المعرفة الرياضية؛ طبيعتها، إشكالات الفهم وأبعادها الاجتماعية

image_pdf

 تأخذ الرياضيات مكانة متميزة من بين المواد المدرسة بكل الأنظمة التربوية، وقد حافظت المادة على مكانتها تلك على مر السنين رغم ما يطبع تدريسها من صعوبة في الآونة الأخيرة، وما يحكم تعلمها من تمثلات وانطباعات نفسية واجتماعية تجعل جمهورا عريضا من التلاميذ –والأولياء حتى- يتوجسون منها خيفة، ويرونها رموزا لا سبيل لفكها، وعلما لا صلة له بالواقع النفسي والاجتماعي، وترفا فكريا لا طائل وراءه سوى المشاغبة على العقول وإثارة الفضول، فتكون النتيجة الحتمية والمنطقية –بناء على هذه المقدمات- عزوفا ونفورا وتضايقا وانحصارا عاطفيا من كل ما له علاقة بالرياضيات.

لذلك ارتأيت أن أميط اللثام عن بعض الأبعاد التربوية والاجتماعية ومكامن الصعوبة في فهمها بغية تصحيح التصور، والإسهام في بناء تفاعل إيجابي مع هذا الضرب من العلوم الذي وُسِمَ بأب العلوم  عند البعض، وبملكها عند آخرين، وَفْقَ المباحث التالية:

  • المبحث الأول: ما الرياضيات؟
  • المبحث الثاني: فهم الرياضيات بين البساطة والتعقيد.
  • المبحث الثالث: الأبعاد التربوية والاجتماعية للرياضيات.

المبحث الأول : ما الرياضيات؟ Mathématiques

تختلف التعريفات التي قُدمت للرياضيات تبعا لاختلاف وجهات النظر ودرجة القرب والبعد المعنوي من حيث الفهم والغموض، وهذه بعضها:

المطلب الأول: الرياضيات كما عرَّفه الفلاسفة:

فالفلاسفة ينظرون إليه على أنه “علوم موضوعها العدد والكم”([1]) ويُلاحظ أن هذا التعريف لم يراع تطور العلوم واتساع مجالاته وتعدد موضوعاته، حتى أمكن لأحد الدارسين المعاصرين أن يقول: “لا يوجد في وقتنا أي مجال – تقريبا – للمعارف الإنسانية لم يدخل فيه الرياضيات”([2] ومن وقف على مجالات اشتغال الرياضيين المعاصرين سيشاطره الرأي، وإليك بعضا منها:

  • المنطق وأساس الرياضيات.
  • نظرية المجموعات.
  • نظرية الأعداد.
  • النظرية الجبرية للأعداد ونظرية الحقول.
  • الحلقات التجمعية والجبر.
  • الحلقات التوزيعية والجبر.
  • الهندسة التحليلية.
  • التحويلات الهندسية.
  • نظرية الزمر.
  • الدوال الحقيقية.
  • نظرية القياس.
  • التوابع العقدية.
  • نظرية القدرة.
  • التوابع الخاصة.
  • معادلات تفاضلية.
  • عمليات التكامل.
  • طرائق العد.
  • المتباينات الهندسية.
  • الهندسة التفاضلية.
  • التبولوجيا العامة.
  • نظرية الاحتمالات.
  • نظرية التنبؤ.

وغيرها كثير وهي تخصصات متفرعة عنه([3]).

وقال عنه أفلاطون: «الرياضيات هي الطريق الوحيد والأوحد الذي يمكننا من الوصول إلى عالم الأفكار».

وأما ديكارت فقال: «لا يمكن أن ننسب للرياضيات إلا الأشياء التي تخضع للترتيب والقياس».

أما دالامبير: «العلم الذي موضوعه خصائص المقدار».

في حين رأى فلامون أنه: «علم الحساب».

وقال باشلار: «الرياضيات هي الدقة في غير المحدد».

ونظر له بوانكاريه من زاوية أخرى، فرآه: «فن تسمية مختلف الأشياء بنفس الاسم».

ومن مسافة ليست بالبعيدة لمحه الرياضي تِين فأعلن أنه: «التهيئ المسبق لقوالب لكي يملأها فيما بعد الفيزيائي»، وقرر أيضا هذه العلاقة بين الرياضيات والفيزياء الفيلسوف كانت حين وصف الرياضيات بأنه : «قنطرة بين الميتافيزيقا والفيزياء»([4]).

المطلب الثاني: الرياضيات كما يصفه الرياضيون:

تعددت أيضا التعريفات المقدمة للرياضيات من طرف أهله –الرياضيين- فبعضهم اقتصر على الموضوع والمسائل، وآخرون تجاوزوا ذلك إلى المنهج، واقتحم صنف ثالث عتبة التطرق إلى الغاية والهدف، فقيل: الرياضيات هي علم اللانهايات([5]).

وهذا باعتبار الموضوع، وهو أيضا قاصر على تغطية جميع الموضوعات (المواضيع) وقد أشرنا آنفا إلى بعضها.

وحاول أحد الباحثين أن يقدم للرياضيات تعريفا يجمع المنهج إلى جانب الموضوع، ولعله اقترب إلى حد معتبر من بسط حقيقته، حيث قال: “ينظر إلى الرياضيات في الغالب كعلم منته واستنباطي، يتم فيه الاهتمام بالحساب على الأعداد والحروف، كما أنه علم الخاصة بامتياز”([6]).

ونجد باحثا آخرا يقتصر في تعريفه على تحديد موضوع هذا العلم، فيقول: “إن موضوع الرياضيات هو العلاقات وبكلمة أدق البنيات”([7]).

ونقل عن الجابري([8]) ما نصه : “البنية الداخلية لهذه المادة تستعمل الرموز التي لا ترمز لأي شيء معين، وفي ذات الوقت ترمز لكل شيء”([9]) باعتبارها تقوم على التجربة من جهة والتجريد من جهة أخرى.

ولقائل أن يقول : الرياضي فرد يصوغ ويبحث في حل المسائل، وهذه المسائل تختلف وتتنوع باعتبار الموضوع.

المطلب الثالث: مقترح تعريف:

وبعد هذا يمكنني وانطلاقا من تجربة تدريس تزيد عن العقدين من الزمن أن أقترح تعريفا ذا مغزى عملي كالآتي:

   الرياضيات هو فعل أو أفعال تمارس على موضوع أو مواضيع لغرض إدراك الحقائق وإنتاج الأفكار، بالاستناد إلى المنطق والحدس.

شرح التعريف

قلت : فعل حتى أُبْعد الأسلوب الخاطئ الذي يقدم الكلام ويغلّبه على الفعل، لأنه مثيل ما يقوم به الممارس للرياضة Sport بالنسبة للجسم، وهذا للعقل فكما لا يفيد في الأولى كلام وخطاب، كذلك في الأخرى. ولعل السقوط في هذا المطَبِّ كان له الأثر السيء على تدريس الرياضيات في نظامنا التعليمي. ثم قلت موضوع ولن يكون سوى المعرفة، ولكن ليست أية معرفة، إنما المعرفة لِما هو موجود دائما، لا لما هو يُولد ويَهلك، لأن من شأن ذاك أن يجذب النفس نحو الحقيقة.

وأما قولي لغرض إدراك الحقائق وإنتاج الأفكار، فهو ما عبر عنه أفلاطون ب: «الموصل إلى عالم الأفكار» ولا أقصد به القفز إلى ذلك العالَم، وإنما هو مسيرة دراسية  وأعمال متواصلة مستمرة من المحسوس إلى المجرد، فعالم الأشياء والأشخاص كما عالم الأفكار هي عالم الإنسان بجوهره الروحي والعقلي وبعده النفسي والاجتماعي، حتى لا نُخدَع كما نبَّه إلى ذلك أحد الباحثين: «التجريد لن يكون سوى نوع من الخداع والانحراف إن لم يشكل تتويجا لسلسلة متواصلة من الأفعال الملموسة التي تم القيام بها من قبل»([10]) وقيدت ذاك كله بالاستناد إلى المنطق والحدس([11]) باعتبارهما ركيزتي المنهج الرياضي([12])، وعطفتهما للإشارة أنهما لا يفترقان في عملية الاكتشاف والإبداع، وأيضا في عملية الإثبات والبرهنة، يقول بوانكاريه: «بالحدس نكتشف وبالمنطق نبرهن».

المطلب الرابع: تعاريف غريبة

هي تعاريف غريبة لا تخلو من قيمة وإشادة، أسوقها هنا للتسلية والإفادة، خروجا من تلك اللغة العلمية الجدية القاسية – واعتذر لأولئك الذين تعودوا النظر إلى كل شيء في الحياة وفي الرياضيات خصوصا بجدية لا متناهية – فيكفيك أن تكون على علم بما تريد أن تقول، ولك أن تتخذ من الأساليب ما يناسب فقد مازح النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ديْدَن الدعوة وغاية العبادة، ودليل الفوز والسعادة([13]).

وهذه بعض التعريفات أو التمثلات بذلك الأسلوب المازح يقول برتراند راسل: «يمكن تعريف الرياضيات بأنها المادة التي يصعب دوما أن تعرف الشيء الذي يدور الحديث حوله، ويصعب معرفة ما إذا كان ما نقوله صحيحا أو غير صحيح»([14]).

ويقول طالب مجهول: «الرياضيات هي المادة التي نحصل غالبا فيها على علامة الصفر».

ويقول مدرس معلوم: «الرياضيات هي المادة التي كبَّدَتْنا المشاق وحملتنا على السهر وتسويد الأوراق، في مرحلة الطلب، وزادت هَمَّ الإفهام في زمن العمل».

وقال دافيد حلبيرت: «الرياضيات ليست إلا لعبة تلعبها وفق قواعد بسيطة مستخدمين لذلك رموزا ليس لها أهمية في حد ذاتها»([15]).

وقال أب عطوف: «الرياضيات مجموعة قواعد وعلاقات أوجدها نخبة ليرهقوا أبناءنا بها»([16]).

ولا يخفى أن ما سبق سرده يطرح مجددا أكثر من سؤال:

  • ما جدوى تدريس الرياضيات ؟.
  • ما طبيعة المعرفة الرياضية ؟.
  • كيف نفك إشكال ونفتح أقفال الفهم في هذه المادة ؟.
  • وهل لها أبعاد تربوية واجتماعية من شأن إبصارها أن يرفع المعنويات ويقوي الحوافز؟.

وهو ما سأتناوله فيما يأتي بحول الله.

المبحث الثاني: فهم الرياضيات بين البساطة والتعقيد

الفهم من الإشكالات العويصة والمعضلات الكبيرة التي طُرِحت بإلحاح على المختصين والباحثين والمهتمين والدارسين لقضايا الرياضيات النظرية والعملية، وقُدمت إجابات تحتاج إلى تجريب واقتراحات تفتقر إلى التفعيل والتطوير([17]).

على أي تجدني مضطرا لإعادة عرض بعض ما ذكر مع مناقشة موجزة بما تسمح به السطور. فالفهم مسألة مهمة في كل نشاط رياضي، وهو عند بلوم من المستويات الدنيا من التفكير، تأتي بعد المعرفة (الحفظ) وقبل التطبيق، ثم التحليل والتركيب والتقويم، فهو إذن: “مهارة عقلية تمكن من معرفة ما يُتلقى من المحيط الخارجي”([18]).

والفهم بدوره مراتب منها: القدرة على التحويل والتأويل والتعميم، فهو إذن عملية اكتساب المعرفة والتمكن من التصرف فيها بتغيير الصيغة، وتنويع القراءة، وتبديل أو توسيع الإطار الأصلي في سياقات مختلفة.

وكون الفهم درجات هو ما يراه مناصرو النموذج البنائي الموسع، حيث يِؤكدون على أن: «الفهم الرياضي ظاهرة ديناميكية تبنى على درجتين :

أولى: وهي درجة الفهم أو إدراك المفاهيم الفيزيائية الأولية وتتكون من ثلاث مستويات: الفهم الحدسي ثم الإجرائي ثم المجرد المنطقي.

ثانية : وهي درجة إدراك المفاهيم الرياضية المنبثقة، وتتكون من ثلاثة مكونات كذلك: الفهم الإجرائي المنطقي والتجريد الرياضي والتشكل» ([19]).

المطلب الأول: مسار المعرفة الرياضية من الإنتاج إلى الإجراء

بعد إنتاج العلماء والعقول المفكرة من الدرجة الأولى المعرفة في ظروف وملابسات واقعية، نفسية واجتماعية، تخضع لسلسلة من التحويلات وعمليات النقل على مستويات مختلفة، يقوم بها متدخلون وسطاء على مدى المسار الذي تسلكه المعرفة من تولدها أو إنتاجها إلى أن تعانق الواقع النفسي والاجتماعي فتتم أجرأتها، وهو ما توضحها الخطاطة التالية:

 

وفي ما يلي بعض التوضيحات([20]):

  • المعرفة الرياضية العلمية وتسمى كذلك رياضيات الرياضيين وهي معارف علمية دقيقة تتكون من نصوص تظهر في شكل تام – ولكن في تطور – وأكثر عمومية ومن مسائل مفتوحة، وتُنزع من سياقها النفسي وظروفها الاجتماعية.
  • المعرفة المقرر تدريسها في التوجيهات الرسمية والمقررات والكتب المدرسية، وهي مغلقة ومحدودة.
  • المعرفة المدرَّسة وهي التي يلقنها الأستاذ للتلاميذ وتخضع لطابع الأستاذ الخاص ولمعطيات النظام التعليمي والمجتمع العلمي.
  • المعرفة المكتسبة من طرف التلميذ، وهذا الأخير يمارس بدوره عملية ذهنية على كل ما قُدِّم له، إنه يؤوِّل حسب ما تعلَّمه، ويعيد تنظيم المكتسبات السابقة بدلالة الجديد.

إذن البداية من الواقع الاجتماعي على اعتبار أن المعرفة المنتجَة (نظريات، أفكار، مفاهيم، …) وقائع اجتماعية، والعودة الى الواقع تأثيرا وتأثرا، وهذا يستشف من دراسة تاريخ هذا العلم: “والتاريخ يظهر لنا أن أغلب النظريات الرياضية ينتهي بها المطاف عاجلا أو آجلا إلى أن تجد تطبيقات لها في عالم الفيزياء، وعليه كيف يمكن أن يقاوم الإنسان الإغراء الذي يجعل الرياضيات محرك الطبيعة نفسها، إن لم تكن هي المبدأ الكوني الذي يتجاوزنا ؟”([21]).

المطلب الثاني: الرياضيات بين بساطة اللغة وعمق التجريد

يرى الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت أن هناك بعدين أساسيين في الفكر العلمي، هما: البعد التجريدي والبعد التفهمي([22])، وإذا سلَّمنا له ذلك فإننا نجد العلوم الرياضية على رأس العلوم من حيث القدرة على التجريد، بينما يقع في أسفل السُلم من حيث عمق الفكرة وتفهمها، وفيما يلي شكل توضيحي:

 

 

العلوم الاجتماعية
علم النفس
يزداد العمق والتجريد
يزداد التعقيد في المفاهيم

الطب

البيولوجيا
الجيولوجيا والكيمياء
العلوم الطبيعية
الرياضيات

مخطط كونت (دروس في الفلسفة الوضعية)

وهذا الترتيب لا يمثل واقعا موضوعيا، بل هو تصور للحالة الراهنة، إذ لا مانع من “إعادة النظر في العلوم الاجتماعية على أساس تجريدي، وبالتالي صياغتها صياغة رياضية، وبنفس المنطق يمكن زيادة التراث في العلوم الرياضية بإضافة بعض المفاهيم الجديدة”([23]).

فالعلوم الرياضية هناك من يرى أنها مبنية على أساس واحد ومفهوم واحد هو: الجمع Addition ([24]).

ولهذا زعم «كونت» “أن الرياضة هي أبسط العلوم على الإطلاق، لأنها لا تعتمد على غيرها من العلوم ولا يحتاج المرء في فهمها إلى الاستعانة بأي علم آخر في الوقت الذي تعتمد عليها العلوم الأخرى جميعا”([25]).

فالبساطة والتعقيد – تبعا لما ذكر– يرتبطان بمدى الاحتياج إلى علوم أخرى، بمعنى أن السهولة والصعوبة خارجيان، أو إن شئت فقل: إنهما ناتجان عن التركيب والتداخل والتكامل بين المعارف والعلوم، وعليه جاز القول: إن الرياضيات تتميز ببساطة المبادئ والقواعد التي ترتكز عليها، ولا يعني هذا سهولة فهمها، أو عدم الحاجة إلى بذل الجهد لتعلمها، بل إن أوقليدس له عبارة شهيرة يصف خطورة الطريق المسلوك لطلب العلوم الرياضية «ليس هناك طريق ملكي إلى الهندسة»، “فرغم بساطة رموزها وقواعدها فإن هذه الرموز والقواعد ذاتها تمثل في نظر الكثيرين أكبر عائق يمنع من تعلمها والإقبال عليها”([26]).

فالتاريخ والواقع يشهد لذلك فالحقائق الرياضية التي تبدو لنا الآن بسيطة احتاجت إلى مئآت بل آلاف السنين من التطوير والتحسين والتعديل والحذف والإضافة حتى أصبحت على ما هي عليه الآن، ويعلم الله عز وجل على ما تكون عليه غدا، والأمثلة لا تحصى كثرة، اكتفى بالإشارة إلى التطور الذي عرفه نظام العد ليصل إلى نظام العد العشري ثم الثنائي، ومن قرأ كتاب: «العدد من الحضارات القديمة إلى عصر الكمبيوتر»[27] يتضح له المقصود، فقد تتبع فيه الباحث تطورات جل المفاهيم الرياضية تبعا للحاجة المجتمعية والعلمية.

فالرياضة تطمح – وهي مؤهلة لذلك – أن تكون لغة العامة لغة البشر، لغة العلم، لغة العصر الحديث، وبوادر ذلك كثيرة ومشهودة، ولها مميزات عديدة، ذكر بعضها، الدكتور نادر فرجاني، لما قال: “الرياضة Mathématique هي اللغة الوحيدة التي يملكها البشر، والتي لا تتأثر بأي تحيزات تنبع من المحتوى context الذي تستعمل فيه. وكون الرياضة لا تعتمد على المحتوى (مساحة المربع يحكمها نفس القانون أيا كانت المادة المصنوعة منه) بالإضافة إلى استقلاليتها عن الخبرات الخاصة (مساحة المربع أيضا يحكمها نفس القانون بغض النظر عن الشخص الذي يقوم بحساب مساحته” يجعلها اللغة العالمية الوحيدة للبشر([28]).

إذن الرياضة كلغة بسيطة في المتناول، ولكن ما يميزها من ترميز وتجريد يضفي عليها لدى البعض درجة من الصعوبة.

المطلب الثالث: مكامن الصعوبة في فهم الرياضيات

الفهم يرتبط بالعملية التعليمية التعلمية بما هي فعل يتقاسمه أقطاب المثلث التعليمي الديداكتيكي: المعلم والمتعلم والمادة المدرسة، وأضيف معطى مهما في هذا الصدد وهو السياق الاجتماعي الذي يتم فيه وله هذا الفعل.

وبالتالي ينبغي أن يأخذ بحثنا عن مكْمن الصعوبة سبيلين اثنين:

  • بحث جزئي في العناصر المكونة والمتفاعلة في العملية.
  • بحث كلي في المركب جملة لا تفصيلا.

ففي السبيل الأول نطرح الأسئلة التالية: هل الصعوبة تتمثل في المادة وما تنطوي عليه من تعقيد؟ أم في كفاءة المدرس؟ أم هي كامنة في ضعف الرغبة والحافز لدى التلميذ المتعلم؟ أو لعلها راجعة إلى عدم ملاءمة الواقع الاجتماعي، من حيث تقديرُه للمعرفة الرياضية، وتشجيعه لها، واستفادته منها؟.

وفي السبيل الثاني يطرح سؤال جامع عن طبيعة العلاقة التي تربط بين تلكم العناصر، ومدى سلامتها وانتظامها وقوة رابطتها.

وإذا كنا نؤمن – استنادا إلى التجارب التاريخية والمعطيات الواقعية، والتأملات الفلسفية، والتوجيهات الدينية – بالحقيقتين التاليتين:

الأولى : كل شيء يمكن تعلمه.

الثانية : لا يمكن تعلم أي شيء إلا بمجهود.

فإن كل ما سبق من أسباب تبقى احتمالات معتبَرة، ولكن الحقيقة المؤكدة ترُد كل ذلك إلى الجهد المبذول للفهم والإفهام، وتهيئة الظروف المواتية لذلك، سواء كانت مادية أو معنوية. وفيما يلي بعض القواعد التي من شأنها أن تسدد هذا الجهد صوب تحقيق الفهم في مادة الرياضيات:

  • الفهم مهارة عقلية تمكن من معرفة ما يتلقى من المحيط الخارجي، فهو فكر وواقع، يعني أنه ليس علم نخبة.
  • فهم مفهوم رياضي يقتضي الفصل في –وبين- كل ما يلي([29]):
  • ما هي ؟
  • ما تعني ؟
  • لما تصلح ؟
  • ما هي العلاقات بين و  و … ؟
  • وما هي مختلف الأشكال التي يمكن أن نمثل بها ؟
  • ما هي خاصيات ؟ …
  • لا يكفي أن يكون المدرس خبيرا في مادة تخصصه من أجل تدريسها، بل يجب أن يكون خبيرا في ميدان إيصال المعرفة.([30])
  • الرياضيات أفعال قبل كل شيء، تمارس على الأشياء، ولعل السبب الحقيقي في فشل التعليم النظامي يكمن في كونه يعتمد في البداية على الكلام بدل أن يبدأ بالفعل الحقيقي الملموس.[31]
  • لا ينبغي أن تلقن الرياضيات كما لو أن الأمر يتعلق فقط بحقائق تدرك بواسطة لغة تجريدية، بل بواسطة تلك اللغة الخاصة التي هي الرموز الإجرائية.
  • البحث عن الثوابت هو ما يميز النشاط الرياضي.
  • تقريب الواقع من الرياضيات، والرياضيات من الواقع من شأنه أن يذلل الصعاب، ويرفع على الأقل الحواجز النفسية ويكسر الحصار العاطفي المضروب بين المتعلم والمفاهيم الرياضية، وشرط ذلك كله أن يصبح الواقع رياضيا، والرياضيات واقعيا، والضرورة إليه ملحة، وبوادره لاحت في فضاءات المجتمع، وإن لم تنقشع بعد في جنبات المدارس.
  • الرجوع إلى المعنى الابستمولوجي للرياضيات بسياقاته المعرفية والاجتماعية والنفسية كأداة لفهم الواقع.
  • للبرهان مكانة متميزة في تدريس الرياضيات–كما أسلفنا- ولكن لا يفهم من هذا أنه مصدر لوجوده، كما أنه لا ينبغي أن يختزل البرهان في مظهر تقني كدليل، والمطلوب المزاوجة بينه وبين إنشاء الكائنات الرياضية.[32]
  • يتعين الحرص وتخصيص الوقت الكافي عند بناء المفهوم الرياضي لتخليصه من التمثلات الطفيلية التي تحيط به لأول وهلة، لأن المفاهيم الرياضية والعلاقات الرياضية حساسة جدا، لا تسمح بالتزحزح يمنة أو يسرة قيد أنملة، يقول أحد الباحثين: “إن الذي يعقد مقاربة مفهوم ليس هو بالدرجة الأولى الصعوبة الكامنة فيه، بل هو عدم القدرة على تجريده عن مختلف التمثلات الطفيلية التي تحيط به لأول وهلة”[33].
  • قد لا ينطبق المنطق واللغة العادية مع المنطق واللغة العلمية في بعض الأحيان، لذلك ينبغي الحذر.
  • لغة الرياضيات لغة سلطة من حيث تعاليها على الواقع، وهذا ما يفصح عليه الفشل المستمر لاستيعاب مضامين الرياضيات عند بعض المتعلمين، لذلك يتعين تلطيف هذه اللغة بما لا يخل بالمضمون، والحد من قسوتها.
  • استيعاب مفهوم رياضي معين لا يتم جماعيا بل فرديا من خلال هيكلة الواقع، كما قال بياجي في كتابه علم النفس وفن التربية.[34]
  • في معاقل التعليم والتربية يجب على الجميع التحلي بروح المسؤولية وتجنب الخداع والانخداع المتبادل، والإيمان بإمكانية الفهم والإفهام، كما لا يستقيم الانسحاب أو الاستسلام –بشكل أو بآخر- أمام تحدي العلم والمعرفة، ونلقي بالرياضيات إلى دائرة المستحيلات السحريات ومنه إلى سلة المهملات، تاركين لغيرنا الظفر بسعادة الفهم وبشرى المعرفة، وقديما قيل: «فهمنا حين فهمنا»[35].

وهذه إحدى صور الخداع يرويها لنا باحث وممارس: “عندما يقدم المدرس أحداثا على أساس أنها بسيطة، في حين أنها لا تبدو كذلك بالنسبة للتلميذ فإن هؤلاء يشعرون بالبلادة ويبحثون عن الخلاص، إما بالتظاهر بالفهم أو برفض جميع الشروحات”[36]، هنا الخداع جاء من المتعلم، وإليك صورة أخرى يكون الفاعل فيها هو الأستاذ: “أحيانا أثناء التطبيق يذهل الأستاذ ويلجأ إلى علاجات كلاسيكية متمثلة في حيل وخدع لمساعدة الذاكرة وخصوصا تقديم تمارين روتينية”[37]، والهدف واضح وهو أن ينتزع من التلاميذ الجواب بالإيجاب على سؤاله: هل فهمتم؟ وينسحب هذا الأمر حتى على الوضعيات التقويمية فتمنح تقديرات ونقط وشواهد زور !!

وختاما نريد فهما حقيقيا متينا للرياضيات مهما كلف من ثمن، وتطلب من تضحيات، لأن كل ذلك يهون أمام عظم الأهداف المتوخاة، إن على مستوى الأفراد أو المجتمع، وأبرزها:

  • تكوين العقل وبناؤه.
  • تطوير الشخصية.
  • استقلالية الفرد من حيث التفكير.
  • نمو المجتمع وتقدمه.
  • التشوف إلى الحقائق والعمل على اكتشافها وإثباتها.

المبحث الثالث: الأبعاد التربوية والاجتماعية للرياضيات

منذ خلق الله تعالى الإنسان ارتبط وجوده بقضيتين اثنتين: العلاقة بالخلق وتسخير الطبيعة، فكان أن تولد من اجتهاد الإنسان ومحاولاته المتكررة لتدبير القضية الأولى تأسيس علوم اجتماعية وإنسانية، وعن الثانية ترتب بروز علوم طبيعية، ومنها الرياضيات[38].

وإذا كان واضحا جليا اتخاذ العلوم الاجتماعية للظواهر والعوامل الاجتماعية كموضوع، وكان مفهوما أن للعلوم التجريبية أبعادا اجتماعية وعلاقات تأثير وتأثر من حيث بناء المعرفة، وتشييد المجتمع بالإفادة من تلكم المعارف، فإن الأمر بالنسبة للعلوم الرياضية ما زال يعرف اختلافا كثيرا بين ناف ومثبت، وحول ذا سأخط السطور التالية محاولا إثبات وجود علاقة، ووطيدة بين العوامل الاجتماعية والمعرفة الرياضية على غرار باقي العلوم والمعارف، وعليه سينتظم حديثنا في ثلاثة مطالب، وهي:

  • طبيعة المعرفة الرياضية
  • إجابات تاريخية.
  • العلوم الرياضية ذات أبعاد تربوية واجتماعية.

المطلب الأول: طبيعة المعرفة الرياضية

لو تساءلنا السؤال الفلسفي: أين توجد الرياضيات؟ فسيكون الجواب واحدا من اثنين، الأول: بداخلنا يعني أنه ابتكار ذهني، ولا يُسَلَّم هذا بل يُعترض عليه بالسؤال التالي: لماذا تخضع الظواهر الفيزيائية لقوانين الرياضيات؟ لأن التجربة التاريخية كما قرأنا من قبل لأحد الباحثين تؤكد أن “أغلب النظريات الرياضية تنتهي بها المطاف عاجلا أو آجلا إلى أن تجد تطبيقات لها في عالم الفيزياء”[39]. والجواب الثاني: أن يُقال يوجد الرياضيات بخارجنا يعني أنه واقع، وهذا الجواب بدوره لا يُسلَّم ويَرِد عليه بسؤال أين هو؟

ومع عدم كفاية أي من الجوابَين منفردا، يبقى أن نجمع بينهما فنقول الرياضيات موجود بالفكر والواقع، وقد يظهر بالذهن قبل الواقع، أو العكس، ولا تخفى العلاقة بين الفكر والواقع، بين العالَم والرياضيات، وهي ميزة للفكر الإنساني وجِبِلة فيه، وهذا ما يؤكده الدارسون: “إن الفكر الإنساني، بفعل طبيعته، يستنبط مما يرى أو يدرك نوعا من الجوهر البنيوي مكتوبا بلغة مجردة، وإن هذا الجوهر أحيانا يظهر للفكر قبل أن يعطيه الواقع المادة الضرورية”[40]، لذلك قال الرياضي الدنماركي بوهر: “الرياضيات تمثل مجرد لكل العلاقات الممكنة بين الأشياء والمفاهيم”[41]، فالإنسان يكتسب المعرفة بواسطة عملية متصلة في التشابك والتداخل بين الفعل والنظر.

خلاصة القول إن المعرفة الرياضية ليست نتاجا لعملية عقلية مجردة، كما سكنت في عقول الكثيرين، واستحوذت على تفكيرهم، وإنما هي إضافة إلى ذلك ذات أصول وسياق اجتماعيين، فالمعرفة عموما –ومنها الرياضيات- ظاهرة اجتماعية، بمعنى أن الأفكار والمفاهيم والنظريات ينبغي التعاطي معها بوصفها وقائع اجتماعية، “فالمعرفة بمختلف أنواعها، سواء كانت إنسانية أو طبيعية، أصبحت تخضع لتأثير شكل المجتمع والمراكز الاجتماعية”.

المطلب الثاني: إجابات تاريخية

سأعتمد في هذا المطلب كثيرا على الدراسة التي قام الدكتور رشيد الحاج صالح تحت عنوان: «المعرفة العلمية بين العوامل الاجتماعية والبنية المنطقية»[42]، وقد بسط التطور التاريخي لهذا السؤال، والاجابات التي أُسست.

اعتقدت الفلسفة في تاريخها الطويل أن المعرفة (معرفة الوجود عموما) عملية عقلية بحتة، ليس للأطر الاجتماعية أي دور فيها، وصورتها بحث في ملكة العقل عبر التأمل الفلسفي لإنتاج المعرفة، ومع ظهور «علم اجتماع المعرفة» في غضون القرن التاسع عشر “لم تعد دراسة ماهية المعرفة ومفاهيمها مسألة فلسفية بحتة، بقدر ما أصبحت مسألة اجتماعية، فأضحت الأهمية لدراسة العوامل الاجتماعية”[43]، فصار للمعرفة منبعَين، أحدهما فلسفي والآخر اجتماعي، وفي هذا السياق جاء ماركس وإنجلز ليؤكدا أن عملية إنتاج الأفكار في مختلف المجالات المعرفية، عملية مرتبطة بالنشاط المادي والاجتماعي للبشر. وقد نتج عن هذا تبدل أساسي في عملية القيم السائدة وخاصة مع بروز نسبية آينشتاين، وعقلانية عصر الأنوار[44].

إذن بدأ يتضح أن المعرفة الطبيعية لا تستقل عن الإيديولوجيات والمصالح الاجتماعية، وأن ما يقال عن العلوم الاجتماعية ينطبق عليها، مع اختلاف في الدرجات والمستويات، ونتقدم خطوة إلى الأمام فنسأل، إذا ثبت أن للعوامل الاجتماعية أهمية وتأثيرا على المعرفة العلمية والرياضية، فهل يتم ذلك على مستوى الشكل أو المضمون أو هما معا؟

تنازع الجواب على ذاك السؤال تياران:

  • تجريبي وصفي: اعتمده بغلو أنصار الوضعية المنطقية أمثال كارناب ورودلف) وادَّعوا أن هناك إمكان رد جميع العلوم (طبيعية، إنسانية) إلى علم الفيزياء باعتباره نموذجا أمثل لكل العلوم من حيث تجريبيته، “والهدف الوصول إلى طريقة لا تسمح بدخول أي فكرة إلى العلم ما لم تكن مجربة”[45].
  • عقلي استنتاجي: يؤكد على أهمية الفرضيات العقلية وخيال وحدس العلماء في عملية الوصول إلى نظريات علمية، ويعطي للتجارب دورا تاليا، والأب الروحي لهذا الاتجاه هو جاليليو إذ أقام فيزياءه على تطبيق الصيغ الرياضية والأفكار العقلية على الطبيعة، لأن الرياضيات عنده هي: “المفتاح الذي يحل ألغاز الطبيعة”[46].

إذن هناك نظام رياضي معين لا بد من تتبعه خلف ظواهر العالم.

وتبقى في هذا المضمار أسئلة لا يتسع المجال لفحصها، من ذلك:

  • كيفية التوفيق بين مقتضيات العقل وخلاصات التجارب، أي بين يقينية الأول ونسبية الثانية؟
  • إشكال العلاقة بين الذات والواقع، وبالتحديد هل هناك واقع خارجي مستقل عن الذات المدركة؟
  • في العلاقة بين العلم والواقع، وبالضبط هل يقوم العلم بتفسير الواقع أو بوصفه؟

المطلب الثالث: الأبعاد التربوية والاجتماعية للرياضيات

تؤكد الدراسة التاريخية لحركة الحضارة في مختلف الأزمنة أن هناك علاقة طردية بين درجة التطور الحضاري ودرجة ازدهار العلوم الرياضية، كما أنها لم تكن ذات طبيعة عالية أو مطلقة، بل كانت تخضع لقوانين التطور والتأثر، يعني أنها معرفة منفتحة وذات طبيعة تراكمية، وينبغي استحضار ما ذكرناه أثناء تعليمها وتعلمها، ولا يعوزنا دليل، ولا شاهد من واقع فضلا عن التاريخ لإثبات أن الرياضيات أسهمت في بناء المجتمعات وتنظيم العلاقات بينها، وتشييد الحضارات وتثبيت الثقافات، على المستوى التربوي وكذا على المستوى الاجتماعي، وهذه بعضها[47]:

  • على المستوى التربوي

“ويكاد علماء العرب والمسلمين يُجْمِعون على ما تؤدي إليه دراسة الرياضيات من تعويد دارسها على الموضوعية والدقة وأهمية التدليل والبرهنة على ما نسوق من أحكام”[48]، فهذا طاش كبرى زادة يذكر ميزات الهندسة ” ومن جملة منافعها العلاج بها على الجهل المركب، لأنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم، فيعتاد الذهن على تسخير الوهم، والجهل المركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل”[49]، والهندسة نوعان:

  • عقلية وهي ما يُعرف ويُفهم، والنظر فيها يؤدي إلى الحذق في الصنائع العلمية لأن هذا العلم هو أصل الأبواب التي تؤدي إلى معرفة جوهر النفس، التي هي جذر العلوم وعنصر الحكمة.
  • وحسية وهي ما يرى بالبصر ويدرك باللمس، والنظر فيها يؤدي إلى الحذق في الصنائع كلها، وخاصة في المساحة[50].

أما ابن خلدون فقد أكد أن تعلم الهندسة يفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره، لأن براهينها كلها بينة الانتظام، جلية الترتيب، وقد نقل عن شيوخ العرب قولهم: “ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار  وينقيه من الأوضار والأدران”[51]. وأما إخوان الصفا فقد جعلوا من الرياضيات مقدمة لفهم الطبيعيات ثم الإلهيات ثم التخلق بمعرفة النفس ومعرفة الخالق[52]، وأختم نقلا عن صاحبنا قول حاجي خليفة وهو يتكلم عن منفعة الرياضيات: “ومنفعته ضبط المعاملات وحفظ الأموال وقضاء الديون وقسمة التركات ويحتاج إليه في العلوم الفلكية وفي المساحة والطب، وقيل يحتاج إليه في جميع العلوم ولا يستغني عنه ملك ولا عالم ولا سوقة، وزاد شرفا بقوله سبحانه وتعالى: وكفى بنا حاسبين، وذلك في الآية الكريمة:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء): 47].

  • على المستوى الاجتماعي

لا شك أن التطبيقات الرياضية في العلوم الإنسانية والاجتماعية أصعب بكثير من التطبيقات الرياضية في مجالها التقليدي، وهو العلوم الطبيعية، وذلك راجع إلى الأسباب التالية[53]:

  • اختلاف مفهوم النظرية في العلوم الإنسانية عن الرياضة والعلوم الطبيعية.
  • صعوبة تعريف وقياس المتغيرات الأساسية بدقة في العلوم الإنسانية عنها في العلوم الطبيعية.

وعلى الرغم من هذه الصعوبة فإن “دور الرياضة لا يقتصر على إعادة صياغة نتائج العلوم الإنسانية بصورة رياضية، ولكن العلاقة هي علاقة تفاعل مثمر ومفيد لكلا المجالين”[54]، ويعتبر علم الاقتصاد من أسهل العلوم الإنسانية طواعية للترييض، وهذا الأخير لا يعني بالضرورة استعمال الأرقام والمعادلات، كما يفهم البعض خطأ. وإنما صبغ التفكير –على الأقل- بصبغة رياضية، ولا أرى ما يمنع ذلك.

وإذا رجعنا إلى الظروف والملابسات التاريخية التي أفرزت عدة مفاهيم رياضية يمكننا القول دون تردد أن الرياضيات أسهم في حل مشاكل اجتماعية، أرقت إنسان ذاك الزمن، وأنه كان استجابة لتحديات واقعية، دفعت بدورها هذا العلم نحو التطور والنضج والاكتمال.

وعن دوره المستقبلي يحدثنا الباحث ناهد صالح في ختام بحثه الموسوم ب: «الرياضيات والنظرية الاجتماعية» قائلا: “ورغم الاسهامات التي يمكن أن تقدمها الرياضيات حاليا للنظرية الاجتماعية إلا أن إسهامها يمكن أن يتضاعف متى نميْناه رياضيات تتلاءم وعلم الاجتماع، فأغلب الرياضيات الموجودة حاليا نمت تحت دفع المشكلات التي واجهت العلوم الطبيعية. وبالتالي يمكننا أن نستنتج أنها قد لا تكون هي الرياضيات الصالحة للتطبيق على علم الاجتماع، ومن ثم فلا بد من الوصول إلى رياضيات تصلح لهذا العلم”[55]، وقال مستدركا: “ولكن مهما بلغت أهمية الرياضيات للنظرية الاجتماعية فإنه يجب ألا نفقد نظرتنا إليها باعتبارها لغة للعلم، وأداة له وحسب، حتى لا تفنى النظرية الاجتماعية في الرياضيات بدلا من أن تجد وجودها فيها”[56].

خلاصة

من كل ما سبق يتضح لنا مدى ملاءمة الرياضيات للقيام بدور أساسي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأهمية تطبيقاتها الحالية، وما ينتج عن ذلك من إثراء للمعرفة البشرية، وتحقيق مستوى أفضل للحياة الإنسانية، وهذا من شأنه أن يضفي على الواقع صبغة رياضية، وقد يكون التحول التدريجي الذي نشاهده اليوم في مدارسنا من الرياضيات التقليدية إلى الحديثة بداية لخلق جيل جديد من المتعلمين يأخذون الحياة والعلم والتفكير العلمي الرصين بطريقة جدية لم تتوفر للأجيال السابقة، ويعملون على بناء مجتمع جديد على أسس علمية دقيقة وصحيحة.

المراجع

  • لاتكاشبورير، الرياضيات في حياتنا، ترجمة فاطمة عبد القادر المما، مجلة عالم المعرفة، عدد114، يونيو 1987م، مطابع الرسالة الكويت.
  • الرياضيات لغة العلم، مجلة عالم الفكر، المجلد4، العدد4، 1974م.
  • السرياقوسي، أحمد مصطفى، المنهج الرياضي بين المنطق والحدس.
  • فرحاني، العربي، تاريخ الفكر التربوي لمجتمعات ما قبل الميلاد، الطبعة الأولى 2004م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
  • صالح، عبد العزيز، التربية وطرق التدريس، الطبعة الخامسة، دار المعارف 1963م.
  • البرامج والتوجيهات الخاصة بمادة الرياضيات بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، غشت 2009م، إصدارات مديرية المناهج والحياة المدرسية بالمغرب.
  • مصوغة ديداكتيك مادة الرياضيات، تم إعدادها بين مديرية الوحدة المركزية لتكوين الأطر ومديرية التقويم والامتحانات، لتكوين الأساتذة بالمغرب، 2010-2011م.
  • معجم علوم التربية، مجموعة من المؤلفين، عبد الكريم غريب وآخرون، سلسلة علوم التربية 9-10 منشورات عالم التربية، الطبعة الثانية 1998م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
  • وهبة، مراد، المعجم الفلسفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2016م.
  • يحيى حسن علي مراد، أداب العالم والمتعلم عند المفكرين المسلمين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2003م.
  • المعرفة العلمية بين العوامل الاجتماعية والبنية المنطقية، عالم الفكر المجلد36، العدد1، 2007م.
  • سعيد إسماعيل علي، تعليم الرياضيات في تراثنا الحضاري، الكتاب السنوي في التربية وعلم النفس، دار نشر الثقافة، القاهرة، 1987م.
  • ناهد صالح، الرياضيات والنظرية الاجتماعية، عالم الفكر، المجلد4، العدد4، 1974م.
  • صالح عبد العزيز، التربية الحديثة، مادتها مبادئها، تطبيقاتها المعاصرة، الجزء الثالث، دار المعرف، مصر، 1969م.
  • أولحاج، محمد، التصورات البيداغوجية الحديثة ، منشورات صدى التضامن، طبعة 2010م.
  • موسوعة المعارف الحديثة.
  • جون ماكليش، العدد من الحضارات القديمة حتى عصر الكومبيوتر، ترجمة خضر الأحمد، موفق دعبول، مراجعة عطية عاشور، عالم المعرفة، العدد 251، سنة 1999م.
  • أشغال الندوة الوطنية حول واقع تدريس الرياضيات، المنعقدة بمدينة سطات، 27-28 مارس 2008م.
  • صعوبة تدريس الهندسة الفضائية، مقال بمجلة النداء التربوي، عدد 1، نونبر 1997م.
  • العروسي، عبد الجبار، الحصار العاطفي في الرياضيات، مجلة علوم التربية عدد 23.
  • الغرايب، الحسين، الرياضيات وإشكاليات التعامل اليومي للمعلم معها، جريدة المنظمة، العدد 902.
  • مكاوي، محمد، الرياضيات والرياضيات المدرسية، المرجع نفسه.
  • الدمدامي، محمد، ما الرياضيات؟ وما جدوى تدريسها؟، جريدة المنظمة العدد 25.
  • العنابي، محمد، ملاحظات ديداكتيكية حول مسألة الفهم في الرياضيات، مقال مترجم، جريدة المنظمة العدد 25.
  • العماري، سي موح، تدريب التلاميذ على البرهان الرياضي في الإعدادي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 11 و13 يوليوز 1991م.
  • فرج: محمد، الإشكاليات التربوية للبراهين الرياضية في تدريس الهندسة، المجلة التربوية، السنة الثانية، العدد2، يونيو 1986م، الدر البيضاء، مطابع إفريقيا الشرق.

_________
*الأستاذ: البشير قصري

أستاذ مادة الرياضيات، وباحث في الفكر الإسلامي المعاصر، المغرب.

[1] – المعجم الفلسفي، مراد وهبة. ص 378.

[2] – الرياضيات في حياتنا، تأليف زلاتكاشبورير، ترجمة فاطمة عبد القادر المما، ص 182.

[3] – انظر الرياضيات في حياتنا، مرجع سابق، ص 182183.

[4] – أنظر هذه التعريفات وغيرها عند محمد الدمدامي، ما الرياضيات وما جدوى تدريسها ؟. مقال بالفضاء التربوي لجريدة المنظمة، العدد 25.

[5] – نفسه ص 19.

[6] – مكاوي محمد، الرياضيات والرياضيات المدرسية، الفضاء التربوي لجريدة المنظمة، العدد 902.

[7] – الغرايب، الحسين، الرياضيات وإشكالية التعامل اليومي للمعلم معها، الفضاء التربوي لجريدة المنظمة، العدد 902.

[8] – للدكتور محمد عابد الجابري مؤلفا تحت عنوان: «تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة».

[9] – الغرايب، الرياضيات وإشكالية التعامل اليومي للمعلم معها، مرجع سابق.

[10] – الدمدامي : المرجع السابق.

[11] – السرياقوسي محمد أحمد مصطفى: المنطق الرياضي بين المنطق والحدس.

[12] – يدرج الرياضيون تحت كلمة المنهج عدة عمليات جزئية وبعض الحيل للوصول إلى اكتشاف علاقة جديدة أو حل مسألة، أو اثبات حقيقة رياضية.

*فالاكتشاف غالبا ما يكون بالحدس أو التحليل الذي ينتهي إلى حدس.

*حل المسائل يعتمد التحليل أو التركيب أو هما معا.

*بينما البرهنة (الإثبات) غالبا تكون عكس اتجاه التحليل (المنطق) انظر تفصيلا مفيدا في المرجع السابق.

[13] – وهو منطوق الآية الكريمة : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) آل عمران.

    والإشارة هنا إلى مخاطبته صلى الله عليه وسلم للعجوز بقوله: “لا تدخل الجنة عجوز”

[14] – أنظر، الرياضيات في حياتنا، مرجع سابق، ص 18.

[15] – نفسه، وانظر أيضا الدمدمي مرجع سابق.

[16] – تعريفات التلميذ المجهول والمدرس المعلوم والأب العطوف استلهمتها من وحي المعايشة اليومية لقضايا التحصيل في مادة الرياضيات.

[17] – منها : «الندوة الوطنية حول “واقع تدريس الرياضيات” المنعقدة بمدينة سطات 2728 مارس 2008 م، وقد تتبعت أشغالها عن قرب، وخلصت إلى توصيات مفيدة، ولكن …»

[18] – أنظر الفضاء التربوي، لجريدة المنظمة، العدد 25: مقال تحت عنوان : «ملاحظات ديداكتيكية حول مسألة الفهم في الرياضيات» ترجمة محمد العنابي.

[19] – أنظر العنابي، المرجع السابق.

[20] – أنظر المرجع نفسه.

[21] – أنظر الملحق التربوي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 26/09/1999 م، المرآة الباطنية للواقع، ترجمة عبد الحميد جواهري عن مجلة

    «علم وحياة» بتاريخ 09/1999 م.

[22] -أنظر، الببلاوي، حسام، التركيب الرياسي التصاعدي في الأجهزة الحاسبة، عالم الفكر، المجلد الرابع، العدد الرابع، 1974 م، ص (3798)

   (ص 42).

[23] – نفسه ص 43.

[24] – في الهندسة التحليلية مثلا، إذا اعتبرنا النقطة كوحدة نبدأ بها، فالمستقيم هو تجميع لعدة نقط والدائرة أيضا، والمساحات والحجوم أيضا وهكذا

    … تجميعات مباشرة وغير مباشرة.

    وفي التفاضل والتكامل، الطرح حالة عكسية للجمع، والضرب حالة متكررة من الجمع، والقسمة حالة متكررة من الطرح، وبالتالي حالة عكسية من الجمع، والتكامل حالة جمع المساحات، والتفاضل حالة متكررة من القسمة.

[25]عالم الفكر، المجلد الرابع، العدد الرابع، الرياضية لغة العلم، (ص 43).

[26] – نفسه، (ص 4).

[27] – تأليف جون ماكليش، ترجمة خضر الأحمد وموفق دعبول، مراجعة عطية عاشور، مجلة عالم المعرفة العدد 251، سنة 1999م.

[28] – فرجاني، نادر، استخدام الأساليب الرياضية والإحصائية في العلوم الإنسانية (ص 11) عالم الفكر، الجلد 4، العدد4. 1974 م.

[29]– أنظر، ترجمة العنابي لمقال : «ملاحظات ديداكتيكية حول مسألة الفهم في الرياضيات» مرجع سابق.

[30] – أنظر، الدمدامي، ما الرياضيات وما جدوى تدريسها؟ مرجع سابق.

[31] – نفسه.

[32] – انظر، جريدة الاتحاد الاشتراكي، عدد 6671، الملحق التربوي، مقال تحت عنوان: مكانة البرهان في تدريس الرياضيات.

[33] – العماري، سي موح، تدريب التلاميذ على البرهان في الإعدادي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الملحق التربوي، بتاريخ 11 يوليوز 1991م.

[34] – انظر، الغرايب، مرجع سابق.

[35] – الفاء للاستئناف، وهمنا من الهيام بمعنى الفرح والاستبشار التلقائي الظاهر على الوجه من أثر ما حل بداخله من فهم، فلا حاجة مع هذا إذن إلى طرح السؤال الروتيني البارد: «هل فهمتم؟ !!» فالحال ينبيك بالخبر.

[36] – العماري سي موح، مرجع سابق.

[37] – نفسه. بتصرف يسير.

[38] – وقد يرى البعض أن الرياضيات علم احتضنته الفلسفة في مهده، ثم استقل أو ضاق به المحل.

[39] – ما هي العلاقة بين العالَم والرياضيات، ترجمة عبد الحميد جماهري، جريدة الاشتراكي، الملحق التربوي، 26 شتنبر 1999م.

[40] – نفسه.

[41] – نفسه.

[42] – رشيد الحاج صالح، المعرفة العلمية بين العوامل الاجتماعية والبنية المنطقية، مجلة عالم الفكر، العدد1 المجلد36، سنة 2007م.

[43] – نفسه، ص38.

[44] – لا يخفى على القارئ الكريم أنني اقتصرت هنا على السياق الغربي والنموذج المتغلب، والواقع أن بينه وبين النموذج الإسلامي بونا شاسعا.

[45] – نفسه، ص42.

[46] – نفسه، ص42.

[47] – انظر، سعيد إسماعيل علي، تعليم الرياضيات في تراثنا الحضاري، الكتاب السنوي في التربية وعلم النفس، دار نشر الثقافة، القاهرة، 1987م. ص1.

[48] – نفسه، ص8.

[49] – نفسه، ص8.

[50] – نفسه ص9

[51] – نفسه، وانظر المقدمة فقد جاء فيها: الحساب يفيد عقلا. ووصفه ب: “عقل مضيء دَرِب على الصواب”، وربطه بالمعاملات والفرائض.

[52] – انظر، الشرح والتوضيح في آداب العالم والمتعلم عند المفكرين المسلمين، تأليف يحيى حسن علي مراد، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان الطبعة الأولى سنة 2003م، ص211.

[53] – فرجاني، نادر، استخدام الأساليب الرياضية والإحصائية في العلوم الإنسانية، عالم الفكر، المجلد4، العدد4، سنة 1974م، ص12.

[54] – نفسه، ص13.

[55] – ناهد صالح، الرياضيات والنظرية الاجتماعية، عالم الفكر، المجلد4، العدد4، سنة 1974م، ص115.

[56] – نفسه.
___________________

*الأستاذ: البشير قصري

أستاذ مادة الرياضيات، وباحث في الفكر الإسلامي المعاصر، المغرب.

 

جديدنا