مؤسّسات المجتمع المدني العربي ودورها التربوي والتعليمي؛الواقع والآفاق

image_pdf

 إن تناول موضوع دور مؤسّسات المجتمع المدني في عمليَّة التربية والتعليم بالمجتمع العربي ليست مهمَّة سهلة. كما أنها ليست معقَّدة بشكلٍ يجعل الأمر غير ممكن، لكن لا بد من الاعتراف بأنَّ مقاربة من هذا النوع تحتاج حسًّا نقديًّا ومراسًا كبيرًا. يجعل الباحث يكون قادرًا على فهم السياقات العامَّة، الفكريَّة والسياسيَّة وغيرها التي أسَّست للفعل التربوي والتعليمي بهذا العالم، والفعل والفاعليَّة المدنيَّة لمجتمعاته،خاصَّة أنه من المعلوم أن هذا المجال عرف انتكاسات وانكسارات عبر تاريخه الطويل، وما زال يعاني تبعاتها الكبرى، ولعلّ السؤال أو التساؤل حول دور مؤسّسات المجتمع المدني في بناء مجتمع المعرفة، وتوطين الفعل التربوي المؤسِّس لنهضته. لا يخرج عن الإشكالات العميقة المرتبطة بكل ما عاشه هذا الفضاء. والمقصود هنا التجربة التاريخيَّة المريرة لاغتيال العقل العربي من قبل المؤسَّسة الدينيَّة أو السياسيَّة، ثمَّ تجربة الاستعمار هي الأخرى التي لا تقلُّ مرارة عنها. هكذا يجد العقل العربي نفسه في الحاضر أمام صراع بين دعاة الحداثة ودعاة التقليد. وكلها عوامل أساسيَّة ستشكِّل عقبة أمام تبلور مفهوم المجتمع المدني والفعل التربوي كذلك، كما تبلور في التجربة الغربيَّة، التي ظلَّت دائمًا مرفوضة لدى العالم العربي. وبالتالي لن يستطيع أن يبني أسس متينة لقيام مجتمع مدني قوي وفاعل، خاصّة وأن هذا المفهوم لم يعرفه العرب إلا  متأخّرين. فهو مفهوم تشكَّل غربيًّا منذ القرن السابع عشر والثامن عشر، مع كل من جون لوك وجون جاك روسو وماركس وصولًا إلى غرامشي. هكذا لن يكتشفه العرب كمفهوم إلا في فترة السبعينيَّات من القرن العشرين. وكل هذا يثبت أن الأسس النظريَّة له تمَّت خارج الفضاء العربي، ما يبرز أن هذا الأخير  كان يعرف المجتمع الأهلي وليس المدني. والفرق واضح هنا، هو أن مفهوم المجتمع المدني اقترن بالتجربة الديمقراطيَّة الغربيَّة على خلاف المجتمع الأهلي المرتبط  بالجذور الطائفيَّة والعرقيَّة. ولا غرابة إن تمَّ تغليف هذا المفهوم بغلاف المجتمع الأهلي السائد، بعد هذه المعرفة المتأخِّرة له عربيًّا، خصوصًا في  غياب أرضيَّة أو نسق نظري خاصّ  بالمجال العربي تربط هذا الأخير وسياقاته التاريخيَّة والثقافيَّة. وإذا كان الواقع هكذا فإن بحث العلاقة والدور الخاصّ بالمجتمع المدني، بالحقل التربوي مغامرة كبيرة بالمنطقة العربيَّة. إذ لا بد من نوع من الوعي بمسألة أن النظام التربوي العربي هو الآخر، عانى من ويلات وتبعات المشكلات سالفة الذكر، فالوطن العربي لم تكن له بنية تعليميَّة منظّمة ومدروسة وعامَّة، ما عدا مؤسّسات غالبًا ما كانت تقليديَّة في مناهجها التربويَّة. وفي سياق هذا الفراغ على المستوى البنية التربويَّة والمجتمع المدني، وفي ظلّ المشكلات التي تثقل كاهل هذا العالم،  سيبرز سؤال العلاقة والدور بين المجتمع المدني وفعل التربية.

إذن: هل يحق القول بوجود مجتمع مدني عربي؟ وأي دور يمكن أن يلعبه هذا الأخير في تطوير وتحسين التعليم العمومي؟ وكيف يمكن للتربية غير النظاميَّة أن تساعد على سدّ ثغرات التعليم العمومي الرسمي وتكون موازية له؟ أيضًا، إلى أيِّ حدّ يضمن المجتمع المدني العربي الاستقلاليَّة والحرّيَّة والجودة في حالة ما اضطلع بدور في مجال التربية والتعليم؟ وما الميزات التي سيقدّمها له؟ وهل يملك من الشرعيَّة المؤسّساتيَّة ما يؤهّله ليكون شريكًا ومنخرطًا في مجتمع المعرفة؟

أولًا: المجتمع المدني وأدواره التربويّة في المنطقة العربيَّة

ضمن سياق مقاربة العلاقة بين المجتمع المدني عمومًا، وفعل التربية، لا يمكن إنكار غياب وجود دور مهمّ لهذا الأخير في العمليَّة التربويَّة. إذ لا بد من شبكة علاقات يمكنها أن تنشأ بين عدّة فاعلين في محيط تربطه ارتباطات قويَّة بقطاعاتٍ متعدِّدة، يتغذَّى منها كما تتغذَّى منه، “فالفاعل الاجتماعي لا يتحرَّك في فراغ، إذ أنه منخرط في شبكة من العلاقات يساهم في تغييرها بقدر ما يتأثّر بها” [1]. ولكن إذا ما حاول الباحث عن العلاقة والدور الذي يمكن أن يشغله المجتمع المدني بالعالم العربي، فهذا الدور سيبدو ضائعًا في متاهة الصراع الذي يعرفه واقعه، ذاك الصراع بين التقليد والحداثة المثخن بالجراح. فالمجتمع المدني كمفهوم وكما تمَّت الإشارة آنفًا غربي المنشأ والأسس النظريَّة، بحيث أنه  اكتشف المثقفون العرب قبل السياسيّين هذا المفهوم تزامنًا مع عودة الفكر الأوروبي إلى قراءة غرامشي”.[2] معنى هذا أنه أتى متأخّرًا إذا ما ربطناه بسياق تشكّله (ق 17 و18 م)، وهكذا سيجد نفسه تحت رحمة صراع الحداثة والتقليد، بل ومرفوض من تيار التقليد لا لشيء سوى لأنه مفهوم غربي. وبالتالي تعليبه حتى يتماشى مع الواقع العربي الخارج من صدمة الاستعمار والتائه، فنكون حينها أمام مجتمع أهلي في ثوب مجتمع مدني، هكذا يستمرّ القديم في الحديث. والحال هذه فأي دور قد يلعبه في مجال التربية والتعليم سينساق في متاهاتٍ أخرى، طبعًا مرتبطة بالبنية الأهليَّة للمجتمع. وعوضًا عن أن يقوم بوظيفة صناعة الإنسان أولا والمواطن ثانيا، ستجرفه عاصفة التجاذبات الأيديوبوجيّة العرقيَّة والقبليَّة والمذهبيَّة المختلفة. حيث أنه إذا كانت ” وظيفة المؤسّسة التعليميَّة ( ومنها ما يشرف عليه المجتمع المدني) هي أن تمنح كل فرد حقّه في أن يتحكَّم في مصيره الشخصي ونموّه الخاصّ وحياته الخاصَّة، دون أن تفقد الوعي بضرورة الانخراط في الجماعة والتكيّف معها”،[3] فإن وظيفة المؤسَّسة هنا ستضيع في مهبّ النفوذ الأيديولوجي لكل عصبيّة من العصبيّات داخل المجتمع. ومنه يضيع الفرد من حيث هو إنسان والوطن والدور المنوط بالمجتمع المدني، والفعل التربوي أيضًا. إذ سيوظف الفعل التربوي لخدمة أجندة العصبيَّات، وليس الفعل التربوي ذاته أو تطلّعات الأفراد للحرّيّة والكرامة الإنسانيَّة، التي ستصبح مهدورة خلالها. فلا يمسي الدور هنا هو بناء الإنسان الفرد المتنوِّر والمختلف والمنفتح والمنتج، بل إنسان متزمِّت ومتعصِّب ومنغلق لا يخدم سوى إيديولوجيا ضيِّقة. ومنه  تكون الحاجة ملحَّة آنذاك لمجتمع ديمقراطي أولًا يؤسِّس لفعل تربوي هو الآخر مدمقرط، بعيدًا عن أي نظرة ضيِّقة، “فالتعليم يجب أن يكون حركة لا معرفة، شكًّا لا يقينًا، سؤالًا لا اقتناعًا”[4] وهذا ما لن يتحقَّق داخل مجتمع لا ديمقراطي ولا يؤمن بالفرد، كذات حرَّة واعية ومسؤولة ومستقلَّة. بل يرضاه دائمًا خاضعًا لمنظومة من الاستبداد السياسي والطائفي والعرقي، يتَّخذ من ميدان التربية والتعليم مجالًا ومرتعًا لأيديولوجيّته الدوغمائيّة والمتحجِّرة، مؤسّسين لنظام من العلاقات المبنيَّة على القرابة والطائفيَّة والعرقيَّة، والقائمة على ثقافة الولاء. وفي إطار الغياب التام لدمقرطة المجتمع وبناء منظومة من القوانين المدنيَّة وحقوق الإنسان، ينهار كل شيء وتصبح مؤسّسات المجتمع تكراريَّة وجامدة. كما أنه وعوضًا على أن “تقوم المؤسَّسة على الكفاءة والإنجاز والتميّز في الأداء وعلاقات السلطة الوظيفيّة، لخدمة الإدارة والإنتاج، وبدلًا من أن تقوم على حكم الكفاءة التي تبنى وتصنع، وتستند إلى المعرفة والاقتدار تتحوّل المؤسّسات إلى مراكز للولاء.”[5] فيهدر المجتمع  في طاقاته وقدراته وكفاءاته، لأجل استمرار النسق الطائفي والعرقي والمذهبي على حالة الثبات والجمود، وينتعش الاستبداد الذي يستفيد من هذا الواقع. فالمجتمع الأهلي لا يفكِّر أبدًا في مجتمع ديمقراطي لأنه يكون  “في أمسّ الحاجة إلى الأيديولوجيَّة أكثر من التغذية والدواء، إنها الدواء الأعظم”[6] حينها. ولا غرابة أن يكون دور المجتمع المدني هو تقوية نفوذ الجماعة الطائفيَّة وترسيخ الأيديولوجيَّة وتمجيد رموزها، خلافًا لبناء الإنسان المواطن المختلف والمتحرِّر الذي يصنع مصيره، ويحيى ويولد إذ “يكمن جوهر التربية في الولادة، في كون كائنات بشريَّة تولد داخل العالم “[7] ؛على حدّ تعبير “حنا ارندت”، وليس في التمويت، أو بتعبير “كانط” ” أنسنة المواليد الجدد”[8]. وليس أدلجة هذه المواليد وحشرهم قسرًا في زاوية محدودة، تحجب عنهم النور ويحرمون من حقّهم في التعبير وممارسة النقد والشكّ والتساؤل. يصبحون خلالها جماهير محكومة بالنزقيَّة والانفعال، بدلا من استخدام العقل. وما يبرِّر هذا الواقع المتحدّث عنه بصدد المجتمع المدني وأدواره التربويَّة، تجربة الربيع العربي الذي تحوَّل لخريف في نهاية المطاف. لأنه لو كان هناك فعلا مجتمع مدني حقيقي وفاعل وقادر على التأثير. لما شهدت مجموعة من الأقطار العربيَّة هذا الدمار، الذي لا يمكن أن يعزى إلا لكون المنطقة كانت ترقد على طوفان من الأيديولوجيّات المتطرّفة العرقيّة والمذهبيَّة، والتي سرعان ما طفت على الساحة. كل هذا يفسِّر الفراغ الكبير الذي كان موجودًا، والذي يتحمَّل المجتمع المدني نصيبًا منه، إلى جانب الأنظمة السياسيَّة، التي كانت تلعب على وتر هذه العصبيّات الخامدة منها والمعلنة. إذ كانت ولا زالت تغضّ “البصر عن الرداءة وتردّي المستوى في مؤسّسات التعليم العامّ عمومًا والتعليم العالي خصوصًا، لأنها غير معنيَّة أساسًا بمجتمع المعرفة”[9]. هكذا إذن وفي ظل انعدام أرضيَّة ديمقراطيّة، وغياب التفكير الإستراتيجي والرؤية المستقبليَّة الشاملة، يصبح الوطن والمجتمع المدني هباء. وتهدر حقوق الإنسان التي لا يمتلكها لكونه وُلِدَ في هذه الطائفة أو تلك، أو لأنه من أتباع هذا المذهب أو ذاك، بل لكونه إنسان فقط. وما لم يتمّ تجاوز هذه الذهنيَّة الرجعيَّة لا يصح الحديث عن مجتمع مدني ولا عن أدوار حقيقيّة له، اللهم تغذية النعرات وتمزيق النسيج الاجتماعي للعالم العربي الذي ضاق ذرعًا بها.

ثانيًا : التربية غير النظاميَّة والسبيل لسدّ ثغرات التعليم العمومي

تُعَدُّ ” المعرفة سبيل بلوغ الغايات الإنسانيَّة الأخلاقيَّة الأعلى : الحرّيَّة، العدالة، والكرامة الإنسانيَّة.”[10] لهذا سعى الإنسان دائمًا إلى البحث عن أفضل وأنجع الأنظمة التربويَّة، بغية تحقيق وجوده في العالم. وبناء على هذا السعي تعدَّدت رؤاه تجاه ذلك، بل وتعدَّدت الجهات التي أنيطت بها مسؤوليَّة هذا الفعل تقليديَّة كانت أو عصريَّة. لكن ورغم كل جهود الإنسان المستمرّة، غالبًا ما تكون هناك  فجوات ونواقص ما. وبالتالي الحاجة والضرورة إلى أنظمة موازية للنظام التربوي الرسمي، تسدُّ عيوبه وتساعد على الرفع من جودته. وهذا واقع المجتمع العربي الذي تعرف بنيته التربويَّة النظاميَّة هشاشة لعوامل عدّة، هي جزء ممّا يتخبّط فيه هذا العالم من مشكلات. هكذا لا بد للمجتمع المدني أن يتدخَّل لملء الفراغ، وتكون التربية غير النظاميَّة هي الحلّ طبعًا. لكن غياب هذا المجتمع المدني وضياعه في المجتمع الأهلي ومنظومة الاستبداد، حال دون لعب التربية غير النظاميَّة، الدور المكمِّل للنظام التربوي الرسمي. إذ ستشكّل المكان الآمن لتكاثر صراصير الأيديولوجيّات والعصبيّات فقط، التي في معظم الأحيان نجد أن المؤسّسات المشرفة على هذه التربية غير النظاميَّة، تحمل أسماء تبرز الخلفيَّات الخاصَّة بمن يديرون المؤسَّسة، إضافة إلى ذلك أن الأطر العاملة داخل هذه المؤسّسات يتحولون إلى أبواق ومبشِّرين ودعاة للعصبيَّة التي يشرفون عليها. لأن اغتيال المجتمع المدني، من حيث هو مجال للتعدّد والاختلاف فسح المجال رحبًا، لتكتّل فئة من صنف واحد رافض لما عداه، داخل كل مؤسّسات تبعًا للنفوذ العصبي. ومن هنا تتحوّل المؤسّسات إلى قبائل ومذاهب وأعراق… ثم يكون التعليم الذي يتلقّاه الطفل في معظمه ترسيخ للقواعد والمبادئ التي ترتكز عليها الأيديولوجيا، وتمجيد رموزها وتقديسها، إلا من بعض أبجديات الحروف وتعلّم القراءة الجهريَّة لا أقل ولا أكثر. دون إيلاء التفكير وآلياته، من نقد وشكّ ومساءلة وغيرهما أيَّة أهمّيَّة، بل ويكون محرّمًا وعملًا من عمل الشيطان أحيانا. بهذا من الصعب القول والجزم بأن يكون للتربية غير النظاميَّة، دور خلّاق وفعّال في تجويد والرفع من مكانة التعليم العمومي النظامي. هذا إن لم تتسرَّب هذه الأيديولوجيّات إلى داخل المؤسّسات التربويَّة النظاميَّة، وهو أمر في حدِّ ذاته وارد وبارز تؤكّده الصراعات حول المكانات والنفوذ التي تعرفها المؤسّسات التربويَّة العموميَّة العربيَّة. فلا يمسي دورها خدمة المجتمع ورقيه والمساهمة في التنمية البشريَّة، والانخراط في عالم الحاضر وواقع اليوم بما يفرضه من تحدّيات أملتها سياقات وظروف العولمة. حيث لا اعتراف بالفعل “والعلاقات التربويَّة المدرسيَّة التلقينيَّة والمنغلقة على نفسها واللامبالية بالآخر وبحقوقه وثقافته أن تدّعي القدرة على التنشئة الحضاريّة التي تروم تحقيقها مجتمعاتنا العربيَّة. فلا بدّ من ممارسة التلاميذ لحقّهم في الاختلاف والمشاركة والمناقشة وإعمال العقل والفكر فيما يتعلمون”[11]. فيستمرّ في حاضر اليوم التفكير الماضوي والنسق التقليدي الذي هو “غير مبرمج أصلًا  للبحث عن النجاح، بل على العكس نجد فيه البرمجة الثقافيَّة للأفراد غالبًا ما تكون موجّهة نحو تكريس الفشل واعتماده، كآليّة وإعادة إنتاج ذاته”[12]. ويبقى الحال على حاله ويمضي المجتمع العربي، مجتمع ” الأزمات المستدامة” [13] يعيد بنية الماضي، فيضيع الحاضر وتتّسع الهوّة بينه وبين المجتمعات الأخرى. ومن كل ما قيل إذا لم يتمّ التأسيس لمجتمع ديمقراطي وحداثي، لا التعليم العمومي يصلح ولا التربية غير النظاميَّة تضطلع بدور فعال. لأن الإنسان الذي سوف ينتج ويثمر، مهدور في ذاته وكيانه.

ثالثًا: الحرّيَّة والجودة في تعليم مؤسَّسات المجتمع المدني

الغاية من أيّ تعليم كيفما كان نوعه، هو تحقيق الذات وتأكيد وجودها في العالم، هذا التحقّق الذي من شروطه الأساسيَّة والضروريَّة والحرّيّة والتحكُّم في المصير، والإحساس بالتفرّد. لهذا ولضمان هذا الأمر لزم أن ينبني التعليم على رؤى إستراتجيَّة، وعلى مناهج دقيقة ومواكبة للعصر. مع ترسانة من الطرق والوسائل البيداغوجيَّة والديداكتيكيَّة الحديثة، التي تضع في الحسبان التقدّم التكنولوجي الحالي. أما وأن بنية المجتمع موشومة ومكبّلة بالعادات والتقاليد والتزمت الأيديولوجي، فهيهات أن تضمن أي هامش للحرّيَّة والاستقلاليَّة والنوعيّة في الأداء. لأن المحيط غير سليم، وما دام ” محيط الطفل لا تحيط به أي حدود، لأن محيطه هو العالم باعتباره أفقًا للإمكانيَّة “[14] ؛ على حدّ تعبير ” حنا اراندت”، من المستحيل أن يحظى مجال مشحون مذهبيًّا وعرقيًّا بفرصة لرؤية هذا الأفق الرحب. وأي تصوّر ” يرى في المدرسة مؤسَّسة لغسل الأدمغة وتدجين الأجسام تصوّر عتيق”[15]، وجب تجاوزه لأنه يقبر العقل ويحول دون الإبداع، والسماح للفرد بإثبات الذات وإصدار الأحكام بعيدًا عن أي نظرة ضيِّقة. تحوّل دور التربية من دور الفاعل الرئيس الذي منه تقوم نهضة الأمّة على كافة الأصعدة، إلى دور يهدم كل شيء ويزيد من حدّة  التقهقر والتشرذم، نتيجة غلبة ” نزعة إقصاء ورفض  الآخر الداخلي: الطبقي، الحزبي والقبلي… مع الاستعداد للانقضاض عليه والقضاء على كل ما يمثّله من أبنية ورموز.”[16]  وفي ظلّ هكذا وضع هل يمكن أن يتحدَّث عن أي مجال  للحرّيَّة والجودة ؟ إذ تهدر كل ” فرص بناء الكيان ونمائه، وهدر المكانة المستقبليَّة ” [17] لكل من الذات الفرديَّة والجماعيَّة معًا. وتفتقد اليقظة الفكريَّة، ويعمّ تخدير العقل وتعطيله، وتتقلَّص إمكانات الأفراد وآفاقهم. والنتيجة إذن لا حرّيَّة ولا جودة في مجتمع مثخن بجراح العصبيَّة والعرقيّة والمذهبيَّة…

رابعًا:المجتمع المدني وشرعيّته المؤسّساتيَّة في أن يكون شريكًا في بناء مجتمع المعرفة

إن البحث عن شرعيّة مؤسّساتيَّة للمجتمع المدني، أمر يجعل الباحث يقف أمام مفترق طرق. طريق يقوده إلى الوقوع في براثين المجتمع المدني المنغرس في أهليّته ولا ديمقراطيّته،وطريق يرمي به في حلبة صراعه مع النظام السياسي في دولة هي الأخرى لا ديمقراطيّة، لأنه لو كانت كذلك لكان مدمقرطًا أيضًا. وفي ظلّ هذه الدولة التي هي الدولة العربيَّة يبدو المجتمع المدني كنقيض للنظام السياسي وليس كشريك وفاعل في صياغة السياسات العامَّة. ومرَّة أخرى يقف الاستبداد عقبة أمام أيّ مساهمة له في بناء مجتمع المعرفة، لأنه غير معني بذلك كما سلف الذكر. فلا ينال خلالها المجتمع المدني، أي شرعيّة مؤسّساتيّة ولا قانونيَّة، ما عدا قوانين عامّة وفضفاضة تظلُّ في الغالب حبرًا على ورق، وأداة لتصيد الخارجين عن الطاعة. ولا تسمح إلا بما يلمع ويحسِّن صورة الاستبداد وتعداد أمجاده، ويحافظ على استمرار حكمه. وهكذا إذن يصبح المجتمع المدني جزءًا من منظومة النظام السياسي السائد، يسعى الفاعلون فيه إلى البحث عن المغانم والمكرّمات، كلما زادت الولاءات، بدلًا من لعب دورهم الأساسي. حينها لا شرعيَّة ولا شراكة حقيقيَّة للمجتمع المدني في المساهمة في بناء مجتمع المعرفة، المعرفة تلك ” الفريضة الغائبة في أمَّة العرب “[18]، كما وصفها تقرير التنمية الإنسانيَّة لعام 2003.

خلاصة :

يتَّضح إذن من مقاربة الموضوع  :

– غياب مجتمع مدني عربي حقيقي وفاعل، نظرًا لأن العالم العربي لم يعرف هذا المفهوم إلا متأخّرًا. بالمقارنة مع الدول الغربيَّة التي نشأ فيها، في ظلِّ الفلسفات السياسيَّة والحقوقيَّة للقرن 17 و18 م. إضافة إلى تلونه بلون المجتمع الأهلي ما أدى  لضياعه في فوضى من الأيديولوجيّات المتصارعة.

– البنية العرقيَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة للمجتمع العربي، حالت دون لعبه أي دور فعّال في أي قطاع من القطاعات وقطاع التربية والتعليم تحديدًا.

– تحوّل التعليم النظامي منه وغير النظامي إلى مرتعٍ للأيديولوجيَّات المختلفة،  قوَّض قيامه بأيّ دور في التنمية البشريَّة وغيرها، واستكمال التعليم غير النظامي لنواقص التعليم العمومي.

– لا يمكن أن يحقِّق تعليم المجتمع المدني الحرّيَّة والجودة، ما لم يتخلص من النزعات الطائفيَّة والعرقيَّة والمذهبيَّة.

– غياب قوانين دقيقة وواضحة، وهامش كبير من الحرّيَّة لن يستطيع المجتمع المدني أن يكون شريكًا فاعلًا ومنتجًا في بناء مجتمع المعرفة، وبهذا ضرورة بناء مجتمع سياسي ديمقراطي، يضمن حقوق الإنسان ويشع قواعد العمل السياسي الجادَّة.

[1]  الزعفوري عمر ” الحركات الاجتماعيّة الحضريّة في المجتمعات التابعة” عالم الفكر، العدد 1، م 38 يوليو- سبتمبر 2009،الكويت ص 235

[2]  سلام شكري محمد ” المجتمع المدني بين الواقع والأيديولوجيّا ” عالم الفكر، العدد 4، م 36، أبريل- يوليو 2008، الكويت، ص30.

[3]  اسليماني العربي ” المعين في التربية ” المطبعة والوراقة الوطنيّة، ط 7، 2014، مراكش – المغرب، ص 239.

[4]  الصديقي عبد اللطيف ” هكذا تكلّم القصيمي: البحث عن الإنسان ” سلسلة فيلو صوفيا 25، افريقيا الشرق 2014، ص 50.

[5]  حجازي مصطفى ” الإنسان المهدور : دراسة تحليليّة نفسيّة اجتماعيّة ” المركز الثقافي العربي الدار البيضاء – المغرب 2005، ط1، ص 65

[6]  الحدادي عزيز ” ضياع العقل العربي في السياسة المقدّسة” مجلة الأزمنة الحديثة، العدد 6-7  مطبعة المعارف الجديدة الرباط،2013 ص 45

[7]  شباك المصطفى ” الحداثة والتربية ” ترجمة اسليم محمد، دار الثقافة الدار البيضاء – المغرب، ط1، 1999، ص 33.

[8]  شباك المصطفى، المرجع السابق نفسه، ص 33.

[9]  حجازي مصطفى، مرجع سابق، ص 179.

[10]  حجازي مصطفى، المرجع السابق نفسه، ص 179.

[11]  لوصيف سعيد ” التفكير في المجتمع الجزائري المعاصر ” عالم الفكر، العدد 2، م 43، أكتوبر- سبتمبر 2014، الكويت، ص 234.

[12]  اسليماني، مرجع سابق، ص 248.

[13]  لوصيف سعيد، مرجع سابق.

[14]  شباك المصطفى، مرجع سابق، ص 70.

[15] شباك المصطفى، مرجع سابق، ص31.

[16]  سالم صالح ” من الجدل إلى السجال.. أزمة الخطاب النهضوي العربي ” مجلة العربي، العدد 618 ماي 2010، الكويت، ص 22.

[17] حجازي مصطفى، مرجع سابق، ص 166.

[18]  حجازي مصطفى، مرجع سابق، ص 172.

جديدنا