مفارقات الدمقرطة التربويَّة بين الانتقاء والحراك الاجتماعي النازل

image_pdf

*ترجمة بتصرف: محمد امباركي

حالة التعليم التقني الثانوي بالأرجنتين[2]

كلمة لا بد منها (المترجم ):

بداية وقبل عرض النص مترجما، نسجل ملاحظتين نرى أنهما ضروريتان : الملاحظة الأولى هي أن بواعث ترجمة هذا المقال هي التعرف على تجربة تعليمية متميزة خاصة بالأرجنتين من خلال رؤية سوسيو-تاريخية لواقع التعليم التقني الثانوي من حيث خصائصه، وظائفه على مستوى التنمية الاقتصادية والحراك الاجتماعي، وكذلك إكراهاته. والملاحظة الثانية تتعلق بصعوبة واجهتنا خلال ترجمة النص وهي ذات طبيعة مفاهيمية، وتتعلق أساسا بمرادف مفهوم Déclassement في المعجم العربي، وهو مفهوم مركزي في النص منذ العنوان إلى حدود الخاتمة، وبالتالي أمام افتقاد بعض القواميس والمعجمات في ميدان السوسيولوجيا التي تمكنا من فحصها، إلى توضيح كاف وشاف لهذا المفهوم، ارتأينا أن نترجمه إلى مرادف ” الحراك الاجتماعي النازل” في العلاقة بسياق النص، مع توضيح بعض استعمالاته السوسيولوجية بالعودة خاصة، إلى “بيير بورديو” الذي يقول عن هذا المفهوم ” إن الاستراتيجيات التي يوظفها الأفراد لتفادي الحط من شأن الألقاب المدرسية تجد أساسها في الفجوة التي تلاحظ بشكل خاص، في ظرفيات معينة ووضعيات اجتماعية معينة، بين الحظوظ المتاحة بشكل موضوعي خلال لحظة معينة من الزمن والتطلعات الواقعية التي ليست إلا نتاجًا لوضعية أخرى من الحظوظ الموضوعية. إن صراع الحراك الاجتماعي النازل “يشكل بعدا، لكنه البعد الخفي أكثر في صراع الطبقات “( Bourdieu et Boltanski 1975. P 107) [3]، ويوظف “بورديو ” هذا المفهوم للكشف عن العلاقة المختلة بين الشواهد والألقاب المدرسية من جهة، وفرص الشغل المتاحة من جهة ثانية، خاصة في فترة تضخم الشواهد وفقدانها التدريجي للقيمة الرمزية، ويعتبر هذا الصنف من الحراك (التقهقر، فقدان منصب شغل سابق وقبول منصب لاحق لا يتطابق والرأسمال المدرسي المكتسب…) آلية لإعادة إنتاج هيمنة الطبقات المهيمنة.

إن الذي يتعرض مرة أخرى لحراك اجتماعي نازل “هو كل فرد في مرحلة ولوج الحياة العملية، يشغل منصبا أقل من المنصب الذي تتيحه له شهادته، ويمكن استعمال هذا المفهوم عندما يتعلق الأمر مثلا بوصف وضعية فرد وجد نفسه بعد فترة من البطالة في الحاجة إلى قبول شغل أقل حظوة من الشغل الذي كان يزاوله سابقا[4].

النص مترجما.

ظل التعليم التقني الثانوي لمدة طويلة شعبة مهمَّة في النظام التربوي الأرجنتيني: يستقبل اليوم 18% من تلاميذ الثانوي الذين يتلقون تكوينا في فروع مهنية مختلفة. يحلِّل هذا المقال الموضوع من زاوية طرح سؤالين أساسيين: هل يشكل هذا التعليم  سبيلا لدمقرطة تربوية؟ هل يساعد على الإدماج المهني للشباب الذين يلتحقون به؟

حسب العديد من الدراسات الدولية، في بلدان حيث يتميز النظام التربوي بتوجه أكاديمي، يتجه التعليم ذو الغاية المهنية إلى أن يكون طريقا للتهميش، خاصة في مستوى الثانوي (Verdier 2017). يتجلى هذا التموقع غير المناسب من خلال غايات محدودة جدا، تتمحور حول تنمية كفاءات متأقلمة مع سوق الشغل، ومن خلال وظيفة تنشئة التلاميذ ذوي الأصول الاجتماعية المتواضعة على التآلف مع وضعيات عمال ومستخدمين يطبعها الخضوع داخل الفضاء الاجتماعي والإنتاجي (Nylund et al. 2017).

في حالة فرنسا، لا تتمتع الاتجاهات المهنية عموما، سواء كانت من النمط المدرسي أو تلك الخاصة بالتعلم، بصورة إيجابية سواء داخل المجتمع أو بين أوساط الفاعلين في المؤسسة المدرسية (Jellab 2008). أن الاتجاه المهني، الذي يتميز بشواهد غير متكافئة من حيث الجاذبية، وبعلاقات مع عالم عمالي يتم نسجها مستقبلا تحت تأثير التراجع الصناعي، هي شواهد مخصصة غالبا للتلاميذ في وضعية صعبة مدرسيا ومعظمهم من أصل شعبي، يظل تعليما بعيدا عن أن يحظى بالأفضلية من طرف رغبات التوجيه التي تعبر عنها الغالبية العظمى للتلاميذ بعد انتهاء فترة التمدرس الإجباري (Maillard 2017) .

هذا الأمر معاكس تماما في الأرجنتين كما سوف يوضحه هذا المقال من وجهة نظر سوسيوتاريخية، التعليم التقني الثانوي ليس وجهة للتهميش: إن شهرة وسمعة هذه الشعبة قامت لمدة طويلة على جودة التعليم التقني الذي توفره، وكذلك على نسب التلاميذ الذين يتابعون دراساتهم بالتعليم العالي، وعلاوة على أنه بفضل التعليم التقني الثانوي استفاد عدد مهم من الشباب من أصول متواضعة، من حراك اجتماعي صاعد.

قبل الخوض في تحليل المكانة التي يحتلها التعليم التقني الثانوي داخل النظام التربوي بالأرجنتين، من المجدي تحديد الخصائص الكبرى الحالية التي تميزه. منذ قانون 2005، تم تنظيمه على مدة ستة سنوات، من 12 إلى 18 سنة. كان  تعليما إعداديا في ميادين عدة: الميادين الزراعية، الصناعية (الطيران، السيارات، البناء والأشغال العمومية، الإلكتروميكانيك، الكترونيك، الطاقة، الطاقة الكهربائية، الصناعة الغذائية، الصناعة التحويلية ، الخشب، الميكانيك…الخ) والقطاع الثالث (الإدارة، الرسم المعلوماتي وأنشطة الوسائط المتعددة ، المعلوميات، السياحة).

الغالبية العظمى من التلاميذ في الميدان الصناعي (75.5%)، 8.5% في الخدمات، 16%  في الشعبة الزراعية. يحتوي البرنامج في المجموع على 6480 ساعة للدروس منها 2000 ساعة للتعليم العام، 1700 ساعة للتكوين العلمي و2000 ساعة للتكوين التقني المحض وكذلك 200 ساعة للتدريب. وقد ازدادت أعداد التعليم التقني الثانوي خلال مرحلة 2005-2015 بنسبة 24%.

إن الأطروحة التي يدافع عنها المقال، تتجلى في تبيان أنه من منظور الدمقرطة، فالموقع الذي تحتله هذه الشعبة داخل الفضاء التربوي والعلاقات التي تنسجها مع سوق الشغل، هو موقع مفارق: إنها تساهم في تكافؤ الحظوظ مع العلم أنها انتقائية من وجهة نظر تربوية  ومطبوعة بخاصية التناقض على مستوى مآل خريجي الشعبة في سوق الشغل. على صعيد الخاصية الأولى، هناك مراعاة الانتشار الواسع للتمدرس في الثانوي من جهة، ومن جهة ثانية تطبيق سياسة تعزيز الشعبة التقنية. وبالنسبة للخاصية الثانية، فالمسألة تتعلق بتقهقر الشهادة على مستوى سوق الشغل، وهي مسألة أصبحت تطرح استفهامات من حيث التغيرات التي تطال أيضا التنظيم وسوق الشغل من خلال التصاعد الذي يعرفه بشكل خاص العمل غير المنظم والهش.

من خلال التركيز على المرحلة الموافقة للسياسة التي باشرتها الحكومة البيرونية (Péroniste) بين 2004 و2015، سوف يهتم التحليل بميكانيزمات الولوج وبالاختيارات التي تقود الشباب نحو هذه الشعبة، بمكتسبات هؤلاء الشباب بعد التكوين، بنسب الحاصلين على الشواهد ومتابعة الدراسة بالتعليم العالي وكذلك بإدماجهم المهني عبر إجلاء حقيقة أن هذه الصيرورات ليست متجانسة: إنها تحوي انقسامات حسب الجهات الترابية، أنواع المؤسسات والأصل الاجتماعي للتلاميذ.

من الزاوية الميتودولوجية، يستند المقال على نقد الأعمال السوسيوتاريخية، وبالنسبة للمرحلة الأخيرة، يستند على مجموعة من الدراسات الكمية والكيفية: من جهة أولى التحقيقات التي أجريت مع الأسر، تحقيقات إحصائية خاصة بتتبع حاملي شهادة التقني بعد 4 و7 سنوات من استكمال دراساتهم، وكذلك نتائج التقويم الوطني لمكتسبات التلاميذ، ومن جهة ثانية، الأعمال المنجزة حول عمليات الانتقاء وتموقع حاملي شهادة التقني داخل البنية التنظيمية للمقاولات.

التلاحم المجتمعي للتربية التقنية الثانوية: بناء سوسيويوتاريخي.

خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، كان النظام التربوي الأرجنتيني يرجح نموذجا للتعليم الثانوي من طبيعة أكاديمية مستمدة من النسق الفرنسي. خلال هذه الفترة، كان الطلب الاجتماعي في هذا الميدان صادر عن النخبة السياسية والاقتصادية التي سوف تعتبره أولا وقبل كل شيء، مدخلا للدراسات العليا أو باعتباره أيضا تكوينا يساهم في الإعداد للعمل في الإدارات العمومية للدولة (Tiramonti 2011). وفيما يتعلق بمراكز الشغل العمالية، كان التكوين في الميدان يعتبر كافيا في إطار عملية تصنيع لم تكن تحظى بأهمية كبيرة. لهذا السبب، تم خلق فقط بعض المدارس الصناعية التي تتميز بخصوصية نخبوية: إنها تتيح متابعة الدراسات العليا في الهندسة (Pronko 2003 ).

فقط لقد ساعدت ظرفية سياسية، اقتصادية واجتماعية خاصة، وبالضبط خلال أواسط القرن العشرين، على توسع حقيقي للتعليم التقني الثانوي إلى حدود تمتيعه بتلاحم مجتمعي قوي.

الالتقاء المستدام بين استراتيجية التنمية الاقتصادية والتطلعات الاجتماعية القوية.

بين سنتي 1945 و1955، وهي سنة الانقلاب العسكري على الحكومة البيرونية، عملت هذه الأخيرة على تطبيق نموذج للتنمية تتداخل فيه سياسة اقتصادية قائمة على تعويض الصادرات ودينامية السوق الداخلي والاتجاه نحو تطوير تدخل النقابات في الحياة العمومية (Spinosa & Testa 2009). إن نمو الصناعة ضاعف بشكل مهم الطلب على العمال المؤهلين إلى درجة أنه لم يكن من الممكن أن تظل  مناصب الشغل الحضرية الصناعية يشغلها مهاجرون مؤهلون وبالتالي استدعت هجرة داخلية انطلاقا من مجالات قروية حيث سرَّعت الزراعة من مكننتها.

في إطار تحالف سياسي وثيق مع النقابات، عملت الدولة على تطبيق سياسة للتريبة والتكوين ركزت على غايتين كبيرتين:

  • تكوين يد عاملة صناعية متخصصة قصد الاستجابة لحاجيات تتطور بشكل كبير أدت إلى انبثاق  صناعة قائمة على مقاولات متوسطة الحجم في مختلف الشعب. وغالبا ما كانت صورة رئيس العمال Contremaître مرتبطة بهذا التوجه.

بالموازاة، ساعد هذا التكوين على تطور مقاولات صغرى وكذاك عمال مستقلين يشتغلون في الفضاء التقني.

  • الاستجابة للطلب المنظم على التربية الصادر عن الأوساط العمالية التي تتطلع إلى أن ترى أبنائها يلجون التعليم الثانوي.

يندرج هذا الطلب في إطار صيرورة من التحول السياسي والثقافي الوازن. ضمن هذا المنظور، كان يتم تصور التعليم التقني الثانوي باعتباره رافعة للحراك الاجتماعي الصاعد للعمال وأداة لتثمين ثقافة العمل الصناعي والاعتراف بالكرامة الاجتماعية لهؤلاء العمال.

هذا بالإضافة إلى أن المشروعية الاجتماعية لهذه الشعبة الجديدة أتاحت لها إمكانية مضاعفة حصتها بشكل قوي  في مجموع أعداد تلاميذ الثانوي  التي انتقلت من 12%  سنة 1945 إلى 25%  سنة 1955. كما ازدادت أعداد تلاميذ المدارس الثانوية التجارية الموجهة بالدرجة الأولى لأبناء مستخدمي قطاع الخدمات، من 17% إلى 20%.

خلال المرحلة التي اصطلح عليها بالمرحلة التنموية (1958-1973)، بحثت الاستراتيجية الاقتصادية عن تغيير البنية الإنتاجية التي كانت قائمة إلى ذلك الحين على الزراعة والأنشطة المعدنية التي كانت تستورد المواد الأولية من أجل تكوين شعب صناعية مندمجة بفضل سياسة تعويض الصادرات. أيضا، كان يتم تعليل التدابير المخصصة لتطوير التعليم التقني الصناعي ( الذي كان يمثل 26% سنة 1975)، من الحاجة إلى تعديل  ديناميات التكوين بما يتوافق مع هذه الدينامية الصناعية بالدرجة الأولى، وخاصة  في قطاعات الصناعة المعدنية، وبشكل أخص في قطاع السيارات والبناء الميكانيكي.

الى حدود المرحلة الدكتاتورية سنة 1976، كانت هذه الشعبة من التعليم الثانوي موحدة: تم خلق وحدة مستقلة لتدبيرها ( المجلس الوطني للتعليم التقني) الذي التأمت  تحت لوائه مختلف صيغ المدارس التقنية التي تتوفر على برامج تستوجب أياما كاملة من التكوين، تمتد على 6 سنوات، تعادل مدة الثلاث سنوات من الدروس العامة وتدمج فيها حصص في المحارف وثلاث سنوات متخصصة ( Gallart 2006). تحقق هذا التوسع من خلال استقبال الأطفال المنحدرين من عائلات عمالية على الخصوص.

هناك دراسات أثبتت أن 70% من الحاصلين على شواهد  تقنية ثانوية يحتلون مركز التقني لحظة وصولوهم إلى سوق الشغل.

هذا علاوة على أن أكثر من نصف الحاصلين على الشواهد يتابعون دراسات جامعية خاصة في الميادين العلمية والتكنولوجية. كما أن الأطفال المنحدرين من أوساط شعبية والذين درسوا بالتعليم التقني الثانوي استفادوا من حراك اجتماعي قوي ( Gallart 2006).

خلال هذه المرحلة، لم تعانِ هذه الشعبة التقنية من خصاص على مستوى المشروعية الاجتماعية إزاء التعليم العام، على شاكلة ما طرحه Toroger بخصوص وضعية التعليم التقني والمهني الفرنسي إلى حدود سنوات 1960…

من هنا، عرف التعليم التقني الثانوي في الأرجنتين، وخاصة في الشعب الصناعية، تقدما مضطردا على صعيد مشروعيته الاجتماعية…وهذا ما قاله Gallart  بأن التعليم التقني الثانوي كان يتمتع إذن بتلاحم اجتماعي كبير. لقد طورت هذه المدارس هويتها الخاصة من خلال ثلاث ميزات مفتاحية. أولا انفتحت على جزء كبير من المجموعات الاجتماعية حيث تمكن الأطفال، منذ الحكومة البيرونية، من استكمال التعليم الابتدائي. ثانيا أتاحت لحاملي شواهدها إمكانية متابع الدراسات العليا، وثالثا، منحتهم تكوينا تكنولوجيا صلبا ما دام أن للمدرسة الصناعية برنامجا متطابقا مع العمليات الصناعية الأساسية، مع مشاركة قوية للعلوم الأساسية، ممارسات مختبرية وتعلمات داخل محرف المدرسة (Gallart 2005. 25 ).

التعليم التقني الثانوي على محك التقلبات السياسية والاقتصادية

ابتداء من سنوات 1970، سوف تساهم السياسات النيوليبرالية في  تفكيك التلاحم الاجتماعي للتعليم التقني الثانوي. في إطار انبثاق ما بعد الفوردية الصناعية (Post-fordisme)  خلال سنوات 1980 و1990، حدثت تغيرات تنظيمية وتكنولوجية ضخمة وضاعف من أهميتها فرض برنامج للخوصصة، وسوف تعمل هذه التغيرات على تقليص أهمية الصناعة المانيفكتورية في الاقتصاد الوطني.

في بداية سنوات 2000، ستتوج هذه المرحلة بأزمة خطيرة من المديونية الخارجية وتراجع مهول للتشغيل: تراجع قوي لأعداد المهن المشكلة من العمال المؤهلين، تقلص قدرة الاقتصاد على إدماج الخريجين الشباب من التقنيين، ثم التمويل الضعيف للتعليم التقني الثانوي.

سوف تجد هذه الحالة من التراجع ترجمتها عبر تقلص أعداد المسجلين في التعليم التقني الثانوي الذين أصبحوا لا يمثلون غير 17% من مجموع التعليم الثانوي.

كما أن القانون الوطني الجديد حول التربية سنة 1993 عمل على خلق نمط من المدرسة الثانوية المتعددة التخصصات Polyvalent. وكان وراء تشجيع هذا  التحول الحاجة إلى  تمتيع الشباب بكفاءات عامة بالنظر إلى تطور متطلبات سوق الشغل وإدخال التكنولوجيا الجديدة للتواصل والإعلام. وأقام هذا القانون برنامجا تعميميا وأكاديميا بشكل قوي بالنسبة للتعليم الثانوي الذي كانت المواد التقنية داخله لا تشكل غير إمكانات اختيارية ضمن إمكانات أخرى.

لكن الأشكال المتعددة للممانعة والمقاومة (نقابات الأساتذة، الأساتذة أنفسهم، بعض الأقاليم حافظت على التعليم التقني الثانوي)، ساعدت مستقبلا على بروز الميدان المناسب لإعادة تشييد النموذج المؤسساتي الأصلي للتعليم التقني الثانوي.

بعد أزمة ماكرو اقتصادية خطيرة خلال بداية هذا القرن، عرفت الأرجنتين بين 2001 و2011 فترة غير مسبوقة من النمو الاقتصادي وإعادة التصنيع. وارتبط هذا الإقلاع الاقتصادي والإنتاجي بشكل وثيق بالطلب الأسيوي على المواد الأولية وارتفاع الأسعار الدولية للمواد الأساسية:  الناتج الداخلي الخام ارتفع بشكل ملحوظ بينما تراجعت نسب البطالة، وكذا نسب العمل غير المنظم والفقر. عرفت بعض الشعب الصناعية انتعاشا جديدا وخاصة شعبة البناء التي لعبت دور المحرك.

أقرت الحكومة البيرونية قانونين جديدين  حول التربية وتمويلها، بحثا عن  قواعد إعادة التنظيم التي تسعى إلى إدراج تنمية النظام التربوي داخل منظور كوني. وهذا ما حدا بالدولة الفدرالية إلى تأكيد رغبتها في ضمان الولوج المجاني لجميع مستويات التربية دون تطبيق عمليات الانتقاء الكامنة من قبيل امتحانات القبول.

داخل هذا الإطار الجديد، أصبحت عملية إتمام التعليم الثانوي عملية إجبارية شرعية. إلا أنه رغم توسع الولوج إلى الثانوي، ظلت نسب استكمال الدراسة ضعيفة: من بين فئة 18-24 سنة، فقط 60% من الشباب من أنهى  المدرسة الثانوية سنة 2015. أيضا ظلت نسب الانقطاع عن الدراسة وجودة التعلمات الفعلية، نسب جد مشتتة حسب الأصول الاجتماعية (Bertranou et al. 2017).

في خضم هذه السياسة التربوية الناجعة، برهنت الحكومة البيرونية على إرادة قوية في إعادة تنشيط التعليم التقني. أقرت قانونا جديدا حول التربية التقنية والمهنية التي تحتضن المستوى الثانوي، العالي والتكوين المهني القصير، استشرفت تجديد البرامج، إعادة تنظيم الشواهد وتمويل جديد( 0.2% من الميزانية السنوية). بين عامي 2006 و2015، كان هناك حوالي 93% من المدارس التقنية الثانوية من تلقى تمويلا برسم مخططاتها المتعاقبة ” للتطوير المؤسساتي ” (INET 2017). وقد ساهم هذا النص القانوني نوع ما، في إعادة المدرسة التقنية إلى حالتها الأصلية : وجهة لتعليم ثانوي له خصوصيته  ويمنح شهادة التقني التي يرتبط الحصول عليها بشكل صريح باستكمال المدة الزمنية للدراسة كاملة (وهذا لم يكن مألوفا في التعليم العمومي) بين 12 و18سنة ويتيح إمكانية ولوج التعليم العالي.

بين سنتي 2003 و2014، ارتفعت أعداد التعليم التقني الثانوي بـ 25%،حوالي 18% يتابعون في مؤسسة للتعليم التقني: 88% يباشرون التعليم التقني داخل المؤسسة العمومية بينما في الثانوي العام، ظل وزن أعداد التلاميذ في المدارس الخاصة أكثر ارتفاعا (29% مقابل 12%).

هل ما زال التعليم التقني الثانوي اليوم سبيلا  للدمقرطة التربوية؟

إنَّ أية محاولة للإجابة عن هذا السؤال تقود إلى فحص رهانين أساسيين: من جهة أولى مسارات الولوج والتكوين المرتبطة بهذه الشعبة، ومن جهة ثانية نوع مناصب الشغل التي تتيحها.

ماهي العوامل التي تحفز التوجيه نحو الشعبة التقنية؟

إن تلاميذ التعليم التقني الثانوي لم يوجهوا تلقائيا طالما أنهم (الى جانب أسرهم) يختارون الولوج إليه بشكل حر كما رأينا أعلاه.  كما أن المدرسة التقنية وأساسا العمومية، بإمكانها البرهنة على القدرة في إدماج شباب منحدر من أوساط اجتماعية مختلفة. حسب الأرقام الخاصة بتتبع فوج 2013، أكثر من% 60 من الشباب الحاصل على الشهادة ينحدر من أسر ذات دخل متوسط، إلا أنه حوالي 40% منهم ينحدرون من أسر تتمتع برأسمال ثقافي ضعيف. وتنبغي الإشارة إلى أن حوالي 23% من التلاميذ ينحدرون من أسر حيث الأم تابعت تعليما عاليا (Binstock & Cerruti 2017). ماهي العوامل المحفزة على هذه الاختيارات مع مراعاة التعليم الثانوي في مجموعه؟

بداية، لا بد من الاهتمام بمسألة أنه منذ 2006، أدت إجبارية متابعة الدراسات الثانوية كاملة إلى نمو نسب التمدرس ( من 82.2%  سنة 2006 إلى 89% سنة 2015)، إلا أنه استمر النظام التربوي مطبوعا أيضا بنسب الحاصلين على الشواهد  على إثر التعليم الثانوي لم تتجاوز 48% سنة 2015. تجد هذه النسب الضعيفة تفسيرها في استمرار اكتساب مستوى أقل رقيا والذي تشهد عليه النتائج المتواضعة في الاختبارات الوطنية (تعلم Aprender)، في اللغة وفي الرياضيات بشكل أقوى. باختصار، برهن النظام التربوي على حدوده من جهة قدرته حقيقة على إدماج مجموع جيل بكامله وقدرته على إنتاج تعلمات صلبة في التخصصات الأساسية، كما كانت تخترقه انقسامية اجتماعية متنامية.

أما من جهة التعليم التقني الثانوي، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد تلامذته، فقد تميزوا  بنتائجهم المرضية في اختبار ( تعلم Aprender): حصل هؤلاء التلاميذ في الرياضيات على نتائج تفوق ب 11% تلاميذ الشعب الأخرى. إن نسبة التلاميذ الذين يبلغون مستوى مرضي أو متقدم في المدارس التقنية تصل إلى الضعف بالمقارنة مع نتائج المدارس غير التقنية ( 34% مقابل 18%).

إن خريجي التعليم التقني الثانوي يتابعون الدراسات العليا بشكل أكبر من أقرانهم في التعليم العام. بعد إتمام الأربع سنوات من التعليم الثانوي ،عمليا هناك  شابين اثنين من أصل ثلاثة في هذه الشعبة يتابعان الدارسات العليا، هذا  بالإضافة إلى أن التعليم التقني الثانوي يواصل تأثيره الإيجابي في الحراك الاجتماعي بين الأجيال. حوالي ثلث الشباب المنحدر من الطبقة العاملة (32.7%) يعرف حراكًا مهمًّا في اتجاه وضعية تنتمي إلى المهن الوسائطية التجارية  أو الإدارية، أو أيضا مناصب شغل تعادل شهادة التقني. كشف تحقيق أجري بشكل خاص حول خريجي التعليم التقني الثانوي عن صيرورات حراك صاعد بين الأجيال على مستوى التأهيل ونوع العمل. حوالي 70%  من الخريجين الذين ينتمون إلى أسر حيث الأب يحتل مركزا مهنيا غير مؤهل، يلجون مركز شغل أكثر تأهيلا، 19%  تقنيين وأقل من1% أطر…الخلاصة هي أنه في بداية الحياة النشطة، تمارس الشهادة التقنية تأثيرا ملحوظا على نوع الاندماج الحاصل.

إذا كان مفعول دمقرطة الاختيار التقني في الأرجنتين واضحا، فإنه يظل حاملا علامات انتقائية غير قابلة للنفي. أولا يتميز التعليم التقني الثانوي بنسبة حاملي الشواهد عند نهاية الدراسات التقنية، أقل بشكل ملموس بالمقارنة مع نسبة خريجي المدارس الثانوية العامة: 37.4% مقابل 49%…لكن هذه النسبة لا تعكس عملية انقطاع التلاميذ عن التمدرس والاستكمال المتأخر لمساراتهم الدراسية: تحقيقات التتبع توضح أن عملية الحصول على الشهادة تستمر لتشمل تقريبا 86% من جيل تخرج بعد أربع سنوات و93%  بعد 8 سنوات، هذا بالإضافة إلى أنه حسب التحقيق الوطني حول المسارات الدراسية (تقرير 2017)، حوالي 40 % من تلاميذ الثانوي التقني  يختارون تغيير التكوين أو أنهم موجهين نحو اختيارات أخرى للتعليم الثانوي من قبيل تحضير بكالوريا عامة تعتبر أكثر سهولة.

تشير الدراسات إلى أن إعادة التوجيه هاته ناتجة عن المنجزات المطلوبة من الاختيار التقني، ويعكس طول مدة الدراسة حجم هذه المنجزات ( 6 أو 7 سنوات مقابل 5 سنوات بالنسبة للتعليم العام)، وكذلك من خلال يوم مضني من الدروس، والحاجة إلى التكيف مع فضاءات التكوين المختلفة (قاعات الدروس، محارف، مختبرات). إنَّ عمليات إعادة التوجيه هاته تعكس طريقا للانتقاء الاجتماعي مرتبطة بمجرى المسارات الدراسية. خلال ولوج الشعبة التقنية، 22% من التلاميذ ينحدرون من أسر ذات رأسمال ثقافي عال بينما ترتفع هذه النسبة بعد 6 سنوات لتصل إلى 28%.

كما أن العلامات الكاشفة للدمقرطة المدرسية المشار إليها أعلاه، لا تستطيع إخفاء بعض الفوارق، خاصة على مستوى النوع. ليس لأن الفتيات هن في الغالب أقلية ضمن المسجلين (30%)  ويتمركزن حول ميادين هي عادة أنثوية على مستوى التمثلات الاجتماعية، بل أيضا لأنهن يحصلن على  نتائج أقل بالمقارنة مع الذكور.

إن النتائج في الرياضيات هي مرتبطة أيضا بمكانة الأسر على صعيد التراتبيات السوسيواقتصادية والثقافية. هناك أيضا الدور الذي يلعبه “مفعول المؤسسة” الذي يسير في اتجاه معاكس لتكافؤ الفرص : كشف تحليل متعدد المتغيرات عن فوارق قوية تربط نمط المؤسسة بالمواصفات السوسيوثقافية للتلاميذ وبنتائجهم الدراسية.

لقد تحولت مدارس كانت موجودة منذ زمن طويل إلى مؤسسات معروفة تتمتع بهيئة تدريس مشهورة وتكنلوجيا متطورة، وتوفر تنوعا كبيرا على مستوى التخصصات التقنية، هي مدارس تتعايش مع مؤسسات صغيرة لا تقترح غير تخصص واحد، وهي المدرسة الثانوية الوحيدة في اختصاصاها الترابي وخاصة في الوسط القروي (7%  من التلاميذ يجدون أنفسهم في وضعية عدم القدرة على الاختيار). وفي واقع الأمر هناك علاقة قوية بين خصائص المؤسسة ونجاعة المسارات الدراسية للتلاميذ – خاصة من منظور نسبة الحاصلين على الشواهد والنتيجة المحصل عليها في الرياضيات خلال اختبارات التعلم… أكثر من ذلك، فالحاصلين على الشواهد المنحدرين من مدارس حيث يكون فيها التلاميذ أكثر أداء في الرياضيات، تكون لهم تطلعات أكبر والتي تعبر عن نفسها من خلال متابعة ملحوظة للدراسة الجامعية.

إذن، فمفعول التعليم التقني الثانوي على الدمقرطة التربوية هو مفعول مفارق. من حيث الأبعاد العامة، هناك العديد من الخصوصيات التي تجعل من ذلك التعليم فرصة تربوية متميزة بالجودة داخل المؤسسة العمومية. حقيقة إنه مسار يتطلب من التلاميذ مجهودا شاقا، يتمتع بهويته الخاصة، يتيح في ذات الوقت مضمونا نظريا وتطبيقيا، محدد في المعدل العام من خلال أفضل النتائج في الرياضيات. كما أن خريجي التعليم التقني الثانوي يتميزون بنسبة عالية من متابعة الدراسات العليا، وهذه ليست حالة الذين يتخرجون من الشعب الأخرى للتعليم الثانوي، ويعتبر هذا الفارق أكثر بروزا بالنسبة للتخصصات الصناعية. إلا أن التعليم التقني الثانوي يعمل في ذات الوقت على تعبئة عمليات انتقائية تنتج وتعكس لا تجانس داخلي ملموس ( حسب الجنس، الأصل الاجتماعي والمؤسسة)، وهو لا تجانس يضفي طابعا نسبيا على هذه الدمقرطة.  في هذا الشأن، إن وضعية الأرجنتين تتلاءم مع الكشف عن هذا المنطق المزدوج، منطق الانفتاح والانتقاء القائم على الرأسمال الثقافي الذي سبق ل Grignon أن قام بتشييده خلال سنوات 1970 بخصوص التعليم التقني الفرنسي..

هل ينبغي الحديث عن الحراك الاجتماعي النازل، من منظور الاندماج في الشغل؟

إن إحدى القرائن القوية التي كانت في خدمة هذا الانتعاش الجديد للسياسة التربوية في تشجيع التعليم التقني، تعود إلى قدرة هذا الأخير على الاستجابة للمتطلبات الجديدة لسوق الشغل والتي برزت مع الإقلاع  الاقتصادي  الذي انطلق ابتداء من 2004-2005. كيف تجلى هذا الأمر على المستوى الواقعي؟

إن الأمر يتعلق هنا بفقدان وضع سوسيواقتصادي ممكن لخريجي الشعبة، على غرار ما كان يناقش في فرسا بخصوص خريجي الشعبة المهنية، مع العلم أن جزء من رهان المشروعية الاجتماعية يكمن في هذا المضمار. هل لا تتيح هذه الشعبة إمكانية ولوج مراكز كانت مخصصة لها سابقا؟ هل يحتل الخريجين مراكز شغل تتميز بـتأهيل أقل بالمقارنة مع المراكز المطابقة للشواهد؟ لقد تمت مناقشة هذه الأسئلة من زاوية تطور محتويات مناصب الشغل المحتلة وتثمين الشهادة في سوق الشغل.

إن تنامي الطلب على خريجي التعليم التقني في سوق الشغل، شكل موضوع نقاشات أخذت في الحسبان الصعوبات التي ينبغي تحديدها بدقة. بالنسبة لمرحلة 2004-2013 وعلى قاعدة تحقيقات أجريت إزاء الأسر، لم تتغير نسبة العمال المؤهلين بشكل بين…لكن دراسة أخرى اعتمدت على معطيات المقاولات، أشارت إلى أنه بين 2007 و2012، ارتفعت نسبة مراكز العمال المؤهلين ب31%  قبل أن تنخفض إلى 8% من 2012 إلى 2017، بينما بالنسبة لمناصب التقنيين، انتقلت نسبة التطور خلال نفس المرحلتين إلى +24%  و+4%.

من وجهة نظر القيمة التبادلية للشواهد داخل نظام الإنتاج، يبدو أن الشهادة المكتسبة على إثر التخرج من التعليم التقني الثانوي تستفيد من اعتراف أفضل بالمقارنة مع الشواهد الأخرى في الثانوي. فبعد أربع سنوات من نهاية الدراسة، يحظى خريجو التقني بنسب عالية على مستوى ولوج الشغل بالمقارنة مع أقرانهم من التعليم العام، ويحتلون مراكز أكثر تأهيلا منهم في نهاية المطاف، إن حاملا لشهادة تقني يحظى على الدوام بالأفضلية بالمقارنة مع خريج تعليم عام.

بالمقارنة مع ما كان سائدا إلى حدود سنوات 1980، أوضحت عملية فحص مراكز الشغل المحتلة من طرف خريجي التقني، أن التعبير عن التحولات في بنية التشغيل وأشكال تنظيم العمل كان من خلال الزيادة في مستوى الشهادة المكتسبة خاصة بالنسبة لتشغيل  العمال المؤهلين : 64% من خرجي التعليم التقني الثانوي يدمجون في مناصب شغل من هذا النوع من التأهيل، (%18 في أعمال غير مؤهلة من قبيل العمل في مراكز تقنيين أو مهنيين..). هل من الممكن النظر إلى هذه الأرقام باعتبارها تقليلا من شأن الألقاب المحصلة  بالنسبة لشباب هو مع ذلك  أفضل تكوينا من سابقيه، على غرار المسار الذي عرفته فرنسا مع خريجي الشواهد المهنية في التخصصات الصناعية حيث  آفاق التشغيل تنحصر في مراكز “عمال مؤهلين من النمط الصناعي”؟

من أجل تفسير هذه الصيرورة، ينبغي العودة إلى وقائع عديدة. في البدء، الانتباه إلى واقعة أنه منذ بداية سنوات 1990، أصبح تقنين الشغل خاصية متكررة للاندماج المهني للشباب. علاوة على أن قبول الحراك الاجتماعي النازل هو أكثر قوة بالقدر الذي تزداد فيه بطالة الشباب.

هناك أسباب أخرى تدفع خريجي الشعبة التقنية إلى الاندماج في مراكز عمال مؤهلين، الأمر الذي يدل على إعادة تركيب هذه الفئة السوسيومهنية  داخل بعض القطاعات، يستدعي التجديد التكنولوجي مستقبلا ضبط آلات ذات تحكم رقمي أو تنفيذ مهام الصيانة والإصلاح، الأمر الذي يتطلب قدرات عملية ومعارف نظرية خاصة وأكثر رقيا من قبل.

بالموازاة مع الأنشطة التي يكتسي فيها العمل الجماعي أهمية خاصة، تتجه البنية التنظيمية نحو التسطيح، مما يقود حاملي الشواهد في الشعبة التقنية إلى تعلم مهنتهم في الميدان ( Sur la tas) بجانب زملائهم من العمال المؤهلين. من أجل احتلال مراكز شغل أعلى خلال مسارهم المهني في إطار سوق الشغل الداخلية، يجب عليهم مراكمة التجربة والتكوينات التكميلية. في نهاية المطاف، إذا أصبحت شهادة التعليم التقني الثانوي ضرورية للالتحاق بالعمل المؤهل، خاصة في الحرف المرتبطة بالصناعة، فيبدو أنها غير كافية للولوج منذ البداية إلى  مراكز كبرى للمسؤولية.  

إن المرونة المتزايدة على مستوى تدبير أعداد التلاميذ، كان لها تأثير على تموقع الخريجين الشباب في الشعبة التقنية. بخصوص هذا الموضوع، قدمت إحدى الدراسات مثالا مهما حول مقاولة للحديد والصلب تقع في مدينة متوسطة الحجم، وتلعب النقابة داخلها دورا مهما: ” إن عملية  الالتحاق بالمصنع تتم من خلال متعهد مكلف بالتشغيل. الشرط الأول الذي لا غنى عنه هو التوفر على شهادة التقني الثانوي. في جميع الحالات لا يبدأ التقني عمله من خلال دور المراقبة:  تتجلى وضعيته في البداية كعامل مؤهل. إذا كان هذا الأخير محط تقييم جيد من طرف رؤسائه ( على المستوى التقني  وأخلاقيات العمل)، فهو يحتاج إلى سنتين أو ثلاثة كي يلتحق بشغل دائم في المصنع. وبمجرد دخوله إلى نواة الموظفين المرسمين، يسعى الشاب خريج التعليم التقني، بواسطة تكوينات تكميلية، إلى الترقية في مناصب ذات امتيازات أكثر من قبيل الإتقان والتأطير”.

بمعنى آخر وأعمق، إن الآليات غير المنظمة  للانتقاء و/أو الترقية، القائمة على رأسمال اجتماعي ( الانتماء إلى أسرة التقنيين حيث نسج أعضائها مسارهم المهني داخل المصنع، مشاركة أحد الأقرباء في التنظيمات النقابية) لها تأثيرها الأكيد على المستقبل المهني للشباب.

نتيجة المستويات المرتفعة للتضخم والتعديلات المهمة في الأجور التي تحصل عليها النقابات، تقع ازدواجية للأجور من درجة عالية،  بين مراكز التأطير التنفيذي والوسائطي من جهة، ومن جهة ثانية أن العمال الخاضعين لسلطة المراقبة يتلقون تدريجيا تعويضات تعلو عن تلك التي يتلاقها رؤسائهم. حسب ” Tucci 2012″، سوف ينتج عن هذه الازدواجية، غياب الحافز لدى العمال المؤهلين لتحمل مسؤوليات أكثر أهمية والترقية إلى مصاف التأطير لأنهم يخافون من الاستفادة من تعويضات أجرية أقل.

إن هذه العمليات أعلاه، حيث  يستحضر بعضها وضعيات كما هي قائمة في أماكن أخرى  خاصة بفرنسا ( بطالة مرتفعة للشباب على خلفية التجديد التكنولوجي)، بينما بعضها الآخر هو خاص بالحالة الأرجنتينية ( ازدواجية الأجور، شبكات غير منظمة للتشغيل)، هي عمليات أدت إلى  زعزعة العلاقة القديمة بين الشهادة ،الشغل والدخل. مع ذلك، هل تنجم عن هذه الوضعية مشكلة ما يشعر بها الشباب بشكل واسع؟. إن الدراسات التي عالجت التمثلات الذاتية لهؤلاء الشباب أوضحت أن 90% من الشباب الذين تابعوا دراسات تقنية يعتقدون أن هذه الدراسات منحتهم امتيازات بالمقارنة مع الذين درسوا في شعب أخرى. نسبة  83%  منهم راضون على تجربتهم الدراسية، رغم أنهم يعتقدون أن المحتوى يستحق  إعادة التحيين. يبدو أن هذا الرضى مرتبط بعدة ظواهر خاصة بالحالة الأرجنتينية. بالنظر إلى أن مناصب الشغل المتاحة هي غالبا تنتمي للقطاع غير المنظم، يعتقد الشباب أن أولى  الأنشطة المهنية التي يزاولونها – سواء كانت غير منظمة و/أو خاضعة –لحراك اجتماعي نازل -، هي أعمال انتقالية بقدر ما أن نسبة مهمة من هؤلاء الشباب يتابع الدراسات الجامعية.

إذا كان الحراك الاجتماعي النازل منظور إليه باعتباره بناء اجتماعيا، وليس فقط علاقة إحصائية، فالفكرة التي تحظى بالقبول والدعم هي أنه ليس هناك حراك اجتماعي نازل عام وشامل لخريجي التعليم التقني. إن تطور مكانة هؤلاء في عالم الشغل هو في الواقع ناتج عن إعادة هيكلة مناصب الشغل التي يحتلونها على ضوء تطور التكنولوجيا، تدبير اليد العاملة وفي النهاية على ضوء هشاشة مناصب الشغل الأولى التي تاح لهم.

الخاتمة

إن تحليل العلاقة التي ينسجها التعليم التقني بالدمقرطة، تستدعي إعادة موضعة هذا الأخير داخل عملية إعادة البناء التاريخي  لنظام التربية والتكوين. الأمر يتعلق تحديدا بمعرفة إذا كانت هذه الشعبة هي مخصصة كي تكون طريقا للتمييز، تستقبل بشكل واسع الشباب المنحدرين من أوساط اجتماعية مقهورة و/أو هؤلاء الذين تتميز نتائجهم الدراسية بضعف أكبر.

في الحالة الأرجنتينية، إن الغاية المزدوجة للتعليم التقني الثانوي – تكوين من أجل الإدماج في الشغل ومن أجل تشجيع متابعة الدراسات العليا- قد منح  تاريخيا  لهذه الشعبة مشروعية اجتماعية قوية. هذا بالإضافة إلى أن الدور الذي لعبه خلال مراحل التنمية الصناعية جعل منه رافعة مفضلة للدمقرطة المدرسية.

في الظرفية المجتمعية المتميزة بشكل كبير والخاصة بخمسة عشر سنة الأخيرة، كان لا بد من مراجعة الأهمية التي يحظى بها التعليم التقني الثانوي داخل مجموع التعليم الثانوي، خاصة وأن هذا الأخير يندرج كلية ضمن حقل التمدرس الإجباري. ونتج هن هذا الواقع، ارتفاعا في أعداد التلاميذ والتي همت بوضوح الأوساط الشعبية. خلال هذه الصيرورة، استقبل التعليم التقني الثانوي، شباب من أصول اجتماعية متنوعة…  يحصلون اليوم على نتائج أفضل في الرياضيات بالمقارنة مع أقرانهم خريجي التعليم العام ويحظون بفرص أكثر لمتابعة الدراسات العليا.

بهذا المعنى، إن التعليم التقني هو دون شك،  تعليم انتقائي، لكنه يمثل فرصة للتكوين أكثر مردودية بالنسبة لهؤلاء الذين يتمكنون من إتمام الدراسة فيه. إذن الأمر لا يتعلق بطريق تمييزية.

لكن تبدو هذه الدمقرطة في نفس الوقت مفارقة وتخترقها توترات متنوعة. المتطلبات الكثيرة للبرامج الدراسية  تترجمها نسبة عالية من الانقطاع عن التمدرس والتي تمس بشكل خاص التلاميذ المنحدرين من أسر تتميز برأسمال ثقافي ضعيف.. ثم هناك عدم  التجانس الواضح والقوي على مستوى نوع  التكوين  وذلك حسب نمط المؤسسات، والذي يحيل على مواصفات سوسيوثقافية  يطبعها الانقسام والشرخ وتعبر عن نفسها من خلال نتائج دراسية متناقضة جدا. من جهة أولى، فالشباب المنحدر من أسر ذات رأسمال ثقافي عالي حيث يكون أحد الأبوين سبق له ولوج المدرسة التقنية، يختار مؤسسة ذات صيت وشهرة من أجل متابعة دراسات عليا انتقائية. ومن الجهة الأخرى، التلاميذ المنحدرين من أسر متواضعة، المسجلين في العالم القروي، ليس لهم اختيار آخر غير الالتحاق بالمدرسة التقنية الوحيدة الموجودة في فضائهم الجغرافي، حتى ولو كان أدائها ضعيفا، بينما يختار الشباب الحضري المدرسة التقنية حسب الحظوظ التي يبدوا أنها تتيحها لولوج الشغل المؤهل.

خلال هذه المرحلة  نفسها، كانت سوق الشغل في الأرجنتين وخاصة بالنسبة للشباب، مطبوعة بالهشاشة والبطالة، الأمر الذي أضفى قيمة تبادلية حقيقية على شهادة التعليم التقني الثانوي مع مراعاة الإشارة الإيجابية التي تمنحها بمقتضى اقتراح  كفاءة شاملة. وبالتالي، فخريجي هذا التعليم هم قادرون على مواجهة تحولات تنظيمية ومحتويات التشغيل من المستوى الرفيع، وتتحول شواهدهم إلى سمسم ضروري من أجل ولوج مراكز الشغل الصناعية المؤهلة. على أية حال، إن التثمين الاجتماعي لهذه الشعبة، سواء  من زاوية الإدماج المهني أو من زاوية متابعة الدراسات العليا، يبدو أنه يحمل كفاءات مانعة شاملة وعلى الأقل  كفاءات تقنية أساسية مكتسبة.

إذا كان ولوج مناصب شغل أكثر تأهيلا هو مسالة صعبة، ذلك لأنه أولا وقبل كل شيء بسبب عدم الاستقرار المتصاعد لسوق الشغل، ازدواجية الأجور وقواعد الانتقاء غير المنظمة، فهو أيضا يعود إلى إعادة تشكيل مناصب الشغل المعنية والناتجة عن التغيرات التي تطال تنظيم العمل المطبوع خاصة بحذف درجات تراتبية.

هنا أيضا، يتمكن حاملو شهادة الشعبة التقنية من تفادي حراك اجتماعي نازل باعتباره تجربة ذاتية، ويقدمون بالأحرى البرهان على قدرتهم على التكيف مع سوق شغل هي سوق تنافسية ومتقلبة بشكل ملحوظ.


[2] Claudia Jacinto et Éric Verdier . Les paradoxes de la démocratisation éducative en sélection et déclassement. Le cas de l’enseignement technique en Argentine. C. Jacinto et E. Verdier. Revue « Education et sociétés ». N°46/2021/2. Pages : Du 39 au 54

[3] Henri Eckert. Déclassement » : de quoi parle-t-on ? À propos de jeunes bacheliers professionnels, issus de spécialités industrielles. https://www.cereq.fr/. P : 3

[4] Ibid. P : 5

جديدنا