيامة: الآية 15.

[30] القرآن الكريم، سورة الحج: الآية ٤٦.

[31] القرآن الكريم، سورة الإنشقاق، الآية: 6.

[32] براهما في الديانة الهندوسية، هو الإله الخالق للعالم ويؤلف مع شيڤا المدمر وڤيشنو الحفيظ، ثالوثاً في محفل الآلهة الهندوسية، وهو فلسفياً تجسيد لبراهمان المطلق، المجرد، المتعالي المنزه عن الصفات، الروح الكونية الخالدة التي تسري في العالم كله، الذي لا بداية له ولا نهاية، ولا حدود لتجلياته، والذي لا يدرك إلا بزوال غشاوة الجهل، وإليه يتوسل حكماء الهندوس للاستغراق في الروح الكونية، وبه يبلغ المتأمل الانعتاق من دورة الحياة والموت.

[33] إن هذا الإختلاف في المفاهيم بين ديانة وأخرى مثل ما بين الوجود الخالص والجوهر، أو المطلق واللامطلق وبين الوعي الجزئي والوعي التام هو بسبب التطورات، التي رافقت تعديل الكثير من المفاهيم ضمن الفلسفات القديمة.

[34] في عام 1795 ألّف أول كتاب له تحت عنوان: “حياة يسوع”، ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم مؤلفات كانط وفيختة في مدينة فرانكفورت بين عامي 1797 – 1800. ثم يردف المؤلف قائلاً: وفي عام 1801 انتقل إلى مدينة “يينا”، التي تحتوي على جامعة مهمة وحيث ان شيلنغ حل محل فيخته كأستاذ جامعي. وهناك انخرط في الكتابة والبحث والمناقشات الفلسفية إلى أقصى حد ممكن. ثم أصبح أستاذاً مساعداً في نفس الجامعة، ولكن راتبه كان ضعيفاً جداً.

[35] هيغل، المحاضرات: (3: 365).

[36] هيغل، المحاضرات: (3: 365)، وراجع (294 ن. 128).

[37] المصدر السابق، المحاضرات: (ص 142).

[38] هيغل، المحاضرات: (3: 198-9).

[39] في محاضرات عام 1827، تمت مناقشة الجانبين بترتيب عكسي. من وجهة نظر موضوع التفكير، يجب أن تصبح فكرة المظهر الإلهي حقيقة موضوعية مؤكدة؛ بينما من وجهة نظر الفكرة، “الوجود الأبدي ‐ في ‐ و‐ من أجل ‐ نفسه هو ما يكشف عن نفسه، يحدد نفسه، يقسم نفسه، يفترض نفسه على أنه ما يميزه عن نفسه، ولكن الفرق في نفس الوقت باستمرار مفصل “(3: 291).

[40] الكتاب المقدس: “في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ.”… (يوحنا 1: 1-13).

[41] القرآن الكريم) :إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، سورة يس – الآية 82.

[42] هيغل، المحاضرات: (3:86، وص: 143).

[43] المصدر السابق، (3: 87-8).

[44] هيغل، المحاضرات: (3: 291–3).

[45] هيغل، المحاضرات: (ص 144).

[46] هيغل، المحاضرات: (3: 292).

[47] إن لغة “الإفراج”، “الفائض”، “التوسع”، إلخ. هي صدى للتقليد الصوفي الألماني. كان لدى هيغل بعض الألفة مع مايستر إيكهارت (انظر 1: 347 ن .166)، وقد يكون استخدام هذا الأخير للاسين والجيلاسين لوصف الإطلاق من المرفقات الدنيوية في الخلفية: الانفصال البشري يعكس الإفراج الإلهي. انظر روبرت فورمان، مايستر إيكهارت: الصوفي اللاهوتي (روكبورت، ماس: العنصر، 1991)، 77-80؛ وأوليفر ديفيز، مايستر إيكهارت: كتابات مختارة (هارموندسوريث: مطبعة بنغوين، 1994، الصفحات من 29-31. تم ذكر يعقوب بوهيم في السياق الحالي، ولكن فقط في إشارة إلى تمييزه بين ابنين، أولهما، لوسيفر، سقط وأصبح العالم الخارجي (3: 293، راجع 200، 289). قد يكون تأثير الكابالا اليهودية محسوساً هنا أيضاً، على الرغم من أنه بالنسبة للكابالا، ليس الإفراج عن الله، أو توسيعه يسمح للعالم بالوجود بحرية واستقلالية بقدر ما هو انسحاب، أو تقلص لله. ربما ينعكس هذا الاختلاف بين التصوف المسيحي واليهودي في نقد عمانوئيل ليفيناس لمجموع هيغلي.

[48] هيغل، المحاضرات: (2: 293).

[49] هيغل، المحاضرات: (3: 293).

[50] إشارة لارتباط هيغل بين المثالية والواقع.

[51] المصدر السابق، (ص 145).

[52] هيغل، المحاضرات: (3: 88-9).

 [53] قد نلاحظ أن هشاشة وشخصية العالم أصبحت في عصرنا موضوعاً علمياً وبيئياً، وكذلك دينياً، (ص 146).

[54] هيغل، المحاضرات: (3: 89-90).

[55] هيغل، المحاضرات: (3: 90).

[56] هيغل، المحاضرات: (3: 293-4).

[57]  3: 294-5 ن. 128- لا يناقش هيغل الطبيعة في حد ذاتها حتى هنا، بل بالأحرى علاقة الطبيعة والروح. “الطبيعة ليست للبشر فقط العالم الخارجي المباشر بل عالم تعرف فيه الإنسانية الله؛ بهذه الطريقة الطبيعة للبشرية وحي الله. بالنسبة لأديان الطبيعة، يظهر الله كقوة طبيعية، لكن مثل هذا التصور لم يعد مناسباً لأديان الروح. يقتبس هيغل أيوب 37: 5 مفادها أن الله لا يُعترف به عندما رعد الله بصوت رعد. “لكي يُعترف بالروح، يجب أن يفعل الله أكثر من الرعد”.

[58]  المصدر السابق، (ص 147).

[59] يقول هيغل في محاضراته عن فلسفة الطبيعة أن الله يكشف عن نفسه بطريقتين، كطبيعة وروح، وأن “كلا التجليتين هما معابد الله”، التي تمتلئ بالحضور الإلهي. الهدف من فلسفة الطبيعة هو تحقيق تحرير الطبيعة من خلال اكتشاف وجود العقل والروح فيها. “الحجارة نفسها تصرخ وترفع نفسها إلى الروح”. يجب تحرير الطبيعة من عبوديتها إلى الخارج، من ميلها نحو التفرد (أو العزلة) والفوضى (الروح في الطبيعة هي “إله غير مقيد وغير مراعٍ لنفسه”). إن الانسحاب الخارجي المتفتت للقوى الطبيعية يقاومه السحب الداخلي الموحّد للروح. انظر موسوعة العلوم الفلسفية، 246–8 الإضافات (فلسفة هيغل للطبيعة، ميلر، مطبعة كلارندن: أوكسفورد، (1970، 13، 14-16، 18-19). لا توجد هذه التلميحات إلى روحانية الطبيعة في نص الموسوعة، ولكن في إضافات من ملاحظات محاضرات الطلاب. لأول مرة يتم نشر نسخ من محاضرات الموسوعة حول فلسفة الطبيعة.

[60]  هيغل، المحاضرات: (3: 92-5).

[61] المصدر السابق: (ص 148).

[62] حول الإشارة المحتملة هنا إلى تعريف فريدريش شلايرماخر للدين على أنه “شعور بالاعتماد”، انظر 3: 93 ن. 93.

[63] للتمثيل عللى ذلك، نقول: إن الزرادشتية قد أدارت ظهرها لمفهوم الجوهر وأحيت مفهوم التضاد فوجود “الخير” يعني وجود النقيض له وهو “الشر” وغيرها من التضادات، التي هيأت للصراع الفلسفي، والذي هو في حقيقته لدى العامة بأنه صراع الروح صراع باطنها للإستغاثة بالمنقذ الحقيقي والتوجه بصفاء تجاه أسرار الكون.

[64] هيغل، المحاضرات: (3: 102-3).

[65] دايل، إريك مايكل وماكلاشلان تورسين، محرران، “هيغل، “الشر”، ونهاية التاريخ. في التاريخ والحكم”، مؤتمر الزملاء الزائرين، فيينا: المجلد 21، 2006.

[66] تختلف معاني “الثيوديسيا” وفقاً لمقتضيات استعمالها، فهي تارة نظرية العَدالةُ الإلهيَّة، أو عِلْمُ تَبْرِير العَدالَةِ الإلهِيَّة، أو إثْبات العَدالَةِ الإلهِيَّة، وتعتبر فرعاً محدداً من الثيولوجيا والفلسفة يهتم بحل مشكلة “الشر”. ويعني تبرير الله؛ للإجابة على سؤال لماذا يسمح الله “الخير” بمظهر “الشر”، وبالتالي، حل مشكلة “الشر”.

[67] ويركي، (35: 1)، وبالنسبة لمفهوم إنجلز بأن هيغل “شعر بأنه مضطر لإنهاء “العملية التاريخية”، انظر كتاب إنجلز “لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية ،” ويرك 21: 267 وما يليها. ماركس، الغريب، لا إلى هذا الاستنتاج من فكر هيغل (ماركس واثق تماما التاريخ كان يسير في تخطي هيغل كحركة الحرية)، على الرغم من أنه من المهم لتفسير إنجلز من مكان هيغل في الفكر الألماني.

[68] هيغل، المحاضرات: (ويركي 12:28).

[69] بسبة للقديس أغسطينوس، الذي كان كاتباً وفيلسوفاً من أصل نوميدي-لاتيني ولد في طاغاست. يعد أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية. تعدّه الكنيستان الكاثوليكية والأنغليكانية قديسا وأحد آباء الكنيسة البارزين وشفيع المسلك الرهباني الأوغسطيني.

[70] “الشر” أكبر من هذا بالنسبة لهيغل بالطبع. يتم شرحه بشكل أساسي من حيث المعرفة والاغتراب في فلسفة الدين ( VPR 228-33)، على سبيل المثال. لكن تأكيد هيغل على الواقعية التاريخية الواقعية في محاضرات التاريخ يقوده بعيداً عن التفسيرات الأكثر تجريداً.

[71] ضمن هذا المنظور الهيغلي الواسع يصبح للشر معنى ولا يعود شيئاً عبثياً، أو اعتباطياً، أو شاذاً. وإنما يصبح شيئاً ضرورياً لتحقيق التقدم في التاريخ. هذه هي فلسفة التاريخ العريضة لهيغل، وهي فلسفة جديرة بالتمعن والاهتمام لأنها تنطبق على الواقع العربي والإسلامي اليوم إذا ما أحسنا فهمها وتطبيقها VG)  48).

[72] إذا كان العقل يحكم العالم ويتجسد في التاريخ إلا أن المظهر السطحي للتاريخ يوحي لنا بأنه فوضى، أو جنون، أو عنف أعمى لا غاية له ولا عقلانية. ولذا فينبغي علينا أن نفرق بين التاريخ العميق، أو الحقيقي، والتاريخ الظاهري السطحي. و”الشر” في نظر هيغل ليس كله شراً. فلولاه لما اكتشف الناس، الذين يصنعون التاريخ معنى “الخير” VG) 49).

[73]هيغل و”الشر” ونهاية التاريخ”، مؤتمر مايكل-ديل iwm، المجلد 20، 9 نزفمبر 2009، ص 5.

[74] بالنسبة لهيغل فإن الله خالق التاريخ الكوني، أو تاريخ العالم،,لا يهتم بالأشخاص الفرديين، وإنما يهتم بالفرد الكوني، أي بالشعب ككل، وبروح هذا الشعب. وهذا ما يمكن أن ندعوه الآن بخصوصية الشعب الألماني، أو الفرنسي، أو العربي الإسلامي (ويرك 16: 192).

[75] فريدريش ڤلهلم نيتشه فيلسوف وعالم لغويات ألماني. ولد في روكن قرب مدينة لايپزيگ بپروسيا يوم عيد الملك فريدريش ڤلهلم الرابع، فسمي باسمه ومات في ڤايمار. وهو من أسرة من القساوسة، لكنه كان شديد الإلحاد فجعله محور كتاباته، تيتم باكراً من والده، فتولّت تربيته نسوة العائلة اللاتي أسرفن في تدليله وملاطفته، فقد قضى طفولة سعيدة، وكان تلميذاً مهذباً صادقاً مطواعاً حتى أطلق عليه اسم القسيس الصغير، أرادته أمه قسّاً كأبيه فالتحق وهو في الثانية عشرة من عمره بمدرسة بفورتا، لكنه عدل عن ذلك بعد أن فقد إيمانه في الثامنة عشرة من عمره، فمّر بمرحلة من الشك والتشتت، خرج منها بالتحاقه بجامعة بون ثم بجامعة لايپزيگ 1864-1869.

[76] تشارلز تايلور، “هيغل والمجتمع الحديث”،مطبعة جامعة كيمبردج، 1979، ص 39.

[77] كما أنه ليس تأريخ ويليام ديزموند الإلهي، على الرغم من أن ديزموند محق في الإشارة إلى أن الكشف عن الذات عن الله في / باعتباره التاريخ يخلق مشاكل خطيرة بالنسبة إلى اعتبار هيغل للشر (2003: 143-5).

[78] في رأي هيغل كان التاريخ عقلانياً وسيبقى على الرغم من كل المظاهر الخادعة، والتي تقول العكس. والتاريخ لا يمكن أن يفهمه إلا عقل الفيلسوف. كان هيغل يقول بالحرف الواحد: ينبغي أن ننظر إلى التاريخ بعين العقل، التي هي وحدها القادرة على اختراق السطح المبرقش للأحداث اليومية. فالتاريخ، طبقاَ لتصورات هيغل، يسير باتجاه هدف معين يدعوه فلسفياً بالفكرة العليا، أو الروح المطلقة: أي الوعي بالذات، هذا الوعي، الذي يجعل الإنسان حراً. التاريخ يمشي في اتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق، والحرية. هذا هو هدف التاريخ النهائي والأخير. إنه يهدف إلى تحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم المادي والمعنوي؛ على سبيل المثال VG) 29).

[79] جاك دريدا، “علم النحو”، باريس: مطبعة المساء، 1967: ص 41.

[80] هيغل، المحاضرات: (3: 202–5).

[81] إن هناك ديانات احتفظت بخصائص ديانات أخرى وهناك ديانات طورت من خصائص ديانات كما هو الحال بين الديانتين المصرية والسورية بعد أن أخذت الفلسفة البدائية مأخذها من بعض الديانات وفعلت الأساطير الأولية فعلها في رسم مشاهد “الشر” والإنتقام والغاية والوسيلة.

[82] هيغل، المحاضرات: (3: 295–300).

[83] المصدر السابق، (ص 149).

[84]  هيغل، المحاضرات: (3: 96-9).

[85] فريدريش شليغل، هو كاتب وشاعر وناقد ألماني. ولد عام 1772 في مدينة هانوفر، ومات عام 1829 في مدينة درسدن. درس فريدريش شليجل منذ عام 1793 الحقوق واللغات القديمة. ويعتبر المنظر الحقيقي للرومانسيين الأوائل. وقد استطاع شليجل أن يطور العديد من الأفكار وأسس مع شقيقه أوجوست فلهلم شليجل مجلة أتينيوم.

[86] ولد الفيلسوف الألماني فريدريك فيلهلم جوزيف فون شيلنغk في 27 يناير 1775، بليونبرغ من إقليم فورتمبرغ. درس اللاهوت في المدرسة الإكليركية بتوبنغن رفقة كلّ من هيغل، وهولدرلن، ثمّ تحوّل إلى جامعة ليبزغ ليدرس العلوم الطبيعيّة. تأثّر في البداية بالمثاليّة الكانطيّة وتجلّى ذلك في كتاباته الأولى ومنها: “في إمكان صورة للفلسفة بوجه عام” (1795)، “في الأنا مبدأً للفلسفة” (1795)، رسائل فلسفيّة حول الوثوقيّة والنقديّة” (1796). ثمّ تأثّر بكانط وفيخته وسبينوزا. نال درجة الدكتوراه سنة 1795، وعين أستاذاً للفلسفة في جامعة يينا سنة 1798، إلى جانب فيخته، وساهم مع هيغل في إصدار مجلة فلسفية. واهتمّ بمباحث الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعيّة.

[87] انظر: فريدريك شليغل،(3: 97 ن. 99)، عن لغة الهنود وحكمتهم: مساهمة في تأسيس العصور القديمة (هايدلبرغ، 1808)، 295، 303؛ وشيلينغ، في الدراسات الجامعية (1803)، العابرة. ومورغان، في (أثينا، أوهايو: مطبعة جامعة أوهايو، 1966)، 83. وأنظر المصدر السابق، (ص 150).

[88]  3: 100 ن. 106- في مقابل قبول روسو لخير الطبيعة البشرية، أكد كانط وجود “الشر” الراديكالي في الإنسانية، على الرغم من أنه يعتقد أن نواة “الخير” الأصلية يمكن أن تستيقظ من خلال الالتزام بالقانون الأخلاقي. وحول الإشارة المحتملة هنا إلى تعريف فريدريش شلايرماخر للدين على أنه “شعور بالاعتماد”، انظر 3: 93 ن. 93.

[89]  3: 100 ن. 107- عُرف نظام التعليم هذا باسم “العمل “الخير”ي”. انتقد هيغل لها تأثر بفريدريك إيمانويل نيتهامر.

[90] هيغل، المحاضرات: (3: 101).

[91] هيغل، المحاضرات: (3: 104–7).

[92] المصدر السابق، (ص 151).

[93] هكذا في 1821 و1824 و1827 يعامل هيغل قصة السقوط في سياق الدين المسيحي. ولكن في محاضرات عام 1831، أصبح جزءاً من مناقشة الدين اليهودي، الذي يصور الآن على أنه دين الصالح (2: 739–41، انظر رقم 64).

[94] هيغل، المحاضرات: (3: 208).

[95] هيغل، المحاضرات: (3: 302).

[96] لا تستخدم فئة “الخطيئة” بشكل متكرر في هذه المحاضرات مثل فئة “الشر”. في حين أن “الشر” هو فئة أكثر فلسفية و”الخطيئة” أكثر لاهوتية، يمكنني تمييز التمييز قليلاً بين المصطلحات، التي يستخدمها هيغل. ينطبق “الشر” على البشر، وليس على الطبيعة. إن طبيعة الطبيعة وخصائصها الخارجية وفردها ليست شريرة في حد ذاتها، ولكنها تصبح شريرة عندما يلتهم البشر أنفسهم وفقاً لذلك.

[97] هيغل، المحاضرات: (3: 101–3).

[98] المصدر السابق، (ص .152).

[99] هيغل، المحاضرات: (3: 205–6).

[100] 3: 206. تُدرج النسخة الإنجليزية “الواقع” بدلاً من “الحقيقة” بين قوسين بعد “الهدف”، وتُترجم ” بيتراشتونغ ” على أنها “عقلانية”. انظر البديل إلى الجملتين الأخيرتين اللتين أرسلهما هوثو (3: 206 ن .115)، حيث يصور الانفصال على أنه “الكأس المسموم، الذي يشرب منه الموت والمضمون”. إن المقارنة ضمنية مع الكأس، التي تمنح الحياة، التي تأتي بها الخلاص.

[101] المصدر السابق، (ص 153).

[102] هيغل، المحاضرات: (3: 301-10).

[103] هيغل، المحاضرات: (3: 301).

[104] هيغل، المحاضرات: (3: 304–5).

[105] هيغل، المحاضرات: (3: 305-10).

[106] المصدر السابق، (ص 154).

[107] يساعد القلق على هذا الانتقال في تفسير سبب معالجة محاضرات عام 1827 لموضوعات المعرفة والغربة و”الشر” بعد ملخص قصة السقوط وليس قبلها، كما هو الحال في المحاضرات السابقة. يتبع عرضنا ترتيب محاضرات 1827. انظر 3: 300 ن. 138.

[108] ديفيد ماكريغور، “مشكلة “الشر””، مسودة محاضرة، جمعية ماركس والفلسفة، مؤتمر جو مكارني التذكاري، في مختبر المعرفة بلندن، 23-29 شارع إميرالد، لندن WC1، 26 أكتوبر 2008.

[109] جوزيف ماكارني، “”الشر” في الفكر الحديث: تاريخ بديل للفلسفة”، أوكسفورد، ومطبعة جامعة برينستون، عام 2002، ص 93.

[110] غوتفريد فيلهيلم لايبنتز. هو فيلسوف وعالم طبيعة وعالم رياضيات ودبلوماسي ومكتبي ومحام ألماني الجنسية. يشغل لايبنتز موقعاً هاماً في تاريخ الرياضيات وتاريخ الفلسفة. أسس لايبنتز علم التفاضل والتكامل الرياضياتي بشكل مستقل عن إسحاق نيوتن، كما أن رموزه الرياضياتية ما زالت تستخدم بشكل شائع منذ أن تم نشرها والتعريف بها.

[111] مكارني، المرجع السابق، (ص 197).

[112] مكارني، المرجع السابق، (ص 199).

[113] كانت حنة آرنت من أبرز علماء الاجتماع، ومنظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل ألماني. على الرغم من أنه كثيرا ما وُصفت بالفيلسوفة، فإنها كانت دائما ترفض هذا الوصف على أساس أن الفلسفة تتعاطى مع “الإنسان في صيغة المفرد.” وبدلا عن ذلك وصفت نفسها بالمنظرة السياسية لأن عملها يركز على كون “البشر، لا الإنسان الفرد، يعيشون على الأرض ويسكنون العال”.

[114] أحمد زعزع، ترجمة، “أيخمان في القدس: تفاهة “الشر””، الصادر، بنسخته العربية، عن “دار الساقي” في بيروت، في طبعة أولى، عام 2018. وفي هذا الكتاب، تُثير حنّة أرندت، مسألة “محاكمة أدولف أيخمان” في المحكمة، التي نُظِّمت لهذه الغاية في مدينة القدس، لمعاقبته على دوره في تحقيق “المحرقة اليهودية”، المتمثّلة بـ”الإبادة” النازية لليهود.

[115] سوزان نيمان، أستاذة الفلسفة السابقة ومديرة منتدى إينشتاين في بوتسدام، بألمانيا، تطرح في كتابها “”الشر” في الفكر المعاصر تاريخ بديل للفلسفة” فكرة أن “الشر” يمثل مشكلة لاهوتية وعقلية في جوهر تاريخ الفلسفة المعاصرة، ومن المستحيل التخلص من هذه المشكلة، أو إيجاد حل جوهري لها. وتؤكد أن هذه المشكلة كانت المحور المركزي للفلسفة منذ القرن السابع عشر، التي كانت موجهة من جانب الحاجة إلى إيجاد معنى للعالم، الذي عجز عن فهم “الشر” الطبيعي والأخلاقي بسبب فشلنا نحن البشر في إيجاد تفسير منطقي له.

[116] ترى نيمان أن لايبتنز كان يعتقد أن عالمنا أفضل العوالم على الإطلاق، بينما يقول هيغل إن الواقع سيبرهن على عقلانيته في خاتمة المطاف، ويقف بذلك إلى جانب الفيلسوف الألماني كانط، الذي أظهر أن أفضل إدراكاتنا عن واقع هذا الكون تنهل من معرفتنا الحساسة للشر، في حين نعت نيتشة محاولات البشر لايجاد معنى مترابط للشر جبناً أخلاقياً.

[117]سوزان نيمان، “”الشر” في الفكر المعاصر تاريخ بديل للفلسفة”، كلاسيكيات برينستون، مطبعة جامعة برينستون، 25 أغسطس 2015، ص 261.

[118] مكارني، المرجع السابق، (ص 203).

[119] القرآن الكريم، سورة الشمش، الآيات: 7-10.

[120] في رواية البيهقي، بسند ضعيف: (قالوا وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ:  رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه، وقد روياه جميعاً عن جابر كذا في كشف الخفاء.

[121] أنظر سوزان نيمان، “”الشر” في الفكر المعاصر تاريخ بديل للفلسفة”، ص 86-96.

[122] روى البخاري، عن حذيفة بن اليمان قال: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني فقلت: يا رسول الله إنَّا كنَّا في جاهلية وشرّ فجاءَنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَنٌ. قلت: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يهدُون بغير هديِي تعرفُ منهم وتُنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دُعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذَفُوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. فقال: هم من جِلدَتنا ويتكلَّمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن تعضَّ بأصل شجرةٍ حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك”.

[123]  بيتر سي هودجسون، محرر، “محاضرات في فلسفة الدين”، محاضرات عام 1827، طبعة من مجلد واحد، مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1988.

[124] ناقش ديفيد ماكغريغور، أولاً، مفهوم “”الشر” الملموس” في “السياسة العميقة في 11 سبتمبر: الاقتصاد السياسي للشر الخرساني”، في مواجهة 9-11، إيديولوجيات العرق، مع الاقتصادي البارز بول زارمبكا، “البحث في الاقتصاد السياسي”، المجلد 20، أد.، حقوق الطبع والنشر لشركة Elsevier Science Ltd، عام 2002، ص 3-60.

[125] نيسبت، “محاضرات في فلسفة تاريخ العالم”، مقدمة: السبب في التاريخ، كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج، 1975، ص 21.

[126] مارتن هايدجر، “الهوية والاختلاف”، نسكي بولينغتون، عام 1957، ص 64.
_________

*الصادق الفقيه: دبلوماسي سوداني، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، عمان، الأردن.
** الأربعاء 11 نوفمبر 2020  القاهرة، جمهورية مصر العربية.

جديدنا