عسر المواطنة وأزمة المدرسة المغربيَّة

image_pdf

تقديم

لا يخفى أنّ التفكير في المدرسة أمسى جزءًا مهمًّا من انشغالات المجتمعات البشرية اليوم. ولا غرابة في الأمر؛ لأنّ المدرسة، ومنذ فجر العصر الحديث على الخصوص، كانت تُعقد عليها آمال كبرى في إنجاز التحوّل التاريخيّ العظيم؛ إذ بدا أنّ بعض المجتمعات الرائدة قد راهنت على ”المدرسة الحديثة” لتحقيق غاياتها المنشودة، وترسيخ مثلها العليا، سواء في هذا تلك المجتمعات التي عرفت قطائع كبرى في تاريخها مثل إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، أو فرنسا بوجه خاص_ بعد ثورة صيف 1789_ التي راهنت على المدرسة العمومية من أجل إرساء قيم الجمهورية، أو تلك المجتمعات التي كانت المدرسة في تَصوُّرها رافعة للتحديث، ومنتجة للنخب التي سميت ”نخبا وطنية”، وهذا شأن المجتمعات التي مرَّت من تجربة الاستعمار؛ مثل المغرب(الحماية) وغيره من الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكيا الجنوبية. وقل الشيء نفسه عن الدول الإسكندينافية التي رفعت، في أوج ازدهارها الاقتصادي، شعار ”المدرسة للجميع”، وكانت تنظر إلى المدرسة نظرة الأداة الفعالة الكفيلة بالحدّ من التفاوتات الطبقية في مجتمعات دول الشمال، إذ كان الهدف من التّمدرس -بحسب أحد الخبراء- “هو تطوير العدالة الاجتماعية، والإنصاف، وتكافؤ الفرص، والديمقراطيا التشاركية، والإدماج، من حيث إنّ هذه الأمورَ كانت تُعتبر قيما محورية في منظور التفكير الذي يخص دولة الرّفاه الشمالية”[1]. أما بعضُ مجتمعات اليوم المتقدِّمة_مثل اليابان_ فإنَّ رهانها على المدرسة يرقى إلى مستوى الرغبة في ”غزو المستقل” The conquest of the future.  

يبدو أنَّ دول المعمورة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، قد جربت طريقة أخرى لخوض غمار الحرب، أو لنقل إنها اختارت دخول ميدان آخر للحرب هو ميدان التربية والتعليم. فقد أمست الدول تأخذ المدرسة على محمل الجد، وتُجنّد إمكاناتها من أجل توفير نظام تربويّ تنافسيّ يحظى بثقةٍ دولية لا محلية فحسب. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّ الأمر بالفعل يتعلَّق بحرب حقيقية تَجنّد لها السّاسة والخبراء والمدرسون، والمجتمع على حد سواء.  وأنّ أهمّ سلاح اكتُشف في العصر الحديث لهو التربية. ولأنّ المدرسة هي الفضاء الذي يتم فيه هذا الفعل الروحيّ الجليل_التربية_فإنها أضحت مدار نقاش متشعِّب ومتجدِّد باستمرار.

 لن نهتم في هذه المقالة بالأبعاد البيداغوجية والديداكتيكية لفعل التربية، ولن ينصبَّ حديثا على الشأن المنهاجيّ الذي يلازمها؛ إذ لا يتعلّق الأمر هنا بالحديث المدرسيّ عن المدرسة، ولا بالعلم المتخصّص في شؤونها، وإنما يتعلق بالإسهام في إنارة بعض مناطق العتمة المرتبطة بمنزلة المدرسة ذاتها في المجتمع، ووضعها في سياق التحولات التاريخية التي يعرفها، وكذلك الارتباطات التي تقيمها مع أسئلة التفكير (الفهم) والمواطنة والتربية عليها. بحيث إنّ الأسئلة إيّاها ذات بعد فلسفيّ في المقام الأول، وذات بعد تاريخيّ في المقام الثاني. وهكذا سيتوزع حديثنا إلى أربعة محاور سوف نُعنى  في الأول منها بتِبيانِ النحو الذي ترتبط به المدرسة بالحداثة، وفي الثاني ننظر في وجه الأزمة التي مسّت الثقافة المدرسية، وفي المحور الثالث نقف  على المعنى الذي ينبغي أن يكتسيه مفهوم ”الفهم” داخل سياق الفعل والخطاب التربوييّن. وأما المحور الأخير فسنوجه فيه عنايتنا صوبَ مفهوم ”المواطنة”، بغرض توضيح معناه، ووضعه في إطاره التاريخيّ كما عُرف في التجربة الغربية تحديدا.  

أولا:  المدرسة بنتُ الحداثة

إنّ أوجه تميّز الإنسان عن الموجودات الأخرى كثيرة، لكن أخصّ وجه عُرف به قُدرتُه اللامتناهية على التّعلُّم؛ إذ أتاحت له هذه القدرة الأصيلة فيه نقلَ الثقافة إلى الأجيال اللاحقة، وضمان الاستمرارية لما هو رمزيّ وروحيّ. وقد تمكّن الإنسان من تطوير ملكاته الفكريّة عبر التاريخ، بفعل الحرص على عملية التعلم والعناية بالتعليم، ونقل المهارات بين أفراد جنسه. حتى إنّنا إذا قلنا إن التعلم هو المقوّم الأساس في تحديد كينونة الإنسان من جهة ما هو كذلك، لا العقل أو النطق فحسب، لم نخطئ التعبير.  غير أنّ هذا التّعلُّم عرف تحولات كبرى، وأطوارا مختلفة، وقطائع مهمّة في تصوّر معناه وآلياته ورهاناته. وما يهمّنا منها هو المعنى الذي يتضمنه مفهوم ”التمدرس” schooling))، في إطار النقاش المعاصر الذي مداره على مكون مركزيّ في حياة المجتمعات المعاصرة، عنينا به المدرسة على وجه التحديد.  

المدرسة، بالمعنى الذي تسمل به حديثا في الخطاب التربويّ، بنتُ الحداثة وصنيعتُها؛ قَصَدنَا الحقبةَ التاريخية التي وقع فيها انقلابٌ في تصور معنى الوجود البشريّ، وعلاقته مع الطبيعة والإله؛ إذ صار الزمان ”ثابتًا رمزيًّا” أو مرجعا يؤطر وجود الإنسان عمومًا. حدث ذلك في القرن السابع عشر حين كفّ الإنسان عن تعريف نفسه بالرجوع إلى الماضي أو بالاستناد على العرق، والأساطير، والأحداث المرجعيّة المؤسِّسة للسّردية الثقافية الجمعيّة؛ مثل الاصطفاء الإلهي، والنزوح، والهجرات الجماعية، والفياضات، إلخ. لقد أضحى الإنسان الحديث لا يدرك هويته إلا من زاوية أنه موجود هنا والآن، أي أنه يتعرف على نفسه من منطلق قدرته على إثبات ذاته، ولسان حاله يقول: ”أنا كائن” في هذا الزمان الحاضر، وهو زمان جديد لم يُسبق إليه، ولكنه زمان تاريخيّ؛ أي أنه دنيويّ متناهٍ شأنه في ذلك شأن الإنسان. أدرك الإنسان تاريخيّته؛ فطفق يستجمع قواه باحثا عن الخلود من خلال أعماله وآثاره المجيدة التي تستحق الذكر.

لا يمكن تَصوّر المدرسة اليوم خارج نطاق هذا العصر الجديد الذي أوصلنا اليوم إلى كل أشكال ”الما بعد” المعروفة، والقادمة (ما بعد الحداثة، ما بعد الميتافيزيقا، ما بعد الإنسان،إلخ)، ولا يمكن تصور دورها بعيدا عن هذه  اللحظة التاريخية التي صار فيها الإنسان يعي تمام الوعي أنه قائم  بأمر نفسه، ويدرك أنّ في وسعه اصطناع تاريخ خاصّ به، رهانُه السعي الدائم إلى تحسين شروط وجود الجنس البشريّ على وجه الإجمال. وذلك من خلال التحكم في الطبيعة باستعمال العلم والتقنية. وبما أنّ الحداثة حركة توليد الأسئلة وكشف الحدود والمفارقات الثاوية في تضاعيف كينونة الإنسان نفسها[2]، فإنّ المدرسة لم  تكن، هي بدورها، في منأى عن هذه الحركة؛ لأنها صارت  سؤالا حقيقيا يتبوأ صدارة الأسئلة الاجتماعية الكبرى، وذلك لأجل أنها لم توجد في المجتمع الحديث إلا  لأنّ لها مكانة روحية تتمثل في صناعة إنسان جديد؛ تُعقد عليه آمال الدفع بشروط الوجود الإنسانيّ نحو الأفضل.

من أجل ذلك، لزم أن تتوفر المدرسة على مناخٍ يستطيع فيه ”الإنسان الجديد” المنشود أن ينمو ويزدهر، ويحقق الغاية التي حُسِب أنه وُجِد من أجلها. ولعلَّ في وسعنا تقرير أنّ أبا الحداثة نفسه، عنينا به رونيه ديكارت (1650_1596)، يدين بالكثير للمدرسة. إذ إنه وجد في الصبا مناخا هيأ له شروط تَفتّق كينونته المبدعة. بمعنى أنه في أوروبا التي مزّقها مناخ ”حروب الدين” التي ما زالت لم تضع أوزارها بعد، وجد ملجأ في المدرسة اليسوعية الشهيرة لافليش التي أُرسِل إليها بمعية أخيه الأكبر [3] سنة 1606، كان ذلك بعد سنتين انصرمتا على تأسيسها من لدن الملك الفرنسي هنري الرابع في عام 1604. لقد عبّر الفيلسوف رونيه ديكارت عن ابتهاجه الكبير من المناخ الذي ساد المدرسة، والتي أُسِّست في الأصل من أجل تهييء رجالات الدولة، أو بتعبير العصر ”الموظفين الحكوميّين”. وبصرف النظر عن نوع التعليم السائد فيها، فإنّ ما بدا مثيرا للاهتمام هو الطريقة التي كانت تدار بها شؤون المدرسة، إذ كان القيّمون عليها حريصين على معاملة الطلاب معاملة الأنداد المتساوين.

وبالرغم من أنّ هؤلاء الطلاب الوافدين عليها من ربوع مختلفة من الوطن المسيحيّ يخضعون لنظام انضباط صارم، إلا أنّ الأمر كان بعيدا عن العقاب البدنيّ الذي يمكن أن يمس كرامتهم. أما العلاقة بين الطلاب والمدرسين فقد كان عنوانها الاحترام والودّ، وزرع بذور الثقة في النفس، بعيدا عن العلاقة العمودية والسلطوية، أو التسلطية، التي كانت سائدة في ذلك الإبّان؛ أي في أوروبا العصور الوسطى التي كانت تستعد للدخول إلى عصر جديد؛ بدأت ملامحه تتضح شيئا فشيئا منذ اكتشاف العالم الجديد_ أمريكا_ وبعد حركة الإصلاح الدينيّ.

جلي إذًا أنّ مناخ المدرسة الذي يمكن أن نصفه بالإنسانيّ، أو حتى ”التحرريّ”، قد انعكس على شخصية الفيلسوف الفرنسيّ، وأتاح له حرية جوانية هي عينها شرط إمكان الإبداع،  وهل يمكن للفكر أن ينمو وينتعش إلا في مناخ الحرية !

ذلك مثال حيّ من التاريخ الحديث، تبيّن معه أنّ المدرسة تستطيع أن تبني ما دمّرته الحرب، وتُصلح ما أفسده التعصُّب الدينيّ وخرّبَه التدجين السياسيّ. ولا يبدو أنّ المدرسة الحديثة كما نعرفها اليوم تسعى إلى غير هذا، أو أنّ غايتها القصوى بعيدة عن بناء الإنسان وإصلاح الفهم؛ من خلال توفير مناخ من الحرية، لا يكون فيه السؤالُ ذنبا والنقدُ خطيئة لا تغتفر. ولا بد أنّ هذه الغاية هي التي دفعتها، وتدفعها دائما، إلى تجديد نفسها، والانهمام بإصلاح أحوالها، وتهيئ شروط عمل مثلى للعاملين فيها. وربما يكون أفضل ما تستطيع المدرسة أن تفعله اليوم في مجتمع المعرفة الذي أصبح فيه كل شيء متاحا عبر الوسائط الرقمية، هو النهوض بتحقيق هذا الأمر والعناية به.  فهذه هي المدرسة الوحيدة التي يمكن أن تسهم في تحقيق معنى الإنسان كما تنشده الأمم الحرة، و تُعول عليه في اختراق آفاق المستقبل البعيدة. وهي الكفيلة بإنضاج شروط توفر مجتمع بشريّ سويّ خالٍ من التشوهات التي يمكن أن تعصف به جُملةً، عنينا من ذلك مجتمعًا عادلا، ومتضامنا، وقويا، ومتماسكا، ومنتجا.

يبقى ذلك أملا عزيزا، رهينًا بتوفر رؤية سياسية تضع المدرسة في قلب اهتماماتها. ويكشف التاريخ المعاصر حقيقة أنّ المدرسة في ”مجتمع المعرفة” صارت خاضعة لتأثيرات المجتمع الصناعيّ في الغرب، بل وفي العالم بأسره، بحيث صارت في النصف الثاني من القرن العشرين تابعة لإملاءات السوق، وظهر أنها أُجبِرت، منذ ثمانينيّات القرن الماضي خاصّة، على قبول قيم جديدة غريبة عنها، تحت تأثير السياسات النيولبرالية التي أبان عنها ملتون فريدمان[4](السوق الحرة، والتنافسيّة، وحرية الخيار). ولذلك ظهر للباحثين والمهتمين بالشأن التربوي خطر هذه التوجهات الجديدة التي ما زالت المدرسة تعيش على وقعها اليوم، وصارت ”السياسة التربوية” محط نقد لاذع، لعلّ أبرز وجوهه ما لقيته من منظور سوسيولوجيا التربية، وذلك بعدما تبيّن أن المدرسة في أغلب الدول الغربية تتَّجه إلى التخلي عن القيام بالدور المنوط بها تاريخيّا -أي اعتبارها أداةً رئيسة لتوطين المثال الأخلاقيّ الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة، وهو المساواة، والإدماج الاجتماعيّ، واعتبارها كذلك وسيلة فعّالة لتزويد الناشئة بأدوات التوعية وإدراك الواقع- وإلى الانحراف عن المسار التحديثيّ الديمقراطيّ من أجل ترسيخ الفوارق الطبقية، وإعادة إنتاج الهشاشة.

لسنا في حاجة إلى التذكير بالعمل الشهير الذي جمع السوسيولوجيّ الفرنسيّ بورديو مع زميله باسرون عن ”إعادة الإنتاج”[5] ، أو بأعمال المفكر الماركسي الأمريكي هنري غِيرّو[6] عن البيداغوجيا النقدية، والأفق الثقافي والأيديولوجي الذي تنفتح عليه المدرسة في أعماله، وكذلك السوسيولوجي البريطاني باسيل برنشتاين[7] الذي كشف عن وجه آخر للتفاوت الطبقي في المجتمع تحتويه المدرسة ذاتها، يتعلق بقدرة الطبقة المسيطرة على استعمال الوسائل الرمزية_أي اللغة_ بما يضمن هيمنتها ثقافيا، واقتصاديا وسياسيا. زد على ذلك العمل الذي قدمه البيداغوجي والمفكّر البرازيلي باولو فرايري عن بيداغوجيا مناهِضة للقهر الاجتماعيّ سماها في كتابه الرئيس ”بيداغوجيا المقهورين”[8](أو ”تعليم المقهورين” كما ورد في الترجمة العربية للكتاب). والهدف منها مساعدة المقهورين على التحول إلى فاعلين اجتماعيين بمقدورهم الخروج من وضع الاضطهاد الذي فرض عليهم.

ثانيا: أزمة الثقافة المدرسيَّة

عاشت المدرسة عموما في قلب تحولات اجتماعيّة عميقة، منذ ظهورها في العصر الحديث، من حيث إنها حاجة مجتمعية لا غنى عنها، ولكن أثر تلك التحولات، حتى لا نقول التّشوهات، يتجلَّى في المدرسة المغربية اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ إذ تعاني اختلالات بنيويّة كثيرة لا يمكن أن تخطئها عين المتفحّص؛ وهو ما جعل الدولة، منذ الاستقلال، تهيئ لها وصفات لـ ”الإصلاح” لا يبدو أنّ أيّا منها قد حققتِ المبتغى منها إلى الآن، وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى بيان، وواقعٌ يشهد عليه المدرّس والمجتمع معا. زد على ذلك أنّ الدولة نفسها تعترف بفشل مخططاتها في مجال التربية، ولكن هذا الاعتراف مريب، إذ يبدو أنها تريد بذلك أن تحجب حقيقة الخيارات التقشفية، وأحيانا المفتقدة لـ ”الرؤية الإستراتجية”[9] التي تبنَّتها منذ عقودٍ خلَت، وأنّها سبب الفشل (…) وأنّها تسعى إلى الهروب من السؤال الحقيقيّ الذي يحرج مصالح فئة معينة في المجتمع، ألا وهو: من أين نبدأ ”الإصلاح”؟  ونظيره: ما رهان هذا الإصلاح؟

قد لا نحتاج إلى بيانات وأرقام تؤكّد هذا الزعم، ولا داعي للحديث عن المراتب المخجلة التي تحتلّها المدرسة المغربية في التصنيف العالمي بين دول المعمور، يكفي أن نتأمَّل الوضع الذي آلَ إليه المدرس في المغرب. إنّ ما لم ينتبه إليه الخبراء والساسة الذين يتحدَّثون عن ”الإصلاح” أنَّ هناك عطبا كبيرا ربما يحتاج سنين طويلة حتى يُصلح، يحتاج عمر أجيال عديدة؛ إذ يوجد من بين كل الأعطاب التي تعانيها المدرسة المغربية، عطبٌ خطير يتعلَّق بالانحطاط الذي أصاب صورة المدرس، حيث تمّ ربط المدرس بدوامة وجودٍ لا يتجاوز حدود الضرورة الطبيعية: الخبز، والسكن، والتدواي من الأمراض المزمنة(مكافأة نهاية المسار !)، إلخ. حتى نسي، أو كاد أن ينسى، الوجود الأشرف، أي الأفكار، والمثل والقيم، والأسئلة الكبرى، وظهرت في سلوكه تشوهات فظيعة لم يسبق أن انتشرت بهذا الشكل المخزي في الأوساط التربوية؛ والأدهى من ذلك أن ”مُتخيّله الاجتماعي” قد امتلأ بصور بئيسة لم يعد بالإمكان التعويل عليها لتكون طليعة التغيير الاجتماعيّ المنشود. ولا حتى صمّام أمان استقرار الدولة. أما المتعلِّم فقد أمسى يعمّه في دوامة من الضياع المصَمّم، وأبرز صوره أن يُرى في الشوارع والأزقة المغربية يقذف بالحجارة دون أن يعرف السبب، ويهاجم رجال الأمن من دون سبب، ويرفع الشعارات من دون أن يكون له أي مطلب واضح سوى الفعل الفوضوي[10]، ومظاهر ”الفتوة” الأخرى التي تنذر بخطر كبير يهدد المجتمع بأسره؛ مثل الظهور العلني بوجه المجرم، وحمل السيوف والتلويح بالسواطير.

لقد انحدرت الثقة التي يحظى بها المدرّس عموما إلى الهاويةِ السحيقةِ التي لسنا ندري لها بعد من قرار. وفي مقابل ذلك، برزت وجوه جديدة تُقدّم اليومَ في التمثّل الجمعيّ بصفتها مثالا للنجاح، والتألُّق، تحوم معظمها حول المال، والربح السريع دون تكلفة أو جهد. ولا شك أنّ هذه هي نتيجة إخضاع التربية لمقتضيات الإنتاج ولقواعد المال والمجتمع التجاري. إنّ السياسيّ حينما يُفكّر في المدرسة بمنطق التاجر، ويشتكي دومًا من تكلفة الإنفاق العموميّ على المدرسة، لا ينتبه إلى أنه يصطنع ثقافة مدرسية جديدة؛ هي نفسها علّة تفكّك النسيج الاجتماعيّ، على المدى البعيد، والسبب المباشر في كل التمزّقات الكثيرة التي تصيب بُنيانَ المدرسة الرمزيّ، وتزرع شعور الإحباط والتذمّر في نفوس الفاعلين التربويين من مختلف مراتبهم، وخاصّة منهم أولئك الذين هم في مواجهة مباشرة مع المتعلمين. ويضيّع على المجتمع فرصته التاريخية للدخول إلى التاريخ. وهل بعد هذا يمكن الكلام على الإصلاح وقد أخطأنا الطريق إليه مرات عديدة !

ربما حاولت المدرسة المغربية أن تكون في مستوى تطلعات ”روح العصر”، وقد شهدت تحوّلات في طرائق التدريس حتى تلحق بركب الحضارة. بيد أنها ليست هي الوحيدة في خوض غمار التّحول والتجديد؛ لأنّ المدرسة في العالم الغربيّ كذلك عرفت التّحوّل نفسه، إذ إنّ تحول المجتمع الصناعيّ في ”الغرب” جهة الفردانية، ورسوخها مبدأ في الحياة العامة، ألزمها بالتفاعل مع  هذا التوجه، وتبيئة معانيه؛ لأنّ الحديث عن المدرسة، بحسب مارسيل غوشيه، يقتضِي تبيُّنَ أنّ ”المدرسة، إذا جاز التعبير، هي المكان الذي استحال فيه دائما إنكار أنّ المجتمع هو الذي يصنع الأفراد”[11]. لقد كانت المدرسة باستمرار تجد نفسها في قلب التحولات الاجتماعية التي تطرأ على الثقافة. ولو شئنا تحديد نطاق هذا التّحوّل لقلنا إنها اختبرت الصراع بين القديم والحديث، وشهدت اتجاها إلى التحول من أولوية الجماعة، والامتثال للسلطة التي يمثلها الأب، والتراث، والأمير، إلى التركيز على الفرد، وإعطاء الأولوية للمهارات والكفايات التي يحوزها؛ أو تعمل المدرسة على إنمائها. وبتعبير آخر؛اعتُبر الفرد مركز جذب جديد. وهنا تحديدا ظهرت صعوبة فريدة تخص المجتمع المعاصر، والمكانة التي تحظى بها المدرسة فيه؛ عنينا من ذلك معضلة: ”التمفصل الإشكالي بامتياز بين الحقوق الفردية والإكراه الجمعيّ، وهو ما أشكَلَ على مجتمع فرادنيّ _ديمقراطي أمرُ تصورِّه وتحديدِه، إنه مُهمته العمياء”[12].

يُقر المجتمع المعاصر في الدول الغربية (في فرنسا وأمريكا مثلا) بأزمة تمَسّ في العمق صميم الممارسة التربوية، ويحاول مفكروه أن يضعوا يدهم على مكمن الخلل، ساعين إلى ربط المدرسة بسياق الثقافة من أجل فهمها الفهم الأمثل. وقد تبيّن أنّ الصعوبة التي يكشف عنها هذا التحول الجديد ذات صلة بهوية الثقافة عموما، والثقافة المدرسية بوجه خاص. وبيان ذلك أنّه إن كان هذا المولود الجديد_ وهو الفرد المعاصر_ قد احتلَّ موقع الصدارة في الفضاء الاجتماعيّ جملةً، وتهيّأت له شروط البروز، والاعتراف به مؤسّساتيا واجتماعيا، من جهة أنّه ”كائن حقوقيّ” أكثر من كونه كائنا اجتماعيا كما عُرف في القرن السابع عشر؛ مع نظريّات ”التعاقد الاجتماعيّ”، فإنّ ولوجه ميدان المدرسة جعل الثقافة المدرسية في أزمة حقيقية، لأنّ هذا الفرد الحقوقيّ في المدرسة ليس سوى الـ ”طفل” الذي احتكرت السيكولوجيا الحديثة أمر تحديد معناه، وأظهرت بخصوصه حساسيات جديدة لم تكن تعرف من قبل.

ذلك أنه إن كان اصطلاح ”الثقافة” من جهة دلالته الأنثروبولوجية[13]_ وبصرف النظر عن دلالاته المتشعبة والغايات التي يُستعمل من أجلها_ يُطلق على النظام الرمزيّ الذي يشمل الاعتقادات والقيم السائدة في المجتمعات البشرية الكفيلة بضمان تنظيمها الاجتماعي وبنيَنَةِ ممارساتها، فإنّ المدرسة غير بعيدة عن هذه القيم، وعن نوعيتها، بل إنها أكثر ما يظهر فيه أثرها جليا. إن الأثر الذي نشير إليه ها هنا ليس إلا الفرد تحديدا؛ عندما صار في المجتمع الفردانيّ قيمةً عليا، ومبدأً مؤسِّسًا للاجتماع أوشك في الربع الأخير من القرن العشرين _لأسباب تاريخية وسياسية مخصوصة_ على احتكار المشهد السياسيّ، والثقافي كذلك. ويمكن تبيان المشكلة الحارقة التي يفضي إليها هذا التحوُّل على النحو التالي:

متى نقلنا ما حدث في المجتمع الغربي المعاصر إلى عالم التربية فإننا لا محالة سنجعل مهمّة التربية مستحيلة والمدرسة لاغية. فإذا جعلْنا “الفرد-الطفل” قيمة عُليا، ووضعناه في  مقدمة كل شيء، بحيث يصير كيانا حقوقيا لا ينبغي انتهاك حرمته حتى وإن كان في حقيقته كائنا متوحشا لا يحوز شيئا في نفسه من قيم المدنية، فكيف يمكننا إذن إخضاعه للتربية ونقل القيم الثقافية إليه؟ أو بتعبير آخر، ماذا يتبقى –في وضع كهذا- من مسار التربية برُمته؟ وإذا ما تم في البداية وضع حقوق “الفرد-الطفل” فوق كل الحقوق، وحقه الدستوري في التعلم على الخصوص، وحقّه الثقافي في التربية التي يقوم بها مُربّ بالضرورة، ألا نحكم على مسار التربية ذاته بالموت؟ ما دامت التربية هي الفعل، أو الممارسة التي تتم بين طرفين أسياسيّين، والتي تقتضي بالضرورة علاقة تراتبيّة بين المدرس (الراشد) و المتمدرس (القاصر)، أو نوعا من الإكراه[14] قد يتَّخذ صيغا مختلفة؟ ألا نحكم على العملية التربوية بالنهاية منذ بدايتها؟ أو قبل بدايتها على أصحّ تعبير؟   

جليٌّ أنّ المدرسة اليوم لا تعيش إلا على إيقاع هذا التوتر، وأنّ المجتمعات جميعها في مأزق وهي تواجه هذه المعضلة. لكن الواقع أنّ الأمر قد يبدو أسهل بكثير في المجتمعات التي تعودت على السلوك الديمقراطيّ، وتَرَسّخ في وعيها مبدأ احترام الإنسان، وأسَّست بإرادتها وكفاحها نظامًا سياسيّا عادلا؛ لأنّ هذا الفرد قبل أن يصير ”كائنا حقوقيا” حاز نصيبا محترما من المعرفة، وتخلّص من الأمية بمعانيها الحرفيّ (القراءة والكتابة) والثقافي والرقميّ أيضا. أما المجتمعات التي يبدو أنّ ”الإنسان” لم يولد فيها بعد، لا في مخيال السلطة ولا في التمثل الجمعيّ، أو وُلد حاملا تشوهات كثيرة، فهي أكثر عرضة للإحراج من هذا الإشكال العويص، والعلاقاتُ التربوية فيها أكثر عرضة للتشنج، وسبب ذلك اختلال في معنى الإنسان، وفهم مرتبك لدلالة ”الحق”  خَلّفه انتشار الأمية الثقافية في أوساط الساكنة، وتراكم الخيبات في حيواتها البئيسة، حتى نشأ  كائن حقوقيّ فريد يريد الحق كاملاً دون الالتزام بالواجب تجاه أحد !

ثالثا: المدرسة  وسؤال ”الفهم”

ليس مقصودنا هنا مرة أخرى أن نزاحم خطاب المختصين والخبراء، في النقاش البيداغوجيّ الصرف الذي مداره على مسألةِ الطرائق، والمناهج، والوسائل التعليمية، أو الخوض في النقاش العلميّ حول معنى التعلم و شروطه وملكاته وأطواره، كما عُرف في البنائية أو السوسيوبنائية، أو غيرها من النظريات المعروفة في علوم التربية. وإنما نريد أن نتوقّف عند مسألة نحسبها ذات أهمية، وهي دلالة اصطلاح ”الفهم” ذاته حين نستعمله في التمثل المدرسيّ، لدى المعلمين والمتعلمين على حدّ سواء. صحيح أنّ المدرسة التي نريد اليوم ليست مدرسة التلقين التقليديّ، فقد ظهر أنها لا يمكن أن تنتج إلا ما سماه المفكر اللبنانيّ مصطفى حجازي بـ ”التخلف الاجتماعيّ”[15]، بما له من انعكاسات سلبية على بنية المجتمع ورؤاه، وعلى العلاقات الاجتماعية فيه، وأنّ هذا التخلف الاجتماعي المؤسِّس لا يمكن أن يؤدي بدوره سوى إلى تهيئة تربة صالحة لنشوء نسق ثقافيّ كابح للإبداع ومكرِّس للقصور (الحجر) الوجودي، هو بالتحديد ما كشف عنه الأنثروبولوجيّ المغربيّ عبد الله حمودي تحت مسمى بنية ”الشيخ والمريد”[16]. تستثمره السياسة، وتؤسِّس عليه نظام الاستبداد. وعلاماته الفارقة تقديس الأشخاص، وإضفاء الطابع الشخصي_لا المؤسّسي_ على السلطة Personnification du pouvoir ، و اختفاء مصطلحات المساءلة والمحاسبة من أفق السياسة.

لقد ظهرت النتائج الضارة لمدرسة التلقين والحفظ على المجتمع المغربي، إذ لا خفاء أنّ أيّ نموذج تربويّ بُنِي على ذلك الأساس لا يمكن أن يؤدِّي سوى إلى ”ازدراء الإنسان”، إنسانية الطفل، وحرمان كينونته من التجلي بالوجه الذي ينبغي لها، بحيث يُربَّى على الطاعة العمياء، والخضوع المطلق لسلطة المعلم،عوض إعمال العقل، والتمرّن على النقد والفحص. ولا شكّ أنّ هذا النهج في التربية هو ما يجعل الإنسان_الطفل عرضة لشتى أنواع التغميض؛ التي لا يمكن أن نقول اليوم إنّ أخطرها هو ما يتم باسم الدين فحسب؛ حينما يُوظّفُ بغرض المزايدة ”الأخلاقويّة” و”السّياسوية”، بل ذاك (التّغميض) الذي يُمارس اليوم باسم التخصص العلميّ والتقني. فقد ظهرت في المجتمع المغربي نماذج من التقنيّين وحملة المعارف العلمية المختلفة ( في الفيزياء والبيولوجيا، والطب، والعلوم الإنسانية كذلك) من خريجي المدرسة المغربية، تكاد تكون علاقتهم بالعلم معدومة، غير أنهم يصرِّون على الظهور والاحتجاج على مخالفيهم بعدد ”الشهادات العلمية” التي حازوها من المؤسسات العلمية، والحال أنّ جهلهم بالعلم، وبروح العلم، وتماديهم في سبيل ”الهراء”، بحسب تعبير الفيلسوف الأمريكي الساخر هاري فرنكفورت[17]، أمرٌ مُؤكد لا غبار عليه، فقد ظنّوا أنّ حفظ المتون، والتوفر على معلومات صحيحة، يؤهل الواحد للكلام باسم العلم والزعم مثل ذلك الزعم. وهذا لعمري برهانُ يقينٍ على الخلل الفظيع الذي أصاب المدرسة، ومَسّ  صميم التعلّم والتربية !  

بديهيّ أنّ المدرسة التي تليق بمغرب الغد ليست هي الفضاء الذي مدار اهتمامه على شحن الذاكرة، وإهمال الفهم، والمخيلة والوجدان وأشكال الذكاء الأخرى التي ذكرها هوارد غاردنر في نظريته عن ”الذكاءات المتعددة”. فمؤكد أنّ هذه مدرسة عفا عنها الزمان، إلا أننا عندما نؤكد على ضرورة اهتمام المدرسين بالفهم بدلا من الحفظ، أو الاجترار البليد للمعلومات، فإننا ينبغي أن  نتنبّه إلى أنّ قَصْدنا من اصطلاح ”الفهم” ليس هو الإشكالية التي انبثقت في سياق نظرية المعرفة مع  الفلسفة الحديثة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ لأنّ اقتصار معنى الفهم على هذه الدلالة التاريخية لن يخرجنا_ في الحقيقة_ من المأزق الحضاريّ الذي نتخبط فيه، ولن يقدم أيّ حلول ناجعة للفشل التربويّ الذي تعانيه المدرسة. ولذلك لزم وضع إشكالية الفهم في سياقها المعاصر، وتسليط أضواء جديدة على معناها، لأنه بدا جليا أنّ الوعي بـ”الشرط البشريّ” في العالم أهم بكثير من الانشغال بتشييد الأنساق الفكرية التي قد لا تقول شيئا عن الواقع!  أو بتعبير آخر، إن إدراك الواقع في اشتباكاته، وتعقُّدِ السياقات المختلفة (سياسية واقتصادية وتاريخية) التي يجد الإنسان نفسه فيها، أهمّ من القبض على معرفة متخصصة محصورة في نطاق معين، تبني للإنسان أمجادًا زائفةً، وأوهاما ذاتيّة، هي أشبه بالتي وصفها فرنسيس بيكون بوصف ”أوهام الكهف”.

توجد المعرفة اليوم في العالم، وتعتبر القدرة على التعلم من الآخر سبيلا مكينا لامتلاك مفاتيح ”فهمه”. ولذلك فإن الرهان على حشو الذاكرة، أو القلب (الصدر)، وتوسيع وعائها لتخزين المعلومات، حتى يصير الواحد بذلك حافظًا جامعًا من المعارفِ في بطن المتون والحواشي، وحواشي الحواشي، لا يفلت صغيرة ولا كبيرة، لا يمكن أن  يمنحَ مفتاح فهم العالم، وذلك لأنّ الفهم، في نظر حنة آرنت مثلا، يتميز عن ”مجرد التوفر على معلومات صحيحة، وعلى معرفة علمية”. ولهذا السبب ترى الباحثة الألمانية الأصل نفسَها مُلتزمةً روحيّا في ”مشروع فهم”  Project of understanding ، تُصِر على تمييزه عن مجرد ”أن نعرف” :  knowing، وتَعتبر أنّ هذا المشروع هو  ما يُمكّن من إضفاء المعقولية على كل ما كتَبَت وقرأَت، وفكرَّت فيه خلال مسارها الفكريّ والنضاليّ بوجه الإجمال. والفهمُ عند آرنت سيرورةٌ معقدة؛ قد لا تُوصل إلى النتائج ذاتِها دومًا. إنه نشاط متواصل لا يقف عند حد معيّن، لكن غايته هي أن نصالح أنفسنا مع العالم، ليس بمعنى الاستكانة وقبول الوضع فيه، بل فتحُ أعيننا على الواقع، الذي أوشك على الضياع بفعل سطوة الأوهام، بدلاً من إنكاره أو تجاهله.

يعيش العالم تغيرا متواصلا، والإنسان فيه كذلك يتغير، ولهذا فإنّ طريق الفهم هو: ‘‘أن تحاول أن تكون في بيتك وأنت في العالم’’[18]. ليس الفهم إذا مرتبطًا بالحفظ وتكرار الحقائق، والتشدّق بامتلاك معرفة غير مفكر فيها، أو استظهار المعروف من مجال التخصص،كما يحصل مع أصحاب قال فلان وروى علاّن، بل معناهُ أن يكون لك شأن بهذا العالم؛ هنا والآن. بناء على ذلك، يبدو أنّ المدرسة، وقبل أن نُسند إليها مُهمة تربية المتعلمين على الفهم، مطالبة بأن تُسأَلَ إن كانت تفهم نفسها أولاً، وما إذا كانت تربي نفسها ثانيا على الفهم؛ أي على أن تهيئ نفسها باستمرار للتعلم من العالم، ومواكبة تحولاته، فليست المشكلة فقط تتعلق بالمناهج والطرائق، ولا بالمضامين المعرفية التي تُدرّس، بل بالأفق الرمزيّ الذي توضَعُ فيه المدرسة، وبالحدود التي تُرسم لها من لدُن السّاسة، أو، بالأحرى، من يسميهم الفيلسوف السلوفيني سلافُوي جيجك بـ”الأوغاد”[19]، وهم الذين يجدون أنفسهم منبطحين، لئاما، وأذلة، أمام سلطة الخطوط الحمراء، والقواعد غير المكتوبة، كلما تعلق الأمر بمواجهة الأسئلة الحقيقية التي تفرض التغيير!

إنّ الحاجة ماسة اليوم إلى إعادة تحديد أفق آخر لدور المدرسة، لأنّ ما تُقدمه لم يعد كافيا لإفهام المتعلمين موقعهم في الوجود. وذلك لأنها، على ما يبدو، قد تم إسقاطها من حسابات الساسة. فإذا كان ما يحاك ضدها في الأمس القريب يتم خفاءً إلى حدّ ما، فإننا في الآونة الأخيرة، بتنا نسمع من الخطابات البئيسة على رؤوس الأشهاد، ما بَخس من دور المدرسة العمومية وازدرى الفاعلين فيها، ليس أغربها تصريح أحد الوافدين الجدد _ من اللامكان_ على المشهد السياسيّ، حين عنّ له التلفظ بكل ثقة في النفس، موجها كلامه إلى الفقراء و المهمّشين من أبناء المغاربة قائلا: ”حان الوقت لترفع الدولة يدها عن الصحة والتعليم” ! وسرعان ما تبيّن أنّ هذا الرأي الفطير لم يكن مزحة، أو مجرد نكتة للتسلية. بل شهدنا أثر هذا الكلام في الواقع المزري للمدارس والمستشفيات العمومية.

يريد خطاب الساسة البئيس هذا أن يجبر معظم المغاربة على العيش في عالم لا يشاركون فيه، ولا يملكون مفاتيح فهمه، يريدهم في مداه البعيد أن يعيشوا، أو يتعايشوا، مع مشاكلهم الكثيرة ”من دون أن يتحولوا إلى أنذال”، بحسب تعبير جون بول سارتر، أو أن يتحولوا إلى مُسوخ، أو نفايات بشرية. يريد هذا الخطاب أن يعيش المغربي حياته من دون أن يقدر على طرح الأسئلة الحقيقية التي تهديه إلى الأجوبة الحقيقية المعروفة تاريخيّا، يريد منه أن يظل في وضع  القصور الأبديّ الذي يحتاج فيه دائما إلى راعٍ ومرشد روحيّ، يَودّ لو بقي المغربيّ هكذا يهتم بأسئلة السماء متناسيا قضايا الأرض، أن يهتم بأهوال القبور الأخروية بدلا من أهوال الجور الدنيوية التي هي السبب في ما يعشيه البلد من اختلالات واضحة، والتي تبني نموذجا مغربيا  لـ ”التعاسة العمومية”، يمكنه أن يضاهي الحلم الأمريكيّ: ”السعادة العمومية” أو الحلم الفرنسيّ: ”الحرية العمومية” ! يريد هذا الخطاب أن يعيش المغربيّ في عالم غير قابل للسكن، لأن المدرسة هي بوابة العالم، والحرب عليها هدمٌ لمعالم الحياة فيه.

إننا ها هنا لا نتحدث بالطبع إلا عن المدرسة العمومية بالحصر، أما المدرسة الخصوصية فالكلام فيها ذو جشون. إذ يبدو  أنها أسهمت، هي بدورها، في خلق ثقافة مدرسية جديدة يمكن أن نعبر عنها بصيغة أنها تخلت عن همّ التعليم والتربية حتى بمعناها الكلاسيكي، الذي حدّده السوسيولوجي إميل دوركايم[20]، واختارت ”الحصيلة” أو ”النتيجة” ليس فقط شعارا، و إنما مبدأ لها. وذلك أحد مظاهر الأزمة التي أصابت الثقافة المدرسية، فالمدرسة الخصوصية لم تجد من وسيلة لإضفاء المشروعية على وجودها في قلب عالم يعج بالفوارق الطبقية الصارخة غير ”خطاب النتائج” الذي تروجه وسائل الإعلام المختلفة، فهي ”تنتج أفضل التلاميذ”، وتضمن ”آفاقا واعدة”. وربما أنها تتوفر على ”خيرة المدرسين” الذين لا محالة يضمنون لتلامذتها التفوق بلا منازع، وكم شاهدنا في إعلانات المدارس الخاصة المفاخرة بنتائج تلامذتها، وتلك وسيلة تجارية تحفز الآباء للالتحاق بصفوفها. أما أسئلة التربيةو التعليم، وبناء الإنسان المواطن، فيبدو أنها لا تدخل في صلب اهتمام هذا النوع من المقاولات الربحية إلا عرضًا.

رابعا: المدرسة وسؤال المواطنة

لقد كثر الكلام على ”المواطنة” ومشتقاتها في لغة الخطاب التربوي المغربيّ، لكن تأمّل فحوى الخطاب، وتصريفاته في واقع الناس، يجعل الواحد منا يظن أنّ الأمر لا يعدو كونه رشقا بالمفاهيم والمصطلحات الرنانة، والأدهى من ذلك أنه كثيرا ما يُحتج بشعار ”المواطنة” لتحقيق بعض الأهداف الدنيئة التي لا علاقة تربطها بما يُصطلح عليه في الفكر السياسي الحديث بـ ”دواعي الدولة”. بل لها علاقة بمصالح فئة معينة محصورة توظف المفهوم حسب هواها بعد أن تملأ إطاره بالمعنى الذي تريد ! وقد صارت المواطنة ”حقيبة أدوات” يوضع فيها ما يوضع من المعاني ويبث فيها ما يبث من المآرب. ورغم كل ذلك، كثيرا ما قيل لنا إنّ مُهمة المدرسة هي التربية على المواطنة، لكن هل فهمنا معنى المواطنة أولا؟ هناك شكوك تحوم حول الموضوع،  فلنتمهّل ! ولنتأمل.

 لا يمكن أن يستقيم الحديث عن ”المواطنة” من دون الرجوع إلى أصل تكون هذا المفهوم في الفكر السياسي الحديث. وإذا كانت المدرسة المغربية تسعى إلى ترسيخ قيمة المواطنة، فهي اليوم في حاجة إلى تملك المعنى الذي رسّخته التجربة الغربية لمعني المواطن، ولمعنى الوطن أيضًا. ورغم أن المجال لا يسمح ببسط القول في هذا الموضوع، فإننا سنشير إلى بعض النقط الرئيسة التي تبدو حيوية في سياق كهذا.

ليست المواطنة واقعة فيزيائيّةَ، أو معطى ماديّ قبليّ، حتى وإن كان الفهم العاميّ يميل إلى اعتناق هذا الرأي. إذ إنّ المواطنة لا تحكمها الصدفة أو العرض، فلا يكفي، حتى تكون مواطنا، أن تكون قد ولدت ”هنا والآن” في مكان ما يسمى المغرب، أو في ”أجمل بلد في العالم”، كما أنّ المواطنة لا تقف عند حدودها ”القانونية”، بمعنى أنها ليست  مجرد إجراء إداريّ، أو مسطرة تُتّبع للحصول على  المُواطِنيّة أو ما يصطلح عليه بـ”الجنسيّة”. بل أكثر من ذلك إن المواطنة ليست هبة من السماء ولا من الطبيعة، فقد تجاوز المحْدَثونَ هذا المعنى الأرسطيّ الكلاسيكي حين اكتشفوا في أنفسهم مفهوم الإرادة القادرة على إبرام عقود؛ في وسعها نقل الناس من طور التوحش إلى طور المدنية (التعاقد الاجتماعيّ). وهكذا، لم تعد المواطنة مِنّة أو إفضالا من أحد، سواء أتعلق الأمر بالقوى العلوية أو الأرضية. بل هي نتيجة بناء وابتداع أصيل في حدود الشرط الإنساني (الإرادة والحرية) وبتعبير آخر، وأوضح ؛ إذا كان ”الله أنعم عليك بنعمة الإسلام”، فإن  تحصيل صفة المواطنة يُلزمك بالعمل وبذل جهد أكبر.[21]

المواطن فرد، لكنه أكثر من مجرد كيان فيزيائيّ حرّ ومستقل، بل هو كيان معنويّ يسعى جهد مستطاعه إلى تحقيق استقلالية الفضاء العام، وتحرره من الارتهان أو التبعية، كيفما كانت أشكالها. على هذا النحو البديع برز هذا الكائن الجديد في التاريخ الغربي، وتبوأ صدارة المشهد السياسيّ في القرن الثامن عشر على الخصوص، حيث كان الصراع على أشده ضد الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تمثل الارتهان وسلطة الاستتباع الكبرى، وخصم الاستقلالية العنيد. إنّ المواطنة دائما فعل، وحركة في اتجاه ما، إنها الصفة التي تخلق المواطن في سعيه إلى تعدّي حدود الخاص والفردي إلى العام والكونيّ.

إنّ المواطنة أفقٌ يجده الفرد الحر والمستقل أمامه باستمرار، وإن مُهمّته التطلُّع إليه واللحاق به. يفرض عليه هذا الأفق أن يرعى شؤون المدينة، وأن تسكنه همومها مثلما يسكن بيوتها وينعم بخيراتها، ويجد في فضاءاتها معنى لوجوده التاريخيّ. يفرض عليه أن يهتم بالشأن العام، ويخرج من ذاتيّته المحدودة، ويتخلَّى عن أنانيته وأهوائه الطبيعية. ويعمل قدر جهده على مقاومة كل أشكال الاستتباع التي تهدِّد فَضاءَ الجمعيّ   le collectif المسمى بـ ”الوطن”، بالتفكُّك والانهيار. ومنها الجهل، و”الجهل المقدس”، والظلم الاجتماعيّ، و الانحطاط القيميّ، والتفاهة، إلخ. حتى لا يتحوَّل الشاذ في مقام الإنسانيّ إلى قاعدة، والمنبوذ إلى محمود؛ لأن الألفة تخلق العادة، والعادة السيِّئة تفسد الطباع. فتلك الأمور كلها يجعل استقلالية العالم الإنساني في خطر؛ أي أنها لا تجعل الإنسان إنسانا على الحقيقة، وإنما إنسانا باشتراك الاسم فحسب، أو إنسانا شبيها بالإنسان، لأنه يكون دون مرتبته بكثير، فلا يمكن أن نطلق اصطلاح الإنسان على كائن ولد ليموت دونَ أن يختبر معنى الحياة ! دون أن يرى للحياة وجها مشرقا، فالجهل موت، والتجهيل هو الجريمة، والفقر موت، والظلم البنيوي موت محقق. بيد أن هذا المعنى الذي تحصّل من مفهوم المواطنة تاريخيا لا نجده يُمارَسُ في واقع الناس إلا نادرا؛ عند فئة اكتسبت من الوعي قدرا معينا. وربما تكون لهذه العطالة أسباب كثيرة يتداخل فيها ما هو تاريخي وسياسي وأيديولوجي، ولكن يبدو أن ثمة سببين رئيسَين يمكن أن نرجع إليهما علة هذا العطل أو التعطيل الإراديّ، لمعنى المواطنة:

أولا: لأنّ هذا “الكائن-هنا” الذي يُفترض فيه أن يكون مواطنا، لم يفهم الاستقلالية إلا من جهة ما يحمله مفهوم ”الاستقلال السياسيّ”، بمعنى رحيل المستعمر عن الأرض المحتلة، وأما الاستقلالية بمعناها الفلسفيّ، أي قدرة ”الذات الجمعية” على التشريع لنفسها، والقيام بأمرها، والدفاع عن ذلك بكل الوسائل المتاحة، وترسيخها في سلوك الناشئة، فإنّ هذا المعنى لم يتأصل بعد عند أغلبية الفاعلين، والمدرسة لا تُقوّي هذا الشعور، ولا تزرع هذا المعنى.

ثانيا: لأن الهوة القائمة بين الفكر والواقع ما زالت سحيقة، وهي ذاتها ما يُترجِمه التناقض الصارخ الذي حصل في المجتمع المغربيّ، ومازال يحصل، بين “المثال” و”الواقع”. فكم هي الشعارات التي تُرفع، مستهدفه تحقيقَ ”الإصلاح”، و”الانتقال الديمقراطي”، و”التنمية”، و”تخليق الحياة السياسية”، و”العدالة الاجتماعية” إلخ. دون أن يُرى لها أثر في واقع الناس، أو لا يَظهر لها وقع إلا على نحو ضئيل جدا، وكأنّها لا تصاغ إلا للاستهلاك الإعلامي لا غير !

توجد المدرسة في قلب هذا العالم المليء بالمفارقات، وعوض أن تؤثِّر فيه، بات يؤثر فيها ويسوق إليها نماذجه البئيسة في الحياة ! لا يمكن الحديث عن المدرسة دون مُثل عليا تسعى إلى ترسيخها، والمواطن هو هذا الكائن الذي يتشبع بهذه المثل في صباه، ويعمل على الخروج من خُويصة نفسه، والعلو على ذاتيته المحدودة حتى يعانق الكونيّ، والعموميّ، والخالد، لأنّ الفرد يفنَى، والمصلحة تبلى، بينما الدولة  تدوم، والوطن مُخَلَّد، وما دوام الأوطان، ومجد الأمم إلا بمقدار ما اجتهدت في بناء المشترك الإنسانيّ، وكافحت من أجل الحفاظ عليه. بحيث إنه داخل هذا المشترك يستطيع المواطن  أن ينمو ويزدهر.

إنّ المواطنة واقعة ميتافيزيقية تتجاوز نطاق دفع الضريبة والانتماء إلى البلد، وترديد ”النشيد الوطنيّ” كلّ صباح على أبواب المدارس، وفي ساحاتها، وملء أذهان الناس بالشعارات الجوفاء، في الوقت الذي نواجه فيه خارج الأسوار فراغ لغة الخطاب السياسيّ من الجدوى، ونموذجا في الديمقراطيا تكون فيه الأقوال أهمّ من الأفعال ! بل تنتصب فيه الديمقراطيا ضد الديمقراطيا بالذات، كما بيّن جاك رونسيير. تتوقف المواطنة على انخراط المواطن، وانبثاق فضاء للحرية لا يهرب منه أحد[22] أو يتوارى خلف الأساطير، والأسلاف، والأمجاد البائدة، ولا يلجأ إلى سلوك التوحش والفوضى حتى يُكسب خوفه من الحرية مشروعيّة من نوع ما. فهذا هو الشرط الذي يجعل المواطنة ممكنة، ويجعل شعار ”التربية على المواطنة” ذا معنى. وحين يتحقق ذلك، لن يعود بالإمكان اعتبار سارق المال العام مواطنا، أو السياسيّ الفاسد، أو المشعوذ والدجال مواطنا، لأنّ كل هؤلاء  يضربون مبدأ المواطنة من الأساس، ويهددون كينونة الإنسان بطرق مختلفة. ولهذا السبب نلفي المجتمعات التي اختبرت هذا المعنى الأصيل للمواطنة تتشدد في مطالبتها بمحاسبة مثل هؤلاء المنحرفين عن مسار المواطنة الحقّة، وتعتبرهم أعداء الإنسانية، وتزدريهم أيّما يكون الازدراء، أما في المجتمعات التي لا توجد في وعيها مساحة لمثل هذا المعنى، فهي تجعل من كل واحد منهم أيقونة للوطنية وآية من آيات المجد التليد! وهي بالرغم من كل ذلك، تريد المدرسة أن تربي على المواطنة!

خاتمة

حاولنا في هذه الورقة تسليط بعض الضوء على واقع المدرسة المغربية من زاوية لا تزعم لنفسها ”التخصص” أو الحديث باسم ”العلم”، بل تحاول وضع المدرسة في سياق التحولات التي تمس الثقافة والمجتمع، من جهة أنّنا نرى أنّ لا سبيل إلى  فصل المدرسة عما يقع خارج أسوارها. ولذلك نظرنا إليها من زاوية تروم بيان المكانة الروحية التي تحتلها المدرسة في المجتمع المعاصر، ورصد الأثر السلبيّ الذي يخلفه ما سميناه أزمة الثقافة المدرسية على المدرسة ودورها، ثم إضاءة بعض المفاهيم التي نستعملها في الخطاب التربوي، مثل ”الفهم”، و”المواطنة” و”التربية على المواطنة”.

نود في الأخير التأكيد على أنّ إرساء أسس مدرسة التفكير النقديّ، والمدرسة المواطنة والدّامجة لا يحتاج إلى الشعارات الجوفاء والمزايدات البلاغيّة، بل يحتاج إلى تكوين نظرة مختلفة عن النظام التعليميّ جملةً، ومراجعة طريقة تدبيره، وتقويم بعض الممارسات التي تصدر عن فئة من الفاعلين التربويين أنفسهم. كما نود التنبيه على أنّ اهتمام ”السياسيّ” بالمدرسة ليس ترفا، وأنّ المدرسة ليست فُضلة على المجتمع. وذلك لأنّ المجتمع ليس فضاء فيزيائيا فحسب، بل هو فضاء رمزيّ وتاريخيّ، والمدرسة هي ما يشد لحمة هذا الفضاء، ويؤهله ليكون في مستوى تطلعات الإنسان دوما. لهذا فإن المدرسة لا تحتاج إلى ”إصلاح” فقط، وإنما إلى ”سياسة للمدرسة”، إنها أحوج إلى ”سياسة كبرى” تضعها في قلب العالم، لا على هامشه، وإلى فك ارتباطها بالسوق وبالتجارة، ودون ذلك فإنّ المدرسة المغربية لن تعيد إنتاج الوضع الطبقيّ فحسب، بل ستعمل على إنتاج الأعطاب البشرية، التي سببها تراكم الإخفاقات، والشعور بالخيبة والإهمال، وانتشار الانحرافات الخطيرة في السلوك؛ حتى إذا عمّر هذا الوضع أكثر مما فعل، اندثر في المجتمع كل ما هو قويم وسديد، وافتقد إلى مرجع قيميّ يرجع إليه للتعرف على ذاته، ثم  اختفى المجتمع في الأخير وتلاشت معالمه في الفوضى الهدّامة.  وذلك ما يطالعنا به ”التاريخ الاجتماعي” للإنسانية و”تاريخ الأفكار”.وفي أمريكا تأتي صيحة عاقل لتنبه على مثل تلك الانحرافات التي عنينا في سياق الكلام هذا.[23]

لا يُهمل ”السياسيّ” المدرسة إلا حين يكون بلا أفق سياسيّ، وبلا أفق تاريخيّ، و لَمّا يكون في هذه الصورة الدنيئة، ما أعجزه عن الإتيان بالفعل النبيل ! و ما أصعب عليه، والحال هذه، إدراكُ أنّ الولوج إلى شرط المواطنة بمعنيَيها الاجتماعيّ والسياسيّ يقتضي توفّر مدرسة عمومية جيّدة، تساعد الإنسان على الخروج من استلاب الوعي و تُهيء له سُبل بلوغ الحرية ! بل أدهى من ذلك، ما أعسرَ وعيَه بأنّ الحرية هي المآل الطبيعيّ لكل تقدم تاريخيّ، ولكل خطوة جهة التعلم و اكتساب الثقافة !


[1] Ulf blossing et al (ed), Policy implications of research in education 1 :  The Nordic education model :’A school for all’ encounters neo-liberal policy,  Springer, 2014,  P. 18.

[2]  ظهر هذا الأمر جليا في ما يعرف  بـ ”متناقضات كانط” :de Kant   les antinomies ، المبثوثة في كتابه نقد العقل الخالص.

[3]  Michael Allen Gillespie, The theological origins of modernity, Chicago and London:  the university of Chicago press, 2008, p .189.

[4]  يُنظر :

Milton Friedman, Capitalism and freedom . Chicago: University of Chicago Press, 1962

[5] P.  Bourdieu, et J.-C  Passeron, La reproduction. Éléments pour une théorie du système d’enseignement, Paris :Les Éditions de minuit, 1970.

[6] Voir : Henry A. Giroux, Ideology, Culture and the Process of Schooling, Philadelphia, PA: Temple University Press, 1981

[7]  B. Bernstein, Class, codes and control : volume 3 – Towards a theory of educational transmission. Londres, Royaume-Uni: Routledge & Kegan Paul. 1975.

[8] Paulo Freire,  La pédagogie des opprimés. Paris: Maspero, 1974

_Paulo Freire, pedagogy of the oppressed, trans. Myra  Bergman Ramos, New York: Bloomsbury Academic,2014.

[9]  لا يمكن الحديث عن رؤية استراتيجية مثلا ونحن نختار سياسة التقشف، و نظام ”التعاقد” في وظيفة حسّاسة مثل التعليم؛ لأن الاستراتيجيا تُعنى بالأهداف البعيدة، وهي هاهنا صناعة الإنسان. ولكن هل يستطيع  مدرس مقهور ماديا، ومهدور معنويا، ومفتقد للاستقرار النفسيّ والمهنيّ أن يحقق هذه الغاية !

[10]  لاحظنا ذلك في بعض المدن المغربية خلال ليلة عاشوراء يوم  20غشت من سنة 2020، حيث تم اعتقال العديد من الشبان والقاصرين في مدينتَي الرباط والدار البيضاء بسبب أحداث الشغب ومخالفتهم لقانون حالة الطوارئ الصحية.   

[11] Marcel  Gauchet, ‘l’école à l’école d’elle-même. contraintes et contradictions de l’individualité démocratique’, in : M. Gauchet,  la démocratie contre elle-même, paris : Gallimard, 2002, p. 115.

[12] Ibid,. p. 112.

[13]  يمكن الاطلاع على تفاصيل هذا التعريف والنقاش الذي يدور حوله مثلا  في  :

 Marshal  Sahlins Islands of History. Chicago: University of Chicago Press, 1985.

[14]  صدرت في المغرب حديثا مذكرة عن وزارة التربية الوطنية، صارت في الوسط التربوي مصدر امتعاض كبير، ولذلك سميت ”مذكرة البَستنة”، من باب السخرية. نسبة إلى العقوبات البديلة التي تقترحها. يتعلق الأمر بالمذكرة رقم14/867 بتاريخ 17 أكتوبر 2014، بشأن القرارات التأديبية المتخذة من قبل مجالس الأقسام. والتي تنص على اعتماد عقوبات بديلة في حق المخالفين للقانون الداخليّ للمؤسسةـ، تتمثل في تقديم ”خدمات ذات نفع عام” داخل المؤسسات التعليمة.  والحال أنّ هؤلاء التلاميذ المخالفين للقانون غالبا ما يكونون، في الوسط الحضري بخاصة، من المنحرفين وذوي السوابق الجنائية، و رغم ذلك تطالب المذكرة الوزارية الأساتذةَ بالاحتفاظ بهم في الفصول الدراسية. وقد اعتُبر هذا المطلب تجسدا لانفصال الوزارة عن واقع المجتمع، وتجاهلها لتحولاته السلبية. وكذلك اعتبرت مخالفة لمبدأ تراتبية القوانين، إلخ.  لذلك طالب الأساتذة بسحب المذكرة ، حتى تتمكن مجالس الأقسام من ممارسة مهامها بما يضمن توفير المناخ التربوي السليم داخل أسوار المؤسسات التعليمة.

[15]  مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001.

[16]  عبد الله حمودي، الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، ط4، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2010.

[17]  Harry G. Frankfurt, On Bullshit, Princeton and oxford: Princeton university press, 2005.

[18]  Hannah Arendt, Essays in Understanding 19301954, Jerome Kohn (ed), New York: Harcourt Brace, 1994.p 308.

[19]  Slavoj Zizek, Did somebody say totalitarianism?  five interventions of the (mis)-use of a notion, London and New York: Verso, 2001, P.11.

[20]  يُعرّف السوسيولوجي الفرنسي إميل  دوركايم التربية بالقول إنها ” الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على تلك التي لم تصر بعد مؤهلة للحياة الاجتماعية، وإن موضوعها هو أن تحفز وتنمي لدى الطفل عددا من الحالات الجسدية والفكرية والعقلية، التي يتطلبها منه المجتمعُ السياسيّ في جملتِه، والوسطُ الاجتماعيّ الذي يُوجّه إليه على نحو مخصوص.”   يُنظر :

Emile Durkheim, éducation et sociologie, paris : Félix Alcan, coll. « Bibliothèque de philosophie contemporaine »,1922, p 49.

 [21]   ذلك لأن المواطن أكثر من مجرد مؤمن يصلي ويصوم، أو شخص يدفع الضريبة، والمواطنة أرفع من المعنى الذي راج في المغرب مؤخرا عن ”خدام الدولة”، بحسب تعبير أحد المسؤولين السياسيّين، وفي مقابل ذلك، المواطنة أيضا أشرف من  كل ”كائن ممتاز”، يتصرف فوق القانون، فيتهرب من أداء الضريبة، وينهب المال العام، ويرهن مستقبل أبناء الوطن للمجهول، ويسطو على أحلام أمّة بكاملها؛ حين يرشي، ويرتشي، ويزور، و يحتقر المضطهدين…  فذلك كلّه افتراء على الوطن والوطنية.

[22]  تحيل هنا إلى  كتاب رشيق للألماني إريك فروم ، يُنظر :

Erich Fromm, escape from freedom, New York: Avon books, 1969.

[23] نحيل هنا تحديدا على كتاب الفيلسوفة الامريكية مارثا نوسباوم ( وقد ترجم إلى العربية مؤخرا ترجمة سجلنا عليها الكثير من الملاحظات) :

Martha c. Nussbaum, not for profit: why democracy needs humanities ,the public square book series, Princeton university press, 2010 .
____________
*عبد الرحيم البصريّ.

جديدنا