الفلسفة وسؤال المعرفة

image_pdf

 

مدخل:

تَتَجَلَّى الدعوة لِلقراءة الفلسفية دائماً في قيمة التَفَكُّر والتَدَبُّر، الذي يتفق مع معناها القراني الوجودي، الذي لا يعني المطالعة لزيادة إحمال المعلومات، وانّما القراءة بمعنى الجمع لتحصيل العلم المنتج للرؤية، لذا كانت “اقرأ” هي  فعل الأمر الوجودي الأول المُحِيلَة إلى هذا التَفَكُّر والتَدَبُّر في إجابة سؤال الاستكناه التأسيسي حول الخلق والوجود (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). ولذا، انتبهت فطرة التَفَكُّر الفلسفي الباحث عن الحقيقة لذلك، فأحسن الفيلسوف البريطاني جون لوك في قوله: إنّ “القراءة تَمدُّ العقل فقط بلوازم المعرفة، أمَّا التفكير فيجعلنا نملك ما نقرأ.” والتفكير يبدأ بتعلم القدرة على طرح السؤال، لأنه مفتاح الوجود، إذ لا تتحقق المعرفة بهذا الوجود إلا بالقدرة على طرح السؤال “الإشكالي”، أو “الحارق”، بمفردة أهلنا في المغرب. ويجوز أن نبدأ بأسئلة بدهية، مثل: ما هي أهمية الفلسفة؟ أو: لماذا الفلسفة مهمة في حياتنا؟ وهل أعرف من خلالها ماهو حقيقي؟ ولماذا أعتقد أنه صحيح؟ وكيف أعيش على أساس ما أؤمن به؟ فالفلسفة مهمة لأنه في مرحلة ما من حياتنا يجب علينا جميعاً أن نسأل، ونجيب عن هذه الأسئلة لأنفسنا، لأننا نفحص عبرها نمط حياتنا وقيمتها. وكما قال سقراط: إنّ “الحياة غير المفحوصة لا تستحق العيش”، إدراكاً منه بأن الفشل في الإجابة على واحد، أو أكثر، من هذه الأسئلة سيؤدي بسرعة إلى ما نطلق عليه عموماً أزمة عقلية، أو عاطفية، فنحن نقع في الاكتئاب، ونستسلم للقلق، ونكافح لإيجاد أي معنى، أو هدف يُبْتَغَى.

 

أصل الوجود:

إنّ الفيلسوف اليوناني طاليس الميلتوسي، هو من فتح الباب أمام العقل الإنساني بسؤال إشكالي واحد، ليخرج من خلاله الفكر إلى فضاء رحب، واستشراف معرفة هائلة، أسسها من خلال سؤال واحد: ما أصل الوجود؟ وهو من قال بأن الماء أصل الأشياء كلها. وقد نقول اليوم إنّ هذه حقيقة أنبأنا بها القرآن في سورة الأنبياء (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. لكن علينا أن نتذكر؛ أن طاليس عاش قبل ذلك، ما يستدعي التَفَكُّر فيما حوت الآية من دفع لاستجلاء الحقائق العلمية والمعرفية التطبيقية حول سر الارتباط الوجودي للحياة الكونية بالماء، وهذا يؤكد أنّ أصالة التَفَكُّر والتَدَبُّر كفعل تكثيفي للسؤال الإشكالي، تؤدي لمعرفة الحقائق والاهتداء ليقينها، لأنّ قيمة السؤال لا تكمن في ظاهره وإنما في جوهره، الذي قال عنه نيتشه إنه يكمن في العقل الكلي التوحيدي، وأن قيمة العقل تكمن في طرحه للأسئلة لا الجواب عليها، لأنه مهما حاول أن يجيب بدقة، فإنً اللبس يكثنفه أحياناً، لكن السؤال يظل علامة بارزة تُشير لعظمة عقل أبدعه. فالعقل الإنساني لا يذهل أمام تعدد الأشياء واختلافها الكبير، وإنما بقدرته العظيمة يستطيع أن يؤلف ويجمع بينها تحت لواء واحد يقترب به من الإجابة .

لذلك، فالفلسفة ليست هي ما يعتقد معظم الناس، بمن فيهم شباب الجامعات، الذين يتخيلون أنها على الأرجح عبارة عن كتبٍ غير قابلة للفهم تمتد أحجام بعضها لألف صفحة، أو تزيد، وأنها تقول الكثير ولا تحل شيئاً. ولكن، نقول بقين جازم، ومنطق حاسم، إنّ هذه التخيلات غير صحيحة إطلاقاً، ولا تسندها حقائق الواقع العلمي والمعرفي. بل، إننا نجد أن للفلسفة تأثيراً فورياً وعميقاً على رفاهيتنا، وحياتنا اليومية، وإدراكنا العقلي لكيفية رؤيتنا وفهمنا لمجتمعنا، والقدرة على تحديد ما هو صحيح بشأن أنفسنا، أو حول حياتنا، أو حول العالم. وهذا ما أجمع عليه الفلاسفة قديماً وحديثاً، بمن فيهم الوجوديون؛ مثل، سورين كيركيغارد وجان بول سارتر، الذين قالوا إنّه لاستعادة رباطة جأشنا وقوتنا العقلية، نحتاج إلى إعادة بناء دعامة ذهنية، أي أنه يجب أن نُعيد تعريف ما نعرف أنّه حقيقي، وكيف نعرف أنّه حقيقي، وكيف ينبغي أن يملي علينا أفعالنا. يجب أن نجد مصادر جديدة للمعنى، وتعريفات أكثر جوهرية للهوية والغرض، ومبادئ أكثر فائدة فيما يتعلق بالعالم، مما يقتضي تضمين فلسفة العلوم للمنهج الدراسي، لتطوير التلقي التعليمي إلى غاياته الفكرية المنتجة.

 

سؤال المعرفة:

إن الأسئلة تتجدد بتقدم تطلعاتنا وتنوع طموحاتنا، ومن نواح كثيرة، فإن هذا النوع من التجديد الفلسفي هو ما صمم العلاج لمساعدتنا على القيام به. ويمكن أن تكون الممارسات مثل التأمل، أو كتابة اليوميات، مفيد جداً. وباستخدام هذه الأدوات، يمكننا إعادة تقييم تصرفاتنا ببطء، وتعميق معتقداتنا، واتخاذ إجراءات جديدة لخلق حياة أفضل لأنفسنا، أي يمكننا اعتماد النظر عبر شيء من الفلسفة. إذ إنّ الفلسفة تعلمنا التقنيات الأساسية لإيجاد المعنى والهدف في عالم لا يوجد فيه معنى محدد، ولا هدف كوني معلوم. وتعطينا الفلسفة أدوات لتحديد ما هو مهم وصحيح على الأرجح، وما هو غير صحيح ومختلق على الأغلب. وتوضح لنا الفلسفة مبادئ للمساعدة في توجيه أفعالنا، وتحديد قيمتنا وقيمنا، وإنشاء مجال جاذبية لتوجيه بوصلتنا الداخلية، حتى لا نشعر بالضياع مرة أخرى.

لهذا، إذا فرغنا من إدراك المغزى العام مما تقدم ذكره، فإننا سنشعر بحاجتنا جميعاً إلى محاولة الإجابة عن الأسئلة الأساسية الثلاثة التالية لأنفسنا للبقاء بصحة جيدة من الناحية العقلية، وربما العاطفية. وذلك لسبب بات معلوماً اليوم، وهو أن حياة القرن الحادي والعشرين، على عكس أي وقت مضى، عطلت قدرتنا على الإجابة على هذه الأسئلة. فقد تبدو هذه الأسئلة بدهية، والإجابة عليها سهلة، قبل ثورة الاتصالات الحاضرة، ولكنها غير ذلك الآن، وأولها: ما الذي أعرفه ليكون صحيحاً؟ فمن المفارقات أن تدفق المعلومات لم يجعلنا أكثر ثقة فيما هو صحيح وما هو غير صحيح، ولكن سيل الأخبار المزيفة، والمعلومات السيئة، والشائعات المُضِرَّة، على وسائل التواصل الاجتماعي، والتسويق والدعاية المتلاعبة، أصبح يُصَعِّب علينا معرفة ما إذا كان بإمكاننا الوثوق بالمعلومات، التي تصادفنا أم لا. وغالباً ما يلاحقنا السؤال الثاني: كيف أعرف أن هذا صحيح؟ خاصة بعد أن تعرضت أساليبنا التقليدية للتحقق مما نعرفه للضياع.  ونلاحظ أن العلم يواجه أزمة تكرار واسعة النطاق،, يتم الكشف عن فضائح “الغش” في كثير من المؤسسات التعليمية، وبعض البحوث مشكوك فيها. وهذا يقودنا إلى السؤال الثالث: كيف أعيش على أساس ما أؤمن به؟ وقطعاً من دون معرفة ما هو صحيح، أو كيفية المضي قدماً في البحث عن الحقيقة، تُصبح الأمور أقل وضوحاً من أي وقت مضى. فكيف يجب أن نعيش؟ وما هو جيد؟ وما هو المفيد؟ وما هو المهم؟ فنحن جميعاً نفكر، ونحن نعلم، ولكن هناك حالة من عدم اليقين العام، وأعتقد أن هذا يسود معظم ثقافتنا، ويولد شعوراً مستمراً بالقلق الوجودي، وانعدام الأمن.

لقد أصبحت الفلسفة أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأن الفلاسفة كانوا يفكرون، لآلاف السنين، بعمق في هذه الأسئلة، وكانوا على دراية بعيوب العقل البشري، وعدم شمولية كل معرفة، والمهمة شبه المستحيلة المتمثلة في فك رموز الخير الأخلاقي والتصرف بناءً عليه. وعندما يتعلق الأمر بهذه الأسئلة الوجودية، يمكن أن نقف على أكتاف موروثاتنا؛ لأنه بمجرد أن تبدأ في التساؤل عن أهمية وصدق كل ما يحدث في حياتنا، سنبدأ في إدراك أن الكثير مما نؤمن به لم نُحدد قيمته نحن، بل حدده الناس والثقافة من حولنا. ففي مرحلة ما من حياتنا، قد ينتابنا قدر من الإحساس بالتشكيك في ما ألفناه من القيم، التي نشأنا عليها، ونسأل أنفسنا ما إذا كانت هذه القيم تخدمنا أم لا، ولكننا سرعان ما نصل إلى اليقين بأننا نشأنا بالفعل على قيم جيدة، خاصة إذا كان آباؤنا حاضرون وعاملون ومؤمنون، وأعطونا القدوة والمثل. ومن هنا نُدرك أن الاختيار الواعي لمعتقدات الفرد وقيمه ليس له فقط تداعيات على الرفاهية العقلية والعاطفية، ولكنه يحدد أيضاً نوع البصمة، التي يتركها في العالم. وفي الواقع، نستطيع أن نرى أن الأشخاص، الذين يصنعون أعظم الآثار في حياتنا، يميلون إلى تحديد أنظمة معتقدات فلسفية ودينية واضحة لأنفسهم.

 

الفلسفة والعلم:

إنّ الروابط التاريخية الوثيقة بين العلم والفلسفة تجعل للفلسفة تأثيراً مهماً ومنتجاً على العلم، الذي يمكن إيضاح بعضه بثلاثة أمثلة مأخوذة من مجالات مختلفة لعلوم الحياة المعاصرة. ويعتمد كل منها على أحدث الأبحاث العلمية، وقد تم الاعتراف بها من خلال الباحثين الممارسين كمساهمة مفيدة في العلوم. أولاً، أن تعريف الخلايا الجذعية هو مثال ساطع على ذلك، إذ إن للفلسفة تقليد وتاريخ طويل في التحقيق في الخصائص، وقد تم مؤخراً تطبيق الأدوات المستخدمة في هذا التقليد لوصف هذه “الجذعية”، وهي الخاصية، التي تحدد طبيعة “الخلايا”. ثانياً، تقدم دراسة علم الأعصاب الإدراكي توضيحاً للتأثير العميق والطويل الأمد للفلسفة على العلم. وكما هو الحال مع علم المناعة، صاغ الفلاسفة نظريات وتجارب مؤثرة، وساعدوا في بدء برامج بحثية محددة، وساهموا في التحولات النموذجية. وثالثاً، ساعدت الفلسفة مجال العلوم المعرفية في تذويب الافتراضات الإشكالية، التي تستخدم مفاهيم العقل والذكاء والوعي والعاطفة، والتي تتطلب هندسة الذكاء الاصطناعي.

إن هذه الأمثلة، وغيرها، تُظهر أن مساهمة الفلسفة يمكن أن تتخذ أربعة أشكال على الأقل: توضيح المفاهيم العلمية، إذ تعمل على تحسين دقة وفائدة المصطلحات العلمية، وتؤدي أيضاً إلى تحقيقات تجريبية جديدة لأن اختيار إطار مفاهيمي معين يقيد بشدة كيفية تصور التجارب، والتقييم النقدي للافتراضات، أو الأساليب العلمية، وصياغة مفاهيم ونظريات جديدة، وتعزيز الحوار بين العلوم المختلفة، وكذلك بين العلم والمجتمع. وتكملة لدورها في التوضيح المفاهيمي، يمكن للفلسفة أن تساهم في نقد الافتراضات العلمية، ويمكن أن تكون استباقية في صياغة نظريات جديدة، وقابلة للاختبار والتنبؤ، تساعد في تحديد مسارات جديدة للبحث التجريبي. وتشترك الفلسفة والعلوم في أدوات المنطق والتحليل المفاهيمي والحجج الصارمة.

 

الخاتمة:

إننا نتحدث اليوم عن كم هائل من المعرفة، وتعدد واسع في أفرع العلوم، وملايين الاختراعات والابتكارات، والإنتاج الكبير في مختلف المجالات، التي نبعت جميعها من سؤال أحدهم. واليقين عندي أنه لو لم يكن العقل الإنساني قادراً على وضع السؤال الجوهري لما تطور حال البشرية من العصر الحجري إلى ما هو عليه الحال اليوم. فالإنسان، وهو في العصر الحجري، كان يقطع باستعمال الحجر كما فعل جده، ويتساءل في الأن نفسه: ما الذي يمكن أن يقطع أفضل من الحجر؟ فطور بهذا التساؤل قدرته على اكتشاف ما هو أجدى للقطع من الحجر. ولو لم يستطع طرح السؤال، واحتفظ بالجواب القديم فقط لظل إلى يومنا هذا يقول: “إن جدي كان يقطع بالحجر”، وعليه فالأجدى والأجدر أن استمر على ما أورثنيه، أو ما ألفه الناس في حياتهم. إلا أنه أدرك أن السؤال مفتاح الوجود، ومُؤسِّس المعرفة، به ننهض ونرتقي، وبه نتطور، فلنتجرأ على طرح السؤال.

لهذا، نرى الفلسفة والعلوم، باستصحاب ما تقدم من أمثلة، والعديد من الأمثلة الأخرى، يقعان في سلسلة متصلة من مناهج المعرفة. ومع ذلك، يمكن للفلاسفة تشغيل هذه الأدوات بدرجات من الشمولية والحرية والتجريد النظري، التي لا يستطيع الباحثون الممارسون تحملها في كثير من الأحيان في أنشطتهم اليومية. ويمكن للفلاسفة ذوي المعرفة العلمية ذات الصلة أن يساهموا بشكل كبير في تقدم العلم على جميع مستويات المؤسسة العلمية من النظرية إلى التجربة. ونأمل أن تشجع أنواع الأمثلة العملية المبينة أعلاه في بناء تكامل نهضة العلم والفلسفة، لأن الحفاظ على علاقة وثيقة مع الفلسفة سيعزز حيوية العلم. ويحسُن استصحاب هذه العلاقة عند وضع المقرر الفلسفي المدرسي، حتى يتجذر وعي الطلاب وثقتهم الفكرية في أصولهم المنهجية الثقافية والحضارية.

 

الخميس 10 ديسمبر 2020

القاهرة، جمهورية مصر العربية
_________
*الدكتور الصادق الفقيه/ سفير سوداني، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي.

جديدنا