محاضرة العروي؛ هل هي إعلان عن مراجعة منهجية؟

image_pdf

– تمهيد لا بد منه

 رغم كوني جابري المنهج، أؤمن بالقطيعة الابستملوجية مع التراث، وتأصيل الحداثة من داخل النموذج/البراديغم المعرفي العربي الإسلامي، فإني أتقاطع مع منهج العروي و لا أعتبره نقيضا لمنهج الجابري. كلا المنهجين يمتحان من نفس المشارب البرهانية تراثيا، و نفس المشارب العقلانية  حداثيا، الاختلاف يوجد في الممارسة التأويلية حيث يؤول الجابري من منظور ابستملوجي فتغلب المقاربة البنيوية التكوينية، و يؤول العروي من منظور تاريخي فتغلب المقاربة التاريخانية.

 هذا التكامل المنهجي، بين النموذجين، يمتد عميقا في التربة النهضوية. فقد تمكن الفكر العربي المعاصر، في اتجاهه العقلاني، من تأسيس أصالته العلمية عبر الارتباط بالتصور الإشكالي الذي طرحه الفكر الإصلاحي النهضوي، في بعده البرهاني، و خصوصا ما يتعلق بالمقاربة المعرفية التي تربط الخلل في الواقع، السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي، بالخلل الذي يعتري آليات التفكير و التصور.

لماذا هذا التمهيد ؟

-استحضار روح ابن خلدون بيننا

 بمدرج ابن خلدون في كلية الآداب في الرباط يوم الأربعاء 8 يناير/ كانون الثاني 2020 قدم المفكر عبد الله العروي درسا افتتاحيا بمناسبة تأسيس كرسي في الكلية يحمل اسمه، بمبادرة من جامعة محمد الخامس في الرباط ومعهد العالم العربي في باريس.

لقد كان مثيرا استحضار العروي، في محاضرته الأخيرة، لروح ابن خلدون بتلك الشحنة العاطفية المنفجرة من الأعماق، و التي تصلح كومضة شذرية مضمخة بالنيتشوية ! و الأكثر إثارة تفاعل الجمهور، بالتصفيق، و كأنه قد أصيب بعدوى اللحظة ! و من خلال التفاعل مع هذه اللحظة العاطفية، أكاد أجزم أن العروي كان يستحضر، من خلال ابن خلدون، أرواح رموز برهانية الغرب الإسلامي !

هل كان ذلك الاستحضار إشارة إلى تحول في التصور الفكري، لدى العروي، من ضفة القطيعة إلى ضفة القطيعة الابستملوجية مع التراث؟ هل استيقظ العروي، متأخرا، من غفوته الفكرية، ليجد أن تأسيس الحداثة، في التربة العربية الإسلامية، أكبر من أن يرتبط بليبرالية القرنين السابع عشر و الثامن عشر الأوربيين ؟ثم لماذا استحضار التجربة الآسيوية، في نفس السياق الخلدوني، أليس ذلك تعبيرا عن وعي طارئ، لدى العروي، بأن سر نجاح هذه التجربة يرجع إلى تأصيل الحداثة من داخل نموذجها المعرفي الخاص؟

-بين العمران و الطباعة

انطلق العروي من نظرية ابن خلدون، حول العمران في علاقته بالتدوين، ليصل إلى كون تطور التدوين إلى طباعة هو نقطة التحول في الحضارة الأوربية، و يستدرك العروي معتبرا أن السر في اندماج الآسيويين ضمن النموذج الحداثي، يعود إلى اكتشافهم السابق للطباعة.هذه المقدمات المنطقية التي ينطلق منها العروي، تفضي إلى مجموعة من النتائج:

-التأخر التاريخي الذي يعانيه النموذج الحضاري العربي الإسلامي، يعود إلى فشل العرب في تطوير نموذج التدوين التقليدي إلى نموذج الطباعة الحديث.

-هذا الفشل أدى إلى انحسار الرأسمال الثقافي ضمن مجال ضيق تحتكره «الخاصة» قي مقابل مجال عام شاسع يضم «العامة».

-هذا المجال العام الشاسع الذي ترك مشاعا للعامة، كان بمثابة التربة الخصبة التي زُرعت فيها بذور التقليد، فنبتت و ترعرعت إلى أن تحولت إلى انحطاط شامل وسم عصرا بكامله «عصر الانحطاط».

انطلاقا من هذه النتائج يمكن أن نتساءل:

-هل تقاطع العروي، متأخرا، مع أطروحة الجابري، حول الدعوة إلى عصر تدوين جديد ؟

-إذا كانت دعوة الجابري ذات طبيعة معرفية، تقوم على أساس القطيعة الابستملوجية، فهل ستكون دعوة العروي ذات طبيعة تاريخانية تقوم على أساس القطيعة ؟

-كيف يمكن التأسيس لعصر تدوين جديد، من منظور القطيعة ؟ هل يمكن تحقيق الانتقال من عقلية التدوين التقليدي إلى عقلية الطباعة الحديثة من خارج النموذج المعرفي الخاص ؟

-كفاءة النموذج المعرفي التراثي البرهاني

أقر العروي بكفاءة النموذج المعرفي التراثي البرهاني، من خلال ابن خلدون، في الإلمام بالإشكالية الحضارية العربية الإسلامية. فقد اعتبر ابن خلدون أن «التدوين» كانتقال من الثقافة الشفوية إلى الثقافة المكتوبة شرط أساسي لتأسيس العمران .مشكل التأخر التاريخي الذي نعيشه، إذن، لا يتحمل مسؤوليته أسلافنا، و لكن نتحمل نحن العرب المعاصرون كامل مسؤوليته.

كيف ذلك؟

-من جهة، لم نستوعب، جيدا، الإشكالية التراثية، لأننا كنا مهووسين بمنهج الاستشراق الذي جلبه الاستعمار.

-هذا القصور في الإلمام بكفاءة منجزنا المنهجي التراثي، جعلنا نسقط في شرك الأطروحة الاستعمارية القائمة على الأور-مركزية.

-هذا السقوط في شرك الأور-مركزية أدى بنا إلى ادعاء إمكانية تحقيق قطيعة مع نسقنا المعرفي، و القفز إلى النسق المعرفي الأوربي.

-الحصيلة، تأخر تاريخي شامل لا علاج له، كما نجح العلاج في التجربة الألمانية، نتيجة الانفصال عن نموذجنا المعرفي.

إقرار العروي بكفاءة النموذج التراثي البرهاني، في الإلمام بالإشكالية الحضارية العربية الإسلامية، ليس كلاما إنشائيا عابرا -كما عهدنا العروي مفكرا أصيلا و ملتزما- بل هو وعي معرفي عميق، نرجو أن يبلوره في بناء تصور منهجي بديل، يساعدنا على الخروج من تأخرنا التاريخي الذي تطور إلى أزمة حضارية خانقة .

_______
*د.إدريس جنداري- باحث.

جديدنا